المطلب الأول: تعريف الشرك لغةً
جاء في (معجم مقاييس اللغة) لابن فارس: (مادة الشرك المكونة من حرف الشين والراء والكاف أصلان:
أحدهما: يدل على مقارنة وخلاف انفراد.
والآخر: يدل على امتداد واستقامة) (1).
أما الأول: فهو الشرك، بالتخفيف أي بإسكان الراء، أغلب في الاستعمال، يكون مصدرا واسما، تقول: شاركته في الأمر وشركته فيه أشركه شركاً، بكسر الأول وسكون الثاني، ويأتي: شركة، بفتح الأول وكسر الثاني فيها. ويقال: أشركته: أي جعلته شريكاً (2).
فهذه اشتقاقات لفظ الشرك في اللغة على الأصل الأول.
ويطلق حينئذ على المعاني الآتية:
1 - المحافظة، والمصاحبة، والمشاركة.
قال ابن منظور: (الشَّركة والشَّرِكة سواء؛ مخالطة الشريكين، يقال: اشتركنا بمعنى تشاركنا، وقد اشترك الرجلان وتشاركا، وشارك أحدهما الآخر والشريك: المشارك، والشرك كالشريك، والجمع أشراك وشركاء) (3).
قال ابن فارس: (الشركة هو أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما، ويقال: شاركت فلاناً في الشيء، إذا صرت شريكه، وأشركت فلاناً، إذا جعلته شريكاً لك)، قال تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه: 32]،. .......... قال الراغب: (الشركة والمشاركة: خلط الملكين، وقيل: هو أن يوجد شيء لاثنين فصاعداً عيناً كان ذلك الشيء أو معنى، كمشاركة الإنسان والفرس في الحيوانية) (4).
2 - ويطلق أيضاً على النصيب والحظ والحصة.
قال الأزهري: (يقال: شريك وأشراك، كما قالوا: يتيم وأيتام، ونصير وأنصار، والأشراك أيضاً جمع الشرك وهو النصيب، كما قال: قسم وأقسام) (5)، وقد ذكر هذا المعنى كل من الزبيدي (6) وابن منظور (7)، ومنه الحديث: ((من أعتق شركاً له في عبد)) (8) أي حصة ونصيباً (9).
3 - ويطلق أيضاً على التسوية: قال ابن منظور: (يقال: طريق مشترك: أي يستوي فيه الناس، واسم مشترك: تستوي فيه معاني كثيرة) (10).
4 - ويطلق على الكفر أيضاً، قال الزبيدي: (والشرك أيضاً: الكفر) (11).
وأما الأصل الثاني: وهو الذي يدل على الامتداد والاستقامة، فأيضاً يطلق على معان:
1 - الشِرَاك ككتاب، سير النعل على ظهر القدم، يقال: أشركت نعلي وشركتها تشريكاً: إذا جعلت لها الشراك (12).
_________
(1) ((معجم مقاييس اللغة)) (3/ 265)، مادة (شرك).
(2) انظر ما ذكره الجوهري ((الصحاح)) (4/ 1593 - 1594)، مادة (شرك) والفيومي المقري: ((المصباح المنير)) (1/ 474 - 475).
(3) ((لسان العرب)) (7/ 99)، وما بعدها، مادة (شرك)، وانظر ما ذكره الزبيدي في ((تاج العروس)) (7/ 148)، والأزهري في ((تهذيب اللغة)) (10/ 17)، والجوهري (4/ 1593 - 1594)، مادة (شرك).
(4) انظر قول الراغب في ((المفردات)) (ص: 259).
(5) ((تهذيب اللغة)) (10/ 17) مادة (شرك).
(6) الزبيدي في ((تاج العروس)) (7/ 148) مادة (شرك).
(7) ابن منظور في ((لسان العرب)) (7/ 99، 100) مادة (شرك).
(8) رواه البخاري (2522)، ومسلم (1501). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(9) انظر ما ذكره ابن منظور في ((لسان العرب)) (7/ 99).
(10) انظر ما ذكره ابن منظور في ((لسان العرب)) (7/ 99، 100)، وانظر ما ذكره الزمخشري في ((أساس البلاغة)) (1/ 489).
(11) انظر ما ذكره الزبيدي في ((تاج العروس)) (7/ 148) مادة: (شرك).
(12) انظر ما ذكره الأزهري في ((تهذيب اللغة)) (10/ 18)، والزبيدي في ((تاج العروس)) (7/ 149،) والفيومي في ((المصباح المنير)) (1/ 474)، وابن منظور في ((لسان العرب)) (7/ 99)، والجوهري في ((الصحاح)) (4/ 1593، 1594) في مادة (شرك).
2 - الشرك - بفتحتين - حبالة الصائد، الواحدة منها: شَرَكة، ومنه قيل: ((وأعوذ بك من الشيطان وشركه)) (1) بفتح الراء.
3 - الشركة - بسكون الراء -: بمعنى معظم الطريق ووسطه ... جمعها: شرك - بفتحتين - (2).
فهذه هي المعاني لكلمة الشرك، والكلمات ذات المادة الواحدة غالبا يكون فيما بينها ترابط في المعنى، فإذا تأملنا مدلولات المادة السابقة نجد الترابط واضحاً بينها، فالمشرك يجعل غير الله مشاركاً له في حقه، فله نصيب مما هو مستحق لله تعالى، فهو سوى بين الله وبين من أشركه في حق الله، بمعنى أنه جعل مَن تألهه من دون الله مقصوداً بشيء من العبادة، ولا يلزم أن يساوي بين الرب جل وعلا، وبين من أشركه معه في القصد والتعبد من كل وجه، بل يكفي أن يكون في وجه من الوجوه. وهو - أي الشرك - حبائل الشيطان؛ به يصيد أهله، وهو شبكة إبليس، أدخل أهله فيها، والذي يوجد فيه هذا الشرك لا يعتبر مسلماً.
وقد جاء في كتاب الشيخ مبارك الميلي (الشرك ومظاهره) ذكر مثل هذا الترابط؛ بأن مرجع مادة الشرك إلى الخلط والضم، فإذا كان بمعنى الحصة من الشيء يكون لواحد وباقيه لآخر أو آخرين، كما في قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ [الأحقاف: 4]، فالشريك مخالط لشريكه، وحصته منضمة لنصيب الآخر.
وإذا كان بمعنى الحبالة، فإنه ما يقع فيها من الحيوان يختلط بها وينضم إلى ملك الصائد.
وإذا كان بمعنى معظم الطريق، فإن أرجل السائرين تختلط آثارها هنالك وينضم بعضها إلى بعض.
وإذا كان بمعنى سير النعل، فإن النعل تنضم به إلى الرجل فيخلط بينهما.
وإذا كان بمعنى الكفر فهو التغطية، والتغطية نوع من الخلط.
ثم إن اجتماع الشركاء في شيء لا يقتضي تساوي أنصبائهم منه، ولا يمنع زيادة قسط للآخر، فموسى – عليه السلام – سأل ربه إشراك أخيه في الرسالة، وقد أجيب سؤاله، لقوله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه: 36]، ومعلوم أن حظ هارون من الرسالة دون حظ موسى، ولهذا تقول: فلان شريك لفلان في دار أو بضاعة، ولو لم يكن له إلا معشار العشر، هذا في الحسيات، ومثله في المعنويات: تقول: الأبوان شريكان في طاعة ابنهما لهما، وإن كان حق الأم في الطاعة أقوى، وتقول: أبنائي شركائي في محبتي، وأنت تحب بعضهم أشد من بعض، فهذا تقرير معنى الشرك في اللغة (3). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا – 1/ 113
_________
(1) رواه أبو داود (5067)، والترمذي (3392)، وأحمد (1/ 9) (51)، والدارمي (2/ 378) (2689)، وابن حبان (3/ 242) (962)، والحاكم (1/ 694)، والضياء (1/ 113) (30). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال الضياء: إسناده صحيح.
(2) ((لسان العرب)) (10/ 448).
(3) انظر ما ذكره مبارك محمد الميلي في: ((رسالة في الشرك ومظاهره)) (ص: 61، 62).
المطلب الثاني: معنى الشرك اصطلاحاً
لقد اختلفت عبارات العلماء في بيان معنى الشرك في الدين، وإن كانت هذه العبارات تكمل بعضها الأخرى، وفيما يلي بيان لبعض أقوالهم.
أ- بعض العلماء بدأ بالتقسيم قبل التعريف، ثم عرفه من خلال التعريف بأقسامه، منهم الراغب في (المفردات) (1)، والذهبي في كتاب (الكبائر) - المنسوب إليه (2) -، والإمام ابن القيم في (مدارج السالكين) (3).
ب- ومنهم من عرف الشرك في ثنايا كلامه – وإن كان التعريف لم يكن مقصوداً بذاته في ذلك الكلام – ولهم في ذلك عبارات مختلفة، منها:
1 - يقول الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: هو (تشبيه للمخلوق بالخالق – تعالى وتقدس – في خصائص الإلهية، من ملك الضر والنفع، والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده) (4).
2 - وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: (هو صرف نوع من العبادة إلى غير الله، أو: هو أن يدعو مع الله غيره، أو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها) (5).
3 - وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله -: (هو أن يجعل لله نداً يدعوه كما يدعو الله، أو يخافه، أو يرجوه، أو يحبه كحب الله، أو يصرف له نوعاً من أنواع العبادة) (6).
4 - وقال أيضا: (حقيقة الشرك بالله: أن يعبد المخلوق كما يعبد الله، أو يعظم كما يعظم الله، أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية والإلهية) (7).
قلت: هذا التعريف شامل لجميع مدلولات الشرك.
5 - وقيل: (هو كل ما ناقض التوحيد أو قدح فيه، مما ورد في الكتاب والسنة تسميته شركا) (8).
6 - وقيل: هو (أن يثبت لغير الله – سبحانه وتعالى – شيئاً من صفاته المختصة به؛ كالتصرف في العالم بالإرادة الذي يعبر عنه بكن فيكون، أو العلم الذي هو من غير اكتساب بالحواس ... أو الإيجاد لشفاء المريض واللعنة لشخص والسخط عليه حتى يقدر عليه الرزق أو يمرض أو يشفى لذلك السخط، أو الرحمة لشخص حتى يبسط له الرزق أو يصح بدنه ويسعد ... ) (9).
7 - وقيل: (الشرك هو أن يعتقد المرء في غير الله صفة من صفات الله؛ كأن يقول: إن فلانا يعلم كل شيء، أو يعتقد أن فلانا يفعل ما يشاء، أو يدعي أن فلانا بيده خيري وشري، أو يصرف لغير الله من التعظيم ما لا يليق إلا بالله - تعالى -، كأن يسجد للشخص أو يطلب منه حاجة أو يعتقد التصرف في غير الله) (10).
_________
(1) انظر ((المفردات)) له (ص: 259).
(2) الذهبي: ((الكبائر)) (ص: 8).
(3) انظر ما ذكره ابن القيم في ((مدارج السالكين)) (1/ 339).
(4) سليمان بن عبد الله آل الشيخ ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 91).
(5) الشيخ محمد بن عبد الوهاب: ((مؤلفات الشيخ: قسم العقيدة)) (ص: 281)، والدكتور صالح عبد الله العبود في ((عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)) (ص: 423).
(6) عبد الرحمن السعدي: ((القول السديد في مقاصد التوحيد)) (ص: 24).
(7) عبد الرحمن السعدي: ((تفسير كلام المنان)) (2/ 499).
(8) أبوبكر الجزائري: ((عقيدة المؤمن)) (ص: 105).
(9) ولي الله الدهلوي: ((الفوز الكبير في أصول التفسير)) (ص: 3).
(10) محمد إسماعيل بن عبد الغني بن عبد الرحمن العمري: ((تقوية الإيمان)) (22، 23)، و ((رسالة التوحيد)) (ص: 32، 33).
8 - وقال الشيخ محمد إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي - رحمه الله -: (إن الشرك لا يتوقف على أن يعدل الإنسان أحدا بالله، ويساوي بينهما بلا فرق، بل إن حقيقة الشرك: أن يأتي الإنسان بخلال وأعمال خصها الله - تعالى - بذاته العلية وجعلها شعاراً للعبودية، لأحد من الناس؛ كالسجود لأحد، والذبح باسمه والنذر له، والاستعانة به في الشدة والاعتقاد أنه ناظر في كل مكان، وإثبات التصرف له، كل ذلك يثبت به الشرك ويصبح به الإنسان مشركاً) (1).
قلت: هذا التعريف فيه تصور كامل لحقيقة الشرك، ولكنه غير منضبط.
9 - وقيل: هو (إشراك غير الله مع الله في اعتقاد الإلهية، وفي العبادة) (2). قلت: هذا التعريف فيه تصور كامل لحقيقة الشرك، ولكنه غير منضبط.
10 - وقال الشوكاني: (إن الشرك هو دعاء غير الله في الأشياء التي تختص به، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه) (3).
11 - وقيل: (الشرك: إسناد الأمر المختص بواحد إلى من ليس معه أمره) (4).
قلت: هذا التعريف غير مانع، فإنه ليس كل إسناد مختص بواحد إلى من ليس معه أمره يعد شركاً، بل ربما يكون ظلماً أو فسقاً.
فهذه – كما ترى – أقوال العلماء في تصور حقيقة الشرك، بعض منها جامع وليس بمانع، وبعضها ناقص، وبعضها كمثابة التمثيل على بعض ما وقع فيه الناس من أفراد الشرك في العبادة أو في الاعتقاد، وليس المراد: أنهم ما كانوا عارفين بالشرك، ولكن لما كان من دأبهم ذكر النماذج دون إرادة الاستقصاء، ذكروا بعض الجوانب من الشرك، والجوانب الأخرى أشاروا إليها من خلال مصنفاتهم، ومؤلفاتهم، ومن فاته شيء منها ذكره الآخرون منهم، كما هو واضح في كتابتهم ومناظرتهم مع الذين وقعوا في الشرك في زمانهم.
والذي يظهر من هذه الأقوال: أن الشرك حقيقته في اتخاذ الند مع الله، سواء كان هذا الند في الربوبية أو الألوهية.
وبهذا يتفق قول العلماء المحققين في حقيقة الشرك مع قول أصحاب المعاجم بأن أصل الشرك اتخاذ الأنداد مع الله.
فأصل الشرك – كما علمنا من البيان السابق – ما هو إلا اتخاذ الند مع الله، وهذا ما سيتضح لنا أكثر عند بيان حقيقة الشرك في نصوص القرآن والسنة.
إذا نظرنا إلى حقيقة الشرك في القرآن نرى: أن الله – عز وجل – بينها في كتابه بياناً شافياً واضحاً لا لبس فيه ولا غموض. فقال تعالى: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22].
معنى الآية: النهي عن اتخاذ الأنداد مع الله بأي وجه من الوجوه، وقد نقل عن السلف في تفسير الآية مثل هذا القول، فمثلاً:
1 - قال ابن عباس: (الأنداد: الأشباه) (5)، والند: الشبه، يقال: فلان ند فلان، ونديده: أي مثله وشبهه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: ما شاء الله وشئت: ((أجعلتني لله ندا)) (6)
،
_________
(1) محمد إسماعيل بن عبد الغني بن عبد الرحيم العمري: ((تقوية الإيمان)) (22، 23)، و ((رسالة التوحيد)) (ص: 32، 33).
(2) ابن عاشور: الطاهر: ((التحرير والتنوير)) (7/ 333).
(3) الشوكاني: ((الدر النضيد)) (ص: 34) ط مكتبة الصحابة الإسلامية.
(4) المناوي: ((التوقيف على مهمات التعريف)) (ص: 428).
(5) انظر هذا القول فيما ذكره ((الطبري في تفسيره)) (1/ 126، 127).
(6) رواه أحمد (1/ 214) (1839) والبخاري في ((الأدب المفرد)) (1/ 290) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 245) , قال ابن القيم في ((مدارج السالكين)) (1/ 602): صحيح. وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 200): إسناده صحيح, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 253): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (ص: 601).
وكل شيء كان نظيراً لشيء وشبيها فهو له ند (1).
2 - قال ابن مسعود: (الأنداد: الأكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله) (2)، كما قال جل ثناؤه: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا [التوبة: 31].
وقال الطبري: قال عدي بن حاتم: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي، اطرح هذا الوثن من عنقك. فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ. قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟. قلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم)) (3). ففي هذا القول أيضاً: إثبات كون الشرك هو اتخاذ الند، فإن من أثبت حق التشريع والتحليل والتحريم لغيره – سبحانه – فقد أثبت له الند.
3 - قال عكرمة: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً (أي تقولوا: لولا كلبنا لدخل علينا اللص الدار، لولا كلبنا صاح في الدار، ونحو ذلك (4)، فنهاهم الله تعالى أن يشركوا به شيئا، وأن يعبدوا غيره، أو يتخذوا له ندا وعدلا في الطاعة، فقال: كما لا شريك لي في خلقكم وفي رزقكم الذي أرزقكم، وملكي إياكم، ونعمتي عليكم، فكذلك فأفردوا لي الطاعة، وأخلصوا لي العبادة، ولا تجعلوا لي شريكاً ونداً من خلقي، فإنكم تعلمون: أن كل نعمة عليكم مني (5)).
4 - قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له) (6). فمعنى الأنداد على هذا المعنى هي الآلهة، والآلهة عند الكفار بمعنى الشفعاء لهم عند الله، وقد سماهم الله – عز وجل – شركاء، فقال – في الرد على اتخاذهم آلهة -: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء.
5 - قال مجاهد: (الأنداد: العدلاء) (7).
والعدلاء هنا أيضاً بمعنى الشركاء لله في عبادته، قال الله تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] أي يشركون (8)، ويقال: من مساواة الشيء بالشيء: عدلت هذا بهذا، إذا ساويته به عدلاً.
