المبحث الأول: مدلول كلمة الرب من حيث الاشتقاق اللغوي:
فالرب مصدر أريد به اسم الفاعل – أي أنه راب، قال الراغب الأصفهاني: (الرب مصدر مستعار للفاعل) (1).
قال ابن الأنباري: (الرب: ينقسم إلى ثلاثة أقسام: يكون الرب: المالك، ويكون الرب: السيد المطاع ... ، والرب: المصلح .. ). فهذه ثلاثة أصول ترجع إليها معاني كلمة الرب.
فالأصل الأول: بمعنى المالك والصاحب، ومن هذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في ضالة الإبل ((فذرها حتى يلقاها ربها)) (2).
والأصل الثاني: بمعنى السيد المطاع، قل الطبري: (وأما تأويل قوله: (رب) فإن الرب في كلام العرب متصرف على معان: فالسيد المطاع فيها يدعى رباً، ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة العامر:
وأهلكن يوماً رب كندة وابنه ... ورب معد بين خبت وعرعر
يعني رب كندة: سيد كندة (3).) اهـ.
ومن هذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أشراط الساعة: (أن تلد الأمة ربها) أي سيدها – وهذا لفظ البخاري.
وأما الأصل الثالث: فبمعنى المصلح للشيء المدبر له، ولذلك قال بعض أهل العلم باشتقاق كلمة الرب من التربية. قال الراغب: (الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام) (4).
وقال الطبري بعد أن ذكر المعاني الثلاثة لكلمة (الرب) قال: (وقد يتصرف معنى الرب في وجوه غير ذلك، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة) (5). منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 215
_________
(1) ((المفردات)) للراغب (ص: 336).
(2) رواه البخاري (91). من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
(3) ((تفسير الطبري)) (1/ 141).
(4) ((المفردات)) (ص: 336).
(5) ((تفسير الطبري)) (1/ 142).
المبحث الثاني: معنى كلمة الرب من حيث هي اسم لله تعالى
قال - ابن جرير - في معنى اسم (الرب) لله سبحانه وتعالى: (فربنا جل ثناؤه: السيد الذي لا شبه له، ولا مثل في سؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر) (1).
ولا تستعمل كلمة (الرب) في حق المخلوق إلا مضافة فيقال: رب الدار ورب المال.
قال ابن قتيبة رحمه الله: (ولا يقال للمخلوق: هذا (الرب) معرفاً بالألف واللام كما يقال لله، إنما يقال رب كذا فيعرف بالإضافة لأن الله مالك كل شيء، فإذا قيل: (الرب) دلت الألف واللام على معنى العموم، وإذا قيل لمخلوق: رب كذا ورب كذا نسب إلى شيء خاص لأنه لا يملك شيئاً غيره) (2).
وعلى هذا إذا ذكر اسم الرب معرفاً فلا يطلق إلا على الله تعالى، وزاد الراغب أن كلمة (رب) غير مضافة ولا معرفة لا تطلق إلا على الله فقال (3): (ولا يقال الرب مطلقاً إلا الله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات نحو قوله تعالى: لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ.) اهـ، وقال ابن الأثير أيضاً: (ولا يطلق غير مضاف إلا على الله تعالى) (4).
وأما كلمة (رب) بالإضافة فتقال لله ولغيره بحسب الإضافة فمن الأول قوله تعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ومن الثاني اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ [يوسف: 42] في قول يوسف عليه السلام لأحد صاحبيه في السجن (5).
ومصدر رب يرب الربوبية والرباية، إلا أن الرباية لا تقال في الله، وإنما في غيره، قال الراغب: (والربوبية مصدر يقال في الله عز وجل، والرباية تقال في غيره). (6) منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 217
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (1/ 142)، وانظر: ((تفسير غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 9).
(2) ((تفسير غريب القرآن)) (ص: 9).
(3) ((المفردات)) (ص: 336).
(4) ((النهاية في غريب الحديث)) (2/ 179).
(5) انظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 336) و ((النهاية في غريب الحديث)) (2/ 179).
(6) ((المفردات)) للراغب (ص: 336).
المبحث الثالث: تعريف توحيد الربوبية اصطلاحاً
هو الإقرار الجازم بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه، وخالقه، ومدبره، والمتصرف فيه، لم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، ولا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، ولا مضاد له (ولا مماثل له)، (ولا سمي له)، ولا منازع في شيء من معاني ربوبيته ومقتضيات أسمائه وصفاته. أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة لحافظ بن أحمد الحكمي– ص: 30
ومنهم من عرفه بأنه: الاعتقاد بأن الله هو الخالق الرازق المدبر لكل شيء وحده لا شريك له (1).
وهو يشتمل على ما يلي:
1 - الإيمان بوجود الله تعالى.
2 - الإقرار بأن الله تعالى خالق كل شيء، ومالكه، ورازقه، وأنه المحيي، المميت، النافع، الضار، المتفرد بإجابة الدعاء، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، القادر على ما يشاء، المقدر لجميع الأمور، المتصرف فيها، المدبر لها، ليس له في ذلك كله شريك (2).
وقد تكاثرت الأدلة في القرآن والسنة في إثبات الربوبية لله تعالى، فكل نص ورد فيه اسم (الرب) أو ذكر فيه خصيصة من خصائص الربوبية، كالخلق، والرزق، والملك، والتقدير، والتدبير، وغيرها فهو من أدلة الربوبية، كقوله تعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 2]، وكقوله سبحانه: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف: 54]، وكقوله جل وعلا: قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [المؤمنون: 88] (3)، والملكوت: الملك.
وقد أمر الله العباد بالنظر والتفكر في آيات الله الظاهرة من المخلوقات العلوية والسفلية، ليستدلوا بها على ربوبيته سبحانه وتعالى. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 41
فالرب هو المالك كما قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ [الحشر: 23] ويقول: وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [المائدة: 17]، وقال: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 83].
والرب هو الخالق البارئ المصور كما قال عن نفسه: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر: 24]، فلا خالق سواه، وهو الذي برأ الخلق فأوجدهم بقدرته المصور خلقه كيف شاء وكيف يشاء (4).
والرب هو المبدئ والمعيد كما قال: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم: 27]، فهو الذي ابتدأ الأشياء كلها فأوجدها، إذ هو الأول الذي ليس قبله شيء، ثم هو يعيدها سبحانه.
والرب هو المحيي والمميت، الذي أحيا بأن خلق فيهم الحياة، والذي خلق الموت كما خلق الحياة. كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] ويقول: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الدخان: 8].
والرب هو النافع الضار، قال تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا [يونس: 21] وقال: قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا [الفتح: 11].
والرب هو المعطي المانع كما قال تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ [فاطر: 2]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه بعد الفراغ من الصلاة: ((اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت)) (5).
والرب هو المدبر لأمر هذا الكون كما قال: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ [يونس: 36]. وقال: وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ [يونس: 31]، وقال يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد: 2].
والرب هو الخالق الرازق القوي القدير كما قال تعالى: قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16]، وقال هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ [فاطر: 9] وقال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58]، وقال: إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 20]. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف – 1/ 227
_________
(1) ينظر: ((مجموعة التوحيد)) (1/ 5).
(2) ((شرح الطحاوية)) (ص:25)، ((مدارج السالكين)) باب التوحيد (1/ 33 - 46، 3/ 468)، ((تيسير العزيز الحميد)) (ص:17)، ((القول السديد)) (ص:18)، ((معارج القبول)) (1/ 99).
(3) ((مدارج السالكين)) (3/ 468 - 469)، ((شرح الطحاوية)) (ص: 42 - 43)، ((المدخل لدراسة العقيدة)) (ص: 102).
(4) انظر: ((تفسير الطبري)) (23/ 305).
(5) رواه البخاري (844)، ومسلم (593). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
المبحث الرابع: منزلة توحيد الربوبية
إذا أقر العبد بانفراد الرب تبارك وتعالى بالخالق والحكم، وشهد بذلك، فإن ذلك يقوده إلى تحقيق توحيد الإلهية، فإن الأمرين متلازمان، فمن أقر لله بالربوبية لزمه أن يقر له بالإلهية: (فإن أول ما يتعلق القلب يتعلق بتوحيد الربوبية، ثم يرتقي إلى توحيد الإلهية، كما يدعو الله سبحانه عباده في كتابه بهذا النوع من التوحيد إلى النوع الآخر، ويحتج عليهم به, ويقررهم به، ثم يخبر أنهم ينقضونه بشركهم به في الإلهية) (1).
وبيان ذلك أن من أثبت لله خصائص الربوبية .... من الخلق, والإحياء, والإماتة, والنفع, والضر, والإسعاد, والإشقاء – استسلم لله تعالى في كل شيء، فيعلم أن ما أصابه فمن الله ولم يكن ليخطئه، وأنه إذا دخل الجنة فبتوفيق الله وفضله، وإذا دخل النار فبحكمته وعدله، وكل ذلك قدره الله تعالى، فإذا علم ذلك، لجأ إلى خالقه ليستعين به في جلب المنافع ودفع المضار، وليستهديه الصراط المستقيم، فيورث ذلك محبة عظيمة في قلب العبد لربه تعالى، فيقدم محاب ربه على كل شيء، ويورثه ذلك الخوف من الله وتعظيمه وتوقيره: (فهذه علامة توحيد الإلهية في هذا القلب، والباب الذي دخل إليه منه: توحيد الربوبية، أي: باب توحيد الإلهية: هو توحيد الربوبية) (2).
وبهذا التقديم تظهر أهمية الإقرار بالربوبية لله تعالى، وهذه المعرفة فطرية في قلوب بني آدم ..... إلا أن أكثر الناس الذين وقعوا في الشرك إنما وقعوا فيه لإتيانهم بما يناقض توحيد الإلهية، لذلك جاءتهم الرسل بالدعوة إلى هذا النوع من التوحيد – أعني توحيد الإلهية – وإذا أقر الإنسان لله بالربوبية ولم يوحده في عبوديته ما نفعه إقراره هذا – لذلك يقول الله جل وعلا: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106]، قال مجاهد رحمه الله في تفسير هذه الآية: (إيمانهم قولهم: الله خالقنا, ويرزقنا, ويميتنا، فهذا إيمان، مع شرك عبادتهم غيره). اهـ منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد بن عبد اللطيف -بتصرف – 1/ 242
_________
(1) ((مدارج السالكين)) (1/ 413).
(2) ((مدارج السالكين)) (1/ 413).
المبحث الأول: فطرية الإقرار بالربوبية
لا شك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري والشرك حادث طارئ والأبناء تقلدوه عن الآباء فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم والملابس والمساكن يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع مقرين بأن الله ربكم لا شريك له وقد شهدتم بذلك على أنفسكم فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ [النساء:135] وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم إلى الشرك؟ بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إلى ما لا يعلم له حقيقة تقليدا لمن لا حجة معه بخلاف اتباعهم في العادات الدنيوية فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها وفيه مصلحة لكم بخلاف الشرك فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدولكم فيه عن الصواب فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو: دين التربية والعادة وهو لأجل مصلحة الدنيا فإن الطفل لا بد له من كافل وأحق الناس به أبواه ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه - على الصحيح - حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة وحينئذ فعليه أن يتبع: دين العلم والعقل وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح فإن كان آباؤه مهتدين كيوسف الصديق مع آبائه قال: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ [يوسف:38] وقال ليعقوب بنوه: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ [البقرة:133] وإن كان الآباء مخالفين الرسل كان عليه أن يتبع الرسل كما قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [العنكبوت:8] فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم بل يعدل عن الحق المعلوم إليه فهذا اتبع هواه كما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ [البقرة:170] وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي - 1/ 314
وتعتبر معرفة الله تعالى والإقرار بوجوده من الأمور الضرورية الفطرية التي غرسها الله تعالى في فطر الناس، وشهدت بها عقولهم، بل فطر القلوب عليه أعظم من فطرتها على الإقرار بغيره من الموجودات ولذا فإن الإيمان بوجود الله تعالى، وتحقيق كمال وحدانيته أصل الدين وقوامه، ولبه وصميمه، وهو في الواقع أمر لا يحتاج إلى سرد الأدلة وحشد البراهين، ولهذا لم يكثر في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحديث عن إثبات وجود الله عز وجل، لكن لما وجد شرذمة من الناس تنكر وجود الله مكابرة؛ كفرعون، أو لتغير الفطرة لسبب خارجي: فإن الله تعالى قد أقام من الدلائل الباهرة، والبراهين القاطعة ما يبهر العقول، ويقود القلوب إلى التسليم والانقياد.
وهذه الأدلة إنما يصار إليها ليزداد المؤمن إيماناً ويقينا، ومعرفة بالله وتعظيما له، وأما من فسدت فطرته، وتغيرت جبلته، فهذه الأدلة واعظة ومرشدة للعودة إلى الفطرة التي ند عنها، وتنكر لها.
وجماع القول: أن الإقرار بوجود الله والاعتراف به مستقر في قلوب الخلق جميعا وأنه من لوازم خلقهم، ضروري فيهم، وإن قدر أنه حصل بسبب.
ولقد حكى أهل العلم إجماع الأمم، واتفاق الملل، وتوافق الفطر على هذا الأمر الضروري، ومن هؤلاء الأئمة الأعلام، والصفوة الكرام: شيخ الإسلام ابن تيمية، في غير ما موضع من كتبه ورسائله.
نص ما حكاه شيخ الإسلام من الإجماع: قال: (أهل الفطر كلهم متفقون على الإقرار بالصانع) (1).
وبين أن هذا الأمر قد اجتمع على الإقرار به جميع الثقلين – الإنس والجن – حيث قال: (والمقصود هنا أن من المعروف عند السلف والخلف أن جميع الجن والإنس معترفون بالخالق مقرون به، ... فعلم أن أصل الإقرار بالصانع والاعتراف به مستقر في قلوب جميع الإنس والجن وأنه من لوازم خلقه، ضروري فيهم، وإن قدر أنه حصل بسبب كما أن اغتذاءهم الطعام والشراب هو من لوازم خلقهم، وذلك ضروري فيهم) (2).
وأوضح أن الإقرار بوجود الله وربوبيته لم يكن ينازع فيه المشركون الذين دعتهم رسلهم إلى عبادة الله وحده، حيث قال: (وأما الرب فهو معروف بالفطرة: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ [إبراهيم: 10] فالمشركون من عباد الأصنام وغيرهم من أهل الكتاب معترفون بالله مقرون به أنه ربهم وخالقهم ورازقهم، وأنه رب السموات والأرض والشمس والقمر، وأنه المقصود الأعظم) (3).
وذكر أن الإقرار بالخالق وكماله أمر فطري ضروري مركوز في فطر البشر السليمة من الانحراف والتغير، إذ يقول: (إن الإقرار بالخالق وكماله يكون فطرياً ضرورياً في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة، وأحوال تعرض لها) (4).
وعد الإقرار بالله مما اتفق عليه جميع المؤمنين، من الأولين والآخرين، بل وجميع الكتب الإلهية حيث يقول:. .. (ومنه ما هو متفق عليه بين جميع المؤمنين، من الأولين والآخرين، وجميع الكتب الإلهية: مثل الإقرار بالله) (5) ......
ولم يكثر السلف – رحمهم الله – الخوض في إثبات وجود الله تعالى وحشد الأدلة لتقريره؛ لأنه من القضايا المسلمة المستقرة في الفطرة البشرية؛ ولذا لم ينقل عنهم من الأقوال في تقرير وجود الله عز وجل إلا شيئاً يسيرا ورد في شأن الفطرة وأخذ الميثاق والإشهاد على ذلك والآيات الكونية والنفسية.
ومن ذلك قول محمد بن كعب القرظي – في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف: 172]-: (أقرت الأرواح قبل أن تخلق أجاسدها) (6).
وقال مجاهد بن جبر – في قوله تعالى: صِبْغَةَ اللهِ [البقرة: 138]-: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" (7).
وأما الكلبي والحسن فقد قالا – في قول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى [الأعراف: 172]-: (أخذ ميثاقهم أنه ربهم، فأعطوه ذلك، ولا تسأل أحداً كافراً ولا غيره: من ربك؟، إلا قال: الله) (8).
وقال السدي: (ليس في الأرض أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن ربه الله) (9).
وقال ابن جرير – في تفسير قول الله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى [الأعراف: 172]-: (يقول تعالى ذكره؛ شهدنا عليكم أيها المقرون بأن الله ربكم) (10).
وبين الراغب الأصفهاني أن معرفة الله عز وجل مركوزة النفوس، حيث قال: (معرفة الله تعالى العامية – أي الإجمالية – مركوزة في النفس، وهي معرفة كل أحد أنه مفعول، وأن له فاعلا فعله ونقله من الأحوال المختلفة) (11). المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين - بتصرف – ص: 237
_________
(1) ((الفتاوى الكبرى)) (6/ 368).
(2) ((الدرء)) (8/ 482).
(3) ((رسالة في الكلام على الفطرة)) لابن تيمية ضمن ((مجموع الرسائل الكبرى)) (2/ 337).
(4) ((المجموع)) (6/ 73).
(5) ((المجموع)) (12/ 475).
(6) ((تفسير ابن جرير)) (6/ 116).
(7) ((تفسير ابن جرير)) (1/ 623).
(8) ((تفسير ابن جرير)) (6/ 116).
(9) ((تفسير ابن جرير)) (6/ 116).
(10) ((تفسير ابن جرير)) (6/ 117).
(11) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) (ص: 199).
المبحث الثاني: عدم كفاية الإقرار بالربوبية للبراءة من الشرك
إن توحيد الربوبية هو أحد أنواع التوحيد الثلاثة؛ ولذا فإنه لا يصح إيمان أحد, ولا يتحقق توحيده إلا إذا وحد الله في ربوبيته، لكن هذا النوع من التوحيد ليس هو الغاية من بعثة الرسل عليهم السلام، ولا ينجي وحده من عذاب الله ما لم يأت العبد بلازمه توحيد الألوهية.
ولذا يقول الله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106]، والمعنى أي: ما يقر أكثرهم بالله رباً وخالقاً ورازقاً ومدبراً- وكل ذلك من توحيد الربوبية - إلا وهم مشركون معه في عبادته غيره من الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تعطي ولا تمنع.
وبهذا المعنى للآية قال المفسرون من الصحابة والتابعين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماء؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله, وهم مشركون).
وقال عِكْرِمَة: (تسألهم من خلقهم, ومن خلق السماوات والأرض, فيقولون الله, فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره).
وقال مجاهد: (إيمانهم قولهم: الله خالقنا, ويرزقنا, ويميتنا, فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره).
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بن زيد: (ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله, ويعرف أن الله ربُّه، وأنَّ الله خالقُه ورازقُه، وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 75 - 77]) (1).
والنصوص عن السلف في هذا المعنى كثيرة، بل لقد كان المشركون زمن النبي صلى الله عليه وسلم مقرين بالله رباً خالقاً رازقاً مدبراً، وكان شركهم به من جهة العبادة حيث اتخذوا الأنداد والشركاء, يدعونهم, ويستغيثون بهم, وينزلون بهم حاجاتهم وطلباتهم.
وقد دل القرآن الكريم في مواطن عديدة منه على إقرار المشركين بربوبية الله مع إشراكهم به في العبادة، ومن ذلك قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت: 61]، وقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [العنكبوت: 63]، وقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف: 87]، وقوله تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 84 - 89].
_________
(1) ((تفسير ابن جرير)) (16/ 289).
فلم يكن المشركون يعتقدون أن الأصنام هي التي تنزل الغيث وترزق العالم وتدبر شؤونه، بل كانوا يعتقدون أن ذلك من خصائص الرب سبحانه، ويقرون أن أوثانهم التي يدعون من دون الله مخلوقة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضراً ولا نفعاً استقلالاً, ولا موتاً, ولا حياة, ولا نشوراً، ولا تسمع, ولا تبصر، ويقرون أن الله هو المتفرد بذلك لا شريك له، ليس إليهم ولا إلى أوثانهم شيء من ذلك، وأنه سبحانه الخالق وما عداه مخلوق, والرب وما عداه مربوب، غير أنهم جعلوا له من خلقه شركاء ووسائط، يشفعون لهم بزعمهم عند الله, ويقربونهم إليه زلفى؛ ولذا قال الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3]، أي ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا.
ومع هذا الإقرار العام من المشركين لله بالربوبية إلا أنه لم يدخلهم في الإسلام, بل حكم الله فيهم بأنهم مشركون كافرون, وتوعدهم بالنار والخلود فيها, واستباح رسوله صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم لكونهم لم يحققوا لازم توحيد الربوبية وهو توحيد الله في العبادة.
وبهذا يتبين أن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده دون الإتيان بلازمه توحيد الألوهية لا يكفي ولا ينجي من عذاب الله، بل هو حجة بالغة على الإنسان تقتضي إخلاص الدين لله وحده لا شريك له، وتستلزم إفراد الله وحده بالعبادة. فإذا لم يأت بذلك فهو كافر حلال الدم والمال. أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء ص15
وهذا التوحيد - أي توحيد الربوبية - لا يكفي العبد في حصول الإسلام بل لا بد أن يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الألوهية لأن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد لله وحده قال تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [يونس:31] وقال تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] وقال: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت:63] وقال تعالى: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ الآية [النمل:62] فهم كانوا يعلمون أن جميع ذلك لله وحده ولم يكونوا بذلك مسلمين بل قال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف:106] قال مجاهد: في الآية: إيمانهم بالله قولهم: إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وعن ابن عباس وعطاء والضحاك نحو ذلك، فتبين أن الكفار يعرفون الله ويعرفون ربوبيته وملكه وقهره وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون له أنواعا من العبادات كالحج والصدقة والذبح والنذر والدعاء وقت الاضطرار ونحو ذلك ويدَّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام فأنزل الله تعالى مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67] وبعضهم يؤمن بالبعث والحساب وبعضهم يؤمن بالقدر
كما قال زهير:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم الحساب أو يعجل فينقم
وقال عنترة:
يا عبل أين من المنية مهرب
إن كان ربي في السماء قضاها
ومثل هذا يوجد في أشعارهم فوجب على كل من عقل عن الله تعالى أن ينظر ويبحث عن السبب الذي أوجب سفك دمائهم وسبي نسائهم وإباحة أموالهم مع هذا الإقرار والمعرفة وما ذاك إلا لإشراكهم في توحيد العبادة الذي هو معنى لا إله إلا الله تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبد الله آل الشيخ - ص17
قال ابن القيم:
فما كان له سبحانه فهو متعلق بألوهيته وما كان به فهو متعلق بربوبيته وما تعلق بألوهيته أشرف مما تعلق بربوبيته ولذلك كان توحيد الألوهية هو المنجي من الشرك دون توحيد الربوبية بمجرده فإن عباد الأصنام كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه ولكن لما لم يأتوا بتوحيد الألوهية وهو عبادته وحده لا شريك له لم ينفعهم توحيد ربوبيته عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لمحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية - ص35
المبحث الثالث: الفرق بين مجرد الإقرار بالربوبية وبين توحيد الربوبية
إن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء وكانوا مع هذا مشركين قال تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف:106] قالت طائفة من السلف: تسألهم من خلق السموات والأرض؟ فيقولون: الله وهم مع هذا يعبدون غيره قال تعالى: قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون:84 – 89] فليس كل من أقر بأن الله تعالى رب كل شيء وخالقه يكون عابدا له دون ما سواه داعيا له دون ما سواه راجيا له خائفا منه دون ما سواه يوالي فيه ويعادي فيه ويطيع رسله ويأمر بما أمر به وينهى عما نهى عنه وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به وجعلوا له أندادا قال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ [الزمر:43 - 44] وقال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18] وقال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94] وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً [البقرة:165] ولهذا كان أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها ويصوم وينسك لها ويتقرب إليها ثم يقول: إن هذا ليس بشرك إنما الشرك إذا اعتقدت أنها المدبرة لي فإذا جعلتها سببا وواسطة لم أكن مشركا ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - ص11
المبحث الرابع: مقتضيات الإقرار لله تعالى بالربوبية
إذا أقر العبد لله تعالى بالربوبية، فإن إقراره هذا يقتضي أموراً لابد منها، فإن لم يلتزم هذه المقتضيات ما نفعه إقراره بالربوبية لله، فهذه المقتضيات هي:
الأول منها: (ألا يعتقد العبد نفعاً ولا ضراً ولا حركة ولا سكوناً ولا بسطاً ولا خفضاً ولا رفعاً ولا إعطاء ولا منعاً ولا إحياءً ولا إماتةً ولا تدبيراً ولا تصريفاً إلا والله سبحانه وتعالى هو فاعله وخالقه لا يشركه في ذلك ولا يملك واحد منه شيئاً) (1) وقد دخل في هذا: الإيمان بالقضاء والقدر ...
الثاني: إثبات رب مباين للعالم، يقول ابن القيم رحمه الله: (إن الربوبية المحضه تقتضي مباينة الرب للعالم بالذات كما باينهم بالربوبية وبالصفات والأفعال، فمن لم يثبت رباً مبايناً للعالم فما أثبت رباً) (2) وهذا قاله عند تفسير قول الله تعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، والعالم هو كل ما سوى الله تعالى.
الثالث: أن يتوصل العبد بالإقرار بالربوبية إلى الإقرار بالألوهية فيجردها لله تعالى فلا يصرف أي نوع من أنواع العبادات لغير الله تبارك وتعالى. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 232
_________
(1) ((مجلة الجامعة الإسلامية السنة – 11 – العدد 2 – مفهوم الربوبية)) للشيخ سعد ندا (ص: 124).
(2) ((مدارج السالكين)) (1/ 84).
تمهيد:
لم تكن مسألة إثبات وجود الله تعالى هدفاً أساسيا من الأهداف، وذلك لأن الإقرار بوجود الله أمر فطري فطر الله عليه الخلق. والله سبحانه أبين وأظهر من أن يجهل فيطلب الدليل على وجوده.
وقد وجد قليل من الناس سابقاً ممن ينكر وجود الله تعالى إما مكابرة وعناداً كفرعون، أو لتغير الفطرة بسبب خارجي.
واليوم وإن كان قد كثر القائلون بعدم وجود الخالق إلا أنهم قليل جداً إلى جنب من يقر بوجوده، وهم مع ذلك يحيلون خلقهم إلى الطبيعة!.
وللسبب المذكور سابقاً نجد أن الاستدلال على وجود الله تعالى في القرآن لم يكن مقصوداً أصالة، وإنما يمكن أن يستنتج ذلك استنتاجاً. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد بن عبد اللطيف – 1/ 276
ومع ذلك ـلم يكتف القرآن الكريم باستثارة الفطرة المقرة بوجود الله تعالى، بل حفل بالأدلة العظيمة، والآيات الباهرة الدالة على وجوده، وعظمته سبحانه وتعالى، فكل ما في هذا الوجود من خلق وعناية بهذا الكون، وتسييره، على أكمل نظام، وحكمة هو دلالة صادقة على وجود الله تعالى المدبر لهذا الكون.
وذلك لأن الأدلة على وجوده، وعظمته تعزز مكنون الفطرة، وتزيدها يقيناً واستقامة، والأدلة يحتاج إليها أيضاً من فسدت فطرته، حيث يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (الإقرار بالخالق وكماله، كما يكون فطرياً ضرورياً في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس، عند تغير الفطرة، وأحوال تعرض لها) (1).
وعندما ظهرت الجهمية ومن تابعهم من فرق الابتداع، لم يأتوا بطرق مفيدة وصائبة في معرفة الخالق- سبحانه وتعالى – بل عقدوا الطرق السهلة وأطالوها, وغاية ما عندهم من الطرق هو الاستدلال بحدوث الحوادث على محدث موجد لها، وقد اعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذه الطريقة جزء من الطريقة القرآنية فقال: (هذه الطريقة جزء من الطريقة المذكورة، وهي التي جاءت بها الرسل، وكان عليها سلف الأمة وأئمتها, وجماهير العقلاء من الأولين؛ فإن الله يذكر في آياته ما يحدثه في العالم من السحاب، والمطر, والنبات, والحيوان، وغير ذلك من الحوادث, ويذكر في آياته خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ونحو ذلك) (2).
وقد أثبت الواقع الذي عاشه الصحابة - رضوان الله عليهم - أن الأدلة القرآنية يحتاج إليها من تعرضت فطرته لأحوال من الشرك والكفر، فتأتي هذه الأدلة لتنبيه الفطرة، وإيقاظها من انحرافاتها، فعن محمد- ت:98هـ- ابن جبير - ت:59هـ - ابن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال: (قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم في فداء الأسرى، فاضطجعت في المسجد بعد العصر، وقد أصابني الكرى، فنمت، فأقيمت صلاة المغرب، فقمت فزعاً بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ [الطور:1 - 2] فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد, فكان يومئذ أول ما دخل الإسلام قلبي) (3).
وفي البخاري قال جبير بن معطم رضي الله عنه: ((سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور:35 - 37]، كاد قلبي أن يطير)) (4).
قال الإمام الخطابي: (كأنه انزعج عند سماع هذه الآية لفهمه معناها، ومعرفته بما تضمنته ففهم الحجة، فاستدركها بلطيف طبعه) (5).
إن الأثر الذي أحدثته هذه الآيات القرآنية بقلب هذه الصحابي الجليل، وكانت سبباً من أسباب إسلامه وإيمانه، تبين لنا مدى أثر الأدلة القرآنية في إحياء الفطرة ومعالجتها من ظلمات الشرك، والكفر, ولقد سمع القرآن الكريم الجمهرة الكبيرة من العرب، وغيرهم منذ بدء الإسلام وإلى يومنا هذا وعجائبه لا تنقضي، وأدلته العظيمة ما زالت سبباً كبيراً في دخول الناس أفواجاً في هذا الدين. العقيدة الإسلامية وجهود علماء السلف في تقريرها لعطاء الله بخيت المعايطة - ص: 28 - 31
_________
(1) ((مجموعة الفتاوى)) (6/ 73)
(2) ((درء تعارض العقل)) (3/ 83)
(3) رواه ابن عساكر في ((مختصر تاريخ دمشق)) لابن منظور (ص: 756). وانظر: ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (50/ 7). ورواه بنحوه البخاري (4854).
(4) رواه البخاري (4854).
(5) ابن حجر – ((فتح الباري)) (8/ 603)
المبحث الأول: مسلك الإلزام والرد على من انحرفت فطرهم
فمن الإلزام قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35].
والذين انحرفت فطرهم هم الذين أنكروا الخالق تبارك وتعالى فقال الله عنهم وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] فأنكروا البعث وأنكروا أن يكون لهم رب يفنيهم، فرد الله عليهم بقوله: وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية: 24] أي ليس لهم علم يقين يدل على صحة قولهم، سواء كان هذا العلم خبراً، أو كان حجة وبرهاناً عقلياً، ثم بين الله أنهم في اعتقادهم الذي نطقوا به بألسنتهم شاكون ومرتابون، وهذا أمر واضح لاتباعهم الظن (1).
ومن أوجه الرد على من انحرفت فطرهم: ما جاء عن فرعون الذي كان يقول لقومه: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38] فتابعه قومه على ذلك كما قال تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [الزخرف: 54] فسأل فرعون موسى فقال: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 23] أي من هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟ قال ابن كثير – رحمه الله – (هكذا فسره علماء السلف وأئمة الخلف) (2).
وذلك رد على من قال: إن فرعون سأل عن ماهية الرب، وهذا غلط لأنه كان منكراً جاحداً ولم يكن مقراً حتى يسأل عن الماهية، ويبينه قوله تعالى: قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه: 49] وهنا أجاب موسى عليه السلام لما سأله عن رب العالمين: قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا أي خالق جميع ذلك ومالكه والمتصرف فيه وهو الذي خلق الأشياء كلها، العالم العلوي وما فيه من الكواكب، والعالم السفلي وما فيه من عجائب المخلوقات كالجبال والبحار والأشجار، وهذا الرد على فرعون واضح، لأنه لا يمكن أن يدعي ملكه لكل هذه الأشياء، وإنما كان له نوع ملك وهو محدود على مصر، فعندما سمع هذه الحجة التفت إلى من حوله من الملأ قائلاً أَلَا تَسْتَمِعُونَ على سبيل التهكم. ثم زاد موسى عليه السلام الحجج فقال: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين الذين كانوا قبل فرعون وزمانه، فكيف تصح منه دعوى الربوبية إذا؟ فما كان من فرعون إلا أن وصف موسى بالجنون فقال: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ إمعاناً في تضليل قومه، فأجاب موسى بقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ أي هو الذي جعل المشرق مشرقاً تطلع منه الشمس والكواكب، والمغرب تغرب فيه الشمس والكواكب بنظام دقيق لا يتغير على حسب تقديره، وتقرير الحجة: إن كان فرعون صادقاً في دعواه الربوبية فليعكس الأمر، فغلب وانقطع فعدل إلى استعمال قوته وسلطانه إلى آخر القصة. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد بن عبد اللطيف – 1/ 276
_________
(1) انظر: ((تفسير الطبري)) (22/ 80).
(2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 332).
المبحث الثاني: مسلك ذكر الآيات الدالة على الربوبية
وهي العلامات المخلوقة المحكمة الإتقان:
فدلالتها من جهة أنها مخلوقة محدثة، ومن جهة إحكامها وإتقانها، قال الله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20 - 21]. فلينظر الإنسان إلى آثار قدرة الله فيه والتدبير منذ أن كان نطفة في رحم أمه، ثم تنقله من طور إلى آخر إلى خروجه إلى الدنيا وله من الأعضاء والحواس مما يظهر آثار الإحكام الإلهي.
وهكذا إذا نظر الإنسان في أمر هذا العالم وما فيه من السير الدقيق المنظم البديع، فإنه يحصل له العلم بأن له خالقاً خلقه بعلم وحكمة.
قوله تعالى: اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [إبراهيم: 32 - 33].
قال الحافظ ابن رجب: (وأخبر سبحانه وتعالى أنه إنما خلق السموات والأرض ونزل الأمر لنعلم بذلك قدرته وعلمه، فيكون دليلاً على معرفته ومعرفة صفاته، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12]) (1) اهـ. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد بن عبد اللطيف – 1/ 278
ومن الأدلة الشرعية على توحيد الربوبية: ... قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1]
قوله تعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 1].
قوله تعالى: قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد: 16].
وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم: 40].
وقوله تعالى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ [لقمان: 11].
وقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ [الطور: 35 - 36].
وقوله تعالى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65].
طريقة القرآن في الاستدلال على توحيد الربوبية:
سلك القرآن عدداً من الأساليب ... منها:
أولاً: الاستدلال باستحالة صدور الوجود من عدم كما في قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ [الطور: 35 - 36].
وصورة هذا الدليل في الآية:
_________
(1) ((شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم)) (ص: 40).
إما أن يكونوا خلقوا أنفسهم وهذا باطل لأنه يلزم منه الدور وهو باطل حيث يترتب كل من الفرضين على الآخر فكونهم خلقوا أنفسهم يستلزم وجودهم قبل الخلق إذ لا يصدر الوجود من العدم ضرورة، إذ لا معنى للعدم إلا عدم الوجود ولا معنى للوجود إلا كون الشيء ليس بمعدوم.
وإما يكونوا لا خالق لهم أصلاً فيكون العدم هو الذي أوجدهم وهذا باطل إذ لا معنى للعدم إلا عدم الوجود فيلزم من قولهم بهذا الفرض الجمع بين النقيضين وهو كون الشيء موجوداً معدوماً والوجود والعدم نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ولا يمكن أن ينشأ واحد منهما من الآخر.
والفرض الثالث أن يكون لهم خالق هو الله سبحانه وتعالى.
ثانياً: الاستدلال بما في العالم من التغير المانع من قدمه إذ التغير علامة الحدوث والخلق فلابد إذا له من خالق ويدل عليه قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر: 11].
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ [النور: 43 - 44].
ثالثاً: إن الكون ممكن الوجود وما كان كذلك فهو مخلوق لا يمكن أن يكون واجب الوجود لأن إمكان العدم عليه والوجود ينفي وجوبه. ويدل عليه قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [إبراهيم: 19]
رابعا: أن الكون وجد على سبيل الإتقان مما يمنع كونه وجد من غير موجد ويدل عليه قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك: 3 - 4].
خامسا: إبطال الشرك في الربوبية كما في قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون: 19].
وصورة الدليل في الآية هو: (إن الإله الحق لا بد أن يكون خالقاً فاعلاً يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة بل إن قدر على قهر ذلك الشريك والتفرد بالملك والألوهية دونه فعل وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بملكه وإذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه فلابد من أحد ثلاثة أمور:
إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.
وإما أن يعلو بعضهم على بعض.
وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ولا يتصرفون فيه.
فالفرض الأول غير ممكن إذ لابد أن تبين أثار فعله في الكون. والفرض الثاني ممتنع ضرورة اختلال الكون نتيجة العلو وتضارب الإرادات، والثالث هو الحق وهو كون الرب هو الإله الواحد) (1). إتحاف المريد بمعرفة التوحيد لإبراهيم بن محمد البريكان– ص: 26
_________
(1) ((شرح الطحاوية)) (ص: 26، 27) ((الأسئلة والأجوبة الأصولية)) (ص: 206، 207).
تمهيد
الإيمان بالله تعالى يتضمن الإيمان بوحدانيته، واستحقاقه للعبادة؛ لأن وجوده – جل وعلا – لا شك فيه ولا ريب، وقد دل على وجوده سبحانه وتعالى: الفطرة، والعقل، والشرع، والحس الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة لعبدالله بن عبدالحميد الأثري - ص114
المبحث الأول: دلالة الفطرة
الفطرة في اللغة: فعلها ثلاثي وهو فطر، والحالة منه: الفطرة كالجلسة، وهي بمعنى الخلقة.
قال ابن فارس عن أصل هذه الكلمة ( ... أصل صحيح يدل على فتح شيء وإبرازه، ومنه الفطرة: وهي الخلقة) (1) اهـ.
وأتى بالفتح قبل الإبراز لأنه سبب من أسبابه.
وفي اللسان: والفطرة تعني: الابتداء والاختراع (2).
والأمر ظاهر في أنه لا خلاف بين هذه المعاني الثلاثة، الخلقة، والابتداء، والاختراع.
وقال الشيخ السعدي رحمه الله في تعريفها: (هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها وجعلهم مفطورين عليها وعلى محبة الخير وإيثاره وكراهية الشر ودفعه، وفطرهم حنفاء مستعدين لقبول الخير والإخلاص لله والتقرب إليه) (3).
ودليل الفطرة راسخ في نفوس البشر إلا ما غير منها، والدليل إذا كان راسخاً في النفس يكونه قوياً لا يحتاج الشخص معه إلى استدلال، ولهذا فهو أصل لكل الأدلة الأخرى الدالة على الإقرار بوجود الرب سبحانه، فهي مؤيدة له ومثبتة للإقرار. ولتقرير أصل هذا الدليل إليك بعض الأدلة الدالة على ذلك:
1) لجوء الإنسان وفزعه إلى خالقه سبحانه، سواء كان هذا الإنسان موحداً أو مشركاً عند الشدة والحاجة.
فإن بني آدم جميعاً يشعرون بحاجتهم وفقرهم، وهذا الشعور أمر ضروري فطري، إذ الفقر وصف ذاتي لهم، فإذا ألمت بالإنسان – حتى المشرك – مصيبة قد تؤدي به إلى الهلاك فزع إلى خالقه سبحانه والتجأ إليه وحده واستغنى به ولم يستغن عنه، وشعور هذا الإنسان بحاجته وفقره إلى ربه تابع لشعوره بوجوده وإقراره، فإنه لا يتصور أن يشعر الإنسان بحاجته وفقره إلى خالقه إلا إذا شعر بوجوده، وإذا كان شعوره بحاجته وفقره إلى ربه أمراً ضرورياً لا يمكنه دفعه، فشعوره بالإقرار به أولى أن يكون ضرورياً (4).
قال الله تعالى: وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [يونس: 12].
وقال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67].
وقال تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر: 8].
فرجوع الإنسان وإنابته إلى ربه عند الشدائد دليل على أنه يقر بفطرته بخالقه وربه سبحانه، وهكذا كل إنسان إذا رجع إلى نفسه أدنى رجوع عرف افتقاره إلى الباري سبحانه في تكوينه في رحم أمه وحفظه له، وعرف كذلك افتقاره إليه في بقائه وتقلبه في أحواله كلها، وتبقى هذه المعرفة في نفسه قوية لأن الحاجة استلزمتها، فتكون أوضح من الأدلة الكلية مثل افتقار كل حادث إلى محدث (5).
2) ورود التكليف بتوحيد العبادة أولاً:
_________
(1) ((معجم مقاييس اللغة)) (4/ 510) – مادة (فطر).
(2) ((لسان العرب)) (5/ 58)، مادة (فطر)، والأصل أنه لابن الأثير في ((النهاية في غريب الحديث)) (3/ 457).
(3) ((بهجة قلوب الأبرار)) (ص: 64).
(4) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 532 - 533).
(5) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 48 - 49). و ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 126). و ((دلائل التوحيد)) للقاسمي (ص: 191 - 192).
لقد تقدم ذكر الأدلة الدالة على أن أول ما يكلف به المكلف: عبادة الله جل وعلا ومما يؤكد تلك الحقيقة هو أن الله تعالى نص على محل النزاع بين الرسل وأقوامهم بقوله: وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا [الإسراء: 46]. أي أنهم يولون مدبرين عند طلب عبادة الله وحده دون غيره، ويوضحه كذلك قوله: ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر: 12].
ولذلك بعث الله رسله بالتوحيد وترك الشرك فقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25].
وعلى هذا يكون تقرير هذه الحجة بأمرين:
الأول: لو لم يكن الإقرار بالله تعالى وبربوبيته فطرياً لدعاهم إليه أولاً – إذ الأمر بتوحيده في عبادته فرع الإقرار به وبربوبيته فيكون بعده (1).
الثاني: لو لم يكن الإقرار بالله تعالى وبربوبيته فطرياً لساغ لمعارضي الرسل عند دعوتهم لهم بقول الله تعالى: فَاعْبُدُونِ أن يقولوا: نحن لم نعرفه أصلاً فكيف يأمرنا، فلما لم يحدث ذلك دل على أن المعرفة كانت مستقرة في فطرهم (2).
ويؤيده الدليل الثالث الذي سيأتي ذكره إن شاء الله. ولم يعرف من ينكر وجوده من أقوام الرسل إلا ما كان من فرعون، ومع هذا فإنكاره كان تظاهراً ولم يكن باطناً كما قال تعالى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ [الإسراء: 102] وقال: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14].
3) إلزام المشركين بتوحيد الربوبية ليقروا بتوحيد الألوهية (3):
..... ووجه الدلالة: إن المشركين لو لم يكونوا مقرين بربوبية الله تعالى لما قررهم به، ولهذا كانت تقول الرسل لقومها: أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى [إبراهيم: 10].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فدل ذلك على أنه ليس في الله شك عند الخلق المخاطبين، وهذا يبين أنهم مفطورون على الإقرار) (4) اهـ.
4) التصريح بأن الفطرة مقتضية للإقرار بالرب وتوحيده وحبه في الأدلة السمعية:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)) (5) والصوب أن الفطرة هنا هي فطرة الإسلام، وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة، وليس المراد أن الإنسان حين يخرج من بطن أمه يعلم هذا الدين موحداً لله فإن الله تعالى يقول: وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل: 78] وإنما المراد أن فطرته مقتضية وموجبة لدين الإسلام ولمعرفة الخالق والإقرار به ومحبته. ومقتضيات هذه الفطرة وموجباتها تحصل شيئاً بعد شيء وذلك بحسب كمال الفطرة وسلامتها من الموانع (6).
والأدلة القاضية بصحة هذا التفسير كثيرة منها:
أولاً: ورود روايات لهذا الحديث تفسر الفطرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((على هذه الملة)) (7).
_________
(1) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 130 - 8/ 491).
(2) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 440).
(3) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 479).
(4) ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 441).
(5) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 383).
(7) رواه مسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ثانياً: إن الصحابة فهموا من الحديث أن المراد بالفطرة: الإسلام، ولذلك سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عقب ذلك عن أطفال المشركين لوجود ما يغير تلك الفطرة السليمة وإلا لما سألوا عنهم وأيضاً فإن أبا هريرة – رضي الله عنه – تلا قوله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30] عقب هذا الحديث. مما يدل أنه فهم أن المراد من الفطرة: الإسلام.
ثالثاً: إن هذا الحديث يؤيده ظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30] فقد عم الله كل الناس بهذه الفطرة في قوله النَّاسَ وأضافها إليه إضافة مدح لا إضافة ذم لأنها منصوبة على المصدرية التي دل عليها الفعل أَقِمْ فيكون المعنى: إن إقامة الوجه للدين حنيفاً هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها (1). وتفسير الآية بهذا المعنى منقول عن عامة السلف (2).
رابعا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه ((خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين ... )) (3) والحنيفية: الإسلام.
خامساً: لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم لموجب الفطرة ومقتضاها شرطاً، بل ذكر ما يمنع موجبها حيث قال: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)) (4) ومع ذلك لم يذكر عند تغيرها بمؤثر خارجي: أو يسلمانه، مما يدل على أن المراد بالفطرة معرفة الله والإقرار به، بمعنى أن ذلك هو مقتضى فطرتهم، وأن حصولها لا يتوقف على وجود شرط وإنما على انتفاء الموانع (5).
5) برهان عقلي:
وهو أنه إذا فرض جدلاً أن معرفة الله تعالى نظرية وطلب إقامة الأدلة على الإقرار به وبربوبيته، فإنه لابد من وجود علوم ضرورية فطرية أولية تنتهي إليها العلوم النظرية، ولا يمكن إثباتها بعلوم نظرية كذلك لما يلزم من الدور القبلي والتسلسل في المؤثرات. وهذه العلوم الضرورية شرط وجودها صحة الفطرة وسلامتها، فبالفطرة السليمة مع حسن النظر يحصل المطلوب من العلم (6).
ويوضح هذا أن الذي يستدل لإثبات الرب سبحانه لابد أن ينقدح في نفسه أن الدليل الذي يستدل به هو بعينه يؤدي إلى مطلوبه الذي شعر به أولاً، فهاهنا أمران: الشعور بمطلوبه، والدليل المؤدي إليه (7)، وبهذا يتضح أنه لولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق لما قام نظر ولا استدلال (8)، والحقيقة المطلوبة هنا: معرفة وجود الله. ويوضحه كذلك: أن مجرد التعليم والتحضيض لا يحصل به العلم والإرادة لولا وجود قوة في النفس قابلة لذلك التعليم وتلك الإرادة، فإن البهائم والجمادات لو علمت وحضضت بوسائل تعليمية كالتي لبني آدم لما حصل لها ما يحصل لبني آدم مع أن الوسائل متفقة، مما يدل على أن القوابل مختلفة، والقابل هو مقتضى الفطرة.
اعتراضات على دليل الفطرة:
الاعتراض الأول: لو كانت المعرفة فطرية فكيف أُثر عن بعض الخلق إنكار وجود الله تعالى؟
والجواب:
أولاً: إن الإقرار بالخالق يكون فطرياً في حق من سلمت فطرته، كما هو نص الحديث السابق.
ثانياً: إن من أثر عنه إنكار الخالق في البشر قليلون جداً مقارنة مع من يثبت وجوده، وهم على قسمين:
_________
(1) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 372).
(2) انظر: ((تفسير الطبري)) (20/ 97).
(3) رواه مسلم (2865) بلفظ: ((وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)). من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
(4) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 454).
(6) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 309).
(7) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 48).
(8) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 62).
قسم ينكره ظاهراً فقط كما تقدم في شأن فرعون.
قسم آخر هو في الحقيقة معترف في قرارة نفسه بوجود مدبر وصانع، ويحيل ذلك إلى الطبيعة أو غيرها!. مما يدل على وجود علوم أولية فطرية، وإنما حصل ما حصل بسبب المؤثر الخارجي.
الاعتراض الثاني (1):
لو كانت معرفته فطرية ضرورية فكيف ينكر ذلك كثير من النظار ويدعون أنهم يقيمون الأدلة على وجوده؟
والجواب:
أولاً: إن من أنكر هذه المعرفة الفطرية الضرورية هم أهل الكلام المذموم الذين ذمهم السلف، ولم يؤثر هذا الإنكار عن علماء المسلمين، بل إنهم نصوا على خلاف هذا كما صح عن الإمام الزهري (2)، فهؤلاء المتكلمون تأثروا بمؤثر خارجي.
ثانياً: إن الإنسان قد يقوم بنفسه من العلوم والإرادات وغيرها من الصفات ما لا يعلم أنه قائم بنفسه. فهاهنا أمور وهي: علم الإنسان بعلم ما، وعلمه بأنه يعلم هذا العلم، وطلبه الدليل على هذا العلم، وكل إنسان يشعر من نفسه الفرق بين هذه الأمور، فالعلم بشيء قد يكون قائماً بإنسان وإن كان غائباً عنه علمه بأنه يعلم ذلك الشيء، ولكن إذا ذكر له تذكر، وأحس من نفسه بالمعرفة. وقد تقدم أنه لولا وجود علوم ضرورية فطرية لما صح نظر ولا استدلال ولا تم وقام.
الاعتراض الثالث (3):
قالوا: إن المعرفة لا تحصل مبتدأة في النفس، بل لابد لها من طريق.
الجواب:
أولاً: إن هذا من موارد النزاع وهو هل المعرفة نظرية أو فطرية، وعليه فلا يصلح إيرادها قضية مسلماً بها، وقد دللنا سابقاً على صحة القول بأنها فطرية.
ثانياً: أن يقابل هذا القول بالمعارضة فيقال: إنها قد تحصل في النفس مبتدأة ولا يمكنهم حينئذ أن يقيموا دليلاً على نفي ذلك، وإن أقاموه فباستقراء يكون إما فاسداً وإما ناقصاً.
ثالثاً: إن أهل الكلام أثبتوا علوماً ضرورية، منها علم الإنسان بوجود نفسه، فإذا كان هذا ضروريًّا، فالعلم بربوبية الخالق أولى أن يكون ضروريًّا في حق من سلمت فطرته، وإن زعم المتكلم أن ذلك يحتاج إلى طريق. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 232
_________
(1) انظر: ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (16/ 340).
(2) انظر: ((فتح الباري)) (3/ 248)، والحديث رواه البخاري (1358) وقال: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب قال ابن شهاب: (يصلى على كل مولود متوفى وإن كان لغيّة من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام يدعي أبواه الإسلام أو أبوه خاصة وإن كانت أمه على غير الإسلام إذا استهل صارخاً يصلي عليه ولا يصلى على من لا يستهل من أجل أنه سقط ... ).
(3) انظر: هذا الاعتراض والجواب عنه في ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 37).
هذا وإن من فضل الله ورحمته أن فطر كل إنسان على توحيده وابتغاء وجهه بحيث يكون ذلك أصلاً يولد عليه كل مولود وهذا هو معنى حديث الفطرة وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) (1) فالفطرة هي الإسلام الذي أصله توحيد الله بالإرادة والمحبة، وأما الأديان المحرفة فهي مخالفة للفطرة، وانحراف عن الأصل الذي هو الإسلام ولهذا فإن القلب لا يمكن أن يطمئن ويستقر إلا إلى ما فطره الله عليه من إرادته ومحبته وحده وكل إرادة ومحبة لغير الله فهي عذاب وصرف للفطرة عن أصلها، مهما يكن المراد المحبوب وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)) (2) مع أنه دعاء بالتعاسة والانتكاس لمن كان عبداً للدينار فإنه أيضاً تقرير لواقع حاصل، وهو أن كل من كان معبوده المال فلابد أن يكون حاله من تعاسة إلى تعاسة، ومن انتكاس إلى انتكاس، لمخالفته لحقيقة فطرته بحب الله وإرادة وجهه وحده ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني - ص163
قال ابن كثير رحمه الله تعالى، في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ الأعراف: 172
وذهب طائفة من السلف والخلف أن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد, كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة - وفي رواية - على هذه الملة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء)) (3) أخرجاه وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم)) (4) وعن الأسود بن سريع من بني سعد قال ((غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات قال فتناول القوم الذرية بعدما قتلوا المقاتلة فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فاشتد عليه ثم قال: ما بال قوم يتناولون الذرية فقال رجل يا رسول الله أليسوا أبناء المشركين؟ فقال: إن خياركم أبناء المشركين ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها فأبواها يهودانها وينصرانها)) (5)
_________
(1) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري (2887). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري (1385)، ورواية ((على هذه الملة)) رواها مسلم (2658).
(4) رواه مسلم (2865).
(5) رواه أحمد (4/ 24) (16346) واللفظ له، والدارمي (2/ 294)، والحاكم (2/ 134). وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (8/ 289): مشهور ثابت. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 316): رواه أحمد بأسانيد والطبراني في الكبير والأوسط .. وبعض أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (402): وهو كما قالا - أي: الحاكم والذهبي -.
قال الحسن: ولقد قال الله تعالى في كتابه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِيَّتَهُمْ [الأعراف:172] قالوا ولهذا قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ولم يقل من آدم مِنْ ظُهُورِهِمْ ولم يقل من ظهره ذُرِيَّتَهُمْ أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن كقوله تعالى: وَهُوَ الذِّي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فيِ الأَرْض [الأنعام:165] وقال: وَيَجْعَلَكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْض [النمل:62] وقال تعالى: كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَةِ قَوْمٍ آخَرِين [الأنعام:133] ثم قال تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالا, قال الشهادة تكون بالقول كقوله تعالى: قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا [الأنعام:130] الآية وتارة تكون حالا كقوله تعالى: مَا كَانَ للمُشْرِكِينَ أَنْ يُعَمِّرُوا مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالكُفْر [التوبة: 17] أي حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك, وكذا قوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيد [العاديات: 7] كما أن السؤال تارة يكون بالمقال, وتارة يكون بالحال كقوله تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوه [إبراهيم: 34] معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص93
وقال ابن تيمية رحمه الله في معرض كلامه على إقرار الناس بفطرهم على وجود الخالق سبحانه وتعالى: ولهذا كان أكثر الناس على أن الإقرار بالصانع ضروري فطري وذلك أن اضطرار النفوس إلى ذلك أعظم من اضطرارها إلى ما لا تتعلق به حاجتها ألا ترى أن الناس يعرفون من أحوال من تتعلق به منافعهم ومضارهم كولاة أمورهم ومماليكهم وأصدقائهم وأعدائهم مالا يعلمونه من أحوال من لا يرجونه ولا يخافونه ولا شيء أحوج إلى شيء من المخلوق إلى خالقه فهم يحتاجون إليه من جهة ربوبيته إذ كان هو الذي خلقهم وهو الذي يأتيهم بالمنافع ويدفع عنهم المضار: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل: 53]
وكل ما يحصل من أحد فإنما هو بخلقه وتقديره وتسبيبه وتيسيره وهذه الحاجة التي توجب رجوعهم إليه حال اضطرارهم كما يخاطبهم بذلك في كتابه وهم محتاجون إليه من جهة ألوهيته فإنه لا صلاح لهم إلا بأن يكون هو معبودهم الذي يحبونه ويعظمونه ولا يجعلون له أندادا يحبونهم كحب الله بل يكون ما يحبونه سواه كأنبيائه وصالحي عباده إنما يحبونهم لأجله كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)) (1) ومعلوم أن السؤال والحب والذل والخوف والرجاء والتعظيم والاعتراف بالحاجة والافتقار ونحو ذلك مشروط بالشعور بالمسئول المحبوب المرجو المخوف المعبود المعظم الذي تعترف النفوس بالحاجة إليه والافتقار الذي تواضع كل شيء لعظمته واستسلم كل شيء لقدرته وذل كل شيء لعزته فإذا كانت هذه الأمور مما تحتاج النفوس إليها ولا بد لها منها بل هي ضرورية فيها كان شرطها ولازمها وهو الاعتراف بالصانع به أولى أن يكون في النفوس وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((كل مولود يولد على الفطرة)) (2) ويروي عن ربه: ((خلقت عبادي حنفاء)) (3) ونحو ذلك لا يتضمن مجرد الإقرار بالصانع فقط بل إقرارا يتبعه عبودية لله بالحب والتعظيم وإخلاص الدين له وهذا هو الحنيفية وأصل الإيمان قول القلب وعمله أي علمه بالخالق وعبوديته للخالق والقلب مفطور على هذا وهذا وإذا كان بعض الناس قد خرج عن الفطرة بما عرض له من المرض إما بجهله وإما بظلمه فجحد بآيات الله واستيقنتها نفسه ظلما وعلوا لم يمتنع أن يكون الخلق ولدوا على الفطرة درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 2/ 24
_________
(1) رواه البخاري (16)، ومسلم (43). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) رواه مسلم (2865). من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه.
المبحث الثاني: دلالة الحس
وأما دلالة الحس على وجود الله، فإن الإنسان يدعو الله عز وجل، يقول: يا رب! ويدعو بالشيء، ثم يستجاب له فيه، وهذه دلالة حسية، هو نفسه لم يدع إلا الله، واستجاب الله له، رأى ذلك رأي العين وكذلك نحن نسمع عمن سبق وعمن في عصرنا، أن الله استجاب لهم فالأعرابي الذي دخل والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة قال: هلكت الأموال، وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا قال أنس: والله، ما في السماء من سحاب ولا قزعة (أي: قطعة سحاب) وما بيننا وبين سلع (جبل في المدينة تأتي من جهته السحب) من بيت ولا دار وبعد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم فوراً خرجت سحابة مثل الترس، وارتفعت في السماء وانتشرت ورعدت، وبرقت، ونزل المطر، فما نزل الرسول صلى الله عليه وسلم إلا والمطر يتحادر من لحيته عليه الصلاة والسلام (1) وهذا أمر واقع يدل على وجود الخالق دلالة حسية وفي القرآن كثير من هذا، مثل: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَه [الأنبياء:83 - 84] وغير ذلك من الآيات شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 56
_________
(1) رواه البخاري (933)، ومسلم (897).
المبحث الثالث: دلالة الآيات الكونية
- دليل الخلق والحدوث
كل حادث لا بد له من محدث ولا محدث للحوادث إلا الله عز وجل، والحقيقة أن دلالة الحوادث على المحدث دلالة حسية عقلية:
أما كونها حسية: فلأنها مشاهدة بالحس.
وأما كونها عقلية: فلأن العقل يدل على أن كل حادثٍ لا بد له من محدث.
ولهذا سئل أعرابي: بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبَعْرَة تدل على البعير، فسماء ذات أبراجٍ وأرض ٌ ذات فجاج وبحارٌ ذات أمواج ألا تدل على السميع البصير؟ الجواب: بلى، هذا أعرابي استدل على أن هذه الحوادث العظيمة تدل على خالقٍ عظيم عز وجل، هو السميع البصير، فالحوادث دليل على وجود المحدث، ثم كل حادثٍ منها يدل على صفةٍ مناسبةٍ غير الوجود، فنزول المطر يدل لا شك على وجود الخالق ويدل على رحمته وهذه دلالةٌ غير الدلالة على الوجود، وجود الجدب والخوف والحروب تدل على وجود الخالق وتدل على غضب الله عز وجل وانتقامه، فكل حادثٍ فله دلالتان:
دلالةٌ كلية عامة: تشترك فيها جميع الحوادث وهي وجود الخالق وجود المحدث.
ودلالةٌ خاصة: في كل حادثٍ بما يختص به كدلالة الغيث على الرحمة ودلالة الجدب على الغضب وهكذا.
وهناك دلالة أخرى: النوازل التي تنزل لسبب دالة على وجود الخالق، مثل: دعاء الله عز وجل ثم استجابته للدعاء دليل على وجوده، وهذه وإن كانت من باب دلالة الحادث على المحدث لكنها أخص، لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم الله أن يغيث الخلق قال: ((اللهم أغثنا اللهم أغثنا)) ثم نشأ السحاب وأمطر قبل أن ينزل من المنبر، هذا حديث أنس (1) يدل على وجود الخالق وهذا أخص من دلالة العموم شرح العقيدة السفارينية لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص45
ومن أمثلة الآيات القرآنية التي تتحدث عن الدلائل الكونية المتعلقة بالخلق والتكوين قوله –تعالى -: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت: 37] وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 20] وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم: 22 - 25]، فهذه الآيات كونية وإن شئت، فقل: كونية قدرية، وكانت آية لله، لأنه لا يستطيع الخلق أن يفعلوها، فمثلاً: لا يستطيع أحد أن يخلق مثل الشمس والقمر، ولا يستطيع أن يأتي بالليل إذا جاء النهار، ولا بالنهار إذا جاء الليل، فهذه الآيات كونية شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 124
_________
(1) رواه البخاري (933)، ومسلم (897).
المبحث الرابع: دلالة الشرع
هذه الطريقة قد تبدو غريبة خاصة على علماء الكلام، ولكن سيتم بيان وجه دلالتها على وجود الله تعالى بما يزيل غرابتها إن شاء الله. وقد سلك بعض العلماء هذه الطريقة كالقاضي أبي يعلى في كتابه: (عيون المسائل) وأبي بكر البيهقي في كتابه (الاعتقاد) والخطابي في رسالة: (الغنية عن الكلام) وأشار شيخ الإسلام إلى صحتها وشرعيتها إذا حررت (1). وقال ابن القيم: (وهذه الطريق من أقوى الطرق وأصحها وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله. وارتباط أدلة هذه الطريق بمدلولاتها أقوى من ارتباط الأدلة العقلية الصريحة بمدلولاتها، فإنها جمعت بين دلالة الحس والعقل، ودلالتها ضرورية بنفسها، ولهذا يسميها الله آيات بينات) (2).
وبيان هذه الطريق من وجهين:
الوجه الأول: الآيات والبراهين – وهي المعجزات.
الوجه الثاني: العلوم والأحكام المتضمنة لمصالح الخلق التي جاءوا بها.
الوجه الأول: الآيات والبراهين – وهي المعجزات:
بين الله تعالى في كتابه العزيز أنه أرسل رسله بالوحي وأيدهم بالآيات تصديقاً لهم فقال: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ [الحديد: 25] وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [النحل: 43 - 44] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ((ما من الأنبياء من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)) (3) وسماها الله تعالى برهاناً كذلك، فقال عن آيتي العصا واليد اللتين أرسل بهما موسى عليه السلام: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [القصص: 32].
فسماها الله تعالى آية وبرهاناً وبينة، وذلك لقوة دلالتها على المطلوب، وأنه بمجرد حدوثها يحصل العلم الضروري، فهي من جنس الآيات من دلالتها على المراد، بل هي أقوى لغرابتها وعظمتها.
ومن المعلوم أن الرسول إذا جاء قومه وادعى أنه رسول الله يوحى إليه بأنه لا إله إلا الله، أيده الله وصدقه بآية، فههنا أمور:
الأول: دعواه أنه رسول.
الثاني: أن الله هو الذي أرسله سواء كان المخاطب يقر بوجوده أو لا يقر.
الثالث: أنه مرسل لدعوة الناس إلى إفراد الله بالألوهية.
فإذا جاء الرسول بآية وهي العلامة التي تدل على صدقه ثبتت الرسالة وكذلك الربوبية ضمناً، وذلك لأنها حدث من جنس لا يقدر على مثله البشر وحصلت عند دعوى الرسول الرسالة، كيف وإذا انضم إلى ذلك ما عرف من أحوال الأنبياء وصدقهم وما حصل لهم ولأتباعهم من التأييد والنصر، ولأعدائهم من الهلاك والخسران ... ولذلك فليس بلازم أن تتقدم معرفة العبد بوجود الله تعالى على حصول الآية والمعجزة ومن ثم تقرر النبوة، لأنها ... من جنس الآيات المخلوقة المحدثة التي لابد لها من محدث أحدثها (4).
_________
(1) انظر: ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (11/ 379).
(2) ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (3/ 1197).
(3) رواه البخاري (4981)، ومسلم (152). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (9/ 41).
ويمكن الاستدلال لها بما حدث بين موسى عليه السلام وفرعون، كما قص الله تعالى ذلك في القرآن فقال آمراً موسى وهارون عليهما السلام: فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ [الشعراء: 16 - 33].
ومعلوم أن فرعون قد ادعى أنه ربهم الأعلى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24].
فهو وإن كان يتظاهر بذلك إلا أنه في باطنه يقر بربوبية الله على خلقه. كما قال الله عنه ومن حوله من الملأ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14]. والآيات ساقها الله تعالى للرد عليه في هذه الدعوى التي تظاهر بها، ولذلك لما حاجه موسى عليه السلام بالآيات الظاهرة قال له: قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء: 29] فأصر على موقفه وعناده – فدعاه موسى عليه السلام لبرهانين عظيمين وهما قلب العصا ثعباناً وإخراج اليد بيضاء بعد ضمها فلو كان ذلك لا يدل على مطلوب موسى عليه السلام وإبطال دعوى فرعون لما دعاه إليه موسى عليه السلام، بل إنه سماه مبيناً فقال: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ [الشعراء: 30].