قال الطبري: (يجعلون شريكاً في عبادتهم إياه، فيعبدون معه الآلهة والأنداد والأصنام والأوثان، وليس منها شيء شاركه في خلق شيء من ذلك، ولا في إنعامه عليهم بما أنعم عليهم، بل هو المنفرد بذلك كله وهم يشركون في عبادتهم إياه غيره) (9).
6 - قال الطبري: (الأنداد جمع ند، والند: العدل، والمثل).
_________
(1) انظر ما نقله ((الطبري في تفسيره)) (1/ 127).
(2) الطبري: ((جامع البيان)) (1/ 127).
(3) رواه الترمذي (3095) والطبري في ((تفسيره)) (14/ 210)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (ص: 1784) والطبراني في ((المعجم الكبير)) (17/ 92) (218) والبيهقي (10/ 116)، وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث. وقال الذهبي في ((المهذب)) (8/ 4108): فيه غطيف ضعفه الدارقطني. وقال ابن عثيمين في ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (10/ 736): إسناده ضعيف. وحسنه ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (7/ 67) والألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (3293).
(4) رواه الطبري في تفسيره (1/ 369).
(5) الطبري: ((جامع البيان)) (1/ 127).
(6) انظر ما ذكره ((الطبري في تفسيره)) (1/ 127).
(7) انظر ما ذكره ((الطبري في تفسيره)) (1/ 127).
(8) انظر ما ذكره ((الطبري في تفسيره)) (7/ 92، 93).
(9) ((تفسير الطبري)) (11/ 252).
والمقصود: أن اتخاذ الشبيه والكفؤ لله يسمى شركاً بالله، ولهذا أخبر سبحانه وتعالى أنه لم يكن له كفؤ ولا شبيه ولا نظير، لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، قال تعالى: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4]. قال أبو العالية في معنى الآية: (لم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء) (1)، أي كيف يكون له من خلقه نظير يساميه أو قريب يدانيه، تعالى وتقدس وتنزه (2)، وهو الواحد الأحد، لا نظير له ولا وزير ولا نديد، ولا شبيه ولا عديل (3).
هكذا بين الله في كتابه حقيقة الشرك بالله بيانا واضحا، وهو: اتخاذ الند مع الله، وكل ما ذكر في معاني الند من الكفؤ، والشبيه، والمثل، والعدل، والآلهة، كلها معاني متقاربة تدل على معنى الشرك بالله، والتي تدل صراحة أن الشرك في الحقيقة: اتخاذ الند بمعنى الشبيه لله عز وجل كما سيأتي.
كما أن هذا المعنى هو المستفاد من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي فيها بيان حقيقة الشرك، والدليل عليه:
1 - ما روى الشيخان عن ابن مسعود قال: ((سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك)) (4) ... الحديث.
2 - ما رواه مسلم أيضاً عنه: قال: قال رجل: ((يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تدعو لله ندا وهو خلقك)) (5) .... الحديث – وفي آخره – فأنزل الله عز وجل تصديقها: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68].
3 - وروى الشيخان عن أبي بكرة قال: ((كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: - ثلاثاً- الإشراك بالله ... )) (6) الحديث.
ففي هذا الحديث ذكر أكبر الكبائر بأنه الشرك، فهو بمثابة التفسير للند المذكور في الحديثين السابقين.
وبهذا يحصل لنا حقيقة الشرك بلسان الرسول - عليه الصلاة والسلام -، حيث فسر اتخاذ الند بالشرك، بأن الشرك أكبر المعاصي وأكبر الكبائر، وهو أن تجعل لله ندا ومثلا وشبيهاً وعديلاً في العبادة وكفؤا في الطاعة، فمن جعل لله ندا وشبيها فقد أشرك.
وأيضاً اتضح لنا من خلال ما ذكرنا: أن الشرك إنما هو اتخاذ الند والشبيه لله من خلقه فيما يستحقه عز وجل من الإلهية والربوبية، فمن صرف شيئاً من هذه الخصائص لغيره فهو مشرك، فأصل الشرك وحقيقته إنما هو في التشبيه والتشبه.
قال ابن القيم: (حقيقة الشرك: هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به، ... ). (7) فالمشرك مشبه للمخلوق في خصائص الإلهية. الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا – 1/ 117
_________
(1) انظر ما ذكره ((الطبري في تفسيره)) (12/ 224).
(2) انظر ما ذكره ((ابن كثير في تفسيره)) (4/ 570).
(3) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 527).
(4) رواه البخاري (4477)، ومسلم (86).
(5) رواه مسلم (86).
(6) رواه البخاري (5976)، ومسلم (87).
(7) ابن القيم: ((الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)) (ص: 326).
المبحث الثاني: هل الأصل في الإنسان التوحيد أم الشرك؟
هذا السؤال يتطلب جوابه أن نرجع إلى أصل الإنسان، فالذين يقولون: إن أصل الإنسان أنهم خلقوا من نفس واحدة، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1] قالوا: إنهم خلقوا من آدم، وعليه اتفاق جميع الأديان السماوية، وعليه اتفقت كلمة أصحاب الملل -اليهود والنصارى والمسلمون - إلا من شذ منهم واتبع الملاحدة في أقوالهم، وآرائهم، فجميع أصحاب الأديان السماوية يقولون إن الأصل في الإنسان هو التوحيد، والشرك طارئ عليهم.
ويستدل عليه من وجوه:
أولاً: أن الإنسان الأول هو آدم عليه السلام كان نبياً يعبد الله وحده لا شريك له، وعلم أبناءه التوحيد؛ حيث سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن آدم: أنبي هو؟ قال: ((نعم، نبي مكلم خلقه الله بيده ثم نفخ فيه روحه ... )) (1) ثم وقع بنو آدم في الشرك بعده بأزمان – وهذا يقر ويقول به كل من يؤمن بأن الله هو الخالق، وكل من يؤمن بالأديان السماوية الثلاث؛ الإسلامية والنصرانية واليهودية، إلا من تابع قول الملحدين منهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمة الله- (ولم يكن الشرك أصلاً في الآدميين، بل كان آدم ومن كان على دينه من بنيه على التوحيد لله، لا تباعهم النبوة ... فإن آدم أمرهم بما أمره الله به، حيث قال له: قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:38 - 39]، فهذا الكلام الذي خاطب الله به آدم وغيره لما أهبطهم قد تضمن أنه أوجب عليهم اتباع هداه المنزل)
ثانياً: بين الله سبحانه أن البشرية كانت في أول أمرها على التوحيد، ثم طرأ عليها الشرك وتعدد الآلهة، لقوله تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة: 213]
_________
(1) رواه أحمد (5/ 265) (22342)، والطبراني (8/ 217) (7887). من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 164): مداره على علي بن يزيد وهو ضعيف، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/ 359): فيه علي بن يزيد وهو الألهاني ضعيف، ومعان بن رفاعة لين الحديث.
وجمهور المفسرين يقولون بأن الناس كانوا أمة واحدة على الهدى والتوحيد، فظهر فيهم الشرك عن طريق تعظيم الموتى، فبعث الله إليهم رسله ليردوهم إلى التوحيد. قال الطبري: (وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة، وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة في عهد آدم إلى عهد نوح - عليهما السلام - كما روى عكرمة عن ابن عباس (1)، وكما قاله قتادة) ويؤيده ما جاء في قراءة أبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما (كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين ... ) كما يؤيده قوله تعالى: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ [يونس: 19]) (2) وهو الذي رجحه ابن كثير معللاً بقوله: (لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام – فبعث الله إليهم نوحاً-عليه السلام – فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض)، ويقول: (ثم أخبر الله تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس كائن بعد أن لم يكن، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد وهو الإسلام) (3)
ثالثاً: أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه أن الفطرة التي فطرت عليها البشرية كلها هي فطرة الإسلام التي هي التوحيد الخالص، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 30] وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف: 172] فهاتان الآيتان تبينان أن العباد كلهم مفطورون على التوحيد وأنه الأصل في بني آدم، وقد فسر مجاهد الفطرة بأنها الإسلام.
_________
(1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (4/ 275) ورواه الحاكم (2/ 480). وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال ابن تيمية: ((تلبيس الجهمية)) (3/ 65): ثابت. وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/ 854): صحيح.
(2) ((تفسير الطبري)) (4/ 278 - 280).
(3) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 356 - 357).
رابعاً: بيّن الله في كتابه: أن التوحيد هو أصل دعوة الرسل وإليه دعوا أقوامهم، قال تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ [الشورى: 13] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقال تعالى وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45] وكل رسول افتتح دعوته لأمته بالدعوة إلى عبادة الله، فقال اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: (إن الناس كانوا بعد آدم عليه السلام وقبل نوح عليه السلام على التوحيد والإخلاص كما كان أبوهم آدم أبو البشر عليه السلام، حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان بدعة من تلقاء أنفسهم لم ينزل الله بها كتاباً ولا أرسل بها رسولاً، بشبهات زينها الشيطان من جهة المقاييس الفاسدة والفلسفة الحائدة، قوم منهم زعموا أن التماثيل طلاسم الكواكب السماوية والدرجات الفلكية والأرواح العلوية، وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الأنبياء والصالحين، وقوم جعلوها لأجل الأرواح السفلية من الجن والشياطين، وقوم على مذاهب أخرى، فابتعث الله نبيه نوحاً عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وينهاهم عن عبادة ما سواه ... وجاءت الرسل بعده تترى، إلى أن عم الأرض دين الصابئة والمشركين كما كانت النماردة والفراعنة، فبعث الله تعالى إليهم إمام الحنفاء وأساس الملة الخالصة والكلمة الباقية إبراهيم خليل الرحمن فدعا الخلق من الشرك إلى الإخلاص ونهاهم عن عبادة الكواكب والأصنام ... فجعل الأنبياء والمرسلين من أهل بيته .. وبعث بعده أنبياء من بني إسرائيل ... ثم بعث الله المسيح بن مريم ... ) (1) وقد قال قتادة: (ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح- عليهما السلام- عشرة قرون كلهم على الهدى وعلى شريعة من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعث الله عز وجل نوحاً وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض) (2).
سادسًا: ما رواه عياض بن حمار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً)) (3)
سابعاً: ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلي عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30])) (4)
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 603 - 606).
(2) ((تفسير الطبري)) (4/ 276)، وانظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/ 620،621). وحديث ((أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض)) رواه البخاري (4476)، ومسلم (193). من حديث أنس رضي الله عنه.
(3) رواه مسلم (2865) بلفظ: ((وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)). من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
(4) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الحديث: (فالصواب أنها فطرة الإسلام وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف: 172]، وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة ... وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فقال: ((كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟)) (1) بين أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن، وأن العيب حادث طارئ) (2)
وقال ابن القيم: (فجمع عليه الصلاة والسلام بين الأمرين، تغيير الفطرة بالتهويد والتنصير، وتغيير الخلقة بالجدع، وهما الأمران اللذان أخبر إبليس أنه لابد أن يغيرهما، فغير فطرة الله بالكفر وهو تغيير الخلقة التي خلقوا عليها، وغير الصورة بالجدع والبتك، فغير الفطرة إلى الشرك، والخلقة إلى البتك والقطع، فهذا تغيير خلقة الروح، وهذا تغيير خلقة الصورة) (3) ويقول كذلك: (فالقلوب مفطورة على حب إلهها وفاطرها وتأليهه، فصرف ذلك التأله والمحبة إلى غيره تغيير للفطرة) (4).
ومن هذا يتبين لنا أن الشرك لم يكن أصلاً في بني آدم، بل كان آدم ومن جاء بعده من ذريته على التوحيد إلى أن وقع الشرك.
فإن هذه الأدلة تنص على أن بني آدم عبدوا الله فترة من الزمن، وهي عشرة قرون كما يذكره ابن عباس - رضي الله عنهما- (5) ثم انحرف من انحرف عن هذا المنهج القويم، فبعث الله إليهم الرسل ليردوهم إلى التوحيد.
وهناك رواية أخرى تبين لنا كيف بدأ وقوع بني آدم في الشرك، فقد أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في معنى قول الله عز وجل: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح: 23] قال: ((هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت)) (6) فهذا كان مبدأ وقوع بني آدم في الشرك وانحرافهم عن توحيد الله عز وجل. الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا 1/ 181
_________
(1) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 245).
(3) ((إغاثة اللهفان)) (1/ 107).
(4) ((إغاثة اللهفان)) (2/ 158).
(5) رواه الحاكم (2/ 480). وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/ 854): صحيح.
(6) رواه البخاري (4920).
المبحث الثالث: أصل الشرك وأسبابه
أوائل المشركين كما قال شيخ الإسلام: (صنفان: قوم نوح وقوم إبراهيم، فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين، ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم، وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر) (1).
وكلا الفريقين عابد للجن فإنها التي تأمرهم به وتسوله لهم وترضى منهم الشرك ولذلك يقول الله جل وعلا: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ [سبأ: 40 - 41].
وقد كانت الأصنام في زمن نوح عليه السلام صوراً لصالحين ماتوا، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت) (2) اهـ.
ويشير ابن عباس رضي الله عنهما إلى الآية: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح: 23].
وقد كان الناس قبل ذلك فيما بين آدم عليه السلام ونوح مدة عشرة قرون كانوا كلهم على الإسلام كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام) (3).
وأما الشرك في زمن إبراهيم عليه السلام فقد كان بعبادة الكواكب، ولذلك ناظرهم في أن تلك الكواكب لا تستحق أن تعبد لأنها مربوبة مخلوقة مدبرة، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 75 - 78].
ثم إن الشرك دخل العرب بنقل عمرو بن لحي الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ((رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب)) (4).
وقد كان سافر إلى الشام للتجارة فوجد أهل الشام يعبدون الأصنام فأخذ منها إلى مكة فأدخل فيهم الشرك (5).
وقد كانوا يعتقدون في أصنامهم أنها تقربهم إلى الله تعالى فاتخذوهم واسطة بينهم وبين الله، وهذا يشبه شرك القوم الذين بعث فيهم نوح عليه السلام.
_________
(1) ((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) (ص: 22). وانظر: ((الرد على المنطقيين)) (ص: 285 - 286).
(2) رواه البخاري (4920).
(3) رواه الطبري في ((تفسيره)) (4/ 275) والحاكم (2/ 480). وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال ابن تيمية: ((تلبيس الجهمية)) (3/ 65): ثابت. وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/ 854): صحيح.
(4) رواه البخاري (3521). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) انظر: ((السيرة لابن هشام)) (1/ 77) و ((فتح الباري)) لابن حجر (6/ 634).
وأما اعتقاد تأثير بعض الأشياء بخفاء مما لا يعلم له سبب ظاهر فيبدو أن ذلك دخل عليهم من أصل الكلدانيين الذين يعتقدون تأثير الكواكب، وكان هذا هو أصل شرك أولئك - قوم إبراهيم عليه السلام-. وقد كانت الشياطين تزين لهم عبادة تلك الكواكب، ولبست عليهم بأمور تدعوهم للاعتقاد فيها، وقد مثلوا لها تماثيل، فانتقل ذلك إلى العرب فوجد فيهم الاستسقاء بالأنواء، ومن مظاهر اعتقادهم تأثير بعض الأشياء بخفاء: اشتغالهم بالكهانة والطيرة.
وبهذا العرض يتبين جلياً أن أصل شرك العالم هو عبادة الأشخاص ثم الكواكب. وهذا هو الشرك الذي أرسلت الرسل لإنكاره، وليس الشرك محصوراً في اعتقاد وجود رب آخر لهذا العالم مساو لله تعالى، بل هذا النوع لم يكن معروفاً في بني آدم كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله وبهذا يتضح جهل كثير من الناس في هذه الأزمان بحقيقة الشرك، ولزيادة المسألة إيضاحاً، يفرع على هذا بيان سبب الشرك، فلوقوع الشرك سببان:
السبب الأول: الغلو في المخلوق: (1) ويكون بتنزيل المخلوق منزلة فوق منزلته فيصرف له شيء من حقوق الله، وهذا الأمر جلي وواضح يبينه أصل الشرك الذي حدث لقوم نوح وإبراهيم عليهما السلام – كما تقدم مستوفى ولهذا سد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الطريق كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأما السبب الثاني: فهو إساءة الظن برب العالمين:
وهذا السبب مترتب على السبب السابق، فإنه بعد غلو الشخص في المخلوق وحصول الجهل بالدين يتخذه وسيطاً يقربه إلى الله فيعطفه عليه في قضاء حاجاته، فيكون قد أساء الظن بإفضال ربه وإنعامه وإحسانه إليه. وهذا يحدث وإن اعتقد أن الله يسمع ويرى ويملك كل شيء.
قال الله تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [الفتح: 6] وكان ظن المشركين والمنافقين أن الله لن يحقق وعده بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه (2) كما قال الله تعالى: بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح: 12] وهذا الوصف وصف لله بالنقص، فكذلك من يعتقد أن الله لا يستجيب له إلا بوساطة يكون قد وصف الله بالنقص.
وقال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام في رده على قومه: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 87 - 85] فقوله: فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ حكي فيه وجهان (3):
الأول: ما ظنكم بربكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره، وهذا للتهديد.
والوجه الثاني: هو: أي شيء تظنون برب العالمين أنه هو حتى عبدتم غيره؟ وهذا الأسلوب معني به تعظيم الله وتوبيخ المشركين.
ولا مانع أن يكون الوجهان مرادين. وعلى الوجه الثاني يظهر جلياً أن من أسباب الشرك إساءة الظن برب العالمين.