فتقرر من هذا النص أنه يمكن إثبات ربوبية الله ووجوده بالآيات المعجزات وإن لم يكن المخاطب مقراً بذلك ومن ثم يقوم لله بالعبادة.
وأما إن كان المخاطب مقراً بوجود الله بفطرته التي لم تتغير فإنه بالآية والمعجزة تتقرر عنده النبوة والوحدانية في الإلهية كما قال الله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ [هود: 13 - 14]، فهذا نص واضح على أنه بالآية – وهي هنا معجزة القرآن – تثبت وتتقرر الرسالة والوحدانية ضرورة (1) ومعلوم أن توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، فإذا ثبت الأول ثبت الثاني تضمناً، ضرورة ثبوت المتضمن بثبوت المتضمن. فثبت أنه يمكن إثبات الربوبية بآيات الأنبياء.
الوجه الثاني: العلوم والأحكام المتضمنة لمصالح الخلق التي جاءوا بها:
أولاً: العلوم:
_________
(1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 379).
فالرسل جميعاً اتفقوا على الإخبار بأشياء معينة – يقطع المرء بأنهم لم يتواطؤا عليها ومن ذلك: دعوتهم جميعاً إلى عبادة إله واحد، وكذلك بشارة موسى وعيسى برسالة رسولنا محمد عليهم الصلاة والسلام من غير تواطؤ منهم على بعد في الأزمنة والأمكنة، فكان ذلك على الوجه الذي بشرا به.
والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأخبار الأمم الماضين مع القطع بأنه كان يعيش في أمة أمية، وكذلك قد أخبر بأمور تحصل في المستقبل، وقد حصلت، منها ما هو في القرآن، ومنها ما هو في السنة، فمما ورد في القرآن قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 1 - 4] فكان كما أخبر، ومما ورد في السنة: ((إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده)) (1) وقوله: ((خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله ملكه من يشاء)) (2) وكانت خلافة أبي بكر رضي الله عنه سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر رضي الله عنه: عشر سنين ونصفاً، وخلافة عثمان رضي الله عنه اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي رضي الله عنه أربع سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن رضي الله عنه ستة أشهر، ثم نشأ الملك وكان معاوية رضي الله عنه أول ملوك المسلمين وهو أفضلهم (3)، فكان الأمر كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
والأخبار في هذا كثيرة جداً يحصل بمجموعها القطع والعلم الضروري، فيدل ذلك على صدقه في الرسالة وعلى وجود الخالق سبحانه، لأنه هو الذي أطلعه على ذلك إذ أنه لا يعقل أبداً أن يتحدث الإنسان ويخبر بأشياء ويصدق فيها دائماً دون تردد، ودون أن يجرب عليه كذب، إلا إذا كان موحى إليه، وأن الذي أوحى إليه هو الذي بيده الأمور وتتطابق أخباره مع قدره، وهذا ظاهر.
ثانياً: الأحكام المتضمنة لمصالح الخلق:
فقد تضمنت شريعة النبي صلى الله عليه وسلم أموراً عظيمة، يقطع الإنسان أنها لا يمكن أن تكون إلا من خالق عليم حكيم، فالشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، وهذا واضح جداً في الضروريات الخمس: الدين، والعقل والنفس، والمال، والعرض. ويراجع في هذا الكتب التي بُحث فيها عن حكمة التشريع ومقاصد الشريعة الإسلامية. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 291
_________
(1) رواه البخاري (3618)، ومسلم (2918). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه أبو داود (4646)، والحاكم (3/ 156)، والطبراني (7/ 84) (6459). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح.
(3) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 545).
المبحث الخامس: دلالة العقل
فأما دلالة العقل، فنقول: هل وجود هذه الكائنات بنفسها، أو وجدت هكذا صدفة؟ فإن قلت: وجدت بنفسها، فمستحيل عقلاً ما دامت هي معدومة؟ كيف تكون موجودة وهي معدومة؟! المعدوم ليس بشيء حتى يوجد، إذاً لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها وإن قلت: وجدت صدفة، فنقول: هذا يستحيل أيضاً، فأنت أيها الجاحد، هل ما أنتج من الطائرات والصواريخ والسيارات والآلات بأنواعها، هل وجد هذا صدفة؟! فيقول: لا يمكن أن يكون فكذلك هذه الأطيار والجبال والشمس والقمر والنجوم والشجر والجمر والرمال والبحار وغير ذلك لا يمكن أن توجد صدفة أبداً ويقال: إن طائفة من السمنية جاءوا إلى أبي حنيفة رحمه الله، وهم من أهل الهند، فناظروه في إثبات الخالق عز وجل، وكان أبو حنيفة من أذكى العلماء فوعدهم أن يأتوا بعد يوم أو يومين، فجاءوا، قالوا: ماذا قلت؟ قال أنا أفكر في سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرست في الميناء ونزلت الحمولة وذهبت، وليس فيها قائد ولا حمالون قالوا: تفكر بهذا؟! قال: نعم قالوا: إذاً ليس لك عقل! هل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟! هذا ليس معقول! قال: كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟ فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم، وعجزوا عن جوابه هذا أو معناه وقيل لأعرابي من البادية: بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟ ولهذا قال الله عز وجل: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35] فحينئذ يكون العقل دالاً دلالة قطعية على وجود الله شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين 1/ 56
نعم إن العقل دال على وجود الله تعالى, وانفراده بالربوبية, وكمال قدرته على الخلق وسيطرته عليهم، وذلك عن طريق النظر والتفكر في آيات الله الدالة عليه. وللنظر في آيات الله والاستدلال بها على ربوبيته طرق كثيرة بحسب تنوع الآيات وأشهرها طريقان:
الطريق الأول: النظر في آيات الله في خلق النفس البشرية وهو ما يعرف بـ (دلالة الأنفس)، فالنفس آية من آيات الله العظيمة الدالة على تفرد الله وحده بالربوبية لا شريك له، كما قال تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21]، وقال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس: 7]، ولهذا لو أن الإنسان أمعن النظر في نفسه وما فيها من عجائب صنع الله لأرشده ذلك إلى أن له رباً خالقاً حكيماً خبيراً؛ إذ لا يستطيع الإنسان أن يخلق النطفة التي كان منها؟ أو أن يحولها إلى علقة، أو يحول العلقة إلى مضغة، أو يحول المضغة عظاماً، أو يكسو العظام لحماً؟
الطريق الثاني: النظر في آيات الله في خلق الكون وهو ما يعرف بـ (دلالة الآفاق)، وهذه كذلك آية من آيات الله العظيمة الدالة على ربوبيته، قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53].
ومن تأمل الآفاق وما في هذا الكون من سماء وأرض، وما اشتملت عليه السماء من نجوم, وكواكب, وشمس, وقمر، وما اشتملت عليه الأرض من جبال, وأشجار, وبحار, وأنهار، وما يكتنف ذلك من ليل ونهار وتسيير هذا الكون كله بهذا النظام الدقيق؛ دله ذلك على أن هناك خالقاً لهذا الكون، موجدًا له مدبِّرًا لشؤونه، وكلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات, وتغلغل فكره في بدائع الكائنات علم أنها خُلقت للحق وبالحق، وأنها صحائف آيات، وكتب براهين ودلالات على جميع ما أخبر به الله عن نفسه, وأدلة على وحدانيته. أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء ص12
المبحث الأول: مضادة توحيد الربوبية
يضاد توحيد الربوبية الإلحاد، وإنكار وجوب الرب عز وجل.
ويضاده –أيضاً- اعتقاد متصرف مع الله عز وجل في أي شيء؛ من تدبير الكون، من إيجاد، أو إعدام، أو إحياء، أو إماتة، أو جلب خير، أو دفع شر، أو غير ذلك من معاني الربوبية، أو اعتقاد منازع له في شيء من مقتضيات أسمائه وصفاته، كعلم الغيب، أو كالعظمة، والكبرياء، ونحو ذلك (1).
وكما يضاده –أيضاً- اعتقاد مشرع مع الله عز وجل لأنه هو الرب وحده، وربوبيته شاملة لأمره الكوني والشرعي. رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد– ص: 127
_________
(1) انظر: ((أعلام السنة المنشورة)) (ص: 56).
المبحث الثاني: إنكار الربوبية
لم ينكر توحيد الربوبية أحد من البشر إلا طائفة من الشذاذ, المكابرين, المعاندين, المنكرين لما هو متقرر في فطرهم؛ فإنكارهم إنما كان بألسنتهم مع اعترافهم بذلك في قرارة أنفسهم.
ومن أشهر من عرف بذلك فرعون؛ الذي قال لقومه –كما أخبر الله عنه-: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات: 24] وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38].
وكلامه هذا مجرد دعوى لم يقم عليها بينة، ولا دليل، بل كان هو نفسه غير مؤمن بما يقول.
قال –تعالى- على لسان موسى عليه السلام: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء: 102].
وأخبر –عز وجل- وهو العليم بذات الصدور – أن كلام فرعون ودعواه لم يكن عن عقيدة ويقين، وإنما هو مكابرة وعناد، قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14].
وممن أنكر ذلك –أيضاً- الشيوعيون، فلقد أنكروا ربوبية الله، بل أنكروا وجوده –سبحانه وتعالى- بناءاً على عقيدتهم الخبيثة الفاجرة التي تقوم على الكفر بالغيب، والإيمان بالمادة وحدها.
وهم في الحقيقة لم يزيدوا على أن سموا الله بغير اسمه، بحيث ألهوا الطبيعة، ونعتوها بنعوت الكمال التي لا تليق بأحد إلا الله – عز وجل – فقالوا: الطبيعة حكيمة، الطبيعة تخلق، إلى غير ذلك.
وكلامهم هذا باطل متهافت، بل إن أصحاب هذا المبدأ انشقوا على أنفسهم، ولعن بعضهم بعضاً، وكفر بعضهم ببعض (1). رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد– ص: 127
_________
(1) انظر: ((الشيوعية)) لمحمد بن إبراهيم الحمد.
الفصل السادس: حدود العذر بالجهل بتوحيد الربوبية
هذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل عليهم السلام فيما حكى الله عنهم: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم: 10] .... ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قال: إن العالم له صانعان متماثلان في الصفات والأفعال، فإن الثنوية من المجوس والمانوية القائلين بالأصلين: النور والظلمة، وأن العالم صدر عنهما متفقون على أن النور أفضل من الظلمة، وهو الإله المحمود، وأن الظلمة شريرة مذمومة، وهم متنازعون في الظلمة: هل هي قديمة أو محدثة؟، فلم يثبتوا ربَّيْن متماثلين.
وأما النصارى القائلون بالتثليث، فإنهم لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل هم متفقون على أن صانع العالم واحد، ويقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد ...
والمشركون من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد، كما أخبر تعالى عنهم بقوله: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25]، وقوله قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون: 84 - 85] (1).
فلا شك أن الإيمان بالله وحده لا شريك له، وأنه وحده المستحق للربوبية أمر فطر عليه الناس وهم في عالم الذر، كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 172 - 174].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ( ... دل على أن الفطرة التي فطروا عليها من التوحيد) (2).
ومما يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) (3). قال ابن أبي العز – رحمه الله -: (لا يقال: إن معناه يولد ساذجاً لا يعرف توحيداً ولا شركاً، كما قال بعضهم) (4).
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((خلقت عبادي حنفاء فاجتالهم الشياطين ... )) (5).
وبناء على ما سبق من الأدلة الشرعية والأدلة الواقعية على أن الناس فطروا على توحيد الرب عز وجل، أمكن القول أن الحجة على وحدانية الرب تبارك وتعالى وتفرده بالخلق قد قامت عليهم، وهي حجة مستقلة على من أنكر ربوبية الله تعالى أو أشرك معه فيها غيره معه أو دونه، أو ادعى الجهل بها.
_________
(1) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (1/ 25 - 29) بتصرف يسير.
(2) ((تفسير القرآن العظيم)) (2/ 275).
(3) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (1/ 33).
(5) رواه مسلم (2865) بلفظ: ((وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)). من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
ولكن من رحمة الله بخلقه لما وقع الناس في شيء من الشرك بالله في ربوبيته وغيروا فطرهم، أرسل لهم الرسل تذكرهم بما في فطرهم، وتأمرهم بما هو مقتضى هذه الفطرة. قال ابن أبي العز – رحمه الله -: (فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجوداً في الناس، بين القرآن بطلانه، كما في قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون: 91] (1).
وفي هذا المعنى قوله تعالى: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17]، وقوله تعالى: قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً [الإسراء: 42].
فقضية توحيد الربوبية التي جعل الله عز وجل الإقرار بها مركوزاً في الفطر، وبعد ما أرسلت الرسل بزيادة بيانها والدعوة إلى عبادة الله وحده التي هي مقتضى الإقرار بتوحيد الربوبية، فهذه القضية أصبحت من بديهيات العقائد المعلومة لجميع الناس، لا عذر لأحد في إنكارها بدعوى الجهل أو الشبهة أو غيرها من الدعاوى؛ لأن إنكار ذلك يناقض الفطرة التي فطر الله الناس عليها ونصب الأدلة الباهرة عليها.
ولهذا فإذا أردنا تحديد مناط قيام الحجة على الناس في قضية توحيد الربوبية، فإننا نأخذ بعين الاعتبار بديهية المسألة وأنها فطرية، ولذلك جاءت الأدلة الشرعية للتذكير بهذه العقيدة الفطرية، وكذلك أدلة الخلق المنصوبة الدالة على وحدانية الخالق المدبر سبحانه وتعالى.
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله معلقا على آية الإشهاد في سورة الأعراف: (ولما كانت هذه آية الأعراف في سورة مكية، ذكر فيها الميثاق والإشهاد العام لجميع المكلفين ممن أقر بربوبيته ووحدانيته وبطلان الشرك. وهو ميثاق وإشهاد تقوم عليهم الحجة وينقطع به العذر، وتحل به العقوبة ويستحق بمخالفته الإهلاك، فلابد أن يكونوا ذاكرين له عارفين به، وذلك ما فطرهم عليه من الإقرار بربوبيته وأنه ربهم وفاطرهم، وأنهم مخلوقون مربوبون. ثم أرسل إليهم رسله يذكرونهم بما في فطرهم وعقولهم، ويعرفونهم حقه عليهم وأمره ونهيه ووعده ووعيده) (2).
وقال الشيخ الحكمي – رحمه الله – مبيناً أنواع المواثيق التي أخذها الله عز وجل على بني آدم حتى يتحدد مناط قيام الحجة على الإنسان، قال: ( ... هذه المواثيق كلها ثابتة بالكتاب والسنة:
الأول: الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم حين أخرجهم من ظهر أبيهم آدم عليه السلام وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى الآيات ... وهو الذي قاله جمهور المفسرين رحمهم الله في هذه الآيات، وهو نص الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما.
الميثاق الثاني: ميثاق الفطرة، وهو أنه تبارك وتعالى فطرهم شاهدين بما أخذه عليهم في الميثاق الأول، كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30] ...
الميثاق الثالث: هو ما جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب تجديداً للميثاق الأول وتذكيراً به رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165].
_________
(1) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (1/ 38 - 39).
(2) ((الروح)) (2/ 555).
فمن أدرك هذا الميثاق وهو باق على فطرته وهي شاهدة بما ثبت في الميثاق الأول، فإنه يقبل ذلك من أول مرة ولا يتوقف؛ لأنه جاء موافقاً لما في فطرته وما جبله الله عليه، فيزداد بذلك يقينه ويقوى إيمانه، فلا يتلعثم ولا يتردد. ومن أدركه وقد تغيرت فطرته عما جبله الله من الإقرار بما ثبت في الميثاق الأول بأن كان قد اجتالته الشياطين عن دينه وهوده أبواه أو نصراه أو مجساه، فهذا إن تداركه الله تعالى برحمته فرجع إلى فطرته وصدق بما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب، نفعه الميثاق الأول والثاني. وإن كذب بهذا الميثاق، كان مكذبا بالأول، فلم ينفعه إقراره به يوم أخذه الله عليه، حيث قال (بلى) جوابا لقوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172]، وقامت عليه حجة الله وغلبت عليه الشقاوة وحق عليه العذاب. ومن يهن الله فما له من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء.
ومن لم يدرك هذا الميثاق بأن مات صغيراً قبل التكليف، مات على الميثاق الأول على الفطرة، فإن كان من أولاد المسلمين، فهم مع آبائهم. وإن كان من أولاد المشركين، فالله أعلم بما كان عاملا لو أدركه، كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: ((الله تعالى إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين)) (1).
فتوحيد الربوبية قامت به الحجة القاطعة للعذر، ولهذا كان زبدة الرسالة المحمدية هي الدعوة إلى لازم هذا التوحيد وهو توحيد الألوهية، وهو عبادة الله وحده دون شريك، إذ انحراف الناس غالباً ما يكون في هذا النوع من التوحيد، ولهذا احتاجوا على مدى التاريخ البشري إلى الرسل التي تدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده دون شريك، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36]، وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله: (وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف. ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد. فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء، لم يكن موحدا حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده. فيقر بأن الله وحده هو المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك) (2).
والخلاصة أنه لما كان المشركون مقرين بتوحيد الربوبية بل وببعض تفاصيله، فالأولى والأحرى أن يكون المسلمون كذلك، فلا يتوقع إذن من مسلم أن يجهل هذا التوحيد أو تشتبه عليه بعض تفاصيله، فضلاً عن أن ينكر شيئاً من خصائص الرب عز وجل كالتفرد بالوحدانية والخلق والتدبير، أو ينسبه جل وعلا إلى نقص، كأن ينسب له الولد أو الصاحبة أو اللغوب أو غيرها من النقائص – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا -، أو أن يسب الله تعالى .. فهذا كله مما لا يتصور ورود الجهل فيه على أحد من المسلمين، لذلك إذا صدر من أحد شيء من هذه الكفريات، فإنه يكفر ولا يعذر بأي عذر كان جهل أو غيره. لكن أن يقع منهم الجهل بتوحيد الألوهية، فهذا وارد بل واقع، وهو أمر خطير جدا، لذلك يجب أن نرى حدود ما يعذر به المسلم إذا وقع فيما يخالف توحيد الألوهية. الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر معاش – ص: 126
_________
(1) ((معارج القبول)) (1/ 40 - 42).
(2) ((فتح المجيد شرح كتاب التوحيد)) (ص: 16).
المبحث الأول: بدعية طريقة المتكلمين في الاستدلال على وجود الخالق عز وجل وذم العلماء لها
أن الإيمان به تعالى والإقرار بوجوده أمر فطرت عليه القلوب، أعظم من فطرتها على الإقرار بغيره من الموجودات، فهو سبحانه أبين وأظهر من أن يجهل، فيطلب الدليل على وجوده.
يقول الحافظ العلامة ابن القيم: "سمعت شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية – قدس الله روحه – يقول: كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟ وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت:
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من جود النهار، ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما" (1).
لذلك لم يكن إثبات وجود الله تبارك وتعالى من حيث هو موجود من الأهداف القرآنية، ولم يكن ذلك هدفاً من أهداف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قالت الرسل لأممهم: أَفِي اللهِ شَكٌّ [إبراهيم: 10]. إلا أن القرآن الكريم لم يتجاهل هذه القضية بل نبه إليها، وأشار إلى دلائلها؛ إذ الفطر قد تتغير وتفسد، والإيمان واليقين قد يضعف، فأقام الله عز وجل من الدلائل الباهرة، والبراهين القاطعة ما يبهر العقول، ويقود القلوب إلى التسليم والانقياد، فكل شيء يدل على وجود الله تعالى؛ إذ ما من شيء إلا وهو أثر من آثار قدرته سبحانه، وما ثم إلا خالق ومخلوق، والمخلوق يدل على خالقه فطرة وبداهة، إذ ما من أثر إلا وله مؤثر، كما اشتهر في قول الأعرابي الذي سئل: كيف عرفت ربك؟ فقال – بفطرته السليمة – البعرة تدل على البعير؛ والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، أرض ذات فجاج، وجبال وبحار وأنهار، أفلا تدل على السميع البصير؟ (2).
فهذه المسألة – مع منتهى وضوحها وجلائها – تخبط الناس فيها خبط عشواء، وأكثروا فيها القيل والقال، واشتد بينهم النزاع، وطال الجدال.
ويعتبر المتكلمون أكثر من اشتغل بتقرير وجود الخالق عز وجل والاستدلال له، غير أنهم لم يسيروا في ذلك على منهج الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، وإنما أتوا بطريقة مخترعة مستمدة من الفلسفة والمنطق اليوناني، فترتب على ذلك مفاسد عديدة في أبواب الاعتقاد. سلك المتكلمون في الاستدلال على إثبات وجود الله تعالى، طريقة مبتدعة، مذمومة في الشرع، كما أنها مخطرة، مخوفة في العقل، ألا وهي ما يسمونه (دليل الأعراض وحدوث الأجسام).
واعتمدوا فيما نهجوه على الجواهر والأعراض (3) وما يتعلق بها من الإمكان أو الحدوث أو غير ذلك مما ذكروه، لكون العالم مؤلفاً من أجزاء حادثة، والمؤلف من أجزاء حادثة حادث، والحادث جائز الوجود؛ إذ يجوز تقديره عدماً قبل الوجود، فلما اختص العالم بالوجود الممكن بدلاً عن العدم الجائز احتاج إلى موجد وافتقر إلى صانع وهو الله تعالى (4).
قال الإيجي: "قد علمت أن العالم إما جوهر أو عرض، قد يستدل على إثبات الصانع بكل واحد منهما إما بإمكانه أو بحدوثه، بناء على أن علة الحاجة عندهم إما الحدوث وحده أو الإمكان مع الحدوث شرطاً أو شطراً فهذه وجوه أربعة:
_________
(1) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/ 60).
(2) انظر: ((ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان)) لابن الوزير (ص: 83).
(3) انظر: ((الإرشاد)) للجويني (ص: 39)، و ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 79)، (ص: 149).
(4) انظر على سبيل المثال والمختصر في ((أصول الدين)) لعبد الجبار (ص: 172 - 173)، ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 129، 231، 233)، و ((الإرشاد)) للجويني (ص: 39)، و ((تهافت الفلاسفة)) للغزالي (ص: 39) و ((نهاية الإقدام)) للشهرستاني (ص: 5 - 6)، ((المحصل)) للرازي (ص: 147)، ((التمهيد)) للباقلاني (ص: 37).
الأول: الاستدلال بحدوث الجواهر، قيل: هذه طريقة الخليل صلوات الرحمن وسلامه عليه، حيث قال: قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76]، وهو أن العالم الجوهري أي المتحيز بالذات حادث كما مر، وكل حادث فله محدث كما تشهد بذلك بديهة العقل (1).
وأما إدعاؤهم أن طريقتهم في الاستدلال على وجود الله تعالى بدليل الجواهر والأعراض الدال على حدوث العالم هي طريقة إبراهيم الخليل فيما حكى الله عنه في قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76] فادعاء باطل مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول وللغة العربية التي نزل بها القرآن واستدلال في غير محله، فإن أحداً من سلف الأمة وأئمتها أهل العلم والإيمان لم يقل بذلك، كما ذكر الإمام الدارمي، وغيره من علماء أهل السنة؛ بل وبينوا أن هذا من التفاسير المبتدعة (2).
وقد فسر أئمة المفسرين: الأفول بـ (المغيب) (3). وكذا فسره أهل اللغة وغريب القرآن بذلك (4).
ثم إن إبراهيم عليه السلام لم يكن يقصد الاستدلال بمجرد الحركة على نفي الربوبية، ولو كان يقصد ذلك لكفاه تحرك هذه الكواكب من مشرقها إلى مغربها دليلاً على ما أراد، وإنما استدل بأفولها ومغيبها عن عين عابديها على عدم استحقاقها للعبادة، لأن الذي يستحق العبادة لا ينبغي أن يغيب عن عين عابدة لحظة واحدة، وهذه الكواكب لا تملك لنفسها أن تمنعها من الإحتجاب والمغيب عن أعين عابديها فلا تصلح أن تكون آلهة تعبد من دون الله.
فهذه طريقة إبراهيم عليه السلام في نفي ألوهية الكواكب، وهذا هو مقصوده مما يناقض ما ذهب إليه المتكلمون في تأويلهم الأفول بالحركة والتغير واستدلالهم بذلك لتقرير منهجهم العقلي في إثبات وجود الله المبني على دليل الإمكان والوجوب أو الجواهر والأعراض (5).
وهكذا نجد المتكلمين يستدلون على حدوث العالم بحدوث الأعراض التي هي صفات الأجسام القائمة بها إما الأكوان وإما غيرها، وتقرير المقدمات التي يحتاج إليها هذا الدليل من إثبات الأعراض التي هي الصفات أولاً، أو إثبات بعضها كالأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق، وإثبات حدوثها ثانيا، بإبطال ظهورها بعد الكون وإبطال انتقالها من محل إلى محل ثم إثبات امتناع خلو الجسم ثالثاً، إما عن كل جنس من أجناس الأعراض بإثبات أن الجسم قابل لها، وأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، وإما عن الأكوان وإثبات امتناع حوادث لا أول لها رابعاً، وهو مبني على مقدمتين:
أحدهما: أن الجسم لا يخلو عن الأعراض التي هي الصفات.
_________
(1) ((شرح المواقف))، ومعه ((شرح الجرجاني)) (2/ 2 - 3) وما بعدها.
(2) انظر: ((رد الإمام الدارمي على بشر المريسي)) (ص: 55)، و ((درء التعارض)) لابن تيمية (1/ 314).
(3) انظر: ((تفسير الطبري)) (5/ 246)، و ((تفسير البغوي)) (2/ 90)، و ((تفسير ابن كثير)) (2/ 156).
(4) انظر: ((الصحاح)) للجوهري (4/ 623)، و ((معجم مقاييس اللغة العربية)) لابن فارس (1/ 119)، و ((لسان العرب)) لابن منظور (11/ 18) (مادة: الأفل) و ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص: 23).
(5) انظر: ((درء التعارض)) (1/ 314 - 315)، (8/ 355 - 356)، (9/ 82 - 84)، و ((منهاج السنة)) (1/ 44 - 145)، (2/ 141 - 143)، و ((الرد على المنطقيين)) (ص: 304 - 305)، و ((بغية المرتاد)) (ص: 360 - 374).
والثانية: أن ما لا يخلو عن الصفات التي هي الأعراض فهو محدث؛ لأن الصفات التي هي الأعراض لا تكون إلا محدثة، وقد يفرضون ذلك في بعض الصفات التي هي الأعراض كالأكوان، وما لا يخلو عن جنس الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا تتناهى (1).
ومن خلال ما سبق عرضه لا يخالج أحداً شك في صعوبة هذا الدليل، وشدة غموضه وتعقيده، واشتماله على مقدمات عسيرة عويصة، مما لا يؤمن معه على سالكه ومقتفيه التعثر وسوء المغبة وبعد التيه، فهي كما قيل: لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل.
وليعلم أن الاستدلال بحدوث أشياء وتغيرها وتحولها من حال إلى حال في حد ذاته استدلال صحيح، نبه عليه القرآن الكريم وأشار إليه في أكثر من موضع، غير أن الأمر الذي هو محل النقد في هذا الدليل هو طريقتهم في إثبات حدوث العالم، ومن ثم زعمهم أن طريقتهم تلك هي طريقة إبراهيم الخليل عليه السلام.
وعلى كل، فقد اشتد نكير أهل العلم من أهل السنة والجماعة، بل وحتى المحققين من المتكلمين على مسلك هذه الطريقة، وحصر الدليل على إثبات وجود الله تعالى فيها.
نص ما حكاه شيخ الإسلام من الإجماع: ناقش شيخ الإسلام استدلال المتكلمين بهذا الدليل في كثير من رسائله ومؤلفاته، وأوضح بطلان هذا الدليل بالمنقول والمعقول، وكان من جملة ما استدل به على بطلانه، واحتج به اتفاق السلف - رحمهم الله -، وانعقاد إجماعهم على بدعية هذه الطريقة التي سلكها المتكلمون في إثبات الصانع، وذمهم لها، حيث قال: (المقصود هنا أن كثيراً من أهل النظر صار ما يوجبونه من النظر والاستدلال ويجعلونه أصل الدين والإيمان هو هذه الطريقة المبتدعة في الشرع المخالفة للعقل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمها وذم أهلها) (2).
وقال أيضاً: (ولكن الاستدلال على ذلك بالطريقة الجهمية المعتزلة، طريقة الأعراض والحركة والسكون، التي مبناها على أن الأجسام محدثة لكونها لا تخلو عن الحوادث، وامتناع حوادث لا أول لها، طريقة مبتدعة في الشرع باتفاق أهل العلم بالسنة، وطريقة مخوفة في العقل، بل مذمومة عند طوائف كثيرة) (3).
وذكر (أن هذا الدليل لم يستدل به أحد من الصحابة والتابعين ولا من أئمة المسلمين، فلو كانت معرفة الرب عز وجل والإيمان به موقوفة عليه للزم أنهم كانوا غير عارفين بالله ولا مؤمنين به، وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين؛ بل إن الأنبياء والمرسلين لم يأمروا واحداً بسلوك هذا السبيل، فلو كانت المعرفة موقوفة عليه وهي واجبة لكان واجباً، وإن كانت مستحبة كان مستحباً، ولو كان واجباً أو مستحباً لشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان مشروعاً لنقلته الصحابة) (4).
قال: (الإقرار بالصانع فطري ضروري بديهي لا يجب أن يتوقف على النظر والاستدلال؛ بل قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن معرفة الله والإقرار به لا يقف على هذه الطرق التي ذكرها أهل طريقة النظر) (5).
وقال أيضا: (أن أصل المعرفة والإقرار بالصانع لا يقف على النظر والاستدلال؛ بل يحصل بديهة وضرورة؛ ولهذا يقر بالصانع جميع الأمم مع عظيم شركهم وكفرهم وأنهم لا يسلكون من هذه الطرق المشهورة عند النظار مثل الاستدلال بالحدوث على المحدث، وبالإمكان على الواجب) (6).
ونقل كلاماً لأبي الحسن الأشعري ضمنه اتفاق السلف على الاستغناء عن هذه الطريقة، وأقره على ذلك (7).
_________
(1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/ 303 - 304).
(2) ((النبوات)) (ص: 85).
(3) ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 303).
(4) انظر: ((نقض التأسيس)) (1/ 619).
(5) انظر: ((نقض التأسيس)) (2/ 473).
(6) انظر: ((نقض التأسيس)) (2/ 473).
(7) انظر: ((درء التعارض)) (7/ 224).
وبين (أن طريقة الاستدلال بما يشاهد حدوثه قد جاء به القرآن، واتفق عليها السلف والأئمة، ولكن تمشيا مع الضرورة والحس، ولا يحتاج مع ذلك إلى إقامة دليل على حدوث ما يحدث من الأعيان، بل يستدل بذلك على وجود المحدث تعالى) (1).
وفي ذلك يقول: (طريقة الاستدلال بما يشاهد حدوثه جاء بها القرآن، واتفق عليها السلف والأئمة) (2).
ذكر من حكى الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: (لقد أنكر أهل العلم – رحمهم الله – على المتكلمين سلوكهم هذه المسالك المعقدة، فوسموهم بالبدعة والضلالة، وبينوا فساد طريقتهم عقلاً، وتحريمها شرعاً، وأقوال أهل العلم – رحمهم الله – في بيان عظم خطر هذه الطريقة وصعوبتها كثيرة، ومن ذلك إجابة أبي حنيفة حينما سأله السائل عما أحدثه الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة؛ فإنها بدعة) (3).
وقد سئل القاضي ابن سريج عن التوحيد، فذكر توحيد المسلمين، وقال: (وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض، وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك) (4).
وعقب شيخ الإسلام على هذا القول بقوله: (ولم يرد بذلك أنه أنكر هذين اللفظين، فإنهما لم يكونا قد أحدثا في زمنه، وإنما أراد إنكار ما يعنى بها من المعاني الباطلة؛ فإنه أول من أحدثهما الجهمية والمعتزلة) (5).
ويقول أبو الحسن الأشعري: (وإذا ثبت بالآيات صدقه صلى الله عليه وسلم، فقد علم صحة كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وصارت أخباره عليه السلام أدلة على صحة سائر ما دعانا إليه من الأمور الغائبة عن حواسنا وصفات فعله، وصار خبره عليه السلام عن ذلك سبيلاً إلى إدراكه، وطريقاً إلى العلم بحقيقته، وكان ما يستدل به من أخباره عليه السلام على ذلك أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة، ومن اتبعها من القدرية، وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام) (6).
وبين صعوبة هذا الدليل، وشدة خفائه، وكثرة مقدماته، وأشار إلى أن السلف الصالح ومن تبعهم من الخلف قد عدلوا عن هذه الطرق المعقدة الغامضة. وأعرضوا عما صارت إليه الفلاسفة ومن اتبعهم من القدرية وغيرهم من أهل البدع من الاستدلال بذلك، لاستغنائهم بالأدلة الواضحة في ذلك عنه (7).
وممن قرر اتصاف هذه الطريقة بالاعوجاج والخطورة، ووجود الغنية فيما استدل به السلف – رحمهم الله -؛ لما فيه من الوضوح والسلامة أبو سليمان الخطابي حيث قال: (فإن قال هؤلاء القوم: فإنكم قد أنكرتم الكلام، ومنعتم استعمال أدلة العقول، فما الذي تعتمدون عليه في صحة أصول دينكم؟ ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها؟ وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه، وأن الرسول لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول، وأنتم قد نفيتموها؟!
_________
(1) انظر: ((درء التعارض)) (7/ 223).
(2) انظر: ((درء التعارض)) (5/ 294).
(3) ذكره ابن قدامة المقدسي في ((ذم التأويل)) (ص: 32، 33).
(4) نقله عنه شيخ الإسلام في ((مجموع الفتاوى)) (17/ 305).
(5) نقله عنه شيخ الإسلام في ((مجموع الفتاوى)) (17/ 305).
(6) ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص: 184، 185).
(7) ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص: 186 - 191).
قلنا: إننا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف، ولكننا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر، وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع، ونرغب إلى ما هو أوضح بياناً وافصح برهاناً ... – إلى أن قال – فأما مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك، وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها، والابتداع والانقطاع على سالكها) (1).
وقال – بعد ما ذكر جملة من الأدلة على إثبات الصانع عز وجل ومال إلى الأدلة الشرعية منها -: (وقد أبى متكلموا زماننا هذا، إلا الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها، وزعموا أنه لا دلالة أقوى من ذلك ولا أصح منه. ونحن وإن كنا لا ننكر الاستدلال بهذا النوع من الدلالة، فإن الذي نختاره ونؤثره هو ما قدمنا ذكره؛ لأنه أدلة اعتبار وطريق السلف من علماء أمتنا، وإنما سلك المتكلمون في الاستدلال بالأعراض مذهب الفلاسفة وأخذوه عنهم) (2).
وقد تنبه أبو حامد الغزالي إلى بدعية هذا الدليل، وأنه ليس من طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا صحابته رضوان الله عليهم، فأعلن ذلك رغم سلوكه له حيث يقول: (فليت شعري متى نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة رضي الله عنهم إحضار أعرابي أسلم، وقوله له: الدليل على أن العالم حادث: أنه لا يخلو عن الأعراض، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث) (3).
أما أبو الحسن الآمدي – فقد قلل من شأن هذا الدليل، فقال بعد أن نقله بطوله: (وهو عند التحقيق سراب غير حقيقة) (4).
وكذا يرى ابن رشد الحفيد عدم صحة هذا الدليل، أو جدواه، ويرى أن في غيره من الطرق الشرعية غنية عنه، ويظهر ذلك بوضوح من خلال نقده لطريقة الأشعرية في إثبات وجود الخالق بهذا الدليل حيث قال: (وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ، وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد: طريقة معتاضة، تذهب عن كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل، فضلا عن الجمهور، ومع ذلك فهي طريقة غير برهانية، ولا مفضية بيقين إلى وجود الباري) (5).
واستدل ابن عبد البر على فساد هذه الطريقة وبدعيتها، بعدم سلوك الصحابة لها، مع ما نطق به القرآن من تزكيتهم وتقديمهم، والإطناب في مدحهم وتعظيمهم، فلو كانت هذه الطريقة لديهم مشهورة، أو من أخلاقهم معروفة لاستفاض عنهم النقل، ولتواترت بها الرواية والخبر، وفي ذلك يقول: (ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجباً، وفي الجسم ونفيه، والتشبيه ونفيه لازماً، ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجب ما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم. ولو كان ذلك من علمهم مشهوراً، أو من أخلاقهم معروفاً لاستفاض عنهم، ولشهروا به كما شهروا بالقرآن والروايات) (6).
_________
(1) ((الغنية عن الكلام وأهله)) للخطابي نقلا عن ((نقض التأسيس)) (1/ 254)، و ((درء التعارض)) (7/ 292 - 294).
(2) كتاب ((شعار الدين)) للخطابي، نقلا عن ((نقض التأسيس)) (1/ 249 - 250)، و ((درء التعارض)) (7/ 294).
(3) ((فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة)) للغزالي (ص: 127، 202، 203).
(4) ((غاية المرام في علم الكلام)) للآمدي (ص: 260).
(5) ((الكشف عن مناهج الأدلة)) لابن رشد (ض: 43).
(6) ((التمهيد)) لابن عبد البر (7/ 152).
وبنحو ما استدل به ابن عبد البر استدل أبو المظفر السمعاني حيث يقول: (وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم في هذه الأمور إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر وذكر ماهيتهما، ولا يمكن لأحد من الناس أن يروي في ذلك عنه ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم من هذا النمط حرفاً واحداً فما فوقه، لا في طريق تواتر ولا آحاد، فعلمنا أنهم ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقهم، وأن هذا طريق محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه رضي الله عنهم، وسلوكه يعود عليهم بالطعن والقدح ونسبتهم إلى الجهل وقلة العلم في الدين واشتباه الطريق عليهم) (1).
وما أصدق عبارة ابن عقيل في هذه القضية: (أنا أقطع أن الصحابة ماتوا ولم يعرفوا لا الجوهر ولا العرض. فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن. وإن رأيت طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت) (2).
وأشار العمراني إلى تصريح العلماء بتحريم الكلام، وبدعية هذا الطريق بقوله: (قد صرح العلماء من أهل الحديث والفقهاء المشهورون بتحريم الكلام، وقالوا هو محدث وبدعة في الدين، وقالوا لو كان طريقاً صحيحاً لمعرفة الله سبحانه لنبه الله سبحانه في القرآن ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم به وتكلمت به الصحابة رضي الله عنهم. وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الاستنجاء ودلهم على جميع الأحكام فلو كان الكلام من مهمات الدين لنبه النبي صلى الله عليه وسلم عليه) (3).
مستند الإجماع: استند العلماء في إجماعهم في هذه المسألة على ما ورد من نصوص كثيرة في الكتاب والسنة من النهي عن الابتداع في الدين، ولا سيما في مسألة مهمة كهذه، تتعلق بعقيدة المسلم وأصل دينه.
فقد تتبع أهل العلم آي الكتاب، وكلام رب الأرباب، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تواتر منها وما كان من أحاديث الآحاد، وأقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم من الأئمة المتبوعين، فلم يقفوا على حرف واحد يدل على تلك الطريقة المذمومة، فانعقد على الحكم ببدعيتها إجماعهم، واتفقت على ذم أهلها أقوالهم.
وإنما جاء التنبيه على دلالة الخلق والإبداع في القرآن الكريم في عدة مواضع كقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ [الطور: 35 - 36]، وقوله تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم: 67]، وقوله تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم: 9].
والمتأمل في كتاب الله يجده مملوءاً بالآيات التي تدعو الإنسان إلى النظر والتفكر تلك الدلائل القاطعة المبثوثة في الآفاق وفي الأنفس، لا النظر الذي سلكه المتكلمون في استدلالهم بدليل الأعراض وحدوث الأجسام.
فالاستدلال بالآيات الكونية وما هو مشاهد ومحسوس وما تدل عليه الضرورة والفطر والحس منهج قويم من مناهج أهل السنة والجماعة، فقد عقد أهل العلم – رحمهم الله تعالى – فصولاً كثيرة في كتبهم ساقوا تحتها عدداً كبيراً من الآيات والأحاديث وأقوال السلف للدلالة على وحدانية الله عز وجل بدليل خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والجبال والهواء والماء وخلق الإنسان وانتقاله من طور النطفة إلى العلقة ثم المضغة ثم العظام ثم إنشائه خلقا آخر.
ولعل من أبلغ الأدلة الحاثة على الاستدلال بما هو مشاهد ومحسوس من الآيات الكونية المبثوثة في الآفاق وفي الأنفس قول الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53].
وقوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20 - 21].
وعلى كل؛ فلم يرد في كتاب الله ولا سنة رسول الله ولا أقوال السلف الصالح ما يشير إلى مسلك المتكلمين في هذه المسألة، بل جاء التحذير منه والحكم ببدعيته، واشتد نكير أهل العلم على من سكله وقرره. المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 237
_________
(1) ((الانتصار لأهل الحديث)) للسمعاني (ص: 69، 70، 71).
(2) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 85).
(3) ((الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار)) للعمراني (1/ 129).
المبحث الثاني: خطأ المتكلمين في إيجابهم النظر على المكلف ودعواهم أن المعرفة موقوفة عليه
تقرر في المبحث السابق اتفاق العلماء على بدعية الطريقة التي سلكها المتكلمون في إثبات وجود الله تعالى، وأن هذه الطريقة فيها فساد كثير في وسائلها ومقاصدها، فأما وسائلها فمع صعوبتها ففيها خطورة ومزلات عظيمة، وأما مقاصدها فغايتها إثبات وجود الخالق جل وعلا وتدبيره لهذا الكون وهذا الأمر قد فطر الناس عليه، فوجود الخالق عز وجل أظهر من كل شيء على الإطلاق، فهو أظهر للبصائر من الشمس للأبصار، وأبين للعقول من كل ما تعقله وتقر بوجوده، فما ينكره إلا مكابر بلسانه، وأما قلبه وعقله وفطرته فكلها تكذبه (1).
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، من جعل هذه الطريقة المعتاضة المبتدعة أحد الطرق الموصلة إلى معرفة الله عز وجل، حتى زعم المتكلمون أن من لم يعرفها، ويستدل بها على وجود الله تعالى لا يقبل ولا يصح إيمانه.
ومن ثم أوجبوا على المكلف الاستدلال بها لمعرفة الخالق جل وعلا، إذ إن أول واجب على المكلف عندهم النظر، أو القصد إلى النظر المفضي – في نظرهم – إلى قيام الاستدلال وصحة البرهان.
يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: (إن سأل سائل فقال: ما أول ما أوجب الله عليك؟ فقل النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى؛ لأنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة، فيجب أن نعرفه بالتفكير والنظر) (2).
ويقول عبد القاهر البغدادي: (الصحيح عندنا قول من يقول: إن أول الواجبات على المكلف النظر والاستدلال المؤديات إلى المعرفة بالله تعالى وبصفاته وتوحيده وعدله وحكمته، ثم النظر والاستدلال المؤديان إلى جواز إرسال الرسل منه، وجواز تكليف العباد ما شاء، ثم النظر المؤدي إلى وجوب الإرسال والتكليف منه، ثم النظر المؤدي إلى تفصيل أركان الشريعة، ثم العمل بما يلزمه منها على شروطه) (3).
ويقول الجويني: (أول ما يجب على العاقل البالغ – باستكمال سن البلوغ أو الحلم شرعاً – القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم .. ) (4).
بل وذكر حكم من مات قبل أن يكتسب معرفة الله تعالى عن النظر والاستدلال قائلا: (فمن اخترمته المنية قبل أن ينظر وله زمن يسع النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى ولم ينظر مع ارتفاع الموانع، ومات بعد زمان الإنكار فهو ملحق بالكفر، وأما لو أمضى من أول الحال قدراً من الزمان يسع بعض النظر لكنه قصر في النظر ثم مات قبل مضي الزمان الذي يسع في مثله النظر الكامل فإن الأصح في ذلك، الحكم بكفره لموته غير عالم مع بدء التقصير منه فليلحق بالكفرة ((5).
وقد اعتبر السنوسي النظر والاستدلال بالأقيسة المنطقية شرطاً للدخول في الإسلام، ومن عاند في أدائه وجب استخراجه منه بالسيف إلى أن يموت (6).
وهكذا أضاف المتكلمون إلى بدعتهم السابقة بدعة أخرى، رتبوا عليها أحكام شنيعة تقشعر منها الجلود، كتسميتهم من لم يتبع هذه الطريقة مقلداً محكوماً عليه بالكفر والخسران أو الفسق، فيلزم من قولهم هذا أنهم هم المؤمنون الناجون فقط دون سواهم، ويكون العوام – وهم أكثر المسلمين – ليسوا بمؤمنين ولا ناجين من النار، بل حتى العلماء الذين لم يسلكوا مسالكهم ويتبعوا طريقتهم! وفي هذا تحجير لواسع، وتضييق لرحمة الله، وابتداع لقول لم يسبقوا إليه.
_________
(1) انظر: ((مفتاح دار السعادة))، لابن القيم (1/ 212).
(2) ((المحيط بالتكليف)) للقاضي عبد الجبار (ص: 26)، و ((شرح الأصول الخمسة)) له (ص: 70، 76).
(3) ((أصول الدين)) للبغدادي (ص: 75).
(4) ((الشامل)) للجويني (ص: 26).
(5) ((الشامل)) للجويني (ص: 32، 33).
(6) انظر: ((شرح أم البراهين)) للسنوسي (ص: 16، 17).
وعلى كل حال؛ فإن القول الحق في هذه المسألة، والذي تشهد له النصوص، وعليه اتفاق السلف والأئمة – كما حكاه شيخ الإسلام عنهم في أكثر من موضع – هو أن أول واجب على المكلف الشهادتان.
وقد حكى انعقاد الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم – رحمهم الله تعالى – وفي ذلك إبطال لما ذهب إليه المتكلمون في هذه المسألة، وأحد أوجه الرد عليهم وتزيف لقولهم، ودحض لشبهتهم، وتخطئة لمنهجهم وطريقتهم.
نص ما حكاه شيخ الإسلام من الإجماع: بين رحمه الله أن معرفة الله والإقرار به لا يقف على هذه الطرق المذمومة عند السلف، بل بعض هذه الطرق لا تفيد عندهم المعرفة فضلاً عن أن يكون الله لا يقر به مقر ولا يعرفه عارف إلا بهذه الطريقة المذمومة والتي أوجبها المتكلمون على المكلف للدخول في الإسلام حيث يقول: (بل قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن معرفة الله والإقرار به لا يقف على هذه الطرق التي يذكرها أهل طريقة النظر؛ بل بعض هذه الطرق لا تفيد عندهم المعرفة فضلا عن أن يكون الله لا يقر به مقر ولا يعرفه عارف إلا بالطريقة المشهورة له من إثبات حدوث العالم بحدوث صفاته مع دعواهم أن الله لا يعرف إلا بهذه الطريقة) (1).
وقال أيضا: (وليس هذا قول أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا قاله أحد من الأنبياء والمرسلين، ولا هو قول كل المتكلمين ولا غالبهم، بل هذا قول محدث في الإسلام ابتدعه متكلموا المعتزلة ونحوهم من المتكلمين الذين اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمهم) (2).
وحكى اتفاق السلف – رحمهم الله تعالى – على تخطئة المتكلمين في إيجابهم هذا النظر المعين على المكلف لتحصيل المعرفة، وإيقافهم المعرفة عليه بقوله: (والمقصود هنا أن هؤلاء الذين قالوا: معرفة الرب لا تحصل إلا بالنظر، ثم قالوا: لا تحصل إلا بهذا النظر، هم من أهل الكلام – الجهمية القدرية ومن تبعهم – وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وجمهور العلماء من المتكلمين وغيرهم، على خطأ هؤلاء في إيجابهم هذا النظر المعين، وفي دعواهم أن المعرفة موقوفة عليه. إذ قد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يوجب هذا على الأمة ولا أمرهم به، بل ولا سلكه هو ولا أحد من سلف الأمة في تحصيل هذه المعرفة) (3).
وقال بعد ذكره لأقوال المتكلمين ومن تبعهم في إيجاب هذا النظر: (كلها غلط مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، بل وباطلة في العقل أيضاً) (4).
وأوضح اللوازم الفاسدة من إيقاف المتكلمون معرفة الله تعالى وتحصيلها على هذا النظر المعين من الالتزام بالقول بعدم معرفة الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين بالله، والإيمان به، ولا شك أن هذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين، وفي ذلك يقول: (إن هذا الدليل لم يستدل به أحد من الصحابة والتابعين ولا من أئمة المسلمين، فلو كانت معرفة الرب عز وجل والإيمان به موقوفة عليه للزم أنهم كانوا غير عارفين بالله ولا مؤمنين به، وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين) (5).
وإذا كان قول المتكلمين بأن أول واجب على المكلف النظر المعين – المستفاد من دليل الأعراض وحدوث الأجسام – فاسد مطرح مذموم عند السلف، فما هو القول الصحيح الذي اتفق عليه السلف والأئمة، وتؤيده النصوص والأدلة؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية مجيبا عن هذا السؤال: (والمقصود هنا أن السلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقب البلوغ) (6).
_________
(1) ((النقض)) (2/ 473).
(2) ((النقض)) (2/ 473).
(3) ((المجموع)) (16/ 330).
(4) ((المجموع)) (16/ 332).
(5) ((النقض)) (1/ 619).
(6) ((الدرء)) (8/ 11)، وانظر ((النقض)) (8/ 8).
وبين أن (الشهادة تتضمن الإقرار بالصانع تعالى وبرسوله، وأما مجرد الإقرار بالصانع دون الإتيان بالشهادتين فهذا لا يصير به الرجل مؤمناً، بل ولا يصير مؤمنا بأن يعلم أنه رب كل شيء حتى يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يصير مؤمناً بذلك حتى يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1).
وقال – في معرض نقده لمن أوجب النظر على المكلف، وجعله أول الواجبات-: (والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع أحداً من الخلق إلى النظر ابتداء، ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان، وبذلك أمر أصحابه) (2).
وقال أيضاً – بعد أن ساق جملة من الأحاديث الدالة على أن أول ما يدعى إليه الشهادتان وكذلك الأمر بقتال الناس حتى يأتوا بالشهادتين -: (وهذا مما اتفق عليه أئمة الدين، وعلماء المسلمين، فإنهم مجمعون على ما علم بالاضطرار من دين الرسول، أن كل كافر فإنه يدعى إلى الشهادتين، سواء كان معطلا، أو مشركاً، أو كتابياً، وبذلك يصير الكافر مسلماً، ولا يصير مسلما بدون ذلك) (3).
وقال أيضا: (أجمع المسلمون على أن الكافر إذا أراد أن يسلم يكتفى منه بالإقرار بالشهادتين) (4).
وقال كذلك: (وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر) (5).
وقال في موضع آخر: (فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين) (6).
ذكر من حكى الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: جاءت هذه المسألة نتيجة للمسألة السابقة والتي أكثر أهل الكلام الاشتغال بها، فأحدثوا في دين الله ما لم يأذن به، ولم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن عليه سلفنا الصالح.
وقد اشتد نكير أهل العلم – رحمهم الله تعالى – على كلتا المسألتين، ووسموا أهلها بالابتداع والضلال، وبينوا فساد ما ذهبوا إليه، وحذروا من مغبة ما يؤول إليه. وقد استعرضنا جملة من أقوال أهل العلم – رحمهم الله تعالى – عند الحديث عن المسألة الأولى.
استدلالهم بدليل الأعراض وحدوث الأجسام، وها نحن نذكر جملة أخرى تنضاف إلى ما سبق لتكون موضحة لموقف أهل العلم – رحمهم الله تعالى – من المسألة الأصل وما نمى عنها.
فقد حكى الإمام أبو بكر بن المنذر الإجماع على أن الكافر إذا أقر بالشهادتين وتبرأ من كل دين خالف دين الإسلام وهو بالغ صحيح يعقل أنه يصير بذلك مسلماً حيث قال: (أجمع كل من أحفظ عنه على أن الكافر إذا قال لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق، وأبرأ من كل دين خالف الإسلام وهو بالغ صحيح يعقل، أنه مسلم) (7).
فانظر كيف تجرأ هؤلاء المتكلمون على خرق هذا الإجماع وإطراحه، ولا غرو في ذلك فإن هؤلاء ليس لهم خبرة بأقوال الصحابة والتابعين وأقوال أئمة المسلمين في مسائل أصول الدين، بل إنما يعرفون أقوال الجهمية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام المحدث وهؤلاء كلهم مبتدعه عند سلف الأمة وأئمتها (8).
ولهذا تجد في كتب أهل الكلام ما يدل على غاية الجهل بما قاله الرسول والصحابة والتابعون وأئمة الإسلام مما يوجب أن يقال: كأن هؤلاء نشأوا في غير ديار الإسلام ولا ريب أنهم نشأوا بين من لم يعرف العلوم الإسلامية حتى صار المعروف عندهم منكراً والمنكر معروفاً ولبسهم فتن ربي فيها الصغير وهرم فيها الكبير، وبدلت السنة بالبدعة والحق بالباطل (9).
_________
(1) ((النقض)) (8/ 11، 12).
(2) ((النقض)) (8/ 6).
(3) ((النقض)) (8/ 7).
(4) ((الدرء)) (7/ 437).
(5) ((المجموع)) (7/ 302).
(6) ((المجموع)) (7/ 609).
(7) ((الإجماع)) لابن المنذر (ص: 154).
(8) انظر: ((الصفدية)) (2/ 268).
(9) انظر: ((النقض)) (2/ 482).
فمع وضوح هذا الإجماع وصراحته، إلا أنا نجد الجويني والإيجي يدعيان الإجماع على أن أول واجب على المكلف النظر أو القصد إلى النظر المؤدي إلى معرفة الله!
وبطلان هذا الإجماع المدعى ظاهر لكل من له من العلم أدنى نظر، إذ إن فيه مخالفة لصحيح المنقول ولإجماع من يعتد بإجماعه من أهل العلم، وحاشا أن تجتمع الأمة على أمر مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول فإن هذا ضلال، والأمة لا تجتمع على ضلال.
ثم إن بعض المتكلمين أيضاً قد خالفوا الجويني والإيجي في هذا الإجماع وقالوا بخلافه فكيف يدعيان الإجماع على ذلك إذن؟!
واسمع إلى ما قاله أبو جعفر السمناني وهو من رؤوس الأشاعرة عن هذه المسألة: (إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي التقليد في ذلك) (1).
وقد استنكر ابن حزم على من جعل النظر والاستدلال أول الواجبات، وسمى من خالف هذه الطريقة مقلداً لا يقبل إيمانه بقوله: ( ... إن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ بعث لم يزل يدعو الناس الجم الغفير إلى الإيمان بالله تعالى وبما أتى به، ويقاتل من أهل الأرض من قاتله، ويستحل سفك دمائهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وأخذ أموالهم متقرباً إلى الله تعالى بذلك، وأخذ الجزية وإصغاره.
ويقبل ممن آمن به ويحرم ماله ودمه وأهله وولده، ويحكم له بحكم الإسلام، وفيهم المرأة البدوية، والراعي، والراعية، والفلاح الصحراوي الوحشي، والزنجي المسبي، والزنجية المجلوبة، والرومية، والجاهل، والضعيف في فهمه فما منهم أحد ولا غيرهم قال له عليه السلام: إني لا أقبل إسلامك ولا يصح لك دين حتى تستدل على صحة ما أدعوك إليه ... ثم جرى على هذه الطريقة جميع الصحابة رضي الله عنهم أولهم عن آخرهم، ولا يختلف أحد في هذا الأمر.
ثم جميع أهل الأرض إلى يومنا هذا ومن المحال الممتنع عند أهل الإسلام أن يكون عليه السلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصلح لأحد الإسلام إلا به، ثم تتفق على إغفال ذلك أو تعمد عدم ذكره جميع أهل الإسلام وتنبه له هؤلاء الأشقياء!.
ومن ظن أنه وقع في الدين على ما لم يقع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر بلا خلاف فصح أن هذه المقالة خرق للإجماع، وخلاف لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وجميع أهل الإسلام قاطبة) (2).
وقال ابن عبد البر: (إنه من نظر إلى إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وسعد وعبد الرحمن وسائر المهاجرين والأنصار وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجاً علم أن الله عز وجل لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين بأعلام النبوة ودلائل الرسالة، لا من قبل حركة ولا من باب الكل والبعض، ولا من باب كان ويكون، ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجباً، وفي الجسم ونفيه والتشبيه ونفيه لازما ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجب ما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم، ولو كان ذلك من عملهم مشهوراً أو من أخلاقهم معروفاً لاستفاض عنهم ولشهروا به كما شهروا بالقرآن والروايات) (3).
_________
(1) نقله عنه الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (13/ 361)، ونقله أيضا شيخ الإسلام في ((الدرء)) (7/ 407) بتصرف.
(2) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) لابن حزم (4/ 75 - 76).
(3) ((التمهيد)) (7/ 152).
وممن نص على مخالفة المتكلمين فيما أوجبوه على المكلف لإجماع المسلمين أبو المظفر السمعاني حيث يقول: (فإنهم – أي أهل الكلام – قالوا: أول ما يجب على الإنسان النظر المؤدي إلى معرفة الباري عز وجل وهذا قول مخترع لم يسبقهم إليه أحد من السلف وأئمة الدين، ولو أنك تدبرت جميع أقوالهم وكتبهم لم تجد هذا في شيء منها منقولاً من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من أصحابه وكذلك من التابعين بعدهم.
وكيف يجوز أن يخفى عليهم أول الفرائض وهم صدر هذه الأمة والسفراء بيننا وبين رسول الله؟!.
هذا وقد تواترت الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الكفار إلى الإسلام والشهادتين ... ولم يرو أنه دعاهم إلى النظر والاستدلال، وإنما يكون حكم الكافر في الشرع أن يدعى إلى الإسلام فإن أبى وسأل النظرة والإمهال أن لا يجاب إلى ذلك ...
ولا يجوز على طريقهم الإقدام على هذا الكافر بالقتل والسبي إلا بعد أن يذكر له هذا ويمهل لأن النظر والاستدلال لا يكون إلا بمهلة وخصوصاً إذا طلب الكافر ذلك، وربما لا يتفق النظر والاستدلال في مدة يسيرة فيحتاج إلى إمهال الكفار مدة طويلة تأتي على سنين، ليتمكنوا من النظر على التمام والكمال وهو خلاف إجماع المسلمين) (1).
وممن عاب على المتكلمين إيجابهم النظر على المكلف أبو حامد الغزالي بقوله: (من أشد الناس غلوا وإسرافاً طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا أن من لم يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف العقائد الشرعية بأدلتها التي حررناها كافر.
فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده أولاً، وجعلوا الجنة وقفاً على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جعلوا ما تواتر من السنة ثانياً، إذ ظهر من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب كانوا مشتغلين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا بتعليم الدليل، ولو اشتغلوا به لم يفهموه، ومن ظن أن مدرك الإيمان بالكلام والأدلة المحررة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد ...
وليت شعري متى نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة إحضار أعرابي أسلم وقولهم له: الدليل على أن العالم حادث، أن لا يخلو عن الأعراض، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ... وعد النبي صلى الله عليه وسلم أن من تكلم بكلمة التوحيد أجرى عليه أحكام المسلمين، فثبت بهذا أن مأخذ التكفير من الشرع لا من العقل، إذ الحكم بإباحة الدم، والخلود في النار شرعي لا عقلي خلافاً لما ظنه بعض الناس) (2).
ونص عبد القادر الجيلاني على أن أول ما يجب على من أراد الدخول في دين الإسلام التلفظ بالشهادتين، والبراءة من كل دين يخالفه حيث قال: (الذي يجب على من يريد الدخول في دين الإسلام أولا أن يتلفظ بالشهادتين لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويتبرأ من كل دين غير دين الإسلام، ويعتقد بقلبه وحدانية الله تعالى) (3).
وقال ابن الصلاح – في معرض كلامه على حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه وفيه قال رضي الله عنه: ((يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: صدق)) ثم قال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: ((لئن صدق ليدخلن الجنة)). (4).
وفي الحديث دلالة على صحة ما ذهب إليه الأئمة العلماء في أن العوام المقلدين مؤمنون، وأنه يكتفي منهم بمجرد اعتقادهم الحق جزماً من غير شك وتزلزل، خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة.
_________
(1) ((الانتصار لأصحاب الحديث)) للسمعاني (ص: 61، 62، 63).
(2) ((فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة)) للغزالي (ص: 134 – 202).
(3) ((الغنية)) الجيلاني (1/ 2).
(4) رواه البخاري (12)، من حديث أنس رضي الله عنه.
وبين وجه الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قرر ضماماً على ما اعتمد عليه في تعرف رسالته وصدقه صلى الله عليه وسلم من مناشدته ومجرد إخباره إياه بذلك، ولم ينكر عليه ذلك قائلا له: أن الواجب عليك أن تستدرك ذلك من النظر في معجزاتي، والاستدلال بالأدلة القطعية التي تفيدك العلم (1).
مستند الإجماع: من تأمل نصوص الكتاب والسنة وجدها حافلة بذكر الأمر الذي بعث الله عز وجل من أجله المرسلين، واجتمعت عليه كلمتهم أجمعين، فكان ذلك الأمر هو أوجب الواجبات، أول الفرائض والمطلوبات والذي شغل حيزاَ من حياتهم، بل كل حياتهم لتبليغه والدعوة إليه، فكان وظيفتهم والحكمة من بعثتهم، ألا وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، لا كما زعم المتكلمون أنه النظر المؤدي إلى معرفة الباري؛ فدونك الأدلة على ذلك، من الكتاب والسنة:
فمن الكتاب: قول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36].
وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]. ونظائرهما كثير.
ووجه الدلالة من هاتين الآيتين ظاهر وصريح في أن الرسل إنما بعثوا لأمر الناس بعبادة الله ودعوتهم إلى ذلك، بل دلت الآية على حصر مهمتهم ووظيفتهم في ذلك، ولو كان النظر أوجب الواجبات وأولها، لنبه عليه الشارع الحكيم، ولكان على رأس الاهتمام من الأنبياء والمرسلين، ولما لم يكن كذلك تبين بطلان ما ذهب إليه المتكلمون، وفساد طريقتهم ومسلكهم.
وأما السنة: فقد أخرج البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن قال له إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى)) (2).
وفي رواية: ((ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)) (3).
وعن سهل بن سعد: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الراية عليا رضي الله عنه يوم خيبر، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام ... )) (4).
ووجه الدلالة من الحديثين بينة؛ إذ لو كان النظر إلى معرفة الله تعالى واجباً كما يدعي المتكلمون لأمر صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليه أولا، ولما قدم عليها غيره، ومن ثم تظهر مخالفة المتكلمين لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة أيضا ما أخرجه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)). (5)
ووجه الدلالة ظاهر بين؛ إذ إن الرسول صلى الله عليه وسلم علق كفه عن قتال الناس على شرط به يعصم المرء دمه وماله، ألا وهو التلفظ بالشهادتين، بخلاف ما سلكه المتكلمون من الحكم بسفك دم من لم يعرف الله تعالى بالطرق والأقيسة العقلية التي ابتدعوها.
فالرسول صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى توحيد الله عز وجل وقبل إسلام من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهؤلاء المتكلمون يدعون الناس إلى الاستدلال والدخول في الإسلام بهذه الطريقة المبتدعة ويجعلونه أول واجب على المكلف ومن لم يعرف أو عاند في تركه حكم بكفره وسفك دمه، فتأمل ما بين المنهجين من البون الشاسع والفرق الكبير. المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 260
_________
(1) ((صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط)) لابن الصلاح (ص: 142 - 144).
(2) رواه البخاري (7372).
(3) رواه البخاري (1395).
(4) رواه البخاري (4210)، ومسلم (2406).
(5) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
المبحث الثالث: المتكلمون يعتنون بتقرير الربوبية، ويسكتون عن الألوهية
ومن أهل الكلام: من أطال نظره في تقرير هذا التوحيد- توحيد الربوبية-: إما بدليل أن الاشتراك يوجب نقص القدرة وفوات الكمال، وبأن استقلال كل من الفاعلين بالمفعول محال، وإما بغير ذلك من الدلائل، ويظن أنه بذلك قرر الوحدانية وأثبت أنه لا إله إلا هو، وأن الإلهية هي: القدرة على الاختراع أو نحو ذلك، فإذا ثبت أنه لا يقدر على الاختراع إلا الله، وأنه لا شريك له في الخلق، كان هذا معنى قولنا: لا إله إلا الله، ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد، كما قال تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [لقمان:25] وقال تعالى قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ الآيات، وقال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] قال ابن عباس وغيره: (تسألهم: من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم مع ذلك يعبدون غيره) وهذا التوحيد هو من التوحيد الواجب، لكن لا يحصل به الواجب، ولا يخلص بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر، الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص لله الدين، فلا يعبد إلا إياه، فيكون دينه كله لله اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 2/ 854
فالرب مصدر أريد به اسم الفاعل – أي أنه راب، قال الراغب الأصفهاني: (الرب مصدر مستعار للفاعل) (1).