وقال ابن القيم في سياق بيانه لأنواع الظن السيئ برب العالمين: (ومن ظن أن له ولداً أو شريكاً، أو أن أحداً يشفع عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ويتوسلون بهم إليه ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه فيدعونهم ويحبونهم كحبه ويخافونهم ويرجونهم فقط ظن به أقبح الظن وأسوأه) (4) اهـ منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 95
_________
(1) انظر: ((إغاثة اللهفان)) (2/ 322).
(2) انظر: ((تفسير الطبري)) (22/ 205).
(3) انظر: ((فتح القدير)) للشوكاني (4/ 401). و ((التسهيل لعلوم التنزيل)) لابن جزي (3/ 173).
(4) ((زاد المعاد)) (3/ 233).
المبحث الرابع: أول شرك وقع في بني آدم
إن مما لا خلاف فيه أن أول شرك وقع في العباد هو شرك الشيطان. قال الحافظ ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 29]:
قال ابن جريج: (من يقل من الملائكة إني إله من دونه، فلم يقله إلا إبليس، دعا إلى عبادة نفسه، فنزلت هذه الآية في إبليس).
وقال قتادة: (إنما كانت هذه الآية خاصة لعدو الله إبليس، لما قال ما قال لعنه الله، وجعله رجيما) (1).
وقال الضحاك في قوله تعالى: وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ: (يعني من الملائكة إني إله من دونه، قال: ولم يقل أحد من الملائكة إلا إبليس، دعا إلى عبادة نفسه وشرع الكفر) (2).
فهذا أول شرك وقع على الإطلاق – فيما أعلم -، ولكن متى وقع أول شرك في بني آدم؟ اختلفوا فيه على أقوال:
القول الأول: إن أول شرك في بني آدم كان من قابيل، وقد حكى الإمام الطبري في تاريخه رواية تدل عليه؛ وهي (ذكر أن قابيل لما قتل هابيل، وهرب من أبيه آدم إلى اليمن، أتاه إبليس فقال له: إن هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار؛ لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فانصب أنت أيضاً ناراً تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار، فهو أول من نصب النار وعبدها) (3).
فهذا القول نرى الإمام الطبري نقله بدون سند، بل صدره بقوله: (ذكر) بصيغة التمريض، مما يدل على ضعفه عنده، وهو في نفسه ضعيف، كما سيأتي بيان ما يخالفه من القول الصحيح.
القول الثاني: إن بداية الشرك كان في زمن يرد بن مهلائل، وهو أبو إدريس عليه السلام، وقد حكاه أيضاً ابن جرير في تاريخه، فقال: (حدثني الحارث قال: حدثنا ابن سعد قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: في زمان يرد عملت الأصنام، ورجع من رجع عن الإسلام) (4).
ففي هذا السند نرى هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه وهما ضعيفان بل متهمان، ولا يقبل منهما، خصوصاً أن هذه الرواية خالفت الرواية الصحيحة – كما سيأتي -، ثم إن الكلبي هنا يروي التفسير عن أبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح لم ير ابن عباس، ولا سمع منه شيئاً، ولا سمع الكلبي من أبي صالح إلا الحرف بعد الحرف، فما رواه الكلبي لا يحل ذكره في الكتاب، فكيف الاحتجاج به؟ (5).
والمقصود: أن هذه الرواية لا تصلح للاحتجاج.
القول الثالث: إن أول شرك وقع في بني آدم إنما هو من قبل أبناء قابيل.
وتدل عليه رواية ابن الكلبي في كتاب الأصنام، قال فيها: أخبرني أبي قال: (أول ما عبدت الأصنام أن آدم عليه الصلاة والسلام لما مات، جعله بنو شيث بن آدم في مغارة في الجبل الذي أهبط عليه آدم بأرض الهند). ثم روى عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال: (وكان بنو شيث يأتون جسد آدم في المغارة فيعظمونه ويترحمون عليه، فقال رجل من بني قابيل بن آدم: يا بني قابيل! إن لبني شيث دواراً يدورون حوله ويعظمونه، وليس لكم شيء. فنحت لهم صنماً، فكان أول من عملها) (6).
_________
(1) نقله الطبري في ((جامع البيان)) (9/ 17 - 13)، وفي ((تاريخ الأمم والملوك)) (1/ 83)، والسند صحيح.
(2) السيوطي في ((الدر المنثور)) (4/ 317)، وعزاه لابن أبي حاتم.
(3) الطبري: ((تاريخ الأمم والملوك)) (1/ 165)، وانظر ما ذكره ابن الأثير في ((الكامل)) (1/ 32).
(4) الطبري: ((تاريخ الرسل والملوك)) (1/ 170)، وانظر ما ذكر ابن الأثير في ((الكامل)) (1/ 34)، والسهيلي في ((الروض الأنف)) (1/ 14).
(5) انظر ما ذكره أبو حاتم ابن حبان في ((المجروحين)) (2/ 253).
(6) ابن الكلبي: في ((الأصنام)) (ص: 50، 51)، وعنه ابن القيم في ((الإغاثة)) (2/ 622).
فهذه الرواية أيضاً من قبل هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، وهو عن أبي صالح عن ابن عباس. وقد تطرقت لهذا السند بالنقد فيما قبل، فلا أعيده هاهنا، وإنما المقصود بيان كونه قولاً ضعيفاً للغاية.
القول الرابع: إن أول شرك وقع في بني آدم هو في قوم نوح.
ويستدل لهذا القول بما يلي:
1 - قوله تعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح: 22]، والدليل على أن هؤلاء المذكورين كانوا في قوم نوح؛ الروايات الحديثية التي وردت في تفسير الآية.
من أشهرها: ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت) (1).
وما أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره، قال: (كانوا قوما صالحين – يغوث ويعوق ... – بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم) (2).
2 - قوله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة: 213].
ويتضح وجه الاستدلال من الآية لمن اطلع على تفسيرها، وقد سبق معنا بيانه فيما قبل.
3 - ويدل عليه أيضاً: ما رواه ابن جرير بسنده عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ... ) (3).
4 - وقد قال قتادة: (ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح – عليهما السلام – عشرة قرون كلهم على الهدى وعلى شريعة من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعث الله عز وجل نوحاً، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض).
5 - وعن عكرمة قال: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام) (4).
فهذه أقوال صحيحة عن سلف هذه الأمة في بيان بداية الشرك في بني آدم، وهي ترجح هذا القول الرابع؛ بأن بداية الشرك كان في قوم نوح، وقبل هذا كانوا على الإسلام.
ومن غرائب ما في هذا الباب نسبة وجود الشرك في آدم – عليه السلام – استدلالاً بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف: 189، 190].
_________
(1) رواه البخاري (4920).
(2) ((جامع البيان في تفسير القرآن)) (12/ 29/62)، وانظر ما نقله السيوطي في ((الدر المنثور)) (6/ 269)، عن محمد بن كعب القرظي.
(3) رواه الطبري في ((تفسيره)) (4/ 275) والحاكم (2/ 480) بنحوه. وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال ابن تيمية: ((تلبيس الجهمية)) (3/ 65): ثابت. وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/ 854): صحيح.
(4) رواه الطبري في ((تفسيره)) (4/ 275) والحاكم (2/ 480) بنحوه. وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال ابن تيمية: ((تلبيس الجهمية)) (3/ 65): ثابت. وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/ 854): صحيح.
فإنه جاء في تفسير هذه الآيات آثار عن بعض السلف توهم وجود الشرك في زمن آدم عليه السلام، وهي ما يلي:
أولاً: ما روى الإمام أحمد بسنده عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما ولدت حواء طاف بها إبليس – وكان لا يعيش لها ولد -، فقال: سميه عبد الحارث؛ فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره)) (1) هذا هو الحديث المرفوع الوحيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن كثير: (وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار بندار عن عبد الصمد بن عبد الوارث به، ورواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن محمد بن المثنى عن عبد الصمد به، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم، ورواه بعضهم عن عبد الصمد به ولم يرفعه، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعاً، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ورواه الإمام أبو محمد ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي عن هلال بن فياض عن عمر بن إبراهيم به مرفوعاً، وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث شاذ بن فياض عن عمر بن إبراهيم مرفوعاً؛ قلت – القائل هو الحافظ ابن كثير -: وشاذ هو هلال وشاذ لقبه) (2).
ثانيا: الآثار عن الصحابة:
أ- روي عن ابن عباس روايات بنحو ما ذكر:
1 - من طريق محمد بن إسحاق بن يسار عن داود بن الحصين عن عكرمة عنه (3)، وهذا السند غير مقبول عند المحدثين، فإن كل ما رواه داود بن الحصين عن عكرمة فهو منكر، بل ضعفه بعضهم (4).
2 - من طريق عبد الله بن المبارك عن شريك عن خصيف عن سعيد بن جبير عنه، ففي هذا السند خصيف، وهو ضعيف (5)، وشريك أيضاً مختلط (6)، فلا اعتبار بهذه الرواية.
3 - ما رواه ابن جرير الطبري، قال: حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس (7) (بنحوه).
فهذه هي السلسلة العوفية المعروفة بالضعف من رواة التفسير عن ابن عباس (8).
4 - ما رواه الطبري من طريق القاسم قال: ثنا الحسين قال: ثنا حجاج عن ابن جرير قال: قال ابن عباس. وذكر نحوه (9). فهذا أثر منقطع، وضعيف؛ فإن حجاج بن أرطأة ضعيف، وابن جريج لم يدرك ابن عباس.
ب- وفي الباب رواية عن أبي بن كعب نحوه، وقد رواه ابن عباس عنه (10).
_________
(1) رواه أحمد (5/ 11) (20129)، ورواه الترمذي (3077)، والحاكم (2/ 594). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
(2) ابن كثير: ((تفسير القرآن العظيم)) (2/ 274).
(3) ((ابن جرير في تفسيره)) (6/ 9/99).
(4) انظر ما ذكره الخزرجي في ((الخلاصة)) (ص: 109).
(5) انظر ما ذكره ابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) (2/ 87)، برقم (2026).
(6) انظر ما قاله الخزرجي في ((خلاصته)) (ص: 165) في ترجمة شريك القاضي.
(7) انظر ما ذكره ((الطبري في تفسيره)) (6/ 9/99).
(8) انظر في تحقيق حال الرواة لهذا الأثر: ((لسان الميزان)) لابن حجر (5/ 174، 3/ 18، 19)، و ((تهذيب التهذيب له)) (2/ 294)، و ((التاريخ الكبير)) للبخاري (1/ 299، و4/ 1/908)، وابن سعد في ((الطبقات)) (1/ 212، 213).
(9) انظر ما ذكره ((ابن جرير في التفسير)) (6/ 9/99).
(10) انظر ما ذكره ((ابن كثير في التفسير)) (2/ 275)، والسيوطي في ((الدر)) (3/ 151)، وعزياه لابن أبي حاتم.
قال ابن كثير: (وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس من أصحابه؛ كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة. ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي، وغير واحد من السلف، وجماعة من الخلف، ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة. وكأنه – والله أعلم – أصله مأخوذ من أهل الكتاب؛ فإن ابن عباس رواه عن أبي بن كعب كما رواه ابن أبي حاتم) (1) ... وهذه الآثار يظهر عليها – والله أعلم – أنها من آثار أهل الكتاب، وقد صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدم تصديق أهل الكتاب وفي عدم تكذيبهم أيضاً، ثم إن أخبارهم على ثلاثة أقسام؛ فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ما علمنا كذبه بما دل على خلافه من الكتاب والسنة أيضاً، ومنها ما هو مسكوت عنه فهو المأذون في الحديث (2).
وهذا الأثر – المروي عن ابن عباس – ننظر إليه بهذه الاعتبارات الثلاثة، فهل يدل عليه من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء؟. في الحقيقة: أن هذا فرع عن صحة الحديث الذي رواه سمرة بن جندب – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ضعفه. أعني الحديث: ((لما ولدت حواء طاف بها إبليس ... )) (3) إلخ.
فالمحدثون في هذا الحديث فريقان:
فريق: أخذوا الحديث بالتصحيح، ثم بدؤوا يؤولون في معنى الحديث كي لا يؤدي إلى نسبة الشرك إلى آدم.
وفريق آخر يضعفون الحديث، ويفسرون الآية بما يوافق طبيعة اللغة العربية، وبما روي من آثار في ذلك.
فأما الذين قالوا بصحة الحديث أجابوا بأجوبة، منها:
أ- أن النفس الواحدة وزوجها آدم وحواء، والشرك الواقع منهما ليس شركاً في العبادة، وإنما هو شرك في التسمية، حيث سميا ولدهما (عبد الحارث) والحارث هو اسم إبليس، وآدم وحواء لم يعتقدا بتسمية ولدهما عبد الحارث أن الحارث ربهما (4)، وقد ذكر هذا القول بعض المفسرين، كابن جرير الذين صوبه (5)، ورجحه على غيره، وروى في تأييده آثاراً عن السلف.
فروى عن ابن عباس أنه قال: (أشركه في طاعته في غير عبادة، ولم يشرك بالله، ولكن أطاعه) (6).
وعن قتادة قال: (وكان شركاً في طاعته، ولم يكن شركاً في عبادته) (7).
وعن سعيد بن جبير قال: (قيل له: أشرك آدم؟ قال: أعوذ بالله أن أزعم أن آدم أشرك، ولكن حواء لما أثقلت أتاها إبليس فقال لها: من أين يخرج هذا؟ من أنفك, أو من عينك, أو من فيك؟ فقنطها، ثم قال: أرأيت إن خرج سوياً ... أتطيعيني؟ قالت: نعم، قال: فسميه عبد الحارث، ففعلت ... فإنما كان شركه في الاسم) (8).
_________
(1) ((ابن كثير في تفسيره)) (2/ 275).
(2) ((ابن كثير في تفسيره)) (2/ 275).
(3) رواه أحمد (5/ 11) (20129)، ورواه الترمذي (3077)، والحاكم (2/ 594). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
(4) انظر هذا القول عند ((ابن جرير في تفسيره)) (6/ 9/101).
(5) انظر هذا القول عند ((ابن جرير في تفسيره)) (6/ 9/101).
(6) انظر هذا القول عند ((ابن جرير في تفسيره)) (6/ 9/99).
(7) انظر هذا القول عند ((ابن جرير في تفسيره)) (6/ 9/99).
(8) انظر هذا القول عند ((ابن جرير في تفسيره)) (6/ 9/99).
وعن السدي قال: ( ... فذلك حين يقول الله: جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا يعني في التسمية) (1). وأيضاً يدل عليه قراءة من قرأ: جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء بمعنى الشركة يعني بالاسم (2)، وحتى يتفادى أصحاب هذا القول الاعتراض عليهم بأن قوله تعالى: فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يفيد أن الذين أتوا بالشرك جماعة؛ إذ لو كان آدم وحواء لقال: فتعالى الله عما يشركان. فقد ذهبوا إلى أن في الآيتين قصتين: قصة آدم وحواء، والخبر قد انقضى عند قوله: جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا.
وقصة مشركي العرب، والخبر عنها في قوله: فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، والمعنى فتعالى الله عما يشرك به مشركو العرب من عبدة الأوثان (3)، واستأنسوا في ذلك بما روي من آثار، منها: ما روي عن السدي في قوله تعالى: فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، يقول: هذه فصل من آية آدم خاصة في آلهة العرب (4).
ويروى عنه أيضاً أنه قال: (هذا من الموصول والمفصول، قوله: جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا في شأن آدم وحواء، ثم قال الله تبارك وتعالى: فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ قال: عما يشرك المشركون، ولم يعنهما) (5). وقد رواه ابن أبي حاتم أيضاً في تفسيره (6).
وأجابوا عما يقال: إن آدم وحواء إنما سميا ابنهما عبد الحارث والحارث واحد، وقوله شُرَكَاء جماعة، فكيف وصفهما جل ثناؤه بأنهما جعلا له شركاء، وإنما أشركا واحداً؟ قالوا في الجواب عن هذا السؤال: إن العرب تخرج الخبر الواحد مخرج الخبر عن الجماعة إذا لم تقصد واحداً بعينه ولم تسمه، كقوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ [آل عمران:173] وإنما كان القائل واحداً، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن الجماعة؛ إذ لم يقصد قصده، وذلك مستفيض في كلام العرب وأشعارها (7).
وممن استحسن هذا القول ودافع عنه، ورأى صحة الحديث الألوسي الذي قال: (لا يعد هذا شركاً في الحقيقة؛ لأن أسماء الأعلام لا تفيد مفهوماتها اللغوية، لكن أطلق عليها الشرك تغليظاً) (8).
كما يفهم من سياق كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب أنه يرجح هذا التفسير؛ حيث أتى به في تفسير قوله تعالى: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، مستدلاً به على منع التعبيد لغير الله (9).
_________
(1) ابن جرير الطبري: ((جامع البيان)) (6/ 9/99).
(2) ابن جرير الطبري: ((جامع البيان)) (6/ 9/101).
(3) ابن جرير الطبري: ((جامع البيان)) (6/ 9/101).
(4) ابن جرير الطبري: ((جامع البيان)) (6/ 9/101).
(5) ابن جرير الطبري: ((جامع البيان)) (6/ 9/102).
(6) عزاه السيوطي في ((الدر المنثور)) (3/ 152) إلى ابن أبي حاتم.
(7) انظر ما ذكره ((الطبري في تفسيره)) (6/ 9/101).
(8) الآلوسي: ((روح المعاني)) (3/ 185).
(9) انظر ما كتبه الشيخ في كتاب ((التوحيد له مع فتح المجيد)) (2/ 614).
كما أن الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – يرى رجحان هذا التفسير في تيسير العزيز الحميد؛ حيث قال: (وإذا تأملت سياق الكلام من أوله إلى آخره مع ما فسره به السلف، تبين قطعاً أن ذلك في آدم وحواء عليهما السلام، فإن فيه غير موضع يدل على ذلك، والعجب ممن يكذب بهذه القصة، وقوله تعالى: عَمَّا يُشْرِكُونَ هذا – والله أعلم – عائد إلى المشركين من القدرية، فاستطرد من ذكر الشخص إلى الجنس، وله نظائر في القرآن) (1). وقال أيضاً: (قوله: شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته: أي لكونهما أطاعاه في التسمية بعبد الحارث، لا أنهما عبداه، فهو دليل على الفرق بين شرك الطاعة وبين شرك العبادة) (2) ....
وأما الذين قالوا بتضعيف الحديث فهم كثر – وهو الصحيح إن شاء الله كما سيأتي -، قالوا: إن الحديث ضعيف، فبعض منهم ضعفه رواية، وبعضهم ضعفه دراية.
أما الذين ضعفوه من جهة الرواية فهم الجهابذة من المحدثين، منهم الحافظ ابن عدي؛ حيث إنه أعله بتفرد عمر بن إبراهيم، وقال: (وحديثه عن قتادة مضطرب) (3).
وأما الحافظ ابن كثير فقال: إن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري، وقد وثقه ابن معين، ولكن قال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به، ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعاً، فالله أعلم.
الثاني: أنه قد روي من قول سمرة نفسه، ليس مرفوعاً، كما قال ابن جرير ...
الثالث: أن الحسن –نفسه- فسر الآية بغير هذا، فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعاً لما عدل عنه إلى الذي أورده ابن جرير بسنده عن الحسن جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا، قال: كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم.
وبسنده عن الحسن قال: عني به ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده.
وبسنده عن الحسن قال: هم اليهود والنصارى؛ رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصروا.
ثم قال ابن كثير: هذه أسانيد صحيحة عن الحسن –رضي الله عنه- أنه فسر الآية بذلك، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية، ولو كان هذا الحديث محفوظاً عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عدل عنه هو ولا غيره، ولاسيما مع تقواه لله وورعه، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب من آمن منهم مثل كعب، ووهب بن منبه، وغيرهما (4).
وزاد الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله – علة أخرى؛ وهي الآتي ذكرها في الوجه الرابع.
الرابع: أن الحسن في سماعه من سمرة خلاف مشهور، ثم هو مدلس، ولم يصرح بسماعه عن سمرة، وقال الذهبي في ترجمته في الميزان: (كان الحسن كثير التدليس، فإذا قال في حديث: (عن فلان) ضعف احتجاجه) (5).
ولكن يفهم من صنيع الحافظ العلائي أن رواياته عن سمرة تحمل على السماع، وقد ذكر لذلك شاهداً (6)، فلم يبق من العلل إلا ما ذكره ابن كثير.
_________
(1) سليمان بن عبد الله آل الشيخ: ((تيسير العزيز الحميد)) (565، 566).
(2) سليمان بن عبد الله آل الشيخ: ((تيسير العزيز الحميد)) (565، 566).
(3) ابن عدي في ((الكامل)) (3/ 1701).
(4) انظر ما ذكره ((ابن كثير في تفسيره)) (2/ 275).
(5) انظر قول الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (1/ 527)، برقم (1968)، وجاء في المطبوع: ضعف لحاجة، وهو خطأ، والصواب ما ذكر الشيخ الألباني – رحمه الله – (ضعف احتجاجه)، وانظر قول الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1/ 517).
(6) انظر ما ذكره العلائي في ((جامع التحصيل)) (165، 166) بتحقيق حمدي عبد المجيد السلفي. ابن حزم: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 11).
أما من حيث الدراية: فأيضاً لا يصح؛ فإنه لم يثبت لدينا أن إبليس كان اسمه حارث، ثم ليس لدينا ما يدل على أن آدم كان يموت له الأولاد في حياته غير هابيل، ثم إن هذا خلاف مقتضى إرساله إلى الأرض من الله جل وعلا، فإنه أرسل لعمران الأرض، فلو مات له الأولاد لا يحصل هذا المقصود ألبتة، فهذا مما يضعف الحديث دراية، ولهذا قال ابن حزم – رحمه الله-: (وهذا الذي نسبوه إلى آدم – عليه السلام – من أنه سمى ابنه عبد الحارث خرافة موضوعة مكذوبة، من تأليف من لا دين له ولا حياء، لم يصح سندها قط، وإنما نزلت في المشركين على ظاهرها) (1).
وقال ابن القيم: (فالنفس الواحدة وزوجها آدم وحواء، واللذان جعلا له شركاء فيما آتاهما المشركون من أولادهما، ولا يلتفت إلى غير ذلك مما قيل: إن آدم وحواء كانا لا يعيش لهما ولد ..... ) (2).
من وجوه ضعف هذا القول ما يلي:
1 - أن آدم – عليه السلام – كان أعرف بإبليس وعداوته الشديدة له، وأن اسم إبليس هو الحارث – لو صح – فكيف مع هذا يسمي ولده عبد الحارث؟
2 - جمع الشركاء في قوله تعالى: جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا يدل على أن المتخذ شريكاً لله جماعة، في حين أن المتخذ شريكاً لله على هذا القول واحد وهو إبليس، فالتعبير بالجمع يدل على ضعف هذا القول.
3 - أنه لم يجر لإبليس في الآية ذكر، فلو كان هو المتسبب في التسمية – التي أطلق عليها شرك – على حد هذا القول – لجرى له ذكر، فالمقام مقام التحذير من الانخداع بوسوسة إبليس يقتضي ذكر اسم إبليس؛ لئلا ينخدع أحد بعده.
4 - أنه تعالى قال بعده: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وهذا يدل على أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى، وما جرى لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر.
5 - لو كان المراد إبليس لقال: (أيشركون من لا يخلق شيئاً)، ولم يقل: مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً؛ لأن العاقل إنما يذكر بصيغة (من) لا بصيغة (ما) (3).
وأما تفسير الآية على القول بتضعيف هذه الرواية فكما يلي:
1 - أن الآيتين في حق آدم وحواء، ويدفع الإشكال في قوله: جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا بأن الكلام على حذف مضاف، والتقدير: (جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما)، والتثنية على أن ولده قسمان: ذكر وأنثى؛ أي صنفين ونوعين، فزال الإشكال عن (جعلا) و (آتاهما). وفي قوله تعالى: فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ بلفظ الجمع باعتبار الأولاد (4).
2 - أن الخطاب لجميع الناس، والضمير في (جعلا) و (آتاهما) يعود على النفس وزوجها، لا إلى آدم وحواء (5)، وعلى هذا: النفس، غير ما ذكروه في تأويله، وهذا أقرب وأبعد من التأويل المتكلف.
3 - أن الخطاب في (خلقكم) لقريش، وهم آل قصي، فإنهم خلقوا من نفس قصي، وكان له زوج من جنسه عربية قرشية، وطلبا من الله أن يعطيهما الولد، فأعطاهما أربعة بنين فسماهم بـ عبد مناف، عبد شمس، عبد العزى، عبد الدار (6).
_________
(1) ابن حزم: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 11).
(2) ابن القيم: ((روضة المحبين)) (ص: 296).
(3) انظر هذه الأوجه عند ((الفخر الرازي في تفسيره)) (8/ 15/60، 61).
(4) ذكره الزمخشري في ((الكشاف)) (2/ 109)، وابن القيم في ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 263 - 264).
(5) ذكره ((الرازي في تفسيره)) (8/ 15/60 - 62).
(6) انظر ما ذكره النيسابوري: ((تفسير رغائب الفرقان وغرائب القرآن)) (6/ 9/94) بهامش تفسير الطبري.
4 - أن المراد بالنفس الواحدة آدم، وزوجها المجعول منها حواء، والذي طلبه آدم وحواء من الله صالحاً هو النسل السوي بصنفيه الذكور والإناث، ولكن أولاده جعلوا لله شركاء من الأصنام والأوثان فيما أتاهم، فتعالى الله عن إشراك المشركين من هذا النسل.
فقوله: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جنس الولد الصالح في تمام الخلق بدناً وقوة، وعقلاً، فكثروا صفة للولد وهو الجنس، فيشمل الذكر والأنثى والقليل والكثير، فكأنه قيل: (فلما أتاهما أولاداً صالحي الخلقة من الذكور والإناث جعل النوعان (له شركاء) بعضهم أصناماً، وبعضهم ناراً، وبعضهم شمساً، وبعضهم غير ذلك (1).
والمقصود: أنه لم يثبت أن آدم عليه السلام وقع في الشرك، بل الصحيح الثابت ما سبق أن ذكرناه أن أول شرك وقع في بني آدم هو في قوم نوح.
قال شيخ الإسلام: (إن الناس كانوا بعد آدم عليه السلام، وقبل نوح عليه السلام على التوحيد والإخلاص، كما كان عليه أبوهم آدم أبو البشر عليه السلام حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان، بدعة من تلقاء أنفسهم، لم ينزل الله بها كتاباً ولا أرسل بها رسولاً، بشبهات زينها الشيطان من جهة المقاييس الفاسدة, والفلسفة الحائدة؛ قوم منهم زعموا: أن التماثيل طلاسم الكواكب السماوية, والدرجات الفلكية, والأرواح العلوية.
وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الأنبياء والصالحين.
وقوم جعلوها لأجل الأرواح السفلية من الجن والشياطين.
وقوم على مذاهب آخر.
وأكثرهم لرؤسائهم مقلدون، وعن سبيل الهدى ناكبون، فابتعث الله نبيه نوحاً عليه السلام، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه، وإن زعموا أنهم يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى ويتخذوهم شفعاء) (2). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 176
_________
(1) انظر ما ذكره الخطيب الشربيني: ((السراج المنير في الإعانة على معرفة كلام ربنا الخبير)) (1/ 449).
(2) ابن تيمية: ((مجموع الفتاوى له)) (28/ 603 - 604).
المبحث الخامس: وقوع بعض هذه الأمة في الشرك
لقد صدق الرسول الأمين الحريص على حفظ إيمان المؤمنين حينما قال: ((الشرك أخفى في أمتي من دبيب الذر على الصفا ... )) (1). لقد خفى بعض أنواع الشرك على كثير من العلماء حيث وقعوا فيه، قال صاحب الدين الخالص: (ومن أنواع الشرك أشياء ما عرفها الصحابة إلا بعد سنين، فمن أنت حتى تعرفه بغير تعلم. وقد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد: 19]، وقال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ [الزُّمر: 65]، فإذا كان هذا في حق سيد الرسل وخاتمهم، فما ظنك بغيره من الناس؟ ...
وقال إبراهيم ... : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم: 35]، فإذا كان أبو الأنبياء يخاف على نفسه وعلى بنيه الأنبياء فما ترجوه في غيره وغيرهم من آحاد الناس الذين ليسوا بأنبياء؟ ... وحيث إن الشرك أخفى من دبيب النمل ابتلي به بعض من لم يتفطن له، وأفصح به في مقالاته، على جهل منه ... ) (2).
حتى بعض العلماء مبتلون في الوقوع في بعض أنواع الشرك؛ لخفائها وعدم تصور حقيقة الشرك التي بعث الرسل لأجلها، ولعل بعضهم كان لديهم حسن نية في بعض أقوالهم وأعمالهم التي شابهت الشرك، ولكن كما قال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -: (وكم من مريد للخير لن يصيبه) (3).
ثم إن هؤلاء القوم الذين سأذكرهم فيما يلي: لا أقول إنهم مشركون، فإن الحكم على العموم سهل وميسر في كثير من القضايا دون الحكم بالتعيين، فإنه ربما يوجد المقتضي للحكم على أحد بالشرك أو الكفر، ولكن يمنع من الحكم عليه فوات شرط من الشروط أو انتفاء مانع من الموانع، فمثلاً إذا كان لدى أي مسلم شبهة في كون بعض أنواع من التصرفات شركاً فإنه تزال عنه الشبهة أولاً، وتقام عليه الحجة ثانياً، وقبل هذا لا يحكم عليه بالشرك أو الكفر أبداً.
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين: أحد علماء نجد الأعلام: (والذي نقوله في ذلك: إن من مات من أهل الشرك قبل بلوغ ... الدعوة إليه، فالذي يحكم عليه إذا كان معروفاً بفعل الشرك ويدين به، ومات على ذلك فظاهره أنه مات على الكفر، فلا يدعى له ولا يضحى له، ولا يتصدق عنه. وأما حقيقة أمره فإلى الله تعالى، فإن كانت قد قامت عليه الحجة في حياته وعاند فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله، وأما من لا نعلم حاله في حال حياته، ولا ندري ما مات عليه، فإنا لا نحكم بكفره، وأمره إلى الله) (4).
وقال الإمام المجدد – الشيخ محمد بن عبد الوهاب -: (القصة تفيد أن المسلم – بل العالم – قد يقع في أنواع من الشرك وهو لا يدري عنها، فتفيد لزوم التعلم والتحرز، ... وتفيد أيضاً: أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كذب هو لا يدري، فنبه على ذلك فتاب من ساعته، أنه لا يكفر ... ) (5).
_________
(1) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (2/ 319). وأشار المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 87) إلى أن -إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما.
(2) ((الدين الخالص)) (1/ 138 - 141)، مختصراً.
(3) رواه الدارمي (1/ 79) (204). وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (5/ 11): إسناده صحيح.
(4) ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (4/ 835).
(5) ابن عبد الوهاب: ((كشف الشبهات)) (ص: 45، 46).
وفي موضع آخر: ( ... وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر, والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما؛ لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم ... ) (1).
وقال الإمام عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عن بعض من يعمل الشرك أنه لا يكفر: (لعدم من يناضل في هذه المسألة في وقته بلسانه، وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة، ولا وضحت له المحجة ... ) (2).
فالصحيح في تكفير المعين ونسبته إلى الشرك: أنه لا ينسب إليه الشرك إلا بعد إزالة الشبهة الموجودة عنده، وبعد إقامة الحجة عليه، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في الجهمية (الذين وقعوا في شرك التعطيل): (ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال) (3)، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم.
فكل من وقع في هذه الأمة من أنواع من الشرك بالله جل شأنه لا نحكم عليهم بأنهم مشركون إلا إذا ثبت لنا أنه قد أقيمت عليهم الحجة، وأزيلت عنهم الشبهة، فليس كل من وجد عنده شرك يوصف بالمشرك – إلا إذا كان الشيء مما يعلم من الدين بالضرورة-، كما هو ظاهر من نصوص الأئمة.
وإذا نظرنا إلى أغلب الفرق التي وقعت في الشرك نرى أنها كانت لديهم شبهة فيما قالوه وارتكبوه، فهذا الذي يمنعنا عن الحكم عليهم بأنهم مشركون بالتعيين، ولكن ليس المراد منه أن من ليس عنده شبهة، أو كانت شبهته في الأمور التي تعد من المعلوم بالدين بالضرورة، وقد أقيمت عليه الحجة؛ أنا لا نقول له بأنه مشرك كالباطنية والنصيرية والغلاة من الروافض مثلاً، فقد ثبت عن الأئمة أنهم كفروهم بالتعيين.
ثم إنا وإن لم نصف أحداً بالتعيين بأنه من المشركين فإنه لا ضير أن نذكر من وجد عنده نوع من أنواع الشرك؛ تنبيهاً للعامة ونصحاً للأمة، فمن هذا المنطلق سأذكر بعض من تورط في بعض أنواع الشرك سواء كان بقصد أو بغير قصد.
فمثلاً: إن الشرك في ذات الله وصفاته وأفعاله بالتعطيل قد وقع فيه كثير من العلماء البارزين من الجهمية والمعتزلة، كما وقع فيه جملة من العلماء المشهورين من الأشاعرة والماتريدية، وجملة من العلماء الذين قالوا بالقدر أو الجبر، وهذا وقع فيه جملة من المتصوفة الذين قالوا بوحدة الوجود مثلاً.
وأما الشرك في ذات الباري وأسمائه وصفاته وأفعاله بالأنداد فقد وقع فيه كثير من الشيعة وكثير من أهل السنة الغالين بالتشبيه، سواء كان هذا التشبيه في ذاته, أو في صفاته, أو في أفعاله، وذلك بإثبات بعض صفات الباري المختصة به سبحانه لبعض العباد، كما فعل الروافض في علي وأئمتهم، وكما فعل بعض أصحاب الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض من يحسنون بهم الظن بأنهم من الأولياء الكمل ولهم من الخصائص كذا وكذا، حتى بلغوا بهم إلى حد إثبات الأنداد لله عز وجل، ...
وأما الشرك في العبادة فحدث عنه ولا حرج، فكم ممن ينسب إلى العلم المعروفين في هذه الأمة أشركوا بالله جل وعلا – ومازالوا يشركون – في هذا الباب؛ كدعاء غير الله، والاستغاثة بغيره فيما لا يستغاث فيه إلا به، والاستعانة بغير الله في الأمور التي تختص فيها الاستعانة به سبحانه، والنذر والذبح، وأنواع من العبادات لغير الله، بحجة التوسل بهؤلاء الأشخاص والأموات إلى الله جل شأنه.
فلما فشى الشرك في هذه الأمة إلى هذه الدرجة قام العلماء الذين قد نور الله قلوبهم بمعرفة التوحيد ومعرفة حقيقة الشرك بمقتضى البشارة النبوية: ((لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي وعد الله)) (4)، وهم أصحاب الحديث والأثر من هذه الأمة. الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– بتصرف 1/ 671
_________
(1) ((مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب: فتاوى ومسائل)) (9/ 11).