قال ابن الأنباري: (الرب: ينقسم إلى ثلاثة أقسام: يكون الرب: المالك، ويكون الرب: السيد المطاع ... ، والرب: المصلح .. ). فهذه ثلاثة أصول ترجع إليها معاني كلمة الرب.
فالأصل الأول: بمعنى المالك والصاحب، ومن هذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في ضالة الإبل ((فذرها حتى يلقاها ربها)) (2).
والأصل الثاني: بمعنى السيد المطاع، قل الطبري: (وأما تأويل قوله: (رب) فإن الرب في كلام العرب متصرف على معان: فالسيد المطاع فيها يدعى رباً، ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة العامر:
وأهلكن يوماً رب كندة وابنه ... ورب معد بين خبت وعرعر
يعني رب كندة: سيد كندة (3).) اهـ.
ومن هذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أشراط الساعة: (أن تلد الأمة ربها) أي سيدها – وهذا لفظ البخاري.
وأما الأصل الثالث: فبمعنى المصلح للشيء المدبر له، ولذلك قال بعض أهل العلم باشتقاق كلمة الرب من التربية. قال الراغب: (الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام) (4).
وقال الطبري بعد أن ذكر المعاني الثلاثة لكلمة (الرب) قال: (وقد يتصرف معنى الرب في وجوه غير ذلك، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة) (5). منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 215
_________
(1) ((المفردات)) للراغب (ص: 336).
(2) رواه البخاري (91). من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
(3) ((تفسير الطبري)) (1/ 141).
(4) ((المفردات)) (ص: 336).
(5) ((تفسير الطبري)) (1/ 142).
المبحث الثاني: معنى كلمة الرب من حيث هي اسم لله تعالى
قال - ابن جرير - في معنى اسم (الرب) لله سبحانه وتعالى: (فربنا جل ثناؤه: السيد الذي لا شبه له، ولا مثل في سؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر) (1).
ولا تستعمل كلمة (الرب) في حق المخلوق إلا مضافة فيقال: رب الدار ورب المال.
قال ابن قتيبة رحمه الله: (ولا يقال للمخلوق: هذا (الرب) معرفاً بالألف واللام كما يقال لله، إنما يقال رب كذا فيعرف بالإضافة لأن الله مالك كل شيء، فإذا قيل: (الرب) دلت الألف واللام على معنى العموم، وإذا قيل لمخلوق: رب كذا ورب كذا نسب إلى شيء خاص لأنه لا يملك شيئاً غيره) (2).
وعلى هذا إذا ذكر اسم الرب معرفاً فلا يطلق إلا على الله تعالى، وزاد الراغب أن كلمة (رب) غير مضافة ولا معرفة لا تطلق إلا على الله فقال (3): (ولا يقال الرب مطلقاً إلا الله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات نحو قوله تعالى: لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ.) اهـ، وقال ابن الأثير أيضاً: (ولا يطلق غير مضاف إلا على الله تعالى) (4).
وأما كلمة (رب) بالإضافة فتقال لله ولغيره بحسب الإضافة فمن الأول قوله تعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ومن الثاني اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ [يوسف: 42] في قول يوسف عليه السلام لأحد صاحبيه في السجن (5).
ومصدر رب يرب الربوبية والرباية، إلا أن الرباية لا تقال في الله، وإنما في غيره، قال الراغب: (والربوبية مصدر يقال في الله عز وجل، والرباية تقال في غيره). (6) منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 217
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (1/ 142)، وانظر: ((تفسير غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 9).
(2) ((تفسير غريب القرآن)) (ص: 9).
(3) ((المفردات)) (ص: 336).
(4) ((النهاية في غريب الحديث)) (2/ 179).
(5) انظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 336) و ((النهاية في غريب الحديث)) (2/ 179).
(6) ((المفردات)) للراغب (ص: 336).
المبحث الثالث: تعريف توحيد الربوبية اصطلاحاً
هو الإقرار الجازم بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه، وخالقه، ومدبره، والمتصرف فيه، لم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، ولا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، ولا مضاد له (ولا مماثل له)، (ولا سمي له)، ولا منازع في شيء من معاني ربوبيته ومقتضيات أسمائه وصفاته. أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة لحافظ بن أحمد الحكمي– ص: 30
ومنهم من عرفه بأنه: الاعتقاد بأن الله هو الخالق الرازق المدبر لكل شيء وحده لا شريك له (1).
وهو يشتمل على ما يلي:
1 - الإيمان بوجود الله تعالى.
2 - الإقرار بأن الله تعالى خالق كل شيء، ومالكه، ورازقه، وأنه المحيي، المميت، النافع، الضار، المتفرد بإجابة الدعاء، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، القادر على ما يشاء، المقدر لجميع الأمور، المتصرف فيها، المدبر لها، ليس له في ذلك كله شريك (2).
وقد تكاثرت الأدلة في القرآن والسنة في إثبات الربوبية لله تعالى، فكل نص ورد فيه اسم (الرب) أو ذكر فيه خصيصة من خصائص الربوبية، كالخلق، والرزق، والملك، والتقدير، والتدبير، وغيرها فهو من أدلة الربوبية، كقوله تعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 2]، وكقوله سبحانه: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف: 54]، وكقوله جل وعلا: قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [المؤمنون: 88] (3)، والملكوت: الملك.
وقد أمر الله العباد بالنظر والتفكر في آيات الله الظاهرة من المخلوقات العلوية والسفلية، ليستدلوا بها على ربوبيته سبحانه وتعالى. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 41
فالرب هو المالك كما قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ [الحشر: 23] ويقول: وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [المائدة: 17]، وقال: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 83].
والرب هو الخالق البارئ المصور كما قال عن نفسه: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر: 24]، فلا خالق سواه، وهو الذي برأ الخلق فأوجدهم بقدرته المصور خلقه كيف شاء وكيف يشاء (4).
والرب هو المبدئ والمعيد كما قال: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم: 27]، فهو الذي ابتدأ الأشياء كلها فأوجدها، إذ هو الأول الذي ليس قبله شيء، ثم هو يعيدها سبحانه.
والرب هو المحيي والمميت، الذي أحيا بأن خلق فيهم الحياة، والذي خلق الموت كما خلق الحياة. كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] ويقول: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الدخان: 8].
والرب هو النافع الضار، قال تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا [يونس: 21] وقال: قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا [الفتح: 11].
والرب هو المعطي المانع كما قال تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ [فاطر: 2]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه بعد الفراغ من الصلاة: ((اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت)) (5).
والرب هو المدبر لأمر هذا الكون كما قال: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ [يونس: 36]. وقال: وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ [يونس: 31]، وقال يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد: 2].
والرب هو الخالق الرازق القوي القدير كما قال تعالى: قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16]، وقال هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ [فاطر: 9] وقال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58]، وقال: إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 20]. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف – 1/ 227
_________
(1) ينظر: ((مجموعة التوحيد)) (1/ 5).
(2) ((شرح الطحاوية)) (ص:25)، ((مدارج السالكين)) باب التوحيد (1/ 33 - 46، 3/ 468)، ((تيسير العزيز الحميد)) (ص:17)، ((القول السديد)) (ص:18)، ((معارج القبول)) (1/ 99).
(3) ((مدارج السالكين)) (3/ 468 - 469)، ((شرح الطحاوية)) (ص: 42 - 43)، ((المدخل لدراسة العقيدة)) (ص: 102).
(4) انظر: ((تفسير الطبري)) (23/ 305).
(5) رواه البخاري (844)، ومسلم (593). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
المبحث الرابع: منزلة توحيد الربوبية
إذا أقر العبد بانفراد الرب تبارك وتعالى بالخالق والحكم، وشهد بذلك، فإن ذلك يقوده إلى تحقيق توحيد الإلهية، فإن الأمرين متلازمان، فمن أقر لله بالربوبية لزمه أن يقر له بالإلهية: (فإن أول ما يتعلق القلب يتعلق بتوحيد الربوبية، ثم يرتقي إلى توحيد الإلهية، كما يدعو الله سبحانه عباده في كتابه بهذا النوع من التوحيد إلى النوع الآخر، ويحتج عليهم به, ويقررهم به، ثم يخبر أنهم ينقضونه بشركهم به في الإلهية) (1).
وبيان ذلك أن من أثبت لله خصائص الربوبية .... من الخلق, والإحياء, والإماتة, والنفع, والضر, والإسعاد, والإشقاء – استسلم لله تعالى في كل شيء، فيعلم أن ما أصابه فمن الله ولم يكن ليخطئه، وأنه إذا دخل الجنة فبتوفيق الله وفضله، وإذا دخل النار فبحكمته وعدله، وكل ذلك قدره الله تعالى، فإذا علم ذلك، لجأ إلى خالقه ليستعين به في جلب المنافع ودفع المضار، وليستهديه الصراط المستقيم، فيورث ذلك محبة عظيمة في قلب العبد لربه تعالى، فيقدم محاب ربه على كل شيء، ويورثه ذلك الخوف من الله وتعظيمه وتوقيره: (فهذه علامة توحيد الإلهية في هذا القلب، والباب الذي دخل إليه منه: توحيد الربوبية، أي: باب توحيد الإلهية: هو توحيد الربوبية) (2).
وبهذا التقديم تظهر أهمية الإقرار بالربوبية لله تعالى، وهذه المعرفة فطرية في قلوب بني آدم ..... إلا أن أكثر الناس الذين وقعوا في الشرك إنما وقعوا فيه لإتيانهم بما يناقض توحيد الإلهية، لذلك جاءتهم الرسل بالدعوة إلى هذا النوع من التوحيد – أعني توحيد الإلهية – وإذا أقر الإنسان لله بالربوبية ولم يوحده في عبوديته ما نفعه إقراره هذا – لذلك يقول الله جل وعلا: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106]، قال مجاهد رحمه الله في تفسير هذه الآية: (إيمانهم قولهم: الله خالقنا, ويرزقنا, ويميتنا، فهذا إيمان، مع شرك عبادتهم غيره). اهـ منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد بن عبد اللطيف -بتصرف – 1/ 242
_________
(1) ((مدارج السالكين)) (1/ 413).
(2) ((مدارج السالكين)) (1/ 413).
المبحث الأول: فطرية الإقرار بالربوبية
لا شك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري والشرك حادث طارئ والأبناء تقلدوه عن الآباء فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم والملابس والمساكن يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع مقرين بأن الله ربكم لا شريك له وقد شهدتم بذلك على أنفسكم فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ [النساء:135] وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم إلى الشرك؟ بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إلى ما لا يعلم له حقيقة تقليدا لمن لا حجة معه بخلاف اتباعهم في العادات الدنيوية فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها وفيه مصلحة لكم بخلاف الشرك فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدولكم فيه عن الصواب فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو: دين التربية والعادة وهو لأجل مصلحة الدنيا فإن الطفل لا بد له من كافل وأحق الناس به أبواه ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه - على الصحيح - حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة وحينئذ فعليه أن يتبع: دين العلم والعقل وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح فإن كان آباؤه مهتدين كيوسف الصديق مع آبائه قال: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ [يوسف:38] وقال ليعقوب بنوه: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ [البقرة:133] وإن كان الآباء مخالفين الرسل كان عليه أن يتبع الرسل كما قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [العنكبوت:8] فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم بل يعدل عن الحق المعلوم إليه فهذا اتبع هواه كما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ [البقرة:170] وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي - 1/ 314
وتعتبر معرفة الله تعالى والإقرار بوجوده من الأمور الضرورية الفطرية التي غرسها الله تعالى في فطر الناس، وشهدت بها عقولهم، بل فطر القلوب عليه أعظم من فطرتها على الإقرار بغيره من الموجودات ولذا فإن الإيمان بوجود الله تعالى، وتحقيق كمال وحدانيته أصل الدين وقوامه، ولبه وصميمه، وهو في الواقع أمر لا يحتاج إلى سرد الأدلة وحشد البراهين، ولهذا لم يكثر في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحديث عن إثبات وجود الله عز وجل، لكن لما وجد شرذمة من الناس تنكر وجود الله مكابرة؛ كفرعون، أو لتغير الفطرة لسبب خارجي: فإن الله تعالى قد أقام من الدلائل الباهرة، والبراهين القاطعة ما يبهر العقول، ويقود القلوب إلى التسليم والانقياد.
وهذه الأدلة إنما يصار إليها ليزداد المؤمن إيماناً ويقينا، ومعرفة بالله وتعظيما له، وأما من فسدت فطرته، وتغيرت جبلته، فهذه الأدلة واعظة ومرشدة للعودة إلى الفطرة التي ند عنها، وتنكر لها.
وجماع القول: أن الإقرار بوجود الله والاعتراف به مستقر في قلوب الخلق جميعا وأنه من لوازم خلقهم، ضروري فيهم، وإن قدر أنه حصل بسبب.
ولقد حكى أهل العلم إجماع الأمم، واتفاق الملل، وتوافق الفطر على هذا الأمر الضروري، ومن هؤلاء الأئمة الأعلام، والصفوة الكرام: شيخ الإسلام ابن تيمية، في غير ما موضع من كتبه ورسائله.
نص ما حكاه شيخ الإسلام من الإجماع: قال: (أهل الفطر كلهم متفقون على الإقرار بالصانع) (1).
وبين أن هذا الأمر قد اجتمع على الإقرار به جميع الثقلين – الإنس والجن – حيث قال: (والمقصود هنا أن من المعروف عند السلف والخلف أن جميع الجن والإنس معترفون بالخالق مقرون به، ... فعلم أن أصل الإقرار بالصانع والاعتراف به مستقر في قلوب جميع الإنس والجن وأنه من لوازم خلقه، ضروري فيهم، وإن قدر أنه حصل بسبب كما أن اغتذاءهم الطعام والشراب هو من لوازم خلقهم، وذلك ضروري فيهم) (2).
وأوضح أن الإقرار بوجود الله وربوبيته لم يكن ينازع فيه المشركون الذين دعتهم رسلهم إلى عبادة الله وحده، حيث قال: (وأما الرب فهو معروف بالفطرة: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ [إبراهيم: 10] فالمشركون من عباد الأصنام وغيرهم من أهل الكتاب معترفون بالله مقرون به أنه ربهم وخالقهم ورازقهم، وأنه رب السموات والأرض والشمس والقمر، وأنه المقصود الأعظم) (3).
وذكر أن الإقرار بالخالق وكماله أمر فطري ضروري مركوز في فطر البشر السليمة من الانحراف والتغير، إذ يقول: (إن الإقرار بالخالق وكماله يكون فطرياً ضرورياً في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة، وأحوال تعرض لها) (4).
وعد الإقرار بالله مما اتفق عليه جميع المؤمنين، من الأولين والآخرين، بل وجميع الكتب الإلهية حيث يقول:. .. (ومنه ما هو متفق عليه بين جميع المؤمنين، من الأولين والآخرين، وجميع الكتب الإلهية: مثل الإقرار بالله) (5) ......
ولم يكثر السلف – رحمهم الله – الخوض في إثبات وجود الله تعالى وحشد الأدلة لتقريره؛ لأنه من القضايا المسلمة المستقرة في الفطرة البشرية؛ ولذا لم ينقل عنهم من الأقوال في تقرير وجود الله عز وجل إلا شيئاً يسيرا ورد في شأن الفطرة وأخذ الميثاق والإشهاد على ذلك والآيات الكونية والنفسية.
ومن ذلك قول محمد بن كعب القرظي – في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف: 172]-: (أقرت الأرواح قبل أن تخلق أجاسدها) (6).
وقال مجاهد بن جبر – في قوله تعالى: صِبْغَةَ اللهِ [البقرة: 138]-: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" (7).
وأما الكلبي والحسن فقد قالا – في قول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى [الأعراف: 172]-: (أخذ ميثاقهم أنه ربهم، فأعطوه ذلك، ولا تسأل أحداً كافراً ولا غيره: من ربك؟، إلا قال: الله) (8).
وقال السدي: (ليس في الأرض أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن ربه الله) (9).
وقال ابن جرير – في تفسير قول الله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى [الأعراف: 172]-: (يقول تعالى ذكره؛ شهدنا عليكم أيها المقرون بأن الله ربكم) (10).
وبين الراغب الأصفهاني أن معرفة الله عز وجل مركوزة النفوس، حيث قال: (معرفة الله تعالى العامية – أي الإجمالية – مركوزة في النفس، وهي معرفة كل أحد أنه مفعول، وأن له فاعلا فعله ونقله من الأحوال المختلفة) (11). المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين - بتصرف – ص: 237
_________
(1) ((الفتاوى الكبرى)) (6/ 368).
(2) ((الدرء)) (8/ 482).
(3) ((رسالة في الكلام على الفطرة)) لابن تيمية ضمن ((مجموع الرسائل الكبرى)) (2/ 337).
(4) ((المجموع)) (6/ 73).
(5) ((المجموع)) (12/ 475).
(6) ((تفسير ابن جرير)) (6/ 116).
(7) ((تفسير ابن جرير)) (1/ 623).
(8) ((تفسير ابن جرير)) (6/ 116).
(9) ((تفسير ابن جرير)) (6/ 116).
(10) ((تفسير ابن جرير)) (6/ 117).
(11) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) (ص: 199).
المبحث الثاني: عدم كفاية الإقرار بالربوبية للبراءة من الشرك
إن توحيد الربوبية هو أحد أنواع التوحيد الثلاثة؛ ولذا فإنه لا يصح إيمان أحد, ولا يتحقق توحيده إلا إذا وحد الله في ربوبيته، لكن هذا النوع من التوحيد ليس هو الغاية من بعثة الرسل عليهم السلام، ولا ينجي وحده من عذاب الله ما لم يأت العبد بلازمه توحيد الألوهية.
ولذا يقول الله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106]، والمعنى أي: ما يقر أكثرهم بالله رباً وخالقاً ورازقاً ومدبراً- وكل ذلك من توحيد الربوبية - إلا وهم مشركون معه في عبادته غيره من الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تعطي ولا تمنع.
وبهذا المعنى للآية قال المفسرون من الصحابة والتابعين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماء؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله, وهم مشركون).
وقال عِكْرِمَة: (تسألهم من خلقهم, ومن خلق السماوات والأرض, فيقولون الله, فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره).
وقال مجاهد: (إيمانهم قولهم: الله خالقنا, ويرزقنا, ويميتنا, فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره).
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بن زيد: (ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله, ويعرف أن الله ربُّه، وأنَّ الله خالقُه ورازقُه، وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 75 - 77]) (1).
والنصوص عن السلف في هذا المعنى كثيرة، بل لقد كان المشركون زمن النبي صلى الله عليه وسلم مقرين بالله رباً خالقاً رازقاً مدبراً، وكان شركهم به من جهة العبادة حيث اتخذوا الأنداد والشركاء, يدعونهم, ويستغيثون بهم, وينزلون بهم حاجاتهم وطلباتهم.
وقد دل القرآن الكريم في مواطن عديدة منه على إقرار المشركين بربوبية الله مع إشراكهم به في العبادة، ومن ذلك قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت: 61]، وقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [العنكبوت: 63]، وقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف: 87]، وقوله تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 84 - 89].
_________
(1) ((تفسير ابن جرير)) (16/ 289).
فلم يكن المشركون يعتقدون أن الأصنام هي التي تنزل الغيث وترزق العالم وتدبر شؤونه، بل كانوا يعتقدون أن ذلك من خصائص الرب سبحانه، ويقرون أن أوثانهم التي يدعون من دون الله مخلوقة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضراً ولا نفعاً استقلالاً, ولا موتاً, ولا حياة, ولا نشوراً، ولا تسمع, ولا تبصر، ويقرون أن الله هو المتفرد بذلك لا شريك له، ليس إليهم ولا إلى أوثانهم شيء من ذلك، وأنه سبحانه الخالق وما عداه مخلوق, والرب وما عداه مربوب، غير أنهم جعلوا له من خلقه شركاء ووسائط، يشفعون لهم بزعمهم عند الله, ويقربونهم إليه زلفى؛ ولذا قال الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3]، أي ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا.
ومع هذا الإقرار العام من المشركين لله بالربوبية إلا أنه لم يدخلهم في الإسلام, بل حكم الله فيهم بأنهم مشركون كافرون, وتوعدهم بالنار والخلود فيها, واستباح رسوله صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم لكونهم لم يحققوا لازم توحيد الربوبية وهو توحيد الله في العبادة.
وبهذا يتبين أن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده دون الإتيان بلازمه توحيد الألوهية لا يكفي ولا ينجي من عذاب الله، بل هو حجة بالغة على الإنسان تقتضي إخلاص الدين لله وحده لا شريك له، وتستلزم إفراد الله وحده بالعبادة. فإذا لم يأت بذلك فهو كافر حلال الدم والمال. أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء ص15
وهذا التوحيد - أي توحيد الربوبية - لا يكفي العبد في حصول الإسلام بل لا بد أن يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الألوهية لأن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد لله وحده قال تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [يونس:31] وقال تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] وقال: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت:63] وقال تعالى: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ الآية [النمل:62] فهم كانوا يعلمون أن جميع ذلك لله وحده ولم يكونوا بذلك مسلمين بل قال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف:106] قال مجاهد: في الآية: إيمانهم بالله قولهم: إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وعن ابن عباس وعطاء والضحاك نحو ذلك، فتبين أن الكفار يعرفون الله ويعرفون ربوبيته وملكه وقهره وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون له أنواعا من العبادات كالحج والصدقة والذبح والنذر والدعاء وقت الاضطرار ونحو ذلك ويدَّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام فأنزل الله تعالى مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67] وبعضهم يؤمن بالبعث والحساب وبعضهم يؤمن بالقدر
كما قال زهير:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم الحساب أو يعجل فينقم
وقال عنترة:
يا عبل أين من المنية مهرب
إن كان ربي في السماء قضاها
ومثل هذا يوجد في أشعارهم فوجب على كل من عقل عن الله تعالى أن ينظر ويبحث عن السبب الذي أوجب سفك دمائهم وسبي نسائهم وإباحة أموالهم مع هذا الإقرار والمعرفة وما ذاك إلا لإشراكهم في توحيد العبادة الذي هو معنى لا إله إلا الله تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبد الله آل الشيخ - ص17
قال ابن القيم:
فما كان له سبحانه فهو متعلق بألوهيته وما كان به فهو متعلق بربوبيته وما تعلق بألوهيته أشرف مما تعلق بربوبيته ولذلك كان توحيد الألوهية هو المنجي من الشرك دون توحيد الربوبية بمجرده فإن عباد الأصنام كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه ولكن لما لم يأتوا بتوحيد الألوهية وهو عبادته وحده لا شريك له لم ينفعهم توحيد ربوبيته عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لمحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية - ص35
المبحث الثالث: الفرق بين مجرد الإقرار بالربوبية وبين توحيد الربوبية
إن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء وكانوا مع هذا مشركين قال تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف:106] قالت طائفة من السلف: تسألهم من خلق السموات والأرض؟ فيقولون: الله وهم مع هذا يعبدون غيره قال تعالى: قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون:84 – 89] فليس كل من أقر بأن الله تعالى رب كل شيء وخالقه يكون عابدا له دون ما سواه داعيا له دون ما سواه راجيا له خائفا منه دون ما سواه يوالي فيه ويعادي فيه ويطيع رسله ويأمر بما أمر به وينهى عما نهى عنه وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به وجعلوا له أندادا قال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ [الزمر:43 - 44] وقال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18] وقال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94] وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً [البقرة:165] ولهذا كان أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها ويصوم وينسك لها ويتقرب إليها ثم يقول: إن هذا ليس بشرك إنما الشرك إذا اعتقدت أنها المدبرة لي فإذا جعلتها سببا وواسطة لم أكن مشركا ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - ص11
المبحث الرابع: مقتضيات الإقرار لله تعالى بالربوبية
إذا أقر العبد لله تعالى بالربوبية، فإن إقراره هذا يقتضي أموراً لابد منها، فإن لم يلتزم هذه المقتضيات ما نفعه إقراره بالربوبية لله، فهذه المقتضيات هي:
الأول منها: (ألا يعتقد العبد نفعاً ولا ضراً ولا حركة ولا سكوناً ولا بسطاً ولا خفضاً ولا رفعاً ولا إعطاء ولا منعاً ولا إحياءً ولا إماتةً ولا تدبيراً ولا تصريفاً إلا والله سبحانه وتعالى هو فاعله وخالقه لا يشركه في ذلك ولا يملك واحد منه شيئاً) (1) وقد دخل في هذا: الإيمان بالقضاء والقدر ...
الثاني: إثبات رب مباين للعالم، يقول ابن القيم رحمه الله: (إن الربوبية المحضه تقتضي مباينة الرب للعالم بالذات كما باينهم بالربوبية وبالصفات والأفعال، فمن لم يثبت رباً مبايناً للعالم فما أثبت رباً) (2) وهذا قاله عند تفسير قول الله تعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، والعالم هو كل ما سوى الله تعالى.
الثالث: أن يتوصل العبد بالإقرار بالربوبية إلى الإقرار بالألوهية فيجردها لله تعالى فلا يصرف أي نوع من أنواع العبادات لغير الله تبارك وتعالى. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 232
_________
(1) ((مجلة الجامعة الإسلامية السنة – 11 – العدد 2 – مفهوم الربوبية)) للشيخ سعد ندا (ص: 124).
(2) ((مدارج السالكين)) (1/ 84).
تمهيد:
لم تكن مسألة إثبات وجود الله تعالى هدفاً أساسيا من الأهداف، وذلك لأن الإقرار بوجود الله أمر فطري فطر الله عليه الخلق. والله سبحانه أبين وأظهر من أن يجهل فيطلب الدليل على وجوده.
وقد وجد قليل من الناس سابقاً ممن ينكر وجود الله تعالى إما مكابرة وعناداً كفرعون، أو لتغير الفطرة بسبب خارجي.
واليوم وإن كان قد كثر القائلون بعدم وجود الخالق إلا أنهم قليل جداً إلى جنب من يقر بوجوده، وهم مع ذلك يحيلون خلقهم إلى الطبيعة!.
وللسبب المذكور سابقاً نجد أن الاستدلال على وجود الله تعالى في القرآن لم يكن مقصوداً أصالة، وإنما يمكن أن يستنتج ذلك استنتاجاً. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد بن عبد اللطيف – 1/ 276
ومع ذلك ـلم يكتف القرآن الكريم باستثارة الفطرة المقرة بوجود الله تعالى، بل حفل بالأدلة العظيمة، والآيات الباهرة الدالة على وجوده، وعظمته سبحانه وتعالى، فكل ما في هذا الوجود من خلق وعناية بهذا الكون، وتسييره، على أكمل نظام، وحكمة هو دلالة صادقة على وجود الله تعالى المدبر لهذا الكون.
وذلك لأن الأدلة على وجوده، وعظمته تعزز مكنون الفطرة، وتزيدها يقيناً واستقامة، والأدلة يحتاج إليها أيضاً من فسدت فطرته، حيث يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (الإقرار بالخالق وكماله، كما يكون فطرياً ضرورياً في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس، عند تغير الفطرة، وأحوال تعرض لها) (1).
وعندما ظهرت الجهمية ومن تابعهم من فرق الابتداع، لم يأتوا بطرق مفيدة وصائبة في معرفة الخالق- سبحانه وتعالى – بل عقدوا الطرق السهلة وأطالوها, وغاية ما عندهم من الطرق هو الاستدلال بحدوث الحوادث على محدث موجد لها، وقد اعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذه الطريقة جزء من الطريقة القرآنية فقال: (هذه الطريقة جزء من الطريقة المذكورة، وهي التي جاءت بها الرسل، وكان عليها سلف الأمة وأئمتها, وجماهير العقلاء من الأولين؛ فإن الله يذكر في آياته ما يحدثه في العالم من السحاب، والمطر, والنبات, والحيوان، وغير ذلك من الحوادث, ويذكر في آياته خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ونحو ذلك) (2).
وقد أثبت الواقع الذي عاشه الصحابة - رضوان الله عليهم - أن الأدلة القرآنية يحتاج إليها من تعرضت فطرته لأحوال من الشرك والكفر، فتأتي هذه الأدلة لتنبيه الفطرة، وإيقاظها من انحرافاتها، فعن محمد- ت:98هـ- ابن جبير - ت:59هـ - ابن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال: (قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم في فداء الأسرى، فاضطجعت في المسجد بعد العصر، وقد أصابني الكرى، فنمت، فأقيمت صلاة المغرب، فقمت فزعاً بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ [الطور:1 - 2] فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد, فكان يومئذ أول ما دخل الإسلام قلبي) (3).
وفي البخاري قال جبير بن معطم رضي الله عنه: ((سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور:35 - 37]، كاد قلبي أن يطير)) (4).
قال الإمام الخطابي: (كأنه انزعج عند سماع هذه الآية لفهمه معناها، ومعرفته بما تضمنته ففهم الحجة، فاستدركها بلطيف طبعه) (5).
إن الأثر الذي أحدثته هذه الآيات القرآنية بقلب هذه الصحابي الجليل، وكانت سبباً من أسباب إسلامه وإيمانه، تبين لنا مدى أثر الأدلة القرآنية في إحياء الفطرة ومعالجتها من ظلمات الشرك، والكفر, ولقد سمع القرآن الكريم الجمهرة الكبيرة من العرب، وغيرهم منذ بدء الإسلام وإلى يومنا هذا وعجائبه لا تنقضي، وأدلته العظيمة ما زالت سبباً كبيراً في دخول الناس أفواجاً في هذا الدين. العقيدة الإسلامية وجهود علماء السلف في تقريرها لعطاء الله بخيت المعايطة - ص: 28 - 31
_________
(1) ((مجموعة الفتاوى)) (6/ 73)
(2) ((درء تعارض العقل)) (3/ 83)
(3) رواه ابن عساكر في ((مختصر تاريخ دمشق)) لابن منظور (ص: 756). وانظر: ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (50/ 7). ورواه بنحوه البخاري (4854).
(4) رواه البخاري (4854).
(5) ابن حجر – ((فتح الباري)) (8/ 603)
المبحث الأول: مسلك الإلزام والرد على من انحرفت فطرهم
فمن الإلزام قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35].
والذين انحرفت فطرهم هم الذين أنكروا الخالق تبارك وتعالى فقال الله عنهم وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] فأنكروا البعث وأنكروا أن يكون لهم رب يفنيهم، فرد الله عليهم بقوله: وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية: 24] أي ليس لهم علم يقين يدل على صحة قولهم، سواء كان هذا العلم خبراً، أو كان حجة وبرهاناً عقلياً، ثم بين الله أنهم في اعتقادهم الذي نطقوا به بألسنتهم شاكون ومرتابون، وهذا أمر واضح لاتباعهم الظن (1).
ومن أوجه الرد على من انحرفت فطرهم: ما جاء عن فرعون الذي كان يقول لقومه: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38] فتابعه قومه على ذلك كما قال تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [الزخرف: 54] فسأل فرعون موسى فقال: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 23] أي من هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟ قال ابن كثير – رحمه الله – (هكذا فسره علماء السلف وأئمة الخلف) (2).
وذلك رد على من قال: إن فرعون سأل عن ماهية الرب، وهذا غلط لأنه كان منكراً جاحداً ولم يكن مقراً حتى يسأل عن الماهية، ويبينه قوله تعالى: قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه: 49] وهنا أجاب موسى عليه السلام لما سأله عن رب العالمين: قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا أي خالق جميع ذلك ومالكه والمتصرف فيه وهو الذي خلق الأشياء كلها، العالم العلوي وما فيه من الكواكب، والعالم السفلي وما فيه من عجائب المخلوقات كالجبال والبحار والأشجار، وهذا الرد على فرعون واضح، لأنه لا يمكن أن يدعي ملكه لكل هذه الأشياء، وإنما كان له نوع ملك وهو محدود على مصر، فعندما سمع هذه الحجة التفت إلى من حوله من الملأ قائلاً أَلَا تَسْتَمِعُونَ على سبيل التهكم. ثم زاد موسى عليه السلام الحجج فقال: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين الذين كانوا قبل فرعون وزمانه، فكيف تصح منه دعوى الربوبية إذا؟ فما كان من فرعون إلا أن وصف موسى بالجنون فقال: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ إمعاناً في تضليل قومه، فأجاب موسى بقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ أي هو الذي جعل المشرق مشرقاً تطلع منه الشمس والكواكب، والمغرب تغرب فيه الشمس والكواكب بنظام دقيق لا يتغير على حسب تقديره، وتقرير الحجة: إن كان فرعون صادقاً في دعواه الربوبية فليعكس الأمر، فغلب وانقطع فعدل إلى استعمال قوته وسلطانه إلى آخر القصة. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد بن عبد اللطيف – 1/ 276
_________
(1) انظر: ((تفسير الطبري)) (22/ 80).