(2) نقلا عن ((الهداية السنية)) لسليمان بن سحمان (46/ 47).
(3) ابن تيمية: ((الرد على البكري)) (ص: 46).
(4) رواه مسلم (1920). من حديث ثوبان رضي الله عنه.
المبحث السادس: متى وكيف كانت بداية الشرك في هذه الأمة
إن الله عز وجل أنعم على هذه الأمة حيث بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى الثقلين عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ [المائدة: 19]، وقد ((مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) (1)، والناس إذ ذاك أحد رجلين: إما كتابي معتصم بكتاب مبدل أو منسوخ، ودين دارس بعضه مجهول، وبعضه متروك، وإما أمي: من عربي وعجمي.
فمنهم من بحث عن الحنيفية واعتصم بها، ولكن أغلبهم كانوا مقبلين على عبادة ما استحسنوه، وظنوا أنه ينفعهم؛ من جن, أو وثن, أو قبر، أو تمثال أو غير ذلك؛ والناس في جاهلية جهلاء: من مقالات يظنونها علماً وهي الجهل، وأعمال يحسبونها صلاحاً، وهي فساد، وعبادات يحسبونها من عند الله، وهي من ما زينت لهم الشياطين وتهواها نفوسهم، ووجدوا عليها آباءهم.
فهدى الله الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم هداية جلت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارفين، وفتح الله بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، بعد أن جاهدهم وجالدهم باللين والحكمة، وقارعهم بالسنان والحجة لمن كابر وعاند، وكان من أمره صلى الله عليه وسلم مع قريش ما كان، حتى هاجر إلى المدينة، وكان نصر الله حليفه، فاستقام أمره، وظهر دينه، فجاء نصر الله ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وجمعهم الله على دين الإسلام؛ دين التوحيد، والملة الإبراهيمية الحنيفية بعد تشتت تام, وعداوة كاملة، وانهيار خلقي, وانحلال ديني, وفساد عقدي.
فألف بين قلوبهم حتى أصبحوا بنعمة الله إخواناً، وكسرت الأوثان والأصنام، وزالت عبادتها على أصنافها، فطمست التماثيل, وسويت القبور المشرفة، وأزيلت المعبودات من دون الله من قبر, وشجر, وحجر, ونصب, وصنم, ووثن، وأبطلت.
وتحررت العقول من دناءة تفكيرها، ووضاعة تصورها، فارتقت إلى التوحيد بعد أن كانت في حمأة الشرك، وأصبحت قلوبهم متجهة إلى الله وحده لا شريك معه غيره؛ لا نبي مرسل، ولا ملك مقرب، فأتم الله أمره, وأكمل دينه، وأعلا كلمته، حتى صار الدين كله لله.
فلما تمت نعمة الله عليه وعلى أمته وظهر ما جاء به من الحق، ووضحت الطريقة توفاه الله جل وعلا إليه، والإسلام في تقدم وشوكة تامة وغلبة كاملة، ليظهر على الدين كله.
وكان الصحابة – رضي الله عنهم وأرضاهم – يأخذون سلوكهم وأعمالهم وعقائدهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحياته هي الإسلام غضاً طرياً، وقد نزل القرآن الكريم بلغتهم ففهموا ما أراد الله منهم، وما احتاج إلى بيان بينه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنته، فكان الناس أمة واحدة ودينهم قائم في خلافة أبي بكر وعمر، فلما استشهد باب الفتنة عمر رضي الله عنه، وانكشف الباب، قام رؤوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذبح صبراً، وتفرقت الكلمة، وتمت وقعة الجمل ثم وقعة صفين، فظهرت الخوارج وكُفِّر سادة الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب.
وكان السبب في ذلك أنه كان هناك دولتان عظيمتان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهما: فارس، والروم، وقد كسر الله شوكتهم، وأزال ملكهم بأيدي الصحابة، وفي عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، فلما سيطر حكم الإسلام على أكثر البلاد في آسيا، وإفريقيا، وغيرهما، دخل تحت حكمه أمم كثيرة رغبة ورهبة، وكان لها أديان مختلفة، من يهودية ونصرانية، ومجوسية ووثنية، وغير ذلك.
وقد كان لكثير من هذه الأمم سلطان كبير مثل المجوس، والرومان، فسلبهم المسلمون ذلك، وكان عند هؤلاء من الكبر والاستعلاء ما يجعلهم يأنفون من كونهم تحت سلطان المسلمين، ولا سيما وقد كانوا يرون العرب من أحقر الأمم، وأقلها شأناً.
_________
(1) رواه مسلم (2865). من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
كما أن اليهود واجهوا الإسلام ورسوله من أول أمره بالعداء، وحاولوا القضاء عليه بأنواع جهدهم وكيدهم إلى الدسائس، والمؤامرات، والاغتيالات لرجاله العظام، ودخل في الإسلام ظاهراً من هؤلاء من قصد إفساده، وتمزيق وحدة أهله، ولابد أن يكون عن دراسة، وإعمال فكر وتخطيط، وربما يكون هناك جمعيات متعاونة، من المجوس والنصارى، والهنود، وغيرهم، وقد تكون لكل طائفة مؤسسات تعمل لإفساد عقائد المسلمين، لتيقنهم أنه لا يمكن هزيمة المسلمين إلا بإفساد عقيدتهم.
فبدأت آثار تلك المؤامرات تظهر، شيئاً فشيئاً، فقتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بأيد مجوسية، وربما بمؤامرة مجوسية يهودية، ثم قتل الخليفة الذي بعده، بأيد مشبوهة، من غوغاء، بدفعهم بعض دهاة اليهود والمجوس (1).
قال الإمام ابن حزم: (الأصل في أكثر خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام أن الفرس كانوا على سعة الملك، وعلو اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر في أنفسهم، حتى أنهم يسمون أنفسهم الأحرار والأبناء، وكانوا يعدون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم، على أيدي العرب، وكانت العرب أقل الأمم خطراً، تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة، في أوقات شتى، ... فرأوا أن كيده على الحيلة أنجح.
فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستشناع ظلم علي –رضي الله عنه-، ثم سلكوا بهم مسالك شتى، حتى أخرجوهم عن الإسلام، فقوم منهم أدخلوهم إلى القول بأن رجلاً ينتظر يدعى المهدي، عنده حقيقة الدين، إذ لا يجوز أن يؤخذ الدين من هؤلاء الكفار، وقوم خرجوا إلى نبوة من ادعى له النبوة، وقوم سلكوا بهم ... القول بالحلول، وسقوط الشرائع.
وآخرون تلاعبوا بهم، وأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة ... وقد سلك هذا المسلك أيضاً عبد الله بن سبأ الحميري اليهودي، فإنه –لعنه الله- أظهر الإسلام ليكيد أهله، فهو كان أصل إثارة الناس على عثمان – رضي الله عنه- ...
ومن هذه الأصول الملعونة، حدثت الإسماعيلية، والقرامطة، وهما طائفتان مجاهرتان بترك الإسلام جملة، قائلتان بالمجوسية المحضة، ثم مذهب مزدك الموبذ، ... فإذا بلغ الناس إلى هذين الشعبين أخرجوهم عن الإسلام كيف شاؤوا، إذ هذا هو غرضهم فقط) (2).
فأول فرقة ظهوراً هي الشيعة، وكانت الخوارج أيضاً في نفس الوقت ظهرت كفرقة مستقلة، وإن كان لكل منهما وجود قبل هذا ولكن بصفة متفرقة، فهاتين الفرقتين لهما السبق في تفريق جمع هذه الأمة.
قال الشهرستاني: (ومن الفريقين ابتدأت البدع والضلالة ... وانقسمت الاختلافات بعده إلى قسمين:
أحدهما: الاختلاف في الإمامة.
والثاني: الاختلاف في الأصول ... والاختلاف في الإمامة على وجهين:
أحدهما: القول بأن الإمامة بالاتفاق والاختيار، والثاني: القول بأن الإمامة تثبت بالنص والتعيين ...
_________
(1) راجع لما تقدم ما ذكره كل من الإمام ابن حزم في ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (2/ 115، 116). والشهرستاني في ((الملل والنحلل)) (10/ 15 - 22). والذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (11/ 236). والمقريزي في ((الخطط)) (2/ 331 - 343، 3/ 309 - 343). وشيخنا عبد الله محمد الغنيمان في ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (1/ 3 - 19). و ((مقدمة الدكتور علي بن محمد بن ناصر فقيهي في تحقيقه لكتاب الإيمان لابن مندة)) (1/ 4 - 7).
(2) ابن حزم الأندلسي في ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (2/ 115 - 116)، والبغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 584، 285)، والديلمي في ((قواعد آل محمد)) ((بيان عقيدة الباطنية وبطلانها)) (ص: 19).
وأما الاختلاف في الأصول فحدثت في آخر أيام الصحابة بدعة معبد الجهني, وغيلان الدمشقي، ... في القول بالقدر وإنكار إضافة الخير والشر إلى القدر ... ) (1)، فتبرأ ابن عمر (2) وابن عباس (3) وغيرهما ممن يقول بهذه المقالة. ثم حدثت بدعة الإرجاء، ثم حدثت بدعة الجهم بن صفوان ببلاد المشرق, فعظمت الفتنة به، فإنه نفى أن يكون لله صفة، وأورد على أهل الإسلام شكوكاً أثرت في الملة الإسلامية آثاراً قبيحة تولد منها بلاء كبير.
وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال على يد واصل بن عطاء، كمسلك فكري، بنت هذه الفرقة مذهبها على الجدل، واستعانت في ذلك بما وجدته من منطق اليونان وفلسفتها لتعزيز آرائها، وغيروا كثيراً من مفاهيم العقيدة، وأصلوا لبدعتهم أصولاً توافق عقولهم وأهواءهم.
ثم تطورت هذه المذاهب السياسية والفكرية وتشعبت حتى خرجت بعض هذه الفرق عن دائرة الإسلام، كما هو معلوم.
بداية الانحراف الشركي في هذه الأمة في الربوبية بالتعطيل:
بعد استعراض أقوال العلماء في كيفية انحراف عقيدة هذه الأمة يحسن بنا أن نتعرف على بداية الانحراف الشركي في الربوبية بالتعطيل: سواء كان في أسماء الله أو صفاته أو أفعاله.
ولعل أول شرك منظم في هذه الأمة في هذا الجانب – على ما نص عليه العلماء – هو شرك القدرية (4) الذين أنكروا القدر، فأشركوا في الربوبية بتعطيل صفات الله عز وجل وأفعاله. فإن إنكار القدر يتضمن إنكار كثير من الصفات والأفعال، كما أنهم أثبتوا خالقين.
ولهذا قال ابن عباس –رضي الله عنهما-: (هذا أول شرك في هذه الأمة) (5).
وقال ابن عمر –رضي الله عنهما- فيهم: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل منه حتى يؤمن بالقدر) (6).
وأول من عرف بذلك رجل مجوسي يقال له: سيسويه، من الأساورة، وإن كان قد اشتهر أن أول من قال به معبد الجهني (7).
ثم ظهر شرك التعطيل في أسماء الله وصفاته، بأنه ليس لله أسماؤه الحسنى، وأنه لا يوصف بشيء مما وصف به نفسه, أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يحب أحداً من عباده، ولا يتكلم وليس له يد ولا وجه، وكان أول من عرف بذلك رجل يقال له: الجعد بن درهم.
_________
(1) الشهرستاني: ((الملل والنحل)) (1/ 17 - 22).
(2) رواه مسلم (8).
(3) رواه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (ص: 79)، وفي ((الأوائل)) (ص: 59)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 238)، واللالكائي في ((شرح اعتقاد أهل السنة)) (ص: 1116).
(4) انظر ما ذكره ابن أبي العز في ((شرح الطحاوية)) (1/ 322).
(5) رواه الإمام أحمد في ((المسند)) (1/ 330): قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 207): [روي] من طريقين وفي إحداهما رجل لم يسم وسماه في الأخرى العلاء بن الحجاج ضعفه الأزدي. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 21): إسناده ضعيف [وروي من طريق آخر إسناده حسن على الأقل]. وضعفه الألباني في ((شرح الطحاوية)) (250).
(6) رواه مسلم (8).
(7) انظر ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في ((مجموع فتاواه)) (7/ 384)، وما ذكره المقريزي في ((الخطط)) (3/ 360).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أصل هذه المقالة – مقالة التعطيل للأسماء والصفات- إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين، وضلال الصابئين، فأول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة ... في الإسلام: هو الجعد بن درهم، فأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها، فنسبت مقالة الجهمية إليه، وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم) (1). فهذه سلسلة يهودية لها سوابق في محاربة الإسلام.
روى البخاري في خلق أفعال العباد، بسنده، قال: قال خالد بن عبد الله القسري في يوم أضحى: (ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد ابن درهم، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله علواً كبيراً عما يقول ابن درهم)، ثم نزل فذبحه. قال أبو عبد الله: قال قتيبة: إن جهماً كان يأخذ الكلام من الجعد بن درهم) (2).
فتبين من هذا أن الإلحاد أو شرك التعطيل في الربوبية بتعطيل الأسماء والصفات والأفعال ما هو إلا مؤامرة يهودية سيقت بغية إفساد العقيدة الصحيحة النقية للإسلام، كما بينا أن هذا الرفض أول من عرف من دعاته يهودي ماكر حاقد وهو ابن سبأ.
والمقصود: بيان كون الشرك الذي يتعلق بذات الرب سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله بالتعطيل أول ما حدث في تاريخ الإسلام من قبل هؤلاء القدرية في زمن صغار الصحابة، ومن قبل هؤلاء الجهمية بعدما ذهب أئمة التابعين – رضوان الله عليهم أجمعين (3) -.
وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال على يد واصل بن عطاء؛ فأنكر صفات الله عز وجل متأثراً بالجهمية، فهؤلاء المعتزلة نفوا أن يكون الله عز وجل خالقاً لأفعال العباد، وأثبتوا صفة الخلق لأفعال العباد، وأثبتوا صفة الخلق لأفعال العباد للعباد الضعفاء، وحرفوا الآيات القرآنية الدالة على الصفات وخلق الله لأفعال العباد، وجعلوا الأحاديث الصحيحة التي تدل على خلق الله سبحانه لأفعال العباد ظنية غير موجبة للعمل، تلبية لدعوة هواهم في إثبات آرائهم الفاسدة، وجمعوا بهذه الأعمال الشنيعة بين شرك تعطيل الصفات مع شرك تعطيل الأفعال، فما عبدوا إلا المعدوم، وما أشبهوا إلا المجوس.
وتأثر بهم ابن كلاب، فهذب مذهب الاعتزال وحاول تقريبه إلى مذهب أهل السنة في الصفات، ولكن لم يتخلص منهم، ثم ظهر في الساحة الإمام الأشعري، وكان أخذ عن الجبائي المعتزلي في أول الأمر، ولكنه سرعان ما رجع إلى مذهب ابن كلاب، فألف ودافع عنه، فهؤلاء الأشاعرة المنسوبة إلى الإمام الأشعري كلهم من أتباع ابن كلاب في الحقيقة، وهم من المتأثرين بالمعتزلة في الصفات حيث لم يتخلصوا من شرك التعطيل.
ومن الذين تأثروا بمذهب المعتزلة والجهمية في زمن الأشعري: أبو منصور الماتريدي، حيث إنه أخذ مذهب الاعتزال وأراد أن يتخلص منه، ولكن فاته الحظ الأوفر من مذهب السلف في الصفات، فلم يسلم من شرك التعطيل في صفات الله جل وعلا من جميع الوجوه، وهؤلاء الماتريدية المنسوبون إليه إلى يومنا هذا كلهم واقعون في شرك تعطيل بعض صفات الله جل شأنه شاؤوا أم أبوا.
_________
(1) ابن تيمية: ((مجموع فتاواه)) (14/ 20)، وانظر ما نقله عنه ابن عبد الهادي في ((العقود الدرية)) (ص: 85).
(2) البخاري: في ((خلق أفعال العباد)) (ص: 29، 30)، ورواه عثمان بن سعيد الدارمي في ((الرد على الجهمية)) (ص: 25).
(3) راجع ما قاله شيخ الإسلام في ((مجموع فتاواه)) (4/ 347 - 357)، وفي كتابه ((تفسير آيات أشكلت على كثير من الناس .. )) (2/ 774، 775).
والمقصود: أن هؤلاء الأشاعرة والماتريدية إنما تأثروا ببدعة الجهمية في إنكار الصفات وتأويلها وتعطيلها، وبهذا وقعوا في شرك التعطيل من غير أن يشعروا، ورائدهم في ذلك: جهم بن صفوان الذي ابتدع هذه البدعة في زمان أئمة التابعين وأتباعهم.
وفي نفس الوقت حدث في الساحة شرك التشبيه بالله جل شأنه، فسموا مشبهة، وهم صنفان: صنف شبهوا ذات الباري بذات غيره، وصنف آخر شبهوا صفاته بصفات غيره، وكل صنف من هذين الصنفين مفترقون على أصناف شتى (1).
فأما الذين شبهوا ذات الباري بذات غيره، فسيأتي ذكرهم في شرك الأنداد، وأما الذين يشبهون صفاته بصفات المخلوقين فهم الذين وقعوا في شرك التعطيل – تعطيل الصفات – إذ إن كل مشبه معطل، فهؤلاء المشبهة كثيرون، ولعل من أوائلهم: (هشام بن الحكم الرافضي الذي شبه معبوده بالإنسان، وزعم لأجل ذلك أنه سبعة أشبار بشبر نفسه، وأنه جسم ذو حد ونهاية) (2).
وتبعه (هشام بن سالم الجواليقي الذي زعم أن معبوده على صورة الإنسان، وأن نصفه الأعلى مجوف، ونصفه الأسفل مصمت، وأن له شعرة سوداء وقلباً ينبع منه الحكمة) (3). تعالى الله عن هذه المقولات القبيحة علواً كبيراً.
وتبعهما الغالية من الرافضة في التشبيه (4). كما تأثر بهما جماعة من المعتزلة، وجماعة من المنتسبين إلى أهل السنة.
وبعد ظهور شرك تعطيل الصفات بزمن يسير ظهر في الساحة شرك وحدة الوجود، وهو شرك تعطيل معاملة الله سبحانه عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد، قال ابن القيم: (ومن هذا شرك أهل وحدة الوجود الذين يقولون: ما ثم خلق وما خلق، ولا هاهنا شيئان، بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه) (5).
ولعل أول من قال بهذه المقالة الشنيعة في هذه الأمة هو الحلاج.
وتبعه كل من ابن الفارض، وابن عربي، وابن سبعين وغيرهم، والمتصوفة الطرقية عموماً.
فالحلاج هو القائل الأول بوحدة الوجود، وأما القائلون بالحلول والاتحاد فقد حاز السبق فيه أيضا ابن سبأ وأتباعه، فقد وجد هذان الشيئان في الغالية من الرافضة قديماً، وقد ذكر الأشعري والبغدادي والشهرستاني من ذلك شيئاً كثيراً (6).
والمقصود: بيان أن هؤلاء أشركوا بالله جل وعلا بتعطيل حقيقة التوحيد، فمنهم من ادعى الألوهية لنفسه، ومنهم من ادعى الحلول، ومنهم من ادعى الاتحاد، كما أن فريقاً آخر منهم ادعى الوحدة، وهم أكفر وأشد تشريكاً بالله من اليهود والنصارى، فاليهود – مثلاً – قالوا بحلول الرب في ذات عزرا، وقالت النصارى بحلوله في ذات المسيح، ولكن هؤلاء قالوا بحلوله سبحانه في كل شيء حتى في أخبث الحيوانات وأنتن الأماكن والبقاعات.
فهذا استعراض مجمل لخط الانحراف العقدي الشركي في هذه الأمة في الربوبية التي تتضمن الشرك في الألوهية أيضاً – كما هو معلوم – بالتعطيل.
بداية ظهور شرك الربوبية بالأنداد في هذه الأمة:
_________
(1) انظر ما ذكره الأشعري في ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 106 - 109 و1/ 281 - 290)، والبغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 65 - 71 و 225 - 23)، والشهرستاني في ((الملل والنحل)) (1/ 92 - 99).
(2) البغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 227).
(3) البغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 227).
(4) انظر ما ذكره الأشعري في ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 106 - 109)، وما ذكره البغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 65 - 70)، وما ذكره الشهرستاني في ((الملل والنحل)) (1/ 44 - 56، 1/ 92 - 98).
(5) ابن القيم: ((الجواب الكافي)) (ص: 311).
(6) انظر ما ذكره ((الأشعري في مقالاته)) (1/ 66 - 88)، والبغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 13، 230، 269)، والشهرستاني في ((الملل والنحل)) (1/ 145 - 177).
لعل أول شرك في هذا الجانب هو شرك عبد الله بن سبأ (1) اليهودي حيث أشرك بالله جل شأنه في الربوبية بالأنداد في الذات. حيث غلا في علي – رضي الله عنه – حتى زعم أنه إله (2)، كما أنه هو الرائد في الإشراك بالله في الربوبية بالأنداد في الصفات والأفعال؛ حيث زعم: أن علياً له الحياة الدائمة المطلقة، وله العلم المحيط بكل شيء، وله القدرة الكاملة الشاملة على كل شيء، وأنه هو الذي يقوم بمحاسبة الناس يوم القيامة، ويأتي بالأمطار، وسينتقم من أعدائه (3)، وغير هذه الاعتقادات الباطلة التي فيها شرك في الربوبية بالأنداد في الصفات والأفعال.
وبهذا نستطيع أن نقول: إن بداية ظهور شرك الربوبية بالأنداد في الذات إنما كان من عبد الله بن سبأ اليهودي، وتبعه أغلب الروافض الغلاة (4)، والإسماعيلية، والعبيدية، والقرامطة، والنصيرية، والدروز، وغيرهم.
وأما الشرك في الربوبية بالأنداد في الصفات والأفعال فقد كان السبق فيه أيضاً لابن سبأ اليهودي، وقد سبق بيانه، ويشترك كل من أشرك بالله في الربوبية بالأنداد في الذات في الشرك بالله بالأنداد في الصفات والأفعال؛ لأن كل من أثبت إلهاً من دون الله أعطى له من صفات الربوبية وأفعاله ما شاء وما أراد (5). ووقع في هذا النوع من الشرك كثير ممن لا يشرك بالله في ربوبيته في الأنداد في الذات، كالإمامية من الشيعة، والغلاة من المتصوفة في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض مشايخ التصوف وأساطينهم.
أما الرافضة فأصل البلاء عندهم في شرك الأنداد في الصفات والأفعال هو اتباعهم لابن سبأ اليهودي الزنديق الذي أراد أن يغير الدين الإسلامي الحنيف إلى دين اليهود والنصارى، فأحدثوا لهم أقوالاً من هذا النمط. وسيأتي تفصيل هذه المقولات فيما بعد إن شاء الله.
وأما الباطنية فهؤلاء تآمروا على هدم الدين من أساسه، فادعوا الند والشريك بالسابق، وله قرين، سموه بالتالي وهو الذي خلق السموات والأرضين وما فيهن.
أما السبب في انتشار شرك الأنداد بين المتصوفة فهو: أنه قد ظهر أناس من المسلمين بمظهر التقشف، وكان أخطر هؤلاء الأعداء على الدهماء وأبعدهم غوراً في الإغواء: أناس ظهروا بأزياء الصالحين؛ بعيون دامعة كحيلة، ولحى مسرحة طويلة، وعمائم كالأبراج، وأكمام كالأخراج، يحملون سبحات طويلة كبيرة الحبات، يتظاهرون بمظهر الدعوة إلى سنة سيد السادات, مع انطوائهم على مخاز ورثوها عن الأديان الباطلة, والنحل الآفلة، وكان من مكرهم الماكر أن خلطوا الكذب المباشر بالتزيد في تفسير مأثور، أو في فهم حديث صحيح، أو تأويله على مقتضى هواهم، أو الاستدلال بحديث مكذوب سواء كان قصداً أو بغير قصد.
_________
(1) انظر ما ذكره البغدادي في ((الفرق بين الفرق)) -حيث صدر بذكره في الخارجين من الإسلام- (ص: 233).
(2) انظر البغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 233)، وانظر أيضاً ما ذكره المقدسي في ((البدء والتاريخ)) (5/ 125 - 129)، وابن حجر في ((لسان الميزان)) (3/ 289 - 290)، والذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (2/ 426).
(3) انظر ما ذكره ((الأشعري في مقالاته)) (1/ 86 - 88)، والبغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 21 - 233)، وما ذكره الشهرستاني في ((الملل والنحل)) (1/ 177).
(4) انظر ما ذكره البغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 23 - 24، و225 - 230، و233 - 266)، والأشعري في ((المقالات)) (1/ 66 - 88)، الشهرستاني في ((الملل والنحل)) (1/ 151، 176 - 191).
(5) راجع ما ذكره الأشعري في ((المقالات)) (1/ 66 - 88)، والشهرستاني في ((الملل والنحل)) (1/ 151، 176 - 191)، والبغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 23 - 24، 225 - 230)، وابن منظور في ((تهذيب تاريخ دمشق)) (7/ 430).
فهؤلاء غلوا في أنفسهم بادعاء أشياء واهية من التصرفات في الكون، والعلم بما في المكنون، والقدرة على تقليب الشيء الموزون، ثم لما هلك هؤلاء جاء أتباعهم فادعوا فيهم أكثر مما ادعوا لأنفسهم من ذكر الكرامات، طلباً لتقديس الشخصيات، اتباعاً لسنن الأمم السابقة في هذه المجالات، ونبين بعض هذه الأنواع من الشركيات بشيء من البسط والتفصيل فيما يأتي من العبارات.
بداية ظهور الشرك في الألوهية والعبادة:
لعل أصل حدوث الشرك في الألوهية والعبادة كان من قبل الشيعة على اختلاف فرقها، وطوائفها، ونحلها، فإن التشيع هو ملجأ كل من يريد أن يحارب الإسلام والمسلمين، فما الباطنية بجميع شعبها – والإسماعيلية والقرامطة، والنصيرية, والعبيدية, والدرزية – إلا من فرقها، ومعروف: أن هؤلاء الباطنية كانوا مشركين بالله جل وعلا في ذاته وصفاته وأفعاله، ومشركين بالله جل وعلا في عبادته ومعاملته أيضاً، فهؤلاء جمعوا خبائث الأمم السابقة، وقالوا بالمجوسية المحضة، وجاهروا بترك الإسلام جملة، وهؤلاء كما كانوا يثبتون الشرك في الربوبية في الذات، ويثبتون الشرك في الربوبية في الصفات والأفعال، هكذا كانوا يعبدون القبور وأهلها، ويبنون عليها المساجد، والقباب، فأحيوا بذلك سنة اليهود والنصارى، فظهرت في هذه الأمة فرقة قبورية وثنية مشركة في صورة هؤلاء الروافض، الذين عمروا المشاهد وعطلوا المساجد (1).
فالإسماعيلية منهم – مثلاً – بثوا معتقداتهم بين الناس سراً، فاستحسن الجهال هذا الأمر لخفته وطرح التكاليف الشرعية، فأخذت تظهر الاعتناء بالقبور وتشييد المزارات والمشاهد، وتحري الدعاء عندها (2)، حتى نقلهم الشيطان إلى اتخاذهم شفعاء، ثم نقلهم إلى دعاء الأموات، ودعاء صاحب القبر، ثم نقلهم إلى الاعتقاد بأن لهم تصرفاً في الكون، تدرج هذا في قرنين ونحوها.
قال أحد المعاصرين: (إن أقدم من وقفت عليه يرجع المسلمين إلى دين الجاهلية في الاعتقاد بالأرواح والقبور هم الإسماعيليون، وبخاصة إخوان الصفا، تلك الجماعة السرية الخفية التي بنت عقائدها ورسائلها الخمسين بسرية تامة حتى لا يكاد يعرف لها كاتب، ولا مصنف وإن ظن ظناً.
ثم تبعهم على تقديس المقبورين من أهل البيت: الموسويون الملقبون بالاثني عشرية) (3). وصنفوا التصانيف في الحج إلى المشاهد, وفي كيفية الزيارات والأدعية عند القبور، يسندونها بطرق باطلة كاذبة، إلى أئمة أهل البيت –رضي الله عنهم-، وقد طالعت كتاب (الزيارات الكاملة) لابن قولويه فرأيت فيه من هذا شيئاً كثيراً.
ومن طالع تراث الإسماعيليين، وحركة إخوان الصفا وجد ما قلته ماثلاً أمامه، فإن فتنة الناس بالقبور, واتخاذ أهلها شفعاء ووسطاء لم تعرف قبلهم، ولما غلب الجهل قبل ظهور الدولة الفاطمية عرفت هذه الأمور طائفة من الناس، فلما ظهرت هذه الدولة العبيدية شيدت المشاهد ونشرت ما كان سراً من عقائدها.
جاء في الرسالة الثانية والأربعين من رسائل إخوان الصفا ما يبين هذا، ويبرهن له، فقد قال مؤلفو الرسائل:
_________
(1) انظر ما ذكره البركوي: في ((زيارة القبور)) (ص: 20).
(2) انظر ما كتبه الجوير: ((الإسماعيلية المعاصرة)) (ص: 135).
(3) صالح بن عبد العزيز آل الشيخ: ((هذه مفاهيمنا)) (ص: 99، 100).
(وذلك أن القوم الذين بعث إليهم النبي –عليه الصلاة والسلام والتحيات والرضوان- كانوا يتدينون بعبادة الأصنام، وكانوا يتقربون إلى الله تعالى بالتعظيم لها والسجود والاستسلام والخبورات، وكانوا يعتقدون أن ذلك يكون قربة لهم إلى الله زلفى، والأصنام هي أجسام خرس، لا نطق لها ولا تمييز، ولا حساً ولا صورة ولا حركة، فأرشدهم الله، ودلهم على ما هو أهدى وأقوم وأولى مما كانوا فيه، وذلك أن الأنبياء – عليهم السلام – وإن كانوا بشراً فهم أحياء ناطقون مميزون علماء، مشاكلون للملائكة بنفوسهم الزكية، يعرفون الله حق معرفته، والتقرب إلى الله بهم أولى وأهدى وأحق من التوسل بالأصنام الخرس التي لا تسمع، ولا تبصر، ولا تغني عنك شيئاً، ...
ثم اعلم يا أخي: أن من الناس من يتقرب إلى الله بأنبيائه ورسله, وبأئمتهم, وأوصيائهم، أو بأولياء الله وعبادة الصالحين، أو بملائكة الله المقربين، والتعظيم لهم, ومساجدهم ومشاهدهم، والاقتداء بهم, وبأفعالهم، والعمل بوصاياهم وسننهم على ذلك بحسب ما يمكنهم ويتأتى لهم, ويتحقق في نفوسهم, ويؤدي إليه اجتهادهم.
فإن من يعرف الله حق معرفته فهو لا يتوسل إليه بأحد غيره، وهذه مرتبة أهل المعارف الذين هم أولياء الله، وأما من قصر فهمه ومعرفته وحقيقته: فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بأنبيائه، ومن قصر فهمه ومعرفته بهم فليس له والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم، والدعاء, والصلاة, والصيام, والاستغفار, وطلب الغفران والرحمة عند قبورهم وعند تماثيل المصورة على أشكالهم، لتذكر آياتهم، وتعرف أحوالهم، من الأصنام والأوثان وما يشاكل ذلك طلباً للقربة إلى الله وزلفى لديه.
ثم اعلم أن حال من يعبد شيئاً من الأشياء ويتقرب إلى الله تعالى بأحد فهو أصلح حالاً ممن لا يدين شيئاً ولا يتقرب إلى الله ألبتة ... ) (1).
وهذه الجماعة الباطنية كانت نشاطاتها في أول القرن الثالث، ولم تعرف رسائلها التي قعدت لمذهبها، وبثت ذلك أوساط الناس إلا في القرن الرابع الهجري، بسرية تامة، فدخلت الأفكار في الطغام، وأنكرها العلماء الأعلام، وكفروا أصحابها.
كما قال ابن عقيل في القرن الخامس حيث انتشرت المذاهب بتأييد الدولة العبيدية، قال: (لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. وهم عندي كفار لهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد السرج وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشرج اقتداء بمن عبد اللات والعزى ... ) (2).
فعلمنا بهذا الحديث الطويل أن الشرك في القبور في هذه الأمة إنما هو من معتقدات الباطنية في هذه الأمة، ولم يكن هذا فاشياً قبل ظهورهم. هذا من ناحية ...
ومن ناحية أخرى: أنه عربت كتب الفلاسفة اليونانية القبورية الوثنية، وعكف عليها كثير ممن تفلسفوا في الإسلام، أمثال الفارابي الكافر، وابن سينا الحنفي القرمطي، ونصير الكفر والشرك الطوسي.
وغيرهم ممن لعبوا بالإسلام كما لعب بولس بالنصرانية.
فتأثروا بآرائهم الفلسفية، ومنها العقائد القبورية، فصاروا دعاة القبورية الوثنية بتفلسفهم.
_________
(1) ((رسائل إخوان الصفا)) (4/ 19 - 21).
(2) نقلاً عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- في ((مفيد المستفيد في حكم تارك التوحيد)): (ضمن عقيدة الموحدين) (ص: 64). وكما نقله عنه المعصوبي في كتابه ((حكم الله الواحد الصمد في حكم الطالب من الميت المدد)) (ص: 44)، وهو عند الإمام ابن القيم في ((إغاثة اللهفان)) (1/ 695).
وسايرهم كثير من المتكلمين من الماتريدية الحنفية، والأشعرية الكلابية، بسبب العكوف على كتبهم الفلسفية، فتأثروا بعقائدهم القبورية، حتى صاروا دعاة إلى القبورية الدهمية في آن واحد – كما سيأتي بيانه فيما بعد -.
فهذه نبذة من تاريخ حدوث الشرك في العبادة والألوهية في هذه الأمة، والتي تؤكد: أن الشرك بالعبادة ما كان موجوداً في القرنين الأول والثاني، وإنما حدث بعد هذا عندما ذهب أصحاب القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (قد جاءت خلافة بني العباس. وظهر في أثنائها من المشاهد بالعراق وغير العراق ما كان كثير منها كذباً، وكانوا عند مقتل الحسين بكربلاء قد بنوا هناك مشهداً، وكان ينتابه أمراء عظماء، حتى أنكر عليهم الأئمة، وحتى إن المتوكل لما تقدموا له بأشياء يقال إنه بالغ في إنكار ذلك وزاد على الواجب.
دع خلافة بني العباس في أوائلها، وفي حال استقامتها، فإنهم حينئذ لم يكونوا يعظمون المشاهد، سواء منها ما كان صدقاً أو كذباً كما حدث فيما بعد؛ لأن الإسلام كان حينئذ ما يزال في قوته وعنفوانه، ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام، .. بل عامة هذه المشاهد محدثة بعد ذلك.
وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس، وتفرقت الأمة، وكثر فيهم الزنادقة الملبسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع، وذلك من دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية بأرض المغرب. ثم جاءوا بعد ذلك إلى أرض مصر ... ) (1). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 647
_________
(1) ابن تيمية في ((الفتاوى)) (27/ 465 - 466).