(2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 332).
المبحث الثاني: مسلك ذكر الآيات الدالة على الربوبية
وهي العلامات المخلوقة المحكمة الإتقان:
فدلالتها من جهة أنها مخلوقة محدثة، ومن جهة إحكامها وإتقانها، قال الله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20 - 21]. فلينظر الإنسان إلى آثار قدرة الله فيه والتدبير منذ أن كان نطفة في رحم أمه، ثم تنقله من طور إلى آخر إلى خروجه إلى الدنيا وله من الأعضاء والحواس مما يظهر آثار الإحكام الإلهي.
وهكذا إذا نظر الإنسان في أمر هذا العالم وما فيه من السير الدقيق المنظم البديع، فإنه يحصل له العلم بأن له خالقاً خلقه بعلم وحكمة.
قوله تعالى: اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [إبراهيم: 32 - 33].
قال الحافظ ابن رجب: (وأخبر سبحانه وتعالى أنه إنما خلق السموات والأرض ونزل الأمر لنعلم بذلك قدرته وعلمه، فيكون دليلاً على معرفته ومعرفة صفاته، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12]) (1) اهـ. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد بن عبد اللطيف – 1/ 278
ومن الأدلة الشرعية على توحيد الربوبية: ... قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1]
قوله تعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 1].
قوله تعالى: قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد: 16].
وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم: 40].
وقوله تعالى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ [لقمان: 11].
وقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ [الطور: 35 - 36].
وقوله تعالى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65].
طريقة القرآن في الاستدلال على توحيد الربوبية:
سلك القرآن عدداً من الأساليب ... منها:
أولاً: الاستدلال باستحالة صدور الوجود من عدم كما في قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ [الطور: 35 - 36].
وصورة هذا الدليل في الآية:
_________
(1) ((شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم)) (ص: 40).
إما أن يكونوا خلقوا أنفسهم وهذا باطل لأنه يلزم منه الدور وهو باطل حيث يترتب كل من الفرضين على الآخر فكونهم خلقوا أنفسهم يستلزم وجودهم قبل الخلق إذ لا يصدر الوجود من العدم ضرورة، إذ لا معنى للعدم إلا عدم الوجود ولا معنى للوجود إلا كون الشيء ليس بمعدوم.
وإما يكونوا لا خالق لهم أصلاً فيكون العدم هو الذي أوجدهم وهذا باطل إذ لا معنى للعدم إلا عدم الوجود فيلزم من قولهم بهذا الفرض الجمع بين النقيضين وهو كون الشيء موجوداً معدوماً والوجود والعدم نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ولا يمكن أن ينشأ واحد منهما من الآخر.
والفرض الثالث أن يكون لهم خالق هو الله سبحانه وتعالى.
ثانياً: الاستدلال بما في العالم من التغير المانع من قدمه إذ التغير علامة الحدوث والخلق فلابد إذا له من خالق ويدل عليه قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر: 11].
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ [النور: 43 - 44].
ثالثاً: إن الكون ممكن الوجود وما كان كذلك فهو مخلوق لا يمكن أن يكون واجب الوجود لأن إمكان العدم عليه والوجود ينفي وجوبه. ويدل عليه قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [إبراهيم: 19]
رابعا: أن الكون وجد على سبيل الإتقان مما يمنع كونه وجد من غير موجد ويدل عليه قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك: 3 - 4].
خامسا: إبطال الشرك في الربوبية كما في قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون: 19].
وصورة الدليل في الآية هو: (إن الإله الحق لا بد أن يكون خالقاً فاعلاً يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة بل إن قدر على قهر ذلك الشريك والتفرد بالملك والألوهية دونه فعل وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بملكه وإذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه فلابد من أحد ثلاثة أمور:
إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.
وإما أن يعلو بعضهم على بعض.
وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ولا يتصرفون فيه.
فالفرض الأول غير ممكن إذ لابد أن تبين أثار فعله في الكون. والفرض الثاني ممتنع ضرورة اختلال الكون نتيجة العلو وتضارب الإرادات، والثالث هو الحق وهو كون الرب هو الإله الواحد) (1). إتحاف المريد بمعرفة التوحيد لإبراهيم بن محمد البريكان– ص: 26
_________
(1) ((شرح الطحاوية)) (ص: 26، 27) ((الأسئلة والأجوبة الأصولية)) (ص: 206، 207).
تمهيد
الإيمان بالله تعالى يتضمن الإيمان بوحدانيته، واستحقاقه للعبادة؛ لأن وجوده – جل وعلا – لا شك فيه ولا ريب، وقد دل على وجوده سبحانه وتعالى: الفطرة، والعقل، والشرع، والحس الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة لعبدالله بن عبدالحميد الأثري - ص114
المبحث الأول: دلالة الفطرة
الفطرة في اللغة: فعلها ثلاثي وهو فطر، والحالة منه: الفطرة كالجلسة، وهي بمعنى الخلقة.
قال ابن فارس عن أصل هذه الكلمة ( ... أصل صحيح يدل على فتح شيء وإبرازه، ومنه الفطرة: وهي الخلقة) (1) اهـ.
وأتى بالفتح قبل الإبراز لأنه سبب من أسبابه.
وفي اللسان: والفطرة تعني: الابتداء والاختراع (2).
والأمر ظاهر في أنه لا خلاف بين هذه المعاني الثلاثة، الخلقة، والابتداء، والاختراع.
وقال الشيخ السعدي رحمه الله في تعريفها: (هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها وجعلهم مفطورين عليها وعلى محبة الخير وإيثاره وكراهية الشر ودفعه، وفطرهم حنفاء مستعدين لقبول الخير والإخلاص لله والتقرب إليه) (3).
ودليل الفطرة راسخ في نفوس البشر إلا ما غير منها، والدليل إذا كان راسخاً في النفس يكونه قوياً لا يحتاج الشخص معه إلى استدلال، ولهذا فهو أصل لكل الأدلة الأخرى الدالة على الإقرار بوجود الرب سبحانه، فهي مؤيدة له ومثبتة للإقرار. ولتقرير أصل هذا الدليل إليك بعض الأدلة الدالة على ذلك:
1) لجوء الإنسان وفزعه إلى خالقه سبحانه، سواء كان هذا الإنسان موحداً أو مشركاً عند الشدة والحاجة.
فإن بني آدم جميعاً يشعرون بحاجتهم وفقرهم، وهذا الشعور أمر ضروري فطري، إذ الفقر وصف ذاتي لهم، فإذا ألمت بالإنسان – حتى المشرك – مصيبة قد تؤدي به إلى الهلاك فزع إلى خالقه سبحانه والتجأ إليه وحده واستغنى به ولم يستغن عنه، وشعور هذا الإنسان بحاجته وفقره إلى ربه تابع لشعوره بوجوده وإقراره، فإنه لا يتصور أن يشعر الإنسان بحاجته وفقره إلى خالقه إلا إذا شعر بوجوده، وإذا كان شعوره بحاجته وفقره إلى ربه أمراً ضرورياً لا يمكنه دفعه، فشعوره بالإقرار به أولى أن يكون ضرورياً (4).
قال الله تعالى: وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [يونس: 12].
وقال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67].
وقال تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر: 8].
فرجوع الإنسان وإنابته إلى ربه عند الشدائد دليل على أنه يقر بفطرته بخالقه وربه سبحانه، وهكذا كل إنسان إذا رجع إلى نفسه أدنى رجوع عرف افتقاره إلى الباري سبحانه في تكوينه في رحم أمه وحفظه له، وعرف كذلك افتقاره إليه في بقائه وتقلبه في أحواله كلها، وتبقى هذه المعرفة في نفسه قوية لأن الحاجة استلزمتها، فتكون أوضح من الأدلة الكلية مثل افتقار كل حادث إلى محدث (5).
2) ورود التكليف بتوحيد العبادة أولاً:
_________
(1) ((معجم مقاييس اللغة)) (4/ 510) – مادة (فطر).
(2) ((لسان العرب)) (5/ 58)، مادة (فطر)، والأصل أنه لابن الأثير في ((النهاية في غريب الحديث)) (3/ 457).
(3) ((بهجة قلوب الأبرار)) (ص: 64).
(4) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 532 - 533).
(5) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 48 - 49). و ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 126). و ((دلائل التوحيد)) للقاسمي (ص: 191 - 192).
لقد تقدم ذكر الأدلة الدالة على أن أول ما يكلف به المكلف: عبادة الله جل وعلا ومما يؤكد تلك الحقيقة هو أن الله تعالى نص على محل النزاع بين الرسل وأقوامهم بقوله: وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا [الإسراء: 46]. أي أنهم يولون مدبرين عند طلب عبادة الله وحده دون غيره، ويوضحه كذلك قوله: ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر: 12].
ولذلك بعث الله رسله بالتوحيد وترك الشرك فقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25].
وعلى هذا يكون تقرير هذه الحجة بأمرين:
الأول: لو لم يكن الإقرار بالله تعالى وبربوبيته فطرياً لدعاهم إليه أولاً – إذ الأمر بتوحيده في عبادته فرع الإقرار به وبربوبيته فيكون بعده (1).
الثاني: لو لم يكن الإقرار بالله تعالى وبربوبيته فطرياً لساغ لمعارضي الرسل عند دعوتهم لهم بقول الله تعالى: فَاعْبُدُونِ أن يقولوا: نحن لم نعرفه أصلاً فكيف يأمرنا، فلما لم يحدث ذلك دل على أن المعرفة كانت مستقرة في فطرهم (2).
ويؤيده الدليل الثالث الذي سيأتي ذكره إن شاء الله. ولم يعرف من ينكر وجوده من أقوام الرسل إلا ما كان من فرعون، ومع هذا فإنكاره كان تظاهراً ولم يكن باطناً كما قال تعالى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ [الإسراء: 102] وقال: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14].
3) إلزام المشركين بتوحيد الربوبية ليقروا بتوحيد الألوهية (3):
..... ووجه الدلالة: إن المشركين لو لم يكونوا مقرين بربوبية الله تعالى لما قررهم به، ولهذا كانت تقول الرسل لقومها: أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى [إبراهيم: 10].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فدل ذلك على أنه ليس في الله شك عند الخلق المخاطبين، وهذا يبين أنهم مفطورون على الإقرار) (4) اهـ.
4) التصريح بأن الفطرة مقتضية للإقرار بالرب وتوحيده وحبه في الأدلة السمعية:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)) (5) والصوب أن الفطرة هنا هي فطرة الإسلام، وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة، وليس المراد أن الإنسان حين يخرج من بطن أمه يعلم هذا الدين موحداً لله فإن الله تعالى يقول: وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل: 78] وإنما المراد أن فطرته مقتضية وموجبة لدين الإسلام ولمعرفة الخالق والإقرار به ومحبته. ومقتضيات هذه الفطرة وموجباتها تحصل شيئاً بعد شيء وذلك بحسب كمال الفطرة وسلامتها من الموانع (6).
والأدلة القاضية بصحة هذا التفسير كثيرة منها:
أولاً: ورود روايات لهذا الحديث تفسر الفطرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((على هذه الملة)) (7).
_________
(1) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 130 - 8/ 491).
(2) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 440).
(3) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 479).
(4) ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 441).
(5) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 383).
(7) رواه مسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ثانياً: إن الصحابة فهموا من الحديث أن المراد بالفطرة: الإسلام، ولذلك سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عقب ذلك عن أطفال المشركين لوجود ما يغير تلك الفطرة السليمة وإلا لما سألوا عنهم وأيضاً فإن أبا هريرة – رضي الله عنه – تلا قوله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30] عقب هذا الحديث. مما يدل أنه فهم أن المراد من الفطرة: الإسلام.
ثالثاً: إن هذا الحديث يؤيده ظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30] فقد عم الله كل الناس بهذه الفطرة في قوله النَّاسَ وأضافها إليه إضافة مدح لا إضافة ذم لأنها منصوبة على المصدرية التي دل عليها الفعل أَقِمْ فيكون المعنى: إن إقامة الوجه للدين حنيفاً هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها (1). وتفسير الآية بهذا المعنى منقول عن عامة السلف (2).
رابعا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه ((خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين ... )) (3) والحنيفية: الإسلام.
خامساً: لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم لموجب الفطرة ومقتضاها شرطاً، بل ذكر ما يمنع موجبها حيث قال: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)) (4) ومع ذلك لم يذكر عند تغيرها بمؤثر خارجي: أو يسلمانه، مما يدل على أن المراد بالفطرة معرفة الله والإقرار به، بمعنى أن ذلك هو مقتضى فطرتهم، وأن حصولها لا يتوقف على وجود شرط وإنما على انتفاء الموانع (5).
5) برهان عقلي:
وهو أنه إذا فرض جدلاً أن معرفة الله تعالى نظرية وطلب إقامة الأدلة على الإقرار به وبربوبيته، فإنه لابد من وجود علوم ضرورية فطرية أولية تنتهي إليها العلوم النظرية، ولا يمكن إثباتها بعلوم نظرية كذلك لما يلزم من الدور القبلي والتسلسل في المؤثرات. وهذه العلوم الضرورية شرط وجودها صحة الفطرة وسلامتها، فبالفطرة السليمة مع حسن النظر يحصل المطلوب من العلم (6).
ويوضح هذا أن الذي يستدل لإثبات الرب سبحانه لابد أن ينقدح في نفسه أن الدليل الذي يستدل به هو بعينه يؤدي إلى مطلوبه الذي شعر به أولاً، فهاهنا أمران: الشعور بمطلوبه، والدليل المؤدي إليه (7)، وبهذا يتضح أنه لولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق لما قام نظر ولا استدلال (8)، والحقيقة المطلوبة هنا: معرفة وجود الله. ويوضحه كذلك: أن مجرد التعليم والتحضيض لا يحصل به العلم والإرادة لولا وجود قوة في النفس قابلة لذلك التعليم وتلك الإرادة، فإن البهائم والجمادات لو علمت وحضضت بوسائل تعليمية كالتي لبني آدم لما حصل لها ما يحصل لبني آدم مع أن الوسائل متفقة، مما يدل على أن القوابل مختلفة، والقابل هو مقتضى الفطرة.
اعتراضات على دليل الفطرة:
الاعتراض الأول: لو كانت المعرفة فطرية فكيف أُثر عن بعض الخلق إنكار وجود الله تعالى؟
والجواب:
أولاً: إن الإقرار بالخالق يكون فطرياً في حق من سلمت فطرته، كما هو نص الحديث السابق.
ثانياً: إن من أثر عنه إنكار الخالق في البشر قليلون جداً مقارنة مع من يثبت وجوده، وهم على قسمين:
_________
(1) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 372).
(2) انظر: ((تفسير الطبري)) (20/ 97).
(3) رواه مسلم (2865) بلفظ: ((وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)). من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
(4) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 454).
(6) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 309).
(7) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 48).
(8) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 62).
قسم ينكره ظاهراً فقط كما تقدم في شأن فرعون.
قسم آخر هو في الحقيقة معترف في قرارة نفسه بوجود مدبر وصانع، ويحيل ذلك إلى الطبيعة أو غيرها!. مما يدل على وجود علوم أولية فطرية، وإنما حصل ما حصل بسبب المؤثر الخارجي.
الاعتراض الثاني (1):
لو كانت معرفته فطرية ضرورية فكيف ينكر ذلك كثير من النظار ويدعون أنهم يقيمون الأدلة على وجوده؟
والجواب:
أولاً: إن من أنكر هذه المعرفة الفطرية الضرورية هم أهل الكلام المذموم الذين ذمهم السلف، ولم يؤثر هذا الإنكار عن علماء المسلمين، بل إنهم نصوا على خلاف هذا كما صح عن الإمام الزهري (2)، فهؤلاء المتكلمون تأثروا بمؤثر خارجي.
ثانياً: إن الإنسان قد يقوم بنفسه من العلوم والإرادات وغيرها من الصفات ما لا يعلم أنه قائم بنفسه. فهاهنا أمور وهي: علم الإنسان بعلم ما، وعلمه بأنه يعلم هذا العلم، وطلبه الدليل على هذا العلم، وكل إنسان يشعر من نفسه الفرق بين هذه الأمور، فالعلم بشيء قد يكون قائماً بإنسان وإن كان غائباً عنه علمه بأنه يعلم ذلك الشيء، ولكن إذا ذكر له تذكر، وأحس من نفسه بالمعرفة. وقد تقدم أنه لولا وجود علوم ضرورية فطرية لما صح نظر ولا استدلال ولا تم وقام.
الاعتراض الثالث (3):
قالوا: إن المعرفة لا تحصل مبتدأة في النفس، بل لابد لها من طريق.
الجواب:
أولاً: إن هذا من موارد النزاع وهو هل المعرفة نظرية أو فطرية، وعليه فلا يصلح إيرادها قضية مسلماً بها، وقد دللنا سابقاً على صحة القول بأنها فطرية.
ثانياً: أن يقابل هذا القول بالمعارضة فيقال: إنها قد تحصل في النفس مبتدأة ولا يمكنهم حينئذ أن يقيموا دليلاً على نفي ذلك، وإن أقاموه فباستقراء يكون إما فاسداً وإما ناقصاً.
ثالثاً: إن أهل الكلام أثبتوا علوماً ضرورية، منها علم الإنسان بوجود نفسه، فإذا كان هذا ضروريًّا، فالعلم بربوبية الخالق أولى أن يكون ضروريًّا في حق من سلمت فطرته، وإن زعم المتكلم أن ذلك يحتاج إلى طريق. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 232
_________
(1) انظر: ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (16/ 340).
(2) انظر: ((فتح الباري)) (3/ 248)، والحديث رواه البخاري (1358) وقال: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب قال ابن شهاب: (يصلى على كل مولود متوفى وإن كان لغيّة من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام يدعي أبواه الإسلام أو أبوه خاصة وإن كانت أمه على غير الإسلام إذا استهل صارخاً يصلي عليه ولا يصلى على من لا يستهل من أجل أنه سقط ... ).
(3) انظر: هذا الاعتراض والجواب عنه في ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 37).
هذا وإن من فضل الله ورحمته أن فطر كل إنسان على توحيده وابتغاء وجهه بحيث يكون ذلك أصلاً يولد عليه كل مولود وهذا هو معنى حديث الفطرة وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) (1) فالفطرة هي الإسلام الذي أصله توحيد الله بالإرادة والمحبة، وأما الأديان المحرفة فهي مخالفة للفطرة، وانحراف عن الأصل الذي هو الإسلام ولهذا فإن القلب لا يمكن أن يطمئن ويستقر إلا إلى ما فطره الله عليه من إرادته ومحبته وحده وكل إرادة ومحبة لغير الله فهي عذاب وصرف للفطرة عن أصلها، مهما يكن المراد المحبوب وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)) (2) مع أنه دعاء بالتعاسة والانتكاس لمن كان عبداً للدينار فإنه أيضاً تقرير لواقع حاصل، وهو أن كل من كان معبوده المال فلابد أن يكون حاله من تعاسة إلى تعاسة، ومن انتكاس إلى انتكاس، لمخالفته لحقيقة فطرته بحب الله وإرادة وجهه وحده ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني - ص163
قال ابن كثير رحمه الله تعالى، في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ الأعراف: 172
وذهب طائفة من السلف والخلف أن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد, كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة - وفي رواية - على هذه الملة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء)) (3) أخرجاه وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم)) (4) وعن الأسود بن سريع من بني سعد قال ((غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات قال فتناول القوم الذرية بعدما قتلوا المقاتلة فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فاشتد عليه ثم قال: ما بال قوم يتناولون الذرية فقال رجل يا رسول الله أليسوا أبناء المشركين؟ فقال: إن خياركم أبناء المشركين ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها فأبواها يهودانها وينصرانها)) (5)
_________
(1) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري (2887). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري (1385)، ورواية ((على هذه الملة)) رواها مسلم (2658).
(4) رواه مسلم (2865).
(5) رواه أحمد (4/ 24) (16346) واللفظ له، والدارمي (2/ 294)، والحاكم (2/ 134). وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (8/ 289): مشهور ثابت. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 316): رواه أحمد بأسانيد والطبراني في الكبير والأوسط .. وبعض أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (402): وهو كما قالا - أي: الحاكم والذهبي -.
قال الحسن: ولقد قال الله تعالى في كتابه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِيَّتَهُمْ [الأعراف:172] قالوا ولهذا قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ولم يقل من آدم مِنْ ظُهُورِهِمْ ولم يقل من ظهره ذُرِيَّتَهُمْ أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن كقوله تعالى: وَهُوَ الذِّي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فيِ الأَرْض [الأنعام:165] وقال: وَيَجْعَلَكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْض [النمل:62] وقال تعالى: كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَةِ قَوْمٍ آخَرِين [الأنعام:133] ثم قال تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالا, قال الشهادة تكون بالقول كقوله تعالى: قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا [الأنعام:130] الآية وتارة تكون حالا كقوله تعالى: مَا كَانَ للمُشْرِكِينَ أَنْ يُعَمِّرُوا مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالكُفْر [التوبة: 17] أي حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك, وكذا قوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيد [العاديات: 7] كما أن السؤال تارة يكون بالمقال, وتارة يكون بالحال كقوله تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوه [إبراهيم: 34] معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص93
وقال ابن تيمية رحمه الله في معرض كلامه على إقرار الناس بفطرهم على وجود الخالق سبحانه وتعالى: ولهذا كان أكثر الناس على أن الإقرار بالصانع ضروري فطري وذلك أن اضطرار النفوس إلى ذلك أعظم من اضطرارها إلى ما لا تتعلق به حاجتها ألا ترى أن الناس يعرفون من أحوال من تتعلق به منافعهم ومضارهم كولاة أمورهم ومماليكهم وأصدقائهم وأعدائهم مالا يعلمونه من أحوال من لا يرجونه ولا يخافونه ولا شيء أحوج إلى شيء من المخلوق إلى خالقه فهم يحتاجون إليه من جهة ربوبيته إذ كان هو الذي خلقهم وهو الذي يأتيهم بالمنافع ويدفع عنهم المضار: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل: 53]
وكل ما يحصل من أحد فإنما هو بخلقه وتقديره وتسبيبه وتيسيره وهذه الحاجة التي توجب رجوعهم إليه حال اضطرارهم كما يخاطبهم بذلك في كتابه وهم محتاجون إليه من جهة ألوهيته فإنه لا صلاح لهم إلا بأن يكون هو معبودهم الذي يحبونه ويعظمونه ولا يجعلون له أندادا يحبونهم كحب الله بل يكون ما يحبونه سواه كأنبيائه وصالحي عباده إنما يحبونهم لأجله كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)) (1) ومعلوم أن السؤال والحب والذل والخوف والرجاء والتعظيم والاعتراف بالحاجة والافتقار ونحو ذلك مشروط بالشعور بالمسئول المحبوب المرجو المخوف المعبود المعظم الذي تعترف النفوس بالحاجة إليه والافتقار الذي تواضع كل شيء لعظمته واستسلم كل شيء لقدرته وذل كل شيء لعزته فإذا كانت هذه الأمور مما تحتاج النفوس إليها ولا بد لها منها بل هي ضرورية فيها كان شرطها ولازمها وهو الاعتراف بالصانع به أولى أن يكون في النفوس وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((كل مولود يولد على الفطرة)) (2) ويروي عن ربه: ((خلقت عبادي حنفاء)) (3) ونحو ذلك لا يتضمن مجرد الإقرار بالصانع فقط بل إقرارا يتبعه عبودية لله بالحب والتعظيم وإخلاص الدين له وهذا هو الحنيفية وأصل الإيمان قول القلب وعمله أي علمه بالخالق وعبوديته للخالق والقلب مفطور على هذا وهذا وإذا كان بعض الناس قد خرج عن الفطرة بما عرض له من المرض إما بجهله وإما بظلمه فجحد بآيات الله واستيقنتها نفسه ظلما وعلوا لم يمتنع أن يكون الخلق ولدوا على الفطرة درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 2/ 24
_________
(1) رواه البخاري (16)، ومسلم (43). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) رواه مسلم (2865). من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه.
المبحث الثاني: دلالة الحس
وأما دلالة الحس على وجود الله، فإن الإنسان يدعو الله عز وجل، يقول: يا رب! ويدعو بالشيء، ثم يستجاب له فيه، وهذه دلالة حسية، هو نفسه لم يدع إلا الله، واستجاب الله له، رأى ذلك رأي العين وكذلك نحن نسمع عمن سبق وعمن في عصرنا، أن الله استجاب لهم فالأعرابي الذي دخل والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة قال: هلكت الأموال، وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا قال أنس: والله، ما في السماء من سحاب ولا قزعة (أي: قطعة سحاب) وما بيننا وبين سلع (جبل في المدينة تأتي من جهته السحب) من بيت ولا دار وبعد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم فوراً خرجت سحابة مثل الترس، وارتفعت في السماء وانتشرت ورعدت، وبرقت، ونزل المطر، فما نزل الرسول صلى الله عليه وسلم إلا والمطر يتحادر من لحيته عليه الصلاة والسلام (1) وهذا أمر واقع يدل على وجود الخالق دلالة حسية وفي القرآن كثير من هذا، مثل: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَه [الأنبياء:83 - 84] وغير ذلك من الآيات شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 56
_________
(1) رواه البخاري (933)، ومسلم (897).
المبحث الثالث: دلالة الآيات الكونية
- دليل الخلق والحدوث
كل حادث لا بد له من محدث ولا محدث للحوادث إلا الله عز وجل، والحقيقة أن دلالة الحوادث على المحدث دلالة حسية عقلية:
أما كونها حسية: فلأنها مشاهدة بالحس.
وأما كونها عقلية: فلأن العقل يدل على أن كل حادثٍ لا بد له من محدث.
ولهذا سئل أعرابي: بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبَعْرَة تدل على البعير، فسماء ذات أبراجٍ وأرض ٌ ذات فجاج وبحارٌ ذات أمواج ألا تدل على السميع البصير؟ الجواب: بلى، هذا أعرابي استدل على أن هذه الحوادث العظيمة تدل على خالقٍ عظيم عز وجل، هو السميع البصير، فالحوادث دليل على وجود المحدث، ثم كل حادثٍ منها يدل على صفةٍ مناسبةٍ غير الوجود، فنزول المطر يدل لا شك على وجود الخالق ويدل على رحمته وهذه دلالةٌ غير الدلالة على الوجود، وجود الجدب والخوف والحروب تدل على وجود الخالق وتدل على غضب الله عز وجل وانتقامه، فكل حادثٍ فله دلالتان:
دلالةٌ كلية عامة: تشترك فيها جميع الحوادث وهي وجود الخالق وجود المحدث.
ودلالةٌ خاصة: في كل حادثٍ بما يختص به كدلالة الغيث على الرحمة ودلالة الجدب على الغضب وهكذا.
وهناك دلالة أخرى: النوازل التي تنزل لسبب دالة على وجود الخالق، مثل: دعاء الله عز وجل ثم استجابته للدعاء دليل على وجوده، وهذه وإن كانت من باب دلالة الحادث على المحدث لكنها أخص، لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم الله أن يغيث الخلق قال: ((اللهم أغثنا اللهم أغثنا)) ثم نشأ السحاب وأمطر قبل أن ينزل من المنبر، هذا حديث أنس (1) يدل على وجود الخالق وهذا أخص من دلالة العموم شرح العقيدة السفارينية لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص45
ومن أمثلة الآيات القرآنية التي تتحدث عن الدلائل الكونية المتعلقة بالخلق والتكوين قوله –تعالى -: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت: 37] وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 20] وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم: 22 - 25]، فهذه الآيات كونية وإن شئت، فقل: كونية قدرية، وكانت آية لله، لأنه لا يستطيع الخلق أن يفعلوها، فمثلاً: لا يستطيع أحد أن يخلق مثل الشمس والقمر، ولا يستطيع أن يأتي بالليل إذا جاء النهار، ولا بالنهار إذا جاء الليل، فهذه الآيات كونية شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 124
_________
(1) رواه البخاري (933)، ومسلم (897).
المبحث الرابع: دلالة الشرع
هذه الطريقة قد تبدو غريبة خاصة على علماء الكلام، ولكن سيتم بيان وجه دلالتها على وجود الله تعالى بما يزيل غرابتها إن شاء الله. وقد سلك بعض العلماء هذه الطريقة كالقاضي أبي يعلى في كتابه: (عيون المسائل) وأبي بكر البيهقي في كتابه (الاعتقاد) والخطابي في رسالة: (الغنية عن الكلام) وأشار شيخ الإسلام إلى صحتها وشرعيتها إذا حررت (1). وقال ابن القيم: (وهذه الطريق من أقوى الطرق وأصحها وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله. وارتباط أدلة هذه الطريق بمدلولاتها أقوى من ارتباط الأدلة العقلية الصريحة بمدلولاتها، فإنها جمعت بين دلالة الحس والعقل، ودلالتها ضرورية بنفسها، ولهذا يسميها الله آيات بينات) (2).
وبيان هذه الطريق من وجهين:
الوجه الأول: الآيات والبراهين – وهي المعجزات.
الوجه الثاني: العلوم والأحكام المتضمنة لمصالح الخلق التي جاءوا بها.
الوجه الأول: الآيات والبراهين – وهي المعجزات:
بين الله تعالى في كتابه العزيز أنه أرسل رسله بالوحي وأيدهم بالآيات تصديقاً لهم فقال: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ [الحديد: 25] وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [النحل: 43 - 44] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ((ما من الأنبياء من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)) (3) وسماها الله تعالى برهاناً كذلك، فقال عن آيتي العصا واليد اللتين أرسل بهما موسى عليه السلام: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [القصص: 32].
فسماها الله تعالى آية وبرهاناً وبينة، وذلك لقوة دلالتها على المطلوب، وأنه بمجرد حدوثها يحصل العلم الضروري، فهي من جنس الآيات من دلالتها على المراد، بل هي أقوى لغرابتها وعظمتها.
ومن المعلوم أن الرسول إذا جاء قومه وادعى أنه رسول الله يوحى إليه بأنه لا إله إلا الله، أيده الله وصدقه بآية، فههنا أمور:
الأول: دعواه أنه رسول.
الثاني: أن الله هو الذي أرسله سواء كان المخاطب يقر بوجوده أو لا يقر.
الثالث: أنه مرسل لدعوة الناس إلى إفراد الله بالألوهية.
فإذا جاء الرسول بآية وهي العلامة التي تدل على صدقه ثبتت الرسالة وكذلك الربوبية ضمناً، وذلك لأنها حدث من جنس لا يقدر على مثله البشر وحصلت عند دعوى الرسول الرسالة، كيف وإذا انضم إلى ذلك ما عرف من أحوال الأنبياء وصدقهم وما حصل لهم ولأتباعهم من التأييد والنصر، ولأعدائهم من الهلاك والخسران ... ولذلك فليس بلازم أن تتقدم معرفة العبد بوجود الله تعالى على حصول الآية والمعجزة ومن ثم تقرر النبوة، لأنها ... من جنس الآيات المخلوقة المحدثة التي لابد لها من محدث أحدثها (4).
_________
(1) انظر: ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (11/ 379).
(2) ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (3/ 1197).
(3) رواه البخاري (4981)، ومسلم (152). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (9/ 41).
ويمكن الاستدلال لها بما حدث بين موسى عليه السلام وفرعون، كما قص الله تعالى ذلك في القرآن فقال آمراً موسى وهارون عليهما السلام: فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ [الشعراء: 16 - 33].
ومعلوم أن فرعون قد ادعى أنه ربهم الأعلى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24].
فهو وإن كان يتظاهر بذلك إلا أنه في باطنه يقر بربوبية الله على خلقه. كما قال الله عنه ومن حوله من الملأ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14]. والآيات ساقها الله تعالى للرد عليه في هذه الدعوى التي تظاهر بها، ولذلك لما حاجه موسى عليه السلام بالآيات الظاهرة قال له: قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء: 29] فأصر على موقفه وعناده – فدعاه موسى عليه السلام لبرهانين عظيمين وهما قلب العصا ثعباناً وإخراج اليد بيضاء بعد ضمها فلو كان ذلك لا يدل على مطلوب موسى عليه السلام وإبطال دعوى فرعون لما دعاه إليه موسى عليه السلام، بل إنه سماه مبيناً فقال: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ [الشعراء: 30].