المبحث السابع: شبهة من قال بعدم وقوع الشرك في هذه الأمة وردها
هناك نصوص يتشبث بها القائلون بعدم وقوع الشرك في هذه الأمة، ويزعمون دلالتها على خلاف ما ذهبنا إليه مما دلت عليه الأدلة، ويؤكده الواقع من أن الشرك يقع في هذه الأمة.
ومن أشهر هذه النصوص التي يستدلون بها ما يلي:
1 - قوله صلى الله عليه وسلم: ((والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها ... )) (1).
وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما خاف علينا الشرك فكيف يقع الشرك في هذه الأمة؟ (2).
ويجاب عن هذه الشبهة بما أجاب به الحافظ ابن حجر في (الفتح)، حيث قال في شرح الحديث:
أ- (أي على مجموعكم، لأن ذلك قد وقع من البعض، أعاذنا الله تعالى منها) (3).
ب- أو يقال: إنه في الصحابة خاصة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((عليكم)). قال الحافظ في (الفتح): (فيه إنذار بما سيقع فوقع كما قال صلى الله عليه وسلم ... وأن الصحابة لا يشركون بعده، فكان كذلك، ووقع ما أنذر به من التنافس في الدنيا) (4).
ج- أو يقال: (لعل النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم ويوحى إليه بأن طوائف من الأمة سوف يضلون ويشركون) (5).
ومن هذه الشبه أيضاً:
2 - قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمع دينان في جزيرة العرب)) (6).
وجه الاستدلال: (إن هذه البلاد بفضل الله طاهرة من كل رجس سالمة من كل شرك بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم) (7).
ويجاب عن هذه الشبهة: بأن هذا الفهم الذي ذكره هذا المفتون لم يفهمه المحدثون ولا السابقون الأولون، بل المعنى الذي فهموا منه هو النهي عن التمكين لدينين أن يجتمعا في جزيرة العرب، وليس المقصود به نفيه، ولا نفي وجوده عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كيف يمكن حمله على النفي وقد كان هناك أديان – لا دينان فقط – عند موت النبي صلى الله عليه وسلم وحتى في صدر الخلافة الراشدة في جزيرة العرب.
_________
(1) رواه البخاري (1344)، ومسلم (2296). من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(2) انظر ما قاله سليمان بن عبد الوهاب في ((الصواعق الإلهية)) (ص: 44 - 45).
(3) الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (3/ 211).
(4) الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (6/ 614).
(5) عبد الله بن علي القصيمي: ((الصراع بين الإسلام والوثنية)) (2/ 118).
(6) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 892) (1584)، والبيهقي (9/ 208) (18531) من حديث ابن شهاب مرسلا. قال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (12/ 13): مرسل يتصل من وجوه كثيرة. وقد رواه إسحاق بن راهويه كما في ((نصب الراية)) (3/ 454) والبزار (7786) من حديث أبي هريرة. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 124): فيه صالح بن أبي الأخضر وهو ضعيف وقد وثق. ورواه ابن إسحاق كما في ((سيرة ابن هشام)) (6/ 88) والإمام أحمد (6/ 274) من حديث عائشة بنحوه، وصححه الدارقطني كما ((نصب الراية)) (3/ 451) قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 328): رجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع. وحسن إسناده الألباني في ((التعليقات الرضية)) (3/ 493) وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1650).
(7) محمد بن علوي المالكي: ((مفاهيم يجب أن تصحح)): (ز).
ثانيا: لو حملنا الحديث المنسوب إلى النبي بهذا اللفظ على النفي لكنا قد كذبنا الواقع؛ فإن جزيرة العرب في تحديدهم (جنوباً وشمالاً: من عدن إلى ديار بكر، وشرقاً وغرباً: من العراق إلى مصر، فتدخل فيها اليمن، والحجاز، ونجد، والعراق، والشام، ومصر) (1)، فإن قلنا بحمل الحديث على النفي فإننا قد فتحنا لغير المسلمين بابا للضحك على عقولنا في رد الأحاديث، بدلالة كذب الواقع له، فإن في هذه الديار المذكورة كم من الأديان، وكم من الكنائس أيضاً، وهي مازالت معمورة من أول الإسلام حتى عصرنا الحاضر.
ثالثاً: أن ما ذكره هذا الضال من الحديث الذي رواه الإمام مالك في الموطأ، وما ورد أيضاً بلفظ: ((لا يبقين دينان بأرض العرب)) (2)، وما رواه الإمام أحمد في (المسند) بلفظ: ((لا يترك بجزيرة العرب دينان)) (3)، كل هذه الأحاديث إنما جاءت في سياق رواية وصية النبي صلى الله عليه وسلم وآخر عهده في حياته، وهي تدل صراحة على أن المراد بالحديث إنما هو النهي لا النفي كما فهمه هذا المفتون.
رابعاً: أن جميع من روى هذا الحديث من أصحاب الحديث كلهم ذكروه بعبارات تدل على أن المراد هو النهي، لا النفي، فمن هذه الروايات ما يلي:
1 - عن عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب ... )) (4).
2 - عن عمر قال: (لئن عشت - إن شاء الله - لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب) (5).
وهناك روايات صريحة تدل على أن هذا إنما هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم، منها:
1 - عن ابن عباس: في حديث طويل قال صلى الله عليه وسلم: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)) (6).
وبعد هذه الروايات الواضحة لا يقول بحمل الحديث على النفي إلا الغبي الجاهل الذي ليس له أي مشاركة في هذا العلم الشريف. والله أعلم.
ومما اشتبه عليهم أيضاً:
3 - قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرتكم - جزيرة العرب)) (7)
هكذا ذكره بعضهم، وقال آخر (8):
_________
(1) ابن جرجيس في ((صلح الإخوان)) (ص: 144)، وانظر ما قال سليمان بن عبد الوهاب في ((الصواعق الإلهية)) (ص: 44 - 47).
(2) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 592) (1583) والبيهقي (6/ 135) مرسلا عن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه. قال البيهقي: مرسل. وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (1/ 165): مقطوع يتصل من وجوه حسان. وقال ابن الملقن ((شرح البخاري)) (17/ 137): أسانيده منقطعة.
(3) ((مسند أحمد)) (6/ 274) (26395)، ورواه ابن إسحاق كما في ((سيرة ابن هشام)) (6/ 88) والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (2/ 12) (1066). من حديث عائشة، وصححه الدارقطني كما في ((نصب الراية)) (3/ 451)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 328): رجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع. وحسن إسناده الألباني في ((التعليقات الرضية)) (3/ 493) وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1650).
(4) رواه مسلم (1767).
(5) رواه والترمذي (1606، 1607) وأحمد (1/ 32) (215) وابن حبان (9/ 69) (3753)، والحاكم (4/ 305) (7721). وقال: صحيح على شرط مسلم. وقال الألباني في ((صحيح الترمذي)) (1606): صحيح. ورواه مسلم (1767) وأبو داود (3030)، بدون لفظة: ((لئن عشت)).
(6) رواه البخاري (3053)، ومسلم (1637).
(7) رواه الترمذي (3087)، وابن ماجه (2497)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (2/ 444) (4100). من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).
(8) سليمان بن عبد الوهاب: ((الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية)) (ص: 41).
قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)) (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود –رضي الله عنه-: ((إن الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام بأرض العرب، ولكن رضي منهم بما دون ذلك بالمحقرات وهي الموبقات)) (2).
وجه الدلالة: (أن الرسول أخبر أن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، وفي حديث ابن مسعود: أيس الشيطان أن تعبد الأصنام بأرض العرب، وهذا بخلاف مذهبكم؛ فإن البصرة ومن حولها والعراق من دون دجلة الموضع فيه قبر علي وقبر الحسين –رضي الله عنهما- كذلك اليمن كلها والحجاز كل ذلك من أرض العرب، ومذهبكم أن هذه المواضع كلها عبد الشيطان فيها، وعبدت الأصنام، وكلهم كفار، وهذه الأحاديث ترد مذهبكم) (3).
ويجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
أولاً: أن الرواية الأولى لم أجدها في كتب الحديث بهذا اللفظ، وأقرب ما وجدت مما يوافق هذه الرواية ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((أيها الناس! إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا آخر الزمان، وقد رضي منكم بمحقرات الأعمال، فاحذروه على دينكم)) (4) الحديث.
والحديث ضعيف، فلا احتجاج فيه.
أما الرواية الثانية: فهي ثابتة، ولكن هل الأحاديث الصحيحة تتناقض مع بعض؟ كلا، بل لابد أن يكون لكل واحد منها محمل غير ما للآخر، فالحديث الذي نحن بصدده يخالف ظاهراً – لدى البعض- الأحاديث الثابتة الصحيحة التي فيها خوف الرسول صلى الله عليه وسلم, وتحذيره من وقوع ألوان من الشرك في هذه الأمة، والعلماء قد ذكروا لهذا الحديث عدة احتمالات، فمما قالوا فيه:
1 - إن الشيطان أيس بنفسه –ولم ييأس- لما رأى عز الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإقبال القبائل على الدخول في هذا الدين الذي أكرمهم الله به، فلما رأى ذلك يئس من أن يرجعوا إلى دين الشيطان، وأن يعبدوا الشيطان أي: يتخذوه مطاعاً.
وهذا كما أخبر الله عن الذين كفروا في قوله: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ [المائدة: 3]، فهم يئسوا أن يراجع المسلمون مع عليه المشركون من الدين القائم على اتخاذ الأنداد مع الله، وصرف العبودية إلى أشياء مع الله أو دونه.
فكما أن المشركين لما رأوا تمسك المسلمين بدينهم يئسوا من مراجعتهم، هكذا الشيطان يئس لما رأى عز المسلمين ودخولهم في الدين في أكثر نواحي جزيرة العرب.
والشيطان – لعنه الله- لا يعلم الغيب، ولا يعلم أنه ستحين فرص يصد الناس بها عن الإسلام والتوحيد، وكانت أول أموره في صرف الناس لعبادته بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أطاعه أقوام وقبائل فارتدت عن الإسلام إما بمنع الزكاة، أو باتباع مدعي النبوة، فنشط وكانت له جولة وصولة، ثم كبته الله.
_________
(1) رواه مسلم (2812) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2) رواه الحاكم (2/ 32)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 51) (7471). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (2221).
(3) سليمان بن عبد الوهاب: ((الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية)) (ص: 45).
(4) رواه البزار وابن أبي شيبة كما في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (3/ 64) وعبد بن حميد في ((مسنده)) (1/ 270) (858). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 269): فيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (3/ 64): فيه موسى بن عُبيدة الربذي، وهو ضعيف.
والمقصود: أن الشيطان ييأس إذا رأى التمسك بالتوحيد والإقرار به والتزامه، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو حريص على أن يصد الناس عن هذا، ولذا تمكن من هذا في فترات مختلفة، فعبده القرامطة عبادة طاعة وهم في الجزيرة، وأفسدوا ما أفسدوا، وعبده من بعدهم مما يعرفه أولو البصيرة (1) (2).
فالقول بأن الشرك منتف عن هذه الأمة مخالف للواقع، كما أنه مخالف للفهم الصحيح لنصوص الشرع.
2 - أو يقال: إن نبينا صلى الله عليه وسلم فصل ما بين الشرك والتوحيد وبينه أتم بيان، وترك الدين على بيضاء ليلها كنهارها، وهذه البيضاء هي مضمون لا إله إلا الله، وهي إفراد الله بالعبادة، وخلع الأنداد، والكفر بما يعبد من دون الله، والبراءة من الشرك وأهله، كما فسرها أهل العلم رحمهم الله، فإذا علم هذا يقيناً فمحال أن يكون الشرك بصورته التي نهى الله عنها موجوداً في بلاد كثيرة، ويحكم عليها بالشرك ويوجد في الجزيرة بصورته ولا يحكم عليها بالشرك. وهذا من التلاعب والهوى الصارخ (3).
3 - وقال ابن رجب في شرح الحديث: إنه يئس أن يجتمعوا كلهم على الكفر الأكبر (4).
وأشار ابن كثير إلى هذا المعنى عند تفسيره قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ حيث قال: (قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني يئسوا أن تراجعوا دينكم) (5).
4 - ولا يبعد أن يقال: (مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن الشيطان ... )) أن الشيطان لا يطمع أن يعبده المؤمنون في جزيرة العرب، وهم المصدَقون بما جاء به الرسول من عند ربه المذعنون له، والممتثلون لأوامره، ولا شك أن من كان على هذه الصفة فهو على بصيرة ونور من ربه، فلا يطمع الشيطان أن يعبده ... ووجود مثل هذا في جزيرة العرب لا ينافي الحديث الصحيح كما لا يخفى على من له قلب سليم وعقل راجح، وإطلاق لفظ المصلين على المؤمنين كثير في كلام العارفين.
5 - ويحتمل أن يراد بالمصلين أناس معلومون بناء على أن تكون (أل) للعهد وأن يراد بهم الكاملون فيها ... وهم خير القرون، يؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث-: ((ولكن في التحريش بينهم)). يقول الطيي: لعل المصطفى صلى الله عليه وسلم أخبر بما يكون بعده من التحريش الواقع بين صحبه رضوان الله عليهم أجمعين، أي أيس أن يعبد فيها، ولكن يطمع في التحريش ... والدليل متى طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال) (6).
_________
(1) انظر ما ذكره الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ في: ((هذه مفاهيمنا)) (ص: 197 - 198).
(2) انظر ما ذكره أبو بطين، عبد الرحمن: ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (4/ 482 - 487).
(3) انظر ما ذكره الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ في كتابه: ((هذه مفاهيمنا)) (ص: 198 - 199).
(4) انظر ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (4/ 482 - 487).
(5) ((ابن كثير في تفسيره)) (2/ 12).
(6) محمد شكري الآلوسي: ((فتح المنان تتمة منها التأسيس)) (ص: 497 - 499) باختصار.
6 - أو يقال: كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بوقوع الشرك وحدوثه في هذه الأمة، ووقع، وحصل هذا الإخبار بما هو مشاهد عياناً، ولا ينكره إلا من أعمى الله بصره وطمس بصيرته. هكذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أناساً معلومين بأن الشيطان لا يسلط عليهم، وهم الذين قال عنهم الرسول عليه الصلاة والسلام: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق، منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) (1).
7 - أو يقال: إن الحديث يقول: إن الشيطان أيس أن يعبد. وظاهر لفظه: أن أيس من أن يعبد هو نفسه، لا من أن يعبد غيره من المخلوقات كالأنبياء والملائكة والصالحين والأشجار والأحجار، والقبور. فإن الشيطان إن أطيع في عبادة بعض المخلوقات، وقد تضاف إليه هذه العبادة ولكنها إضافة غير حقيقية، والعلاقة في الإضافة كونه هو الآمر بها، وحقيقة عبادة الشيطان نفسه: أن توجه إليه العبادة كفاحاً مباشرة.
8 - أو يقال: المراد أن الشيطان قد أيس من أن يعبد أو تعبد الأصنام في بلاد العرب في كل وقت وزمان، فهذا لن يكون إن شاء الله، وقد يشهد لهذا لفظة (أبداً) المذكور في الرواية الأخرى (2).
وعلى كل حال: لا يمكن أن يدعى أنه لن يعبد غير الله في بلاد العرب في وقت من الأوقات، فإن هذا باطل كاذب بالإجماع والضرورة والنصوص المتواترة.
ومما يستدل به القبوريون في هذا الباب:
4 - قوله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولا يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة، أو يأتي أمر الله تعالى .... )) (3)
وجه الاستدلال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمر هذه الأمة لا يزال مستقيماً إلى آخر الدهر، ومعلوم أن هذه الأمة .. التي تكفرون بها، مازالت قديماً ظاهرة ملأت البلاد، فلو كانت هي الأصنام الكبرى، ومن فعل شيئاً من تلك الأفاعيل عابد الأوثان، لم يكن أمر هذه الأمة مستقيماً، بل منعكساً ... ) (4).
يجاب عن هذه الشبهة: بأن هذه الشبهة ناتجة عن قصور باعه في علم الحديث. فإن الأحاديث تأتي بروايات مختلفة بعضها يفسر البعض الآخر، فالذي ذكره جاء بعدة روايات، حتى إنه جاء في صحيح البخاري في خمسة مواضع عن معاوية رضي الله عنه.
وقد جاء في كتاب العلم بلفظ: ((ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) (5)، وفي كتاب الاعتصام بلفظ: ((ولا تزال هذه الأمة ظاهرين على من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون)) (6).
وجاء في كتاب المناقب بلفظ: ((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ... )) (7).
كما جاء في كتاب الاعتصام بلفظ: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)) (8).
وفي كتاب التوحيد: ((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ... )) (9).
_________
(1) رواه ابن حبان (6714) والطبراني في ((الأوسط)) (8397) والبيهقي (9/ 181) من حديث ثوبان. قال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 142): محفوظ من غير وجه. وصححه السخاوي في ((البلدانيات)) (105) والحديث عند مسلم (1920) بنحوه.
(2) راجع ما ذكره القصيمي في ((الصراع بين الإسلام والوثنية)) (2/ 122 - 127).
(3) رواه البخاري (7312)، ومسلم (1037) مختصراً.
(4) سليمان بن عبد الوهاب: ((الصواعق الإلهية)) (ص: 41).
(5) رواه البخاري (71)، ومسلم (1037).
(6) رواه البخاري (7311)، ومسلم (1921). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(7) رواه البخاري (3641)، ومسلم (1037).
(8) رواه البخاري (7311)، ومسلم (1921). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(9) رواه البخاري (3641)، ومسلم (1037).