فتقرر من هذا النص أنه يمكن إثبات ربوبية الله ووجوده بالآيات المعجزات وإن لم يكن المخاطب مقراً بذلك ومن ثم يقوم لله بالعبادة.
وأما إن كان المخاطب مقراً بوجود الله بفطرته التي لم تتغير فإنه بالآية والمعجزة تتقرر عنده النبوة والوحدانية في الإلهية كما قال الله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ [هود: 13 - 14]، فهذا نص واضح على أنه بالآية – وهي هنا معجزة القرآن – تثبت وتتقرر الرسالة والوحدانية ضرورة (1) ومعلوم أن توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، فإذا ثبت الأول ثبت الثاني تضمناً، ضرورة ثبوت المتضمن بثبوت المتضمن. فثبت أنه يمكن إثبات الربوبية بآيات الأنبياء.
الوجه الثاني: العلوم والأحكام المتضمنة لمصالح الخلق التي جاءوا بها:
أولاً: العلوم:
_________
(1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 379).
فالرسل جميعاً اتفقوا على الإخبار بأشياء معينة – يقطع المرء بأنهم لم يتواطؤا عليها ومن ذلك: دعوتهم جميعاً إلى عبادة إله واحد، وكذلك بشارة موسى وعيسى برسالة رسولنا محمد عليهم الصلاة والسلام من غير تواطؤ منهم على بعد في الأزمنة والأمكنة، فكان ذلك على الوجه الذي بشرا به.
والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأخبار الأمم الماضين مع القطع بأنه كان يعيش في أمة أمية، وكذلك قد أخبر بأمور تحصل في المستقبل، وقد حصلت، منها ما هو في القرآن، ومنها ما هو في السنة، فمما ورد في القرآن قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 1 - 4] فكان كما أخبر، ومما ورد في السنة: ((إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده)) (1) وقوله: ((خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله ملكه من يشاء)) (2) وكانت خلافة أبي بكر رضي الله عنه سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر رضي الله عنه: عشر سنين ونصفاً، وخلافة عثمان رضي الله عنه اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي رضي الله عنه أربع سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن رضي الله عنه ستة أشهر، ثم نشأ الملك وكان معاوية رضي الله عنه أول ملوك المسلمين وهو أفضلهم (3)، فكان الأمر كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
والأخبار في هذا كثيرة جداً يحصل بمجموعها القطع والعلم الضروري، فيدل ذلك على صدقه في الرسالة وعلى وجود الخالق سبحانه، لأنه هو الذي أطلعه على ذلك إذ أنه لا يعقل أبداً أن يتحدث الإنسان ويخبر بأشياء ويصدق فيها دائماً دون تردد، ودون أن يجرب عليه كذب، إلا إذا كان موحى إليه، وأن الذي أوحى إليه هو الذي بيده الأمور وتتطابق أخباره مع قدره، وهذا ظاهر.
ثانياً: الأحكام المتضمنة لمصالح الخلق:
فقد تضمنت شريعة النبي صلى الله عليه وسلم أموراً عظيمة، يقطع الإنسان أنها لا يمكن أن تكون إلا من خالق عليم حكيم، فالشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، وهذا واضح جداً في الضروريات الخمس: الدين، والعقل والنفس، والمال، والعرض. ويراجع في هذا الكتب التي بُحث فيها عن حكمة التشريع ومقاصد الشريعة الإسلامية. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 291
_________
(1) رواه البخاري (3618)، ومسلم (2918). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه أبو داود (4646)، والحاكم (3/ 156)، والطبراني (7/ 84) (6459). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح.
(3) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 545).
المبحث الخامس: دلالة العقل
فأما دلالة العقل، فنقول: هل وجود هذه الكائنات بنفسها، أو وجدت هكذا صدفة؟ فإن قلت: وجدت بنفسها، فمستحيل عقلاً ما دامت هي معدومة؟ كيف تكون موجودة وهي معدومة؟! المعدوم ليس بشيء حتى يوجد، إذاً لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها وإن قلت: وجدت صدفة، فنقول: هذا يستحيل أيضاً، فأنت أيها الجاحد، هل ما أنتج من الطائرات والصواريخ والسيارات والآلات بأنواعها، هل وجد هذا صدفة؟! فيقول: لا يمكن أن يكون فكذلك هذه الأطيار والجبال والشمس والقمر والنجوم والشجر والجمر والرمال والبحار وغير ذلك لا يمكن أن توجد صدفة أبداً ويقال: إن طائفة من السمنية جاءوا إلى أبي حنيفة رحمه الله، وهم من أهل الهند، فناظروه في إثبات الخالق عز وجل، وكان أبو حنيفة من أذكى العلماء فوعدهم أن يأتوا بعد يوم أو يومين، فجاءوا، قالوا: ماذا قلت؟ قال أنا أفكر في سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرست في الميناء ونزلت الحمولة وذهبت، وليس فيها قائد ولا حمالون قالوا: تفكر بهذا؟! قال: نعم قالوا: إذاً ليس لك عقل! هل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟! هذا ليس معقول! قال: كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟ فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم، وعجزوا عن جوابه هذا أو معناه وقيل لأعرابي من البادية: بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟ ولهذا قال الله عز وجل: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35] فحينئذ يكون العقل دالاً دلالة قطعية على وجود الله شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين 1/ 56
نعم إن العقل دال على وجود الله تعالى, وانفراده بالربوبية, وكمال قدرته على الخلق وسيطرته عليهم، وذلك عن طريق النظر والتفكر في آيات الله الدالة عليه. وللنظر في آيات الله والاستدلال بها على ربوبيته طرق كثيرة بحسب تنوع الآيات وأشهرها طريقان:
الطريق الأول: النظر في آيات الله في خلق النفس البشرية وهو ما يعرف بـ (دلالة الأنفس)، فالنفس آية من آيات الله العظيمة الدالة على تفرد الله وحده بالربوبية لا شريك له، كما قال تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21]، وقال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس: 7]، ولهذا لو أن الإنسان أمعن النظر في نفسه وما فيها من عجائب صنع الله لأرشده ذلك إلى أن له رباً خالقاً حكيماً خبيراً؛ إذ لا يستطيع الإنسان أن يخلق النطفة التي كان منها؟ أو أن يحولها إلى علقة، أو يحول العلقة إلى مضغة، أو يحول المضغة عظاماً، أو يكسو العظام لحماً؟
الطريق الثاني: النظر في آيات الله في خلق الكون وهو ما يعرف بـ (دلالة الآفاق)، وهذه كذلك آية من آيات الله العظيمة الدالة على ربوبيته، قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53].
ومن تأمل الآفاق وما في هذا الكون من سماء وأرض، وما اشتملت عليه السماء من نجوم, وكواكب, وشمس, وقمر، وما اشتملت عليه الأرض من جبال, وأشجار, وبحار, وأنهار، وما يكتنف ذلك من ليل ونهار وتسيير هذا الكون كله بهذا النظام الدقيق؛ دله ذلك على أن هناك خالقاً لهذا الكون، موجدًا له مدبِّرًا لشؤونه، وكلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات, وتغلغل فكره في بدائع الكائنات علم أنها خُلقت للحق وبالحق، وأنها صحائف آيات، وكتب براهين ودلالات على جميع ما أخبر به الله عن نفسه, وأدلة على وحدانيته. أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء ص12
المبحث الأول: مضادة توحيد الربوبية
يضاد توحيد الربوبية الإلحاد، وإنكار وجوب الرب عز وجل.
ويضاده –أيضاً- اعتقاد متصرف مع الله عز وجل في أي شيء؛ من تدبير الكون، من إيجاد، أو إعدام، أو إحياء، أو إماتة، أو جلب خير، أو دفع شر، أو غير ذلك من معاني الربوبية، أو اعتقاد منازع له في شيء من مقتضيات أسمائه وصفاته، كعلم الغيب، أو كالعظمة، والكبرياء، ونحو ذلك (1).
وكما يضاده –أيضاً- اعتقاد مشرع مع الله عز وجل لأنه هو الرب وحده، وربوبيته شاملة لأمره الكوني والشرعي. رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد– ص: 127
_________
(1) انظر: ((أعلام السنة المنشورة)) (ص: 56).
المبحث الثاني: إنكار الربوبية
لم ينكر توحيد الربوبية أحد من البشر إلا طائفة من الشذاذ, المكابرين, المعاندين, المنكرين لما هو متقرر في فطرهم؛ فإنكارهم إنما كان بألسنتهم مع اعترافهم بذلك في قرارة أنفسهم.
ومن أشهر من عرف بذلك فرعون؛ الذي قال لقومه –كما أخبر الله عنه-: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات: 24] وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38].
وكلامه هذا مجرد دعوى لم يقم عليها بينة، ولا دليل، بل كان هو نفسه غير مؤمن بما يقول.
قال –تعالى- على لسان موسى عليه السلام: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء: 102].
وأخبر –عز وجل- وهو العليم بذات الصدور – أن كلام فرعون ودعواه لم يكن عن عقيدة ويقين، وإنما هو مكابرة وعناد، قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14].
وممن أنكر ذلك –أيضاً- الشيوعيون، فلقد أنكروا ربوبية الله، بل أنكروا وجوده –سبحانه وتعالى- بناءاً على عقيدتهم الخبيثة الفاجرة التي تقوم على الكفر بالغيب، والإيمان بالمادة وحدها.
وهم في الحقيقة لم يزيدوا على أن سموا الله بغير اسمه، بحيث ألهوا الطبيعة، ونعتوها بنعوت الكمال التي لا تليق بأحد إلا الله – عز وجل – فقالوا: الطبيعة حكيمة، الطبيعة تخلق، إلى غير ذلك.
وكلامهم هذا باطل متهافت، بل إن أصحاب هذا المبدأ انشقوا على أنفسهم، ولعن بعضهم بعضاً، وكفر بعضهم ببعض (1). رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد– ص: 127
_________
(1) انظر: ((الشيوعية)) لمحمد بن إبراهيم الحمد.
الفصل السادس: حدود العذر بالجهل بتوحيد الربوبية
هذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل عليهم السلام فيما حكى الله عنهم: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم: 10] .... ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قال: إن العالم له صانعان متماثلان في الصفات والأفعال، فإن الثنوية من المجوس والمانوية القائلين بالأصلين: النور والظلمة، وأن العالم صدر عنهما متفقون على أن النور أفضل من الظلمة، وهو الإله المحمود، وأن الظلمة شريرة مذمومة، وهم متنازعون في الظلمة: هل هي قديمة أو محدثة؟، فلم يثبتوا ربَّيْن متماثلين.
وأما النصارى القائلون بالتثليث، فإنهم لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل هم متفقون على أن صانع العالم واحد، ويقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد ...
والمشركون من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد، كما أخبر تعالى عنهم بقوله: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25]، وقوله قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون: 84 - 85] (1).
فلا شك أن الإيمان بالله وحده لا شريك له، وأنه وحده المستحق للربوبية أمر فطر عليه الناس وهم في عالم الذر، كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 172 - 174].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ( ... دل على أن الفطرة التي فطروا عليها من التوحيد) (2).
ومما يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) (3). قال ابن أبي العز – رحمه الله -: (لا يقال: إن معناه يولد ساذجاً لا يعرف توحيداً ولا شركاً، كما قال بعضهم) (4).
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((خلقت عبادي حنفاء فاجتالهم الشياطين ... )) (5).
وبناء على ما سبق من الأدلة الشرعية والأدلة الواقعية على أن الناس فطروا على توحيد الرب عز وجل، أمكن القول أن الحجة على وحدانية الرب تبارك وتعالى وتفرده بالخلق قد قامت عليهم، وهي حجة مستقلة على من أنكر ربوبية الله تعالى أو أشرك معه فيها غيره معه أو دونه، أو ادعى الجهل بها.
_________
(1) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (1/ 25 - 29) بتصرف يسير.
(2) ((تفسير القرآن العظيم)) (2/ 275).
(3) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (1/ 33).
(5) رواه مسلم (2865) بلفظ: ((وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)). من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
ولكن من رحمة الله بخلقه لما وقع الناس في شيء من الشرك بالله في ربوبيته وغيروا فطرهم، أرسل لهم الرسل تذكرهم بما في فطرهم، وتأمرهم بما هو مقتضى هذه الفطرة. قال ابن أبي العز – رحمه الله -: (فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجوداً في الناس، بين القرآن بطلانه، كما في قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون: 91] (1).
وفي هذا المعنى قوله تعالى: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17]، وقوله تعالى: قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً [الإسراء: 42].
فقضية توحيد الربوبية التي جعل الله عز وجل الإقرار بها مركوزاً في الفطر، وبعد ما أرسلت الرسل بزيادة بيانها والدعوة إلى عبادة الله وحده التي هي مقتضى الإقرار بتوحيد الربوبية، فهذه القضية أصبحت من بديهيات العقائد المعلومة لجميع الناس، لا عذر لأحد في إنكارها بدعوى الجهل أو الشبهة أو غيرها من الدعاوى؛ لأن إنكار ذلك يناقض الفطرة التي فطر الله الناس عليها ونصب الأدلة الباهرة عليها.
ولهذا فإذا أردنا تحديد مناط قيام الحجة على الناس في قضية توحيد الربوبية، فإننا نأخذ بعين الاعتبار بديهية المسألة وأنها فطرية، ولذلك جاءت الأدلة الشرعية للتذكير بهذه العقيدة الفطرية، وكذلك أدلة الخلق المنصوبة الدالة على وحدانية الخالق المدبر سبحانه وتعالى.
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله معلقا على آية الإشهاد في سورة الأعراف: (ولما كانت هذه آية الأعراف في سورة مكية، ذكر فيها الميثاق والإشهاد العام لجميع المكلفين ممن أقر بربوبيته ووحدانيته وبطلان الشرك. وهو ميثاق وإشهاد تقوم عليهم الحجة وينقطع به العذر، وتحل به العقوبة ويستحق بمخالفته الإهلاك، فلابد أن يكونوا ذاكرين له عارفين به، وذلك ما فطرهم عليه من الإقرار بربوبيته وأنه ربهم وفاطرهم، وأنهم مخلوقون مربوبون. ثم أرسل إليهم رسله يذكرونهم بما في فطرهم وعقولهم، ويعرفونهم حقه عليهم وأمره ونهيه ووعده ووعيده) (2).
وقال الشيخ الحكمي – رحمه الله – مبيناً أنواع المواثيق التي أخذها الله عز وجل على بني آدم حتى يتحدد مناط قيام الحجة على الإنسان، قال: ( ... هذه المواثيق كلها ثابتة بالكتاب والسنة:
الأول: الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم حين أخرجهم من ظهر أبيهم آدم عليه السلام وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى الآيات ... وهو الذي قاله جمهور المفسرين رحمهم الله في هذه الآيات، وهو نص الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما.
الميثاق الثاني: ميثاق الفطرة، وهو أنه تبارك وتعالى فطرهم شاهدين بما أخذه عليهم في الميثاق الأول، كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30] ...
الميثاق الثالث: هو ما جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب تجديداً للميثاق الأول وتذكيراً به رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165].
_________
(1) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (1/ 38 - 39).
(2) ((الروح)) (2/ 555).
فمن أدرك هذا الميثاق وهو باق على فطرته وهي شاهدة بما ثبت في الميثاق الأول، فإنه يقبل ذلك من أول مرة ولا يتوقف؛ لأنه جاء موافقاً لما في فطرته وما جبله الله عليه، فيزداد بذلك يقينه ويقوى إيمانه، فلا يتلعثم ولا يتردد. ومن أدركه وقد تغيرت فطرته عما جبله الله من الإقرار بما ثبت في الميثاق الأول بأن كان قد اجتالته الشياطين عن دينه وهوده أبواه أو نصراه أو مجساه، فهذا إن تداركه الله تعالى برحمته فرجع إلى فطرته وصدق بما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب، نفعه الميثاق الأول والثاني. وإن كذب بهذا الميثاق، كان مكذبا بالأول، فلم ينفعه إقراره به يوم أخذه الله عليه، حيث قال (بلى) جوابا لقوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172]، وقامت عليه حجة الله وغلبت عليه الشقاوة وحق عليه العذاب. ومن يهن الله فما له من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء.
ومن لم يدرك هذا الميثاق بأن مات صغيراً قبل التكليف، مات على الميثاق الأول على الفطرة، فإن كان من أولاد المسلمين، فهم مع آبائهم. وإن كان من أولاد المشركين، فالله أعلم بما كان عاملا لو أدركه، كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: ((الله تعالى إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين)) (1).
فتوحيد الربوبية قامت به الحجة القاطعة للعذر، ولهذا كان زبدة الرسالة المحمدية هي الدعوة إلى لازم هذا التوحيد وهو توحيد الألوهية، وهو عبادة الله وحده دون شريك، إذ انحراف الناس غالباً ما يكون في هذا النوع من التوحيد، ولهذا احتاجوا على مدى التاريخ البشري إلى الرسل التي تدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده دون شريك، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36]، وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله: (وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف. ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد. فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء، لم يكن موحدا حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده. فيقر بأن الله وحده هو المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك) (2).
والخلاصة أنه لما كان المشركون مقرين بتوحيد الربوبية بل وببعض تفاصيله، فالأولى والأحرى أن يكون المسلمون كذلك، فلا يتوقع إذن من مسلم أن يجهل هذا التوحيد أو تشتبه عليه بعض تفاصيله، فضلاً عن أن ينكر شيئاً من خصائص الرب عز وجل كالتفرد بالوحدانية والخلق والتدبير، أو ينسبه جل وعلا إلى نقص، كأن ينسب له الولد أو الصاحبة أو اللغوب أو غيرها من النقائص – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا -، أو أن يسب الله تعالى .. فهذا كله مما لا يتصور ورود الجهل فيه على أحد من المسلمين، لذلك إذا صدر من أحد شيء من هذه الكفريات، فإنه يكفر ولا يعذر بأي عذر كان جهل أو غيره. لكن أن يقع منهم الجهل بتوحيد الألوهية، فهذا وارد بل واقع، وهو أمر خطير جدا، لذلك يجب أن نرى حدود ما يعذر به المسلم إذا وقع فيما يخالف توحيد الألوهية. الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر معاش – ص: 126
_________
(1) ((معارج القبول)) (1/ 40 - 42).
(2) ((فتح المجيد شرح كتاب التوحيد)) (ص: 16).
المبحث الأول: بدعية طريقة المتكلمين في الاستدلال على وجود الخالق عز وجل وذم العلماء لها
أن الإيمان به تعالى والإقرار بوجوده أمر فطرت عليه القلوب، أعظم من فطرتها على الإقرار بغيره من الموجودات، فهو سبحانه أبين وأظهر من أن يجهل، فيطلب الدليل على وجوده.
يقول الحافظ العلامة ابن القيم: "سمعت شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية – قدس الله روحه – يقول: كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟ وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت:
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من جود النهار، ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما" (1).
لذلك لم يكن إثبات وجود الله تبارك وتعالى من حيث هو موجود من الأهداف القرآنية، ولم يكن ذلك هدفاً من أهداف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قالت الرسل لأممهم: أَفِي اللهِ شَكٌّ [إبراهيم: 10]. إلا أن القرآن الكريم لم يتجاهل هذه القضية بل نبه إليها، وأشار إلى دلائلها؛ إذ الفطر قد تتغير وتفسد، والإيمان واليقين قد يضعف، فأقام الله عز وجل من الدلائل الباهرة، والبراهين القاطعة ما يبهر العقول، ويقود القلوب إلى التسليم والانقياد، فكل شيء يدل على وجود الله تعالى؛ إذ ما من شيء إلا وهو أثر من آثار قدرته سبحانه، وما ثم إلا خالق ومخلوق، والمخلوق يدل على خالقه فطرة وبداهة، إذ ما من أثر إلا وله مؤثر، كما اشتهر في قول الأعرابي الذي سئل: كيف عرفت ربك؟ فقال – بفطرته السليمة – البعرة تدل على البعير؛ والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، أرض ذات فجاج، وجبال وبحار وأنهار، أفلا تدل على السميع البصير؟ (2).
فهذه المسألة – مع منتهى وضوحها وجلائها – تخبط الناس فيها خبط عشواء، وأكثروا فيها القيل والقال، واشتد بينهم النزاع، وطال الجدال.
ويعتبر المتكلمون أكثر من اشتغل بتقرير وجود الخالق عز وجل والاستدلال له، غير أنهم لم يسيروا في ذلك على منهج الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، وإنما أتوا بطريقة مخترعة مستمدة من الفلسفة والمنطق اليوناني، فترتب على ذلك مفاسد عديدة في أبواب الاعتقاد. سلك المتكلمون في الاستدلال على إثبات وجود الله تعالى، طريقة مبتدعة، مذمومة في الشرع، كما أنها مخطرة، مخوفة في العقل، ألا وهي ما يسمونه (دليل الأعراض وحدوث الأجسام).
واعتمدوا فيما نهجوه على الجواهر والأعراض (3) وما يتعلق بها من الإمكان أو الحدوث أو غير ذلك مما ذكروه، لكون العالم مؤلفاً من أجزاء حادثة، والمؤلف من أجزاء حادثة حادث، والحادث جائز الوجود؛ إذ يجوز تقديره عدماً قبل الوجود، فلما اختص العالم بالوجود الممكن بدلاً عن العدم الجائز احتاج إلى موجد وافتقر إلى صانع وهو الله تعالى (4).
قال الإيجي: "قد علمت أن العالم إما جوهر أو عرض، قد يستدل على إثبات الصانع بكل واحد منهما إما بإمكانه أو بحدوثه، بناء على أن علة الحاجة عندهم إما الحدوث وحده أو الإمكان مع الحدوث شرطاً أو شطراً فهذه وجوه أربعة:
_________
(1) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/ 60).
(2) انظر: ((ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان)) لابن الوزير (ص: 83).
(3) انظر: ((الإرشاد)) للجويني (ص: 39)، و ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 79)، (ص: 149).
(4) انظر على سبيل المثال والمختصر في ((أصول الدين)) لعبد الجبار (ص: 172 - 173)، ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 129، 231، 233)، و ((الإرشاد)) للجويني (ص: 39)، و ((تهافت الفلاسفة)) للغزالي (ص: 39) و ((نهاية الإقدام)) للشهرستاني (ص: 5 - 6)، ((المحصل)) للرازي (ص: 147)، ((التمهيد)) للباقلاني (ص: 37).
الأول: الاستدلال بحدوث الجواهر، قيل: هذه طريقة الخليل صلوات الرحمن وسلامه عليه، حيث قال: قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76]، وهو أن العالم الجوهري أي المتحيز بالذات حادث كما مر، وكل حادث فله محدث كما تشهد بذلك بديهة العقل (1).
وأما إدعاؤهم أن طريقتهم في الاستدلال على وجود الله تعالى بدليل الجواهر والأعراض الدال على حدوث العالم هي طريقة إبراهيم الخليل فيما حكى الله عنه في قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76] فادعاء باطل مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول وللغة العربية التي نزل بها القرآن واستدلال في غير محله، فإن أحداً من سلف الأمة وأئمتها أهل العلم والإيمان لم يقل بذلك، كما ذكر الإمام الدارمي، وغيره من علماء أهل السنة؛ بل وبينوا أن هذا من التفاسير المبتدعة (2).
وقد فسر أئمة المفسرين: الأفول بـ (المغيب) (3). وكذا فسره أهل اللغة وغريب القرآن بذلك (4).
ثم إن إبراهيم عليه السلام لم يكن يقصد الاستدلال بمجرد الحركة على نفي الربوبية، ولو كان يقصد ذلك لكفاه تحرك هذه الكواكب من مشرقها إلى مغربها دليلاً على ما أراد، وإنما استدل بأفولها ومغيبها عن عين عابديها على عدم استحقاقها للعبادة، لأن الذي يستحق العبادة لا ينبغي أن يغيب عن عين عابدة لحظة واحدة، وهذه الكواكب لا تملك لنفسها أن تمنعها من الإحتجاب والمغيب عن أعين عابديها فلا تصلح أن تكون آلهة تعبد من دون الله.
فهذه طريقة إبراهيم عليه السلام في نفي ألوهية الكواكب، وهذا هو مقصوده مما يناقض ما ذهب إليه المتكلمون في تأويلهم الأفول بالحركة والتغير واستدلالهم بذلك لتقرير منهجهم العقلي في إثبات وجود الله المبني على دليل الإمكان والوجوب أو الجواهر والأعراض (5).
وهكذا نجد المتكلمين يستدلون على حدوث العالم بحدوث الأعراض التي هي صفات الأجسام القائمة بها إما الأكوان وإما غيرها، وتقرير المقدمات التي يحتاج إليها هذا الدليل من إثبات الأعراض التي هي الصفات أولاً، أو إثبات بعضها كالأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق، وإثبات حدوثها ثانيا، بإبطال ظهورها بعد الكون وإبطال انتقالها من محل إلى محل ثم إثبات امتناع خلو الجسم ثالثاً، إما عن كل جنس من أجناس الأعراض بإثبات أن الجسم قابل لها، وأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، وإما عن الأكوان وإثبات امتناع حوادث لا أول لها رابعاً، وهو مبني على مقدمتين:
أحدهما: أن الجسم لا يخلو عن الأعراض التي هي الصفات.
_________
(1) ((شرح المواقف))، ومعه ((شرح الجرجاني)) (2/ 2 - 3) وما بعدها.
(2) انظر: ((رد الإمام الدارمي على بشر المريسي)) (ص: 55)، و ((درء التعارض)) لابن تيمية (1/ 314).
(3) انظر: ((تفسير الطبري)) (5/ 246)، و ((تفسير البغوي)) (2/ 90)، و ((تفسير ابن كثير)) (2/ 156).
(4) انظر: ((الصحاح)) للجوهري (4/ 623)، و ((معجم مقاييس اللغة العربية)) لابن فارس (1/ 119)، و ((لسان العرب)) لابن منظور (11/ 18) (مادة: الأفل) و ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص: 23).
(5) انظر: ((درء التعارض)) (1/ 314 - 315)، (8/ 355 - 356)، (9/ 82 - 84)، و ((منهاج السنة)) (1/ 44 - 145)، (2/ 141 - 143)، و ((الرد على المنطقيين)) (ص: 304 - 305)، و ((بغية المرتاد)) (ص: 360 - 374).
والثانية: أن ما لا يخلو عن الصفات التي هي الأعراض فهو محدث؛ لأن الصفات التي هي الأعراض لا تكون إلا محدثة، وقد يفرضون ذلك في بعض الصفات التي هي الأعراض كالأكوان، وما لا يخلو عن جنس الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا تتناهى (1).
ومن خلال ما سبق عرضه لا يخالج أحداً شك في صعوبة هذا الدليل، وشدة غموضه وتعقيده، واشتماله على مقدمات عسيرة عويصة، مما لا يؤمن معه على سالكه ومقتفيه التعثر وسوء المغبة وبعد التيه، فهي كما قيل: لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل.
وليعلم أن الاستدلال بحدوث أشياء وتغيرها وتحولها من حال إلى حال في حد ذاته استدلال صحيح، نبه عليه القرآن الكريم وأشار إليه في أكثر من موضع، غير أن الأمر الذي هو محل النقد في هذا الدليل هو طريقتهم في إثبات حدوث العالم، ومن ثم زعمهم أن طريقتهم تلك هي طريقة إبراهيم الخليل عليه السلام.
وعلى كل، فقد اشتد نكير أهل العلم من أهل السنة والجماعة، بل وحتى المحققين من المتكلمين على مسلك هذه الطريقة، وحصر الدليل على إثبات وجود الله تعالى فيها.
نص ما حكاه شيخ الإسلام من الإجماع: ناقش شيخ الإسلام استدلال المتكلمين بهذا الدليل في كثير من رسائله ومؤلفاته، وأوضح بطلان هذا الدليل بالمنقول والمعقول، وكان من جملة ما استدل به على بطلانه، واحتج به اتفاق السلف - رحمهم الله -، وانعقاد إجماعهم على بدعية هذه الطريقة التي سلكها المتكلمون في إثبات الصانع، وذمهم لها، حيث قال: (المقصود هنا أن كثيراً من أهل النظر صار ما يوجبونه من النظر والاستدلال ويجعلونه أصل الدين والإيمان هو هذه الطريقة المبتدعة في الشرع المخالفة للعقل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمها وذم أهلها) (2).
وقال أيضاً: (ولكن الاستدلال على ذلك بالطريقة الجهمية المعتزلة، طريقة الأعراض والحركة والسكون، التي مبناها على أن الأجسام محدثة لكونها لا تخلو عن الحوادث، وامتناع حوادث لا أول لها، طريقة مبتدعة في الشرع باتفاق أهل العلم بالسنة، وطريقة مخوفة في العقل، بل مذمومة عند طوائف كثيرة) (3).
وذكر (أن هذا الدليل لم يستدل به أحد من الصحابة والتابعين ولا من أئمة المسلمين، فلو كانت معرفة الرب عز وجل والإيمان به موقوفة عليه للزم أنهم كانوا غير عارفين بالله ولا مؤمنين به، وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين؛ بل إن الأنبياء والمرسلين لم يأمروا واحداً بسلوك هذا السبيل، فلو كانت المعرفة موقوفة عليه وهي واجبة لكان واجباً، وإن كانت مستحبة كان مستحباً، ولو كان واجباً أو مستحباً لشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان مشروعاً لنقلته الصحابة) (4).
قال: (الإقرار بالصانع فطري ضروري بديهي لا يجب أن يتوقف على النظر والاستدلال؛ بل قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن معرفة الله والإقرار به لا يقف على هذه الطرق التي ذكرها أهل طريقة النظر) (5).
وقال أيضا: (أن أصل المعرفة والإقرار بالصانع لا يقف على النظر والاستدلال؛ بل يحصل بديهة وضرورة؛ ولهذا يقر بالصانع جميع الأمم مع عظيم شركهم وكفرهم وأنهم لا يسلكون من هذه الطرق المشهورة عند النظار مثل الاستدلال بالحدوث على المحدث، وبالإمكان على الواجب) (6).
ونقل كلاماً لأبي الحسن الأشعري ضمنه اتفاق السلف على الاستغناء عن هذه الطريقة، وأقره على ذلك (7).
_________
(1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/ 303 - 304).
(2) ((النبوات)) (ص: 85).
(3) ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 303).
(4) انظر: ((نقض التأسيس)) (1/ 619).
(5) انظر: ((نقض التأسيس)) (2/ 473).
(6) انظر: ((نقض التأسيس)) (2/ 473).
(7) انظر: ((درء التعارض)) (7/ 224).
وبين (أن طريقة الاستدلال بما يشاهد حدوثه قد جاء به القرآن، واتفق عليها السلف والأئمة، ولكن تمشيا مع الضرورة والحس، ولا يحتاج مع ذلك إلى إقامة دليل على حدوث ما يحدث من الأعيان، بل يستدل بذلك على وجود المحدث تعالى) (1).
وفي ذلك يقول: (طريقة الاستدلال بما يشاهد حدوثه جاء بها القرآن، واتفق عليها السلف والأئمة) (2).
ذكر من حكى الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: (لقد أنكر أهل العلم – رحمهم الله – على المتكلمين سلوكهم هذه المسالك المعقدة، فوسموهم بالبدعة والضلالة، وبينوا فساد طريقتهم عقلاً، وتحريمها شرعاً، وأقوال أهل العلم – رحمهم الله – في بيان عظم خطر هذه الطريقة وصعوبتها كثيرة، ومن ذلك إجابة أبي حنيفة حينما سأله السائل عما أحدثه الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة؛ فإنها بدعة) (3).
وقد سئل القاضي ابن سريج عن التوحيد، فذكر توحيد المسلمين، وقال: (وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض، وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك) (4).
وعقب شيخ الإسلام على هذا القول بقوله: (ولم يرد بذلك أنه أنكر هذين اللفظين، فإنهما لم يكونا قد أحدثا في زمنه، وإنما أراد إنكار ما يعنى بها من المعاني الباطلة؛ فإنه أول من أحدثهما الجهمية والمعتزلة) (5).
ويقول أبو الحسن الأشعري: (وإذا ثبت بالآيات صدقه صلى الله عليه وسلم، فقد علم صحة كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وصارت أخباره عليه السلام أدلة على صحة سائر ما دعانا إليه من الأمور الغائبة عن حواسنا وصفات فعله، وصار خبره عليه السلام عن ذلك سبيلاً إلى إدراكه، وطريقاً إلى العلم بحقيقته، وكان ما يستدل به من أخباره عليه السلام على ذلك أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة، ومن اتبعها من القدرية، وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام) (6).
وبين صعوبة هذا الدليل، وشدة خفائه، وكثرة مقدماته، وأشار إلى أن السلف الصالح ومن تبعهم من الخلف قد عدلوا عن هذه الطرق المعقدة الغامضة. وأعرضوا عما صارت إليه الفلاسفة ومن اتبعهم من القدرية وغيرهم من أهل البدع من الاستدلال بذلك، لاستغنائهم بالأدلة الواضحة في ذلك عنه (7).
وممن قرر اتصاف هذه الطريقة بالاعوجاج والخطورة، ووجود الغنية فيما استدل به السلف – رحمهم الله -؛ لما فيه من الوضوح والسلامة أبو سليمان الخطابي حيث قال: (فإن قال هؤلاء القوم: فإنكم قد أنكرتم الكلام، ومنعتم استعمال أدلة العقول، فما الذي تعتمدون عليه في صحة أصول دينكم؟ ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها؟ وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه، وأن الرسول لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول، وأنتم قد نفيتموها؟!
_________
(1) انظر: ((درء التعارض)) (7/ 223).
(2) انظر: ((درء التعارض)) (5/ 294).
(3) ذكره ابن قدامة المقدسي في ((ذم التأويل)) (ص: 32، 33).
(4) نقله عنه شيخ الإسلام في ((مجموع الفتاوى)) (17/ 305).
(5) نقله عنه شيخ الإسلام في ((مجموع الفتاوى)) (17/ 305).
(6) ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص: 184، 185).
(7) ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص: 186 - 191).
قلنا: إننا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف، ولكننا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر، وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع، ونرغب إلى ما هو أوضح بياناً وافصح برهاناً ... – إلى أن قال – فأما مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك، وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها، والابتداع والانقطاع على سالكها) (1).
وقال – بعد ما ذكر جملة من الأدلة على إثبات الصانع عز وجل ومال إلى الأدلة الشرعية منها -: (وقد أبى متكلموا زماننا هذا، إلا الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها، وزعموا أنه لا دلالة أقوى من ذلك ولا أصح منه. ونحن وإن كنا لا ننكر الاستدلال بهذا النوع من الدلالة، فإن الذي نختاره ونؤثره هو ما قدمنا ذكره؛ لأنه أدلة اعتبار وطريق السلف من علماء أمتنا، وإنما سلك المتكلمون في الاستدلال بالأعراض مذهب الفلاسفة وأخذوه عنهم) (2).
وقد تنبه أبو حامد الغزالي إلى بدعية هذا الدليل، وأنه ليس من طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا صحابته رضوان الله عليهم، فأعلن ذلك رغم سلوكه له حيث يقول: (فليت شعري متى نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة رضي الله عنهم إحضار أعرابي أسلم، وقوله له: الدليل على أن العالم حادث: أنه لا يخلو عن الأعراض، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث) (3).
أما أبو الحسن الآمدي – فقد قلل من شأن هذا الدليل، فقال بعد أن نقله بطوله: (وهو عند التحقيق سراب غير حقيقة) (4).
وكذا يرى ابن رشد الحفيد عدم صحة هذا الدليل، أو جدواه، ويرى أن في غيره من الطرق الشرعية غنية عنه، ويظهر ذلك بوضوح من خلال نقده لطريقة الأشعرية في إثبات وجود الخالق بهذا الدليل حيث قال: (وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ، وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد: طريقة معتاضة، تذهب عن كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل، فضلا عن الجمهور، ومع ذلك فهي طريقة غير برهانية، ولا مفضية بيقين إلى وجود الباري) (5).
واستدل ابن عبد البر على فساد هذه الطريقة وبدعيتها، بعدم سلوك الصحابة لها، مع ما نطق به القرآن من تزكيتهم وتقديمهم، والإطناب في مدحهم وتعظيمهم، فلو كانت هذه الطريقة لديهم مشهورة، أو من أخلاقهم معروفة لاستفاض عنهم النقل، ولتواترت بها الرواية والخبر، وفي ذلك يقول: (ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجباً، وفي الجسم ونفيه، والتشبيه ونفيه لازماً، ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجب ما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم. ولو كان ذلك من علمهم مشهوراً، أو من أخلاقهم معروفاً لاستفاض عنهم، ولشهروا به كما شهروا بالقرآن والروايات) (6).
_________
(1) ((الغنية عن الكلام وأهله)) للخطابي نقلا عن ((نقض التأسيس)) (1/ 254)، و ((درء التعارض)) (7/ 292 - 294).
(2) كتاب ((شعار الدين)) للخطابي، نقلا عن ((نقض التأسيس)) (1/ 249 - 250)، و ((درء التعارض)) (7/ 294).
(3) ((فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة)) للغزالي (ص: 127، 202، 203).
(4) ((غاية المرام في علم الكلام)) للآمدي (ص: 260).
(5) ((الكشف عن مناهج الأدلة)) لابن رشد (ض: 43).
(6) ((التمهيد)) لابن عبد البر (7/ 152).
وبنحو ما استدل به ابن عبد البر استدل أبو المظفر السمعاني حيث يقول: (وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم في هذه الأمور إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر وذكر ماهيتهما، ولا يمكن لأحد من الناس أن يروي في ذلك عنه ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم من هذا النمط حرفاً واحداً فما فوقه، لا في طريق تواتر ولا آحاد، فعلمنا أنهم ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقهم، وأن هذا طريق محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه رضي الله عنهم، وسلوكه يعود عليهم بالطعن والقدح ونسبتهم إلى الجهل وقلة العلم في الدين واشتباه الطريق عليهم) (1).
وما أصدق عبارة ابن عقيل في هذه القضية: (أنا أقطع أن الصحابة ماتوا ولم يعرفوا لا الجوهر ولا العرض. فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن. وإن رأيت طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت) (2).
وأشار العمراني إلى تصريح العلماء بتحريم الكلام، وبدعية هذا الطريق بقوله: (قد صرح العلماء من أهل الحديث والفقهاء المشهورون بتحريم الكلام، وقالوا هو محدث وبدعة في الدين، وقالوا لو كان طريقاً صحيحاً لمعرفة الله سبحانه لنبه الله سبحانه في القرآن ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم به وتكلمت به الصحابة رضي الله عنهم. وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الاستنجاء ودلهم على جميع الأحكام فلو كان الكلام من مهمات الدين لنبه النبي صلى الله عليه وسلم عليه) (3).
مستند الإجماع: استند العلماء في إجماعهم في هذه المسألة على ما ورد من نصوص كثيرة في الكتاب والسنة من النهي عن الابتداع في الدين، ولا سيما في مسألة مهمة كهذه، تتعلق بعقيدة المسلم وأصل دينه.
فقد تتبع أهل العلم آي الكتاب، وكلام رب الأرباب، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تواتر منها وما كان من أحاديث الآحاد، وأقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم من الأئمة المتبوعين، فلم يقفوا على حرف واحد يدل على تلك الطريقة المذمومة، فانعقد على الحكم ببدعيتها إجماعهم، واتفقت على ذم أهلها أقوالهم.
وإنما جاء التنبيه على دلالة الخلق والإبداع في القرآن الكريم في عدة مواضع كقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ [الطور: 35 - 36]، وقوله تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم: 67]، وقوله تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم: 9].
والمتأمل في كتاب الله يجده مملوءاً بالآيات التي تدعو الإنسان إلى النظر والتفكر تلك الدلائل القاطعة المبثوثة في الآفاق وفي الأنفس، لا النظر الذي سلكه المتكلمون في استدلالهم بدليل الأعراض وحدوث الأجسام.
فالاستدلال بالآيات الكونية وما هو مشاهد ومحسوس وما تدل عليه الضرورة والفطر والحس منهج قويم من مناهج أهل السنة والجماعة، فقد عقد أهل العلم – رحمهم الله تعالى – فصولاً كثيرة في كتبهم ساقوا تحتها عدداً كبيراً من الآيات والأحاديث وأقوال السلف للدلالة على وحدانية الله عز وجل بدليل خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والجبال والهواء والماء وخلق الإنسان وانتقاله من طور النطفة إلى العلقة ثم المضغة ثم العظام ثم إنشائه خلقا آخر.
ولعل من أبلغ الأدلة الحاثة على الاستدلال بما هو مشاهد ومحسوس من الآيات الكونية المبثوثة في الآفاق وفي الأنفس قول الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53].
وقوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20 - 21].
وعلى كل؛ فلم يرد في كتاب الله ولا سنة رسول الله ولا أقوال السلف الصالح ما يشير إلى مسلك المتكلمين في هذه المسألة، بل جاء التحذير منه والحكم ببدعيته، واشتد نكير أهل العلم على من سكله وقرره. المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 237
_________
(1) ((الانتصار لأهل الحديث)) للسمعاني (ص: 69، 70، 71).
(2) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 85).
(3) ((الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار)) للعمراني (1/ 129).
المبحث الثاني: خطأ المتكلمين في إيجابهم النظر على المكلف ودعواهم أن المعرفة موقوفة عليه
تقرر في المبحث السابق اتفاق العلماء على بدعية الطريقة التي سلكها المتكلمون في إثبات وجود الله تعالى، وأن هذه الطريقة فيها فساد كثير في وسائلها ومقاصدها، فأما وسائلها فمع صعوبتها ففيها خطورة ومزلات عظيمة، وأما مقاصدها فغايتها إثبات وجود الخالق جل وعلا وتدبيره لهذا الكون وهذا الأمر قد فطر الناس عليه، فوجود الخالق عز وجل أظهر من كل شيء على الإطلاق، فهو أظهر للبصائر من الشمس للأبصار، وأبين للعقول من كل ما تعقله وتقر بوجوده، فما ينكره إلا مكابر بلسانه، وأما قلبه وعقله وفطرته فكلها تكذبه (1).
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، من جعل هذه الطريقة المعتاضة المبتدعة أحد الطرق الموصلة إلى معرفة الله عز وجل، حتى زعم المتكلمون أن من لم يعرفها، ويستدل بها على وجود الله تعالى لا يقبل ولا يصح إيمانه.
ومن ثم أوجبوا على المكلف الاستدلال بها لمعرفة الخالق جل وعلا، إذ إن أول واجب على المكلف عندهم النظر، أو القصد إلى النظر المفضي – في نظرهم – إلى قيام الاستدلال وصحة البرهان.
يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: (إن سأل سائل فقال: ما أول ما أوجب الله عليك؟ فقل النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى؛ لأنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة، فيجب أن نعرفه بالتفكير والنظر) (2).
ويقول عبد القاهر البغدادي: (الصحيح عندنا قول من يقول: إن أول الواجبات على المكلف النظر والاستدلال المؤديات إلى المعرفة بالله تعالى وبصفاته وتوحيده وعدله وحكمته، ثم النظر والاستدلال المؤديان إلى جواز إرسال الرسل منه، وجواز تكليف العباد ما شاء، ثم النظر المؤدي إلى وجوب الإرسال والتكليف منه، ثم النظر المؤدي إلى تفصيل أركان الشريعة، ثم العمل بما يلزمه منها على شروطه) (3).
ويقول الجويني: (أول ما يجب على العاقل البالغ – باستكمال سن البلوغ أو الحلم شرعاً – القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم .. ) (4).
بل وذكر حكم من مات قبل أن يكتسب معرفة الله تعالى عن النظر والاستدلال قائلا: (فمن اخترمته المنية قبل أن ينظر وله زمن يسع النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى ولم ينظر مع ارتفاع الموانع، ومات بعد زمان الإنكار فهو ملحق بالكفر، وأما لو أمضى من أول الحال قدراً من الزمان يسع بعض النظر لكنه قصر في النظر ثم مات قبل مضي الزمان الذي يسع في مثله النظر الكامل فإن الأصح في ذلك، الحكم بكفره لموته غير عالم مع بدء التقصير منه فليلحق بالكفرة ((5).
وقد اعتبر السنوسي النظر والاستدلال بالأقيسة المنطقية شرطاً للدخول في الإسلام، ومن عاند في أدائه وجب استخراجه منه بالسيف إلى أن يموت (6).
وهكذا أضاف المتكلمون إلى بدعتهم السابقة بدعة أخرى، رتبوا عليها أحكام شنيعة تقشعر منها الجلود، كتسميتهم من لم يتبع هذه الطريقة مقلداً محكوماً عليه بالكفر والخسران أو الفسق، فيلزم من قولهم هذا أنهم هم المؤمنون الناجون فقط دون سواهم، ويكون العوام – وهم أكثر المسلمين – ليسوا بمؤمنين ولا ناجين من النار، بل حتى العلماء الذين لم يسلكوا مسالكهم ويتبعوا طريقتهم! وفي هذا تحجير لواسع، وتضييق لرحمة الله، وابتداع لقول لم يسبقوا إليه.
_________
(1) انظر: ((مفتاح دار السعادة))، لابن القيم (1/ 212).
(2) ((المحيط بالتكليف)) للقاضي عبد الجبار (ص: 26)، و ((شرح الأصول الخمسة)) له (ص: 70، 76).
(3) ((أصول الدين)) للبغدادي (ص: 75).
(4) ((الشامل)) للجويني (ص: 26).
(5) ((الشامل)) للجويني (ص: 32، 33).
(6) انظر: ((شرح أم البراهين)) للسنوسي (ص: 16، 17).
وعلى كل حال؛ فإن القول الحق في هذه المسألة، والذي تشهد له النصوص، وعليه اتفاق السلف والأئمة – كما حكاه شيخ الإسلام عنهم في أكثر من موضع – هو أن أول واجب على المكلف الشهادتان.
وقد حكى انعقاد الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم – رحمهم الله تعالى – وفي ذلك إبطال لما ذهب إليه المتكلمون في هذه المسألة، وأحد أوجه الرد عليهم وتزيف لقولهم، ودحض لشبهتهم، وتخطئة لمنهجهم وطريقتهم.
نص ما حكاه شيخ الإسلام من الإجماع: بين رحمه الله أن معرفة الله والإقرار به لا يقف على هذه الطرق المذمومة عند السلف، بل بعض هذه الطرق لا تفيد عندهم المعرفة فضلاً عن أن يكون الله لا يقر به مقر ولا يعرفه عارف إلا بهذه الطريقة المذمومة والتي أوجبها المتكلمون على المكلف للدخول في الإسلام حيث يقول: (بل قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن معرفة الله والإقرار به لا يقف على هذه الطرق التي يذكرها أهل طريقة النظر؛ بل بعض هذه الطرق لا تفيد عندهم المعرفة فضلا عن أن يكون الله لا يقر به مقر ولا يعرفه عارف إلا بالطريقة المشهورة له من إثبات حدوث العالم بحدوث صفاته مع دعواهم أن الله لا يعرف إلا بهذه الطريقة) (1).
وقال أيضا: (وليس هذا قول أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا قاله أحد من الأنبياء والمرسلين، ولا هو قول كل المتكلمين ولا غالبهم، بل هذا قول محدث في الإسلام ابتدعه متكلموا المعتزلة ونحوهم من المتكلمين الذين اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمهم) (2).
وحكى اتفاق السلف – رحمهم الله تعالى – على تخطئة المتكلمين في إيجابهم هذا النظر المعين على المكلف لتحصيل المعرفة، وإيقافهم المعرفة عليه بقوله: (والمقصود هنا أن هؤلاء الذين قالوا: معرفة الرب لا تحصل إلا بالنظر، ثم قالوا: لا تحصل إلا بهذا النظر، هم من أهل الكلام – الجهمية القدرية ومن تبعهم – وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وجمهور العلماء من المتكلمين وغيرهم، على خطأ هؤلاء في إيجابهم هذا النظر المعين، وفي دعواهم أن المعرفة موقوفة عليه. إذ قد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يوجب هذا على الأمة ولا أمرهم به، بل ولا سلكه هو ولا أحد من سلف الأمة في تحصيل هذه المعرفة) (3).
وقال بعد ذكره لأقوال المتكلمين ومن تبعهم في إيجاب هذا النظر: (كلها غلط مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، بل وباطلة في العقل أيضاً) (4).
وأوضح اللوازم الفاسدة من إيقاف المتكلمون معرفة الله تعالى وتحصيلها على هذا النظر المعين من الالتزام بالقول بعدم معرفة الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين بالله، والإيمان به، ولا شك أن هذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين، وفي ذلك يقول: (إن هذا الدليل لم يستدل به أحد من الصحابة والتابعين ولا من أئمة المسلمين، فلو كانت معرفة الرب عز وجل والإيمان به موقوفة عليه للزم أنهم كانوا غير عارفين بالله ولا مؤمنين به، وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين) (5).
وإذا كان قول المتكلمين بأن أول واجب على المكلف النظر المعين – المستفاد من دليل الأعراض وحدوث الأجسام – فاسد مطرح مذموم عند السلف، فما هو القول الصحيح الذي اتفق عليه السلف والأئمة، وتؤيده النصوص والأدلة؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية مجيبا عن هذا السؤال: (والمقصود هنا أن السلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقب البلوغ) (6).
_________
(1) ((النقض)) (2/ 473).
(2) ((النقض)) (2/ 473).
(3) ((المجموع)) (16/ 330).
(4) ((المجموع)) (16/ 332).
(5) ((النقض)) (1/ 619).
(6) ((الدرء)) (8/ 11)، وانظر ((النقض)) (8/ 8).
وبين أن (الشهادة تتضمن الإقرار بالصانع تعالى وبرسوله، وأما مجرد الإقرار بالصانع دون الإتيان بالشهادتين فهذا لا يصير به الرجل مؤمناً، بل ولا يصير مؤمنا بأن يعلم أنه رب كل شيء حتى يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يصير مؤمناً بذلك حتى يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1).
وقال – في معرض نقده لمن أوجب النظر على المكلف، وجعله أول الواجبات-: (والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع أحداً من الخلق إلى النظر ابتداء، ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان، وبذلك أمر أصحابه) (2).
وقال أيضاً – بعد أن ساق جملة من الأحاديث الدالة على أن أول ما يدعى إليه الشهادتان وكذلك الأمر بقتال الناس حتى يأتوا بالشهادتين -: (وهذا مما اتفق عليه أئمة الدين، وعلماء المسلمين، فإنهم مجمعون على ما علم بالاضطرار من دين الرسول، أن كل كافر فإنه يدعى إلى الشهادتين، سواء كان معطلا، أو مشركاً، أو كتابياً، وبذلك يصير الكافر مسلماً، ولا يصير مسلما بدون ذلك) (3).
وقال أيضا: (أجمع المسلمون على أن الكافر إذا أراد أن يسلم يكتفى منه بالإقرار بالشهادتين) (4).
وقال كذلك: (وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر) (5).
وقال في موضع آخر: (فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين) (6).
ذكر من حكى الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: جاءت هذه المسألة نتيجة للمسألة السابقة والتي أكثر أهل الكلام الاشتغال بها، فأحدثوا في دين الله ما لم يأذن به، ولم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن عليه سلفنا الصالح.
وقد اشتد نكير أهل العلم – رحمهم الله تعالى – على كلتا المسألتين، ووسموا أهلها بالابتداع والضلال، وبينوا فساد ما ذهبوا إليه، وحذروا من مغبة ما يؤول إليه. وقد استعرضنا جملة من أقوال أهل العلم – رحمهم الله تعالى – عند الحديث عن المسألة الأولى.
استدلالهم بدليل الأعراض وحدوث الأجسام، وها نحن نذكر جملة أخرى تنضاف إلى ما سبق لتكون موضحة لموقف أهل العلم – رحمهم الله تعالى – من المسألة الأصل وما نمى عنها.
فقد حكى الإمام أبو بكر بن المنذر الإجماع على أن الكافر إذا أقر بالشهادتين وتبرأ من كل دين خالف دين الإسلام وهو بالغ صحيح يعقل أنه يصير بذلك مسلماً حيث قال: (أجمع كل من أحفظ عنه على أن الكافر إذا قال لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق، وأبرأ من كل دين خالف الإسلام وهو بالغ صحيح يعقل، أنه مسلم) (7).
فانظر كيف تجرأ هؤلاء المتكلمون على خرق هذا الإجماع وإطراحه، ولا غرو في ذلك فإن هؤلاء ليس لهم خبرة بأقوال الصحابة والتابعين وأقوال أئمة المسلمين في مسائل أصول الدين، بل إنما يعرفون أقوال الجهمية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام المحدث وهؤلاء كلهم مبتدعه عند سلف الأمة وأئمتها (8).
ولهذا تجد في كتب أهل الكلام ما يدل على غاية الجهل بما قاله الرسول والصحابة والتابعون وأئمة الإسلام مما يوجب أن يقال: كأن هؤلاء نشأوا في غير ديار الإسلام ولا ريب أنهم نشأوا بين من لم يعرف العلوم الإسلامية حتى صار المعروف عندهم منكراً والمنكر معروفاً ولبسهم فتن ربي فيها الصغير وهرم فيها الكبير، وبدلت السنة بالبدعة والحق بالباطل (9).
_________
(1) ((النقض)) (8/ 11، 12).
(2) ((النقض)) (8/ 6).
(3) ((النقض)) (8/ 7).
(4) ((الدرء)) (7/ 437).
(5) ((المجموع)) (7/ 302).
(6) ((المجموع)) (7/ 609).
(7) ((الإجماع)) لابن المنذر (ص: 154).
(8) انظر: ((الصفدية)) (2/ 268).
(9) انظر: ((النقض)) (2/ 482).
فمع وضوح هذا الإجماع وصراحته، إلا أنا نجد الجويني والإيجي يدعيان الإجماع على أن أول واجب على المكلف النظر أو القصد إلى النظر المؤدي إلى معرفة الله!
وبطلان هذا الإجماع المدعى ظاهر لكل من له من العلم أدنى نظر، إذ إن فيه مخالفة لصحيح المنقول ولإجماع من يعتد بإجماعه من أهل العلم، وحاشا أن تجتمع الأمة على أمر مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول فإن هذا ضلال، والأمة لا تجتمع على ضلال.
ثم إن بعض المتكلمين أيضاً قد خالفوا الجويني والإيجي في هذا الإجماع وقالوا بخلافه فكيف يدعيان الإجماع على ذلك إذن؟!
واسمع إلى ما قاله أبو جعفر السمناني وهو من رؤوس الأشاعرة عن هذه المسألة: (إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي التقليد في ذلك) (1).
وقد استنكر ابن حزم على من جعل النظر والاستدلال أول الواجبات، وسمى من خالف هذه الطريقة مقلداً لا يقبل إيمانه بقوله: ( ... إن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ بعث لم يزل يدعو الناس الجم الغفير إلى الإيمان بالله تعالى وبما أتى به، ويقاتل من أهل الأرض من قاتله، ويستحل سفك دمائهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وأخذ أموالهم متقرباً إلى الله تعالى بذلك، وأخذ الجزية وإصغاره.
ويقبل ممن آمن به ويحرم ماله ودمه وأهله وولده، ويحكم له بحكم الإسلام، وفيهم المرأة البدوية، والراعي، والراعية، والفلاح الصحراوي الوحشي، والزنجي المسبي، والزنجية المجلوبة، والرومية، والجاهل، والضعيف في فهمه فما منهم أحد ولا غيرهم قال له عليه السلام: إني لا أقبل إسلامك ولا يصح لك دين حتى تستدل على صحة ما أدعوك إليه ... ثم جرى على هذه الطريقة جميع الصحابة رضي الله عنهم أولهم عن آخرهم، ولا يختلف أحد في هذا الأمر.
ثم جميع أهل الأرض إلى يومنا هذا ومن المحال الممتنع عند أهل الإسلام أن يكون عليه السلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصلح لأحد الإسلام إلا به، ثم تتفق على إغفال ذلك أو تعمد عدم ذكره جميع أهل الإسلام وتنبه له هؤلاء الأشقياء!.
ومن ظن أنه وقع في الدين على ما لم يقع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر بلا خلاف فصح أن هذه المقالة خرق للإجماع، وخلاف لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وجميع أهل الإسلام قاطبة) (2).
وقال ابن عبد البر: (إنه من نظر إلى إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وسعد وعبد الرحمن وسائر المهاجرين والأنصار وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجاً علم أن الله عز وجل لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين بأعلام النبوة ودلائل الرسالة، لا من قبل حركة ولا من باب الكل والبعض، ولا من باب كان ويكون، ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجباً، وفي الجسم ونفيه والتشبيه ونفيه لازما ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجب ما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم، ولو كان ذلك من عملهم مشهوراً أو من أخلاقهم معروفاً لاستفاض عنهم ولشهروا به كما شهروا بالقرآن والروايات) (3).
_________
(1) نقله عنه الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (13/ 361)، ونقله أيضا شيخ الإسلام في ((الدرء)) (7/ 407) بتصرف.
(2) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) لابن حزم (4/ 75 - 76).
(3) ((التمهيد)) (7/ 152).
وممن نص على مخالفة المتكلمين فيما أوجبوه على المكلف لإجماع المسلمين أبو المظفر السمعاني حيث يقول: (فإنهم – أي أهل الكلام – قالوا: أول ما يجب على الإنسان النظر المؤدي إلى معرفة الباري عز وجل وهذا قول مخترع لم يسبقهم إليه أحد من السلف وأئمة الدين، ولو أنك تدبرت جميع أقوالهم وكتبهم لم تجد هذا في شيء منها منقولاً من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من أصحابه وكذلك من التابعين بعدهم.
وكيف يجوز أن يخفى عليهم أول الفرائض وهم صدر هذه الأمة والسفراء بيننا وبين رسول الله؟!.
هذا وقد تواترت الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الكفار إلى الإسلام والشهادتين ... ولم يرو أنه دعاهم إلى النظر والاستدلال، وإنما يكون حكم الكافر في الشرع أن يدعى إلى الإسلام فإن أبى وسأل النظرة والإمهال أن لا يجاب إلى ذلك ...
ولا يجوز على طريقهم الإقدام على هذا الكافر بالقتل والسبي إلا بعد أن يذكر له هذا ويمهل لأن النظر والاستدلال لا يكون إلا بمهلة وخصوصاً إذا طلب الكافر ذلك، وربما لا يتفق النظر والاستدلال في مدة يسيرة فيحتاج إلى إمهال الكفار مدة طويلة تأتي على سنين، ليتمكنوا من النظر على التمام والكمال وهو خلاف إجماع المسلمين) (1).
وممن عاب على المتكلمين إيجابهم النظر على المكلف أبو حامد الغزالي بقوله: (من أشد الناس غلوا وإسرافاً طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا أن من لم يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف العقائد الشرعية بأدلتها التي حررناها كافر.
فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده أولاً، وجعلوا الجنة وقفاً على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جعلوا ما تواتر من السنة ثانياً، إذ ظهر من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب كانوا مشتغلين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا بتعليم الدليل، ولو اشتغلوا به لم يفهموه، ومن ظن أن مدرك الإيمان بالكلام والأدلة المحررة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد ...
وليت شعري متى نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة إحضار أعرابي أسلم وقولهم له: الدليل على أن العالم حادث، أن لا يخلو عن الأعراض، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ... وعد النبي صلى الله عليه وسلم أن من تكلم بكلمة التوحيد أجرى عليه أحكام المسلمين، فثبت بهذا أن مأخذ التكفير من الشرع لا من العقل، إذ الحكم بإباحة الدم، والخلود في النار شرعي لا عقلي خلافاً لما ظنه بعض الناس) (2).
ونص عبد القادر الجيلاني على أن أول ما يجب على من أراد الدخول في دين الإسلام التلفظ بالشهادتين، والبراءة من كل دين يخالفه حيث قال: (الذي يجب على من يريد الدخول في دين الإسلام أولا أن يتلفظ بالشهادتين لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويتبرأ من كل دين غير دين الإسلام، ويعتقد بقلبه وحدانية الله تعالى) (3).
وقال ابن الصلاح – في معرض كلامه على حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه وفيه قال رضي الله عنه: ((يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: صدق)) ثم قال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: ((لئن صدق ليدخلن الجنة)). (4).
وفي الحديث دلالة على صحة ما ذهب إليه الأئمة العلماء في أن العوام المقلدين مؤمنون، وأنه يكتفي منهم بمجرد اعتقادهم الحق جزماً من غير شك وتزلزل، خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة.
_________
(1) ((الانتصار لأصحاب الحديث)) للسمعاني (ص: 61، 62، 63).
(2) ((فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة)) للغزالي (ص: 134 – 202).
(3) ((الغنية)) الجيلاني (1/ 2).
(4) رواه البخاري (12)، من حديث أنس رضي الله عنه.
وبين وجه الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قرر ضماماً على ما اعتمد عليه في تعرف رسالته وصدقه صلى الله عليه وسلم من مناشدته ومجرد إخباره إياه بذلك، ولم ينكر عليه ذلك قائلا له: أن الواجب عليك أن تستدرك ذلك من النظر في معجزاتي، والاستدلال بالأدلة القطعية التي تفيدك العلم (1).
مستند الإجماع: من تأمل نصوص الكتاب والسنة وجدها حافلة بذكر الأمر الذي بعث الله عز وجل من أجله المرسلين، واجتمعت عليه كلمتهم أجمعين، فكان ذلك الأمر هو أوجب الواجبات، أول الفرائض والمطلوبات والذي شغل حيزاَ من حياتهم، بل كل حياتهم لتبليغه والدعوة إليه، فكان وظيفتهم والحكمة من بعثتهم، ألا وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، لا كما زعم المتكلمون أنه النظر المؤدي إلى معرفة الباري؛ فدونك الأدلة على ذلك، من الكتاب والسنة:
فمن الكتاب: قول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36].
وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]. ونظائرهما كثير.
ووجه الدلالة من هاتين الآيتين ظاهر وصريح في أن الرسل إنما بعثوا لأمر الناس بعبادة الله ودعوتهم إلى ذلك، بل دلت الآية على حصر مهمتهم ووظيفتهم في ذلك، ولو كان النظر أوجب الواجبات وأولها، لنبه عليه الشارع الحكيم، ولكان على رأس الاهتمام من الأنبياء والمرسلين، ولما لم يكن كذلك تبين بطلان ما ذهب إليه المتكلمون، وفساد طريقتهم ومسلكهم.
وأما السنة: فقد أخرج البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن قال له إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى)) (2).
وفي رواية: ((ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)) (3).
وعن سهل بن سعد: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الراية عليا رضي الله عنه يوم خيبر، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام ... )) (4).
ووجه الدلالة من الحديثين بينة؛ إذ لو كان النظر إلى معرفة الله تعالى واجباً كما يدعي المتكلمون لأمر صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليه أولا، ولما قدم عليها غيره، ومن ثم تظهر مخالفة المتكلمين لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة أيضا ما أخرجه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)). (5)
ووجه الدلالة ظاهر بين؛ إذ إن الرسول صلى الله عليه وسلم علق كفه عن قتال الناس على شرط به يعصم المرء دمه وماله، ألا وهو التلفظ بالشهادتين، بخلاف ما سلكه المتكلمون من الحكم بسفك دم من لم يعرف الله تعالى بالطرق والأقيسة العقلية التي ابتدعوها.
فالرسول صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى توحيد الله عز وجل وقبل إسلام من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهؤلاء المتكلمون يدعون الناس إلى الاستدلال والدخول في الإسلام بهذه الطريقة المبتدعة ويجعلونه أول واجب على المكلف ومن لم يعرف أو عاند في تركه حكم بكفره وسفك دمه، فتأمل ما بين المنهجين من البون الشاسع والفرق الكبير. المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 260
_________
(1) ((صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط)) لابن الصلاح (ص: 142 - 144).
(2) رواه البخاري (7372).
(3) رواه البخاري (1395).
(4) رواه البخاري (4210)، ومسلم (2406).
(5) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
المبحث الثالث: المتكلمون يعتنون بتقرير الربوبية، ويسكتون عن الألوهية
ومن أهل الكلام: من أطال نظره في تقرير هذا التوحيد- توحيد الربوبية-: إما بدليل أن الاشتراك يوجب نقص القدرة وفوات الكمال، وبأن استقلال كل من الفاعلين بالمفعول محال، وإما بغير ذلك من الدلائل، ويظن أنه بذلك قرر الوحدانية وأثبت أنه لا إله إلا هو، وأن الإلهية هي: القدرة على الاختراع أو نحو ذلك، فإذا ثبت أنه لا يقدر على الاختراع إلا الله، وأنه لا شريك له في الخلق، كان هذا معنى قولنا: لا إله إلا الله، ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد، كما قال تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [لقمان:25] وقال تعالى قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ الآيات، وقال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] قال ابن عباس وغيره: (تسألهم: من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم مع ذلك يعبدون غيره) وهذا التوحيد هو من التوحيد الواجب، لكن لا يحصل به الواجب، ولا يخلص بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر، الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص لله الدين، فلا يعبد إلا إياه، فيكون دينه كله لله اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 2/ 854