والحديث جاء عند مسلم بلفظ: ((لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)) (1).
والمقصود: أن الروايات المطلقة في بعض الأحاديث تحمل على الروايات المقيدة، فإن من قواعد أصول الفقه حمل المطلق على المقيد إذا اتحد المحل والحكم (2)، وهنا هكذا، لهذا قال الحافظ ابن حجر عند شرح الحديث: (أن بعض هذه الأمة يبقى على الحق أبداً) (3). ولا شك أن هؤلاء البعض هم المحدثون, ومتبعوا الآثار لا غيرهم من القبوريين كما نص عليه السلف.
ومما يتشبث به القبوريون في هذا الباب:
5 - عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى)) فقلت: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ إن ذلك تام، قال: ((إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة من خردل إيمان، فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم)) (4).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ... حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال)) (5).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لن يبرح هذا الدين قائماً عليه عصابة المسلمين حتى تقوم الساعة)) (6).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك، فقال عبد الله بن عمرو: أجل، ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك مسها مس الحرير، لا تترك إنساناً في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة)) (7).
وجه الاستدلال: (في هذه الأحاديث الصحيحة أبين دلالة على بطلان مذهبكم؛ وهي أن جميع هذه الأحاديث مصرحة بأن الأصنام لا تعبد في هذه الأمة إلا بعد انخرام أنفس جميع المؤمنين آخر الدهر) (8).
ويجاب عن هذه الشبهة من عدة أوجه:
أولاً: مراد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بيان وقت ظهور الشرك بصفة عامة بحيث يطغى على التوحيد, ويسيطر على حاملي لواء التوحيد ويستأصلهم، فذكر: أن هذا يحدث في أواخر أيام الدنيا، قبل انعقاد القيامة الكبرى، وبعد خروج الريح القابضة لأنفس جميع المؤمنين حتى لا تبقى هذه الطائفة المنصورة والناجية على ظهر الأرض (9)، والذي يدل عليه فهم الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو حيث إنه عقب على قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تزال عصابة ... الحديث)) بقوله: أجل، ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك ... إلخ.
_________
(1) رواه البخاري (7311)، ومسلم (1921). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(2) انظر ما ذكره ابن قدامة في ((روضة الناظر)) (2/ 192).
(3) ابن حجر في ((الفتح)) (1/ 164).
(4) رواه مسلم (2907).
(5) رواه أبو داود (2484)، وأحمد (4/ 437) (19934)، والطبراني (18/ 116) (228)، والحاكم (2/ 81). من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال ابن جرير في ((مسند عمر)) (2/ 824): إسناده صحيح. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7294).
(6) رواه مسلم (1922). من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.
(7) رواه مسلم (1924). من حديث ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(8) سليمان بن عبد الوهاب: ((الصواعق الإلهية)) (ص: 50).
(9) انظر توجيه الحافظ ابن حجر وتطبيقه بين هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض: في ((الفتح)) (1/ 164، و13/ 294، و13/ 76 - 77)، وانظر ما ذكره شيخنا عبد الله محمد الغنيمان في ((شرح كتاب التوحيد للبخاري)) (2/ 235).
فهذا الحديث إنما يبين التحديد الزمني لفشو الشرك في هذه الأمة حتى لا يبقى في ظهر الأرض إلا مشرك، وليس المراد منه عدم وقوع الشرك في هذه الأمة كما ظنه بعض مدعي العلم والمعرفة، وإلا يكون هذا الفهم مخالفاً للأحاديث الصحيحة الأخرى ومخالفاً للواقع.
وأما استدلاله بهذا الحديث على عدم وقوع الشرك في هذه الأمة، فليس فيه ما يدل عليه، وقد بينا المراد من الحديث، ثم إن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين كما هو معلوم لدى كل واحد من أهل العلم.
ومما يتشبث به القبوريون أيضاً في إثبات شبهتهم:
6 - قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ... [آل عمران: 110].
وقوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ... [البقرة: 143].
وجه الاستدلال: (أن الأمة ليس فيها من يعمل الكفر، وأنها أمة صالحة كلها – من أولها إلى آخرها – ليس فيها شرك) (1).
ويجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
أولاً: أنهم تركوا من الآيتين ما هو دليل عليهم، وذلك: (أن الله وصف خير أمة أخرجت للناس بثلاث صفات وهي لأهل الإيمان خاصة، وليس لأهل الكفر والشرك، والنفاق والبدع والفسوق فيها نصيب، فقال: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ، فليس المشركون والمنافقون من خير أمة ... بل هم شرار الأمة ... ) (2).
ثانياً: (كل أهل الملل من اليهود والنصارى والمجوس والصابئة من أمته أرسل إليهم وكلهم من أمة محمد، وهم أمة الدعوة ... ومن لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبعه من هذه الملل الخمس فهو في النار، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة: 6] فأخبر تعالى أنهم في النار مع كونهم من هذه الأمة.
وأما استدلاله بقوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وهم المعنيون بهذه الأمة، ومن كان مثلهم من أهل الإيمان لحق بهم، وأما الكفار والمشركون والمنافقون فهم أعداء الأمة الوسط في كل زمان ومكان، ولا يمكن أحد أن يزعم أنهم من الأمة الوسط إلا مثل هذا الجاهل الذي يقول: ليس في الأمة كافر ولا مشرك ... ) (3).
ويبين الشيخ عبد الرحمن بن حسن جانباً من البدع والشرك والضلال الذي وقع في هذه الأمة، ... (مثل المرتدين في عهد الصديق، والخوارج زمن علي بن أبي طالب، والقدرية، والجهمية الجبرية، ودولة القرامطة، الذين وصفهم شيخ الإسلام بأنهم أشد الناس كفراً، والبويهيين، والعبيديين وغيرهم) (4).
وبالجملة: (هذا المعترض مموه بلفظ الأمة ملبس، قال تعالى في ذم هذا الصنف من الناس وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 42].
_________
(1) انظر ما قاله الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن بعضهم في ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (2/ 54).
(2) ((مجموع الرسائل والمسائل)) (2/ 54، 55) بتصرف. وانظر رد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن على الاستدلال بالآيتين السابقتين كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، ووَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ونحوهما، ((الدرر السنية)) (9/ 354، 356).
(3) مجموعة ((الرسائل والمسائل)) (2/ 57، 61)، وانظر رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن ((التوحيد وطروء الشرك على المسلمين في الجامع الفريد)) (ص: 343 - 345).
(4) الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في ((مجموعة الرسائل)) (2/ 62 - 80).
وهذا من أعظم اللبس والخلط والتمويه، والأمة تطلق ويراد بها عموم أهل الدعوة، ويدخل فيها من لم يستجب لله ورسوله، وتطلق أيضاً ويراد بها: أهل الاستجابة المنقادين لما جاءت به الرسل، ومن لم يفصل ويضع النصوص (في غير) مواضعها فهو من الجاهلين الملبسين) (1).
ويكشف الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن عن أصل هذه الشبهة وسبب حدوثها، فقال: (أعلم أن هذ المعترض لم يتصور حقيقة الإسلام والتوحيد، بل ظن أنه مجرد قول بلا معرفة ولا اعتقاد، وإلا فالتصريح بالشهادتين في هذه الأزمان والإتيان بهما ظاهرا هو نفس التصريح بالعداوة، ولأجل عدم تصوره أنكر هذا، ورد إلحاق المشركين في هذه الأزمان بالمشركين الأولين، ومنع إعطاء النظير حكم نظيره، وإجراء الحكم مع علته، واعتقد أن من عبد الصالحين، ودعاهم وتوكل عليهم، وقرب لهم القرابين مسلم من هذه الأمة، لأنه يشهد أن لا إله إلا الله) (2).
ويظهر جهل القائل بهذا القول حين لم يفرق بين أمة الإجابة، وأمة الدعوة، وقد رد الشيخ عبد اللطيف ذلك الاشتباه، فقال: (ليس كل من وصف بأنه من الأمة يكون من أهل الإجابة والقبلة، وفي الحديث: ((ما من أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار)) (3) ... وقال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا [النساء: 42] فدلت هذه الآية على أن هؤلاء الكافرين من الأمة التي يشهد عليهم صلى الله عليه وسلم ... والأمة في مقام المدح والوعد يراد بها أهل القبلة وأهل الإجابة، وتطلق في مقام التفرق والذم ويراد بها غيرهم، فلكل مقام مقال) (4).
ومما يتشبث به القبوريون أيضاً في هذا الباب:
7 - قوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)) (5).
وجه الاستدلال: (دعاؤه مستجاب) (6)، يعني فلا يمكن أن يكون هناك شرك عند قبر الرسول.
ويجاب عن هذه الشبهة: بأن دعاء الرسول مستجاب لا شك فيه، ولهذا قد أحاطه الله بأسوار وجدران (7)، فلا أحد يستطيع أن يسجد لقبره مباشرة كائناً من كان، وليس فيه أي دليل على أن أحداً لا يشرك بالله جل وعلا بعبادة النبي مثلاً أو بإثبات خصائص الربوبية في الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن هذا واقع، والواقع خير دليل في هذا المجال، فكم من الغالين في الرسول مثلاً يدعي فيه خصائص الربوبية، ...
وأيضا مما يتشبث به القبوريون في هذا الباب:
_________
(1) عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: ((مصباح الظلام)) (ص: 30).
(2) انظر قول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في ((مصباح الظلام)) (ص: 36).
(3) رواه أحمد (2/ 350) (8594). وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (2/ 66) كما أشار إلى ذلك في المقدمة.
(4) عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: ((مصباح الظلام)) (ص: 341).
(5) رواه مالك (1/ 172) من حديث عطاء بن يسار, وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (2/ 150) من حديث زيد ابن أسلم, قال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (2/ 347): روي متصلا مسنداً, وقال في ((التمهيد)) (5/ 41): مرسل غريب وهو صحيح, وقال ابن تيمية في ((حقوق آل البيت)) (58): ثابت. وصححه الألباني في ((مشكاة المصابيح)) (1/ 165). ورواه أحمد (2/ 246) (7352) وأبو يعلى (6681) والحميدي (2/ 445) متصلا من حديث أبي هريرة بنحوه. وصحح إسناده الألباني في ((تحذير الساجد)) (25).
(6) انظر ما قاله ((محمد العلوي المالكي في مفاهيمه)) (ص: ح).
(7) ((النونية)) (2/ 196).
8 - بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن أخوف ما أتخوف على أمتي، الإشراك بالله، أما إني لست أقول: يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً، ولكن أعمالاً لغير الله وشهوة خفية)) (1).
وجه الاستدلال: أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما خاف علينا الشرك الأكبر، وإنما خاف علينا الشرك الأصغر (2).
ويجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
1 - إن الحديث ضعيف (3)، والحديث الضعيف لا احتجاج به عند من يعتد به من أهل العلم.
2 - ولو فرضنا صحته: يكون مراد النبي صلى الله عليه وسلم من الحديث بيان خفاء هذا الشرك في أمته حتى يقع فيه بعض من يدعي العلم والتحقيق أيضاً، فمثلاً: عبادة الشمس والقمر والوثن من الظواهر التي لا يخفى ضلال مرتكبه، ولكن الشرك بأعمال القلوب؛ مثلاً المحبة لغير الله، والذل والخضوع لغير الله، واعتقاد أشياء مخصوصة لله جل شأنه لغير الله تعالى، هذه كلها من ضمن الأعمال لغير الله ومما تبقى خفياً، وهذا ظاهر، والحمد لله. الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 671
_________
(1) رواه ابن ماجه (4205)، وأحمد (4/ 123) (17161). قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (2/ 323): هذا إسناد فيه مقال، عامر بن عبد الله لم أر من تكلم فيه بجرح ولا غيره، وباقي رجال الإسناد ثقات، وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن ابن ماجه)) (4974).
(2) انظر ما قاله ((محمد العلوي المالكي في مفاهيمه)) (ص: ز-ح).
(3) انظر ما ذكره الألباني في ((ضعيف سنن ابن ماجه)) برقم: (921).
المبحث الثامن: قبح الشرك وخطره
فأما قبحه فيظهر في أن الشرك تنقص للرب تعالى بمساواة غيره له في بعض الأمور، وذلك غاية الضلال كما قال الله تعالى عن المشركين يوم القيامة عند خصومتهم مع معبوديهم: تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 97 - 98]، وهذا التنقص متضمن للظلم ولذلك قال الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]. فإن الذي يعبد هو الذي بيده الخلق والأمر والمتفضل بالنعم فصرف شيء من حق الله تعالى من العبودية إلى غيره ظلم عظيم.
فظهر مما تقدم أن قبح الشرك يتمثل في أنه تنقص للرب تعالى وظلم وضلال مبين.
وأما خطره فيتمثل في أنه يحبط الأعمال كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65]. ويتمثل خطره كذلك في أن صاحبه إن مات عليه فإنه لا يغفر له كما قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 4] ويتمثل خطره كذلك في أن صاحبه الذي مات عليه مخلد في نار جهنم، كما قال الله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72]. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 92
تمهيد
تنوعت عبارات أهل العلم في بيان أنواع الشرك، ولكنها لا تخرج عن المدلول الشرعي للشرك ... فمن عباراتهم في بيان أنواع الشرك ما يلي:
أ- أن الشرك ينقسم إلى أكبر وأصغر (1).
ب- ويقول بعضهم: إنه على ثلاثة أقسام: أكبر، وأصغر، وخفي (2).
ج- والبعض يقسمه حسب أجزاء التوحيد الثلاثة (3).
د- وبعضهم يقسمه إلى نوعين: الشرك في الربوبية، والشرك في الألوهية، ويدخل الشرك في الأسماء والصفات ضمن النوع الأول (4).
هذه الأقوال ليست متباينة، بل بعضها يوافق بعضاً، فمن قسم الشرك إلى قسمين: أكبر وأصغر، نظر إلى حقيقة الشرك وأحكامه من حيث خروجه من الإسلام وعدم خروجه. والذي قسم الشرك إلى ثلاثة أنواع: الأكبر والأصغر والخفي، فإنه لم يخالف القول السابق؛ لأنه إنما أراد إظهار أهمية الشرك الخفي، وإلا فالشرك الخفي داخل تحت النوعين السابقين، فإن الشرك الخفي بعضه من الشرك الأكبر المخرج من الملة، وبعضه من الشرك الأصغر الذي هو أكبر من المعاصي - الكبائر - ولكنها لا تخرج من الملة، وإنما أراد من أبرزها كنوع ثالث بيان خفائها على كثير من الناس وكثرة وقوعها، ...
أما الذي قسمه حسب أنواع التوحيد الثلاثة, والذي قسمه إلى نوعي الشرك في الربوبية والشرك في الألوهية فليس بينهما إلا إجمال وتفصيل.
فهذه الأقوال صحيحة وشاملة. وهناك أقوال أخرى للعلماء في بيان أنواع الشرك، وهي غير شاملة، منها:
هـ- أن أقسام الشرك أربعة:
الأول: شرك الاحتياز: وهو أن يكون غير الله مالكاً لشيء يستقل به، ولو كان في الحقارة مثقال ذرة.
الثاني: شرك الشياع: أن يكون لغيره نصيب يشاركه فيه، كيفما كان هذا النصيب في المكان والمكانة.
الثالث: شرك الإعانة: وهو أن يكون له ظهير ومعين من غير أن يملك معه، كما يعين أحدنا مالك متاع على حمله مثلاً.
الرابع: شرك الشفاعة: وهو أن يوجد من يتقدم بين يديه يدل بجاهه؛ ليخلص أحداً بشفاعته.
ويبدر ممن قال بهذا القول: أنه قسم الشرك حسب متعلقه وحسب باعث الناس على الشرك، وهذه الأنواع كلها داخلة تحت الشرك الأكبر، وهذه من أفراده، وكان قد أخذه من قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 22، 23].
ووقال بعضهم: إنه على ستة أنواع:
1 - شرك الاستقلال: وهو إثبات شريكين مستقلين، كشرك المجوس.
2 - شرك التبعيض: وهو تركيب الإله من آلهة كشرك النصارى.
3 - شرك التقريب: وهو عبادة غير الله إلى الله زلفى، كشرك متقدمي الجاهلية.
4 - شرك التقليد: وهو عبادة غير الله تبعاً للغير، كشرك متأخري الجاهلية.
5 - شرك الأسباب: وهو إسناد التأثير للأسباب العادية، كشرك الفلاسفة، والطبائعيين، ومن تبعهم في ذلك.
6 - شرك الأغراض: وهو العمل لغير الله (5).
_________
(1) ابن القيم: ((مدارج السالكين)) (1/ 339)، وابن سحمان: ((الدرر السنية)) (2/ 85).
(2) انظر ما قاله الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في ((رسالة: أنواع التوحيد وأنواع الشرك، ضمن الجامع الفريد)) (ص: 341).
(3) سليمان بن عبد الله: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 43).
(4) انظر ما ذكره ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (1/ 91 - 94)، و ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 390)، والمقريزي: ((تجريد التوحيد المفيد)) (ص: 8).
(5) أبو البقاء الكفوي، ((الكليات)) (ص: 216)، وأحمد الرومي: ((مجالس الأبرار)) (ص: 150 - 152).
يلاحظ أن أقسام الشرك التي ذكرها هي مجرد صور للأعمال الشركية التي تقع في بعض المجتمعات الإسلامية لعموم الجهل، وهناك صور أخرى للشرك لم يتعرض لها، ولا يمكن حصر جميع الصور بهذه الطريقة.
ز- وهناك تقسيم للإمام ابن القيم – رحمه الله – ذكره في كتابه: (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، يمكن أن يوصف بأنه أكثر دقة في استقصاء أنواع الشرك؛ حيث قال: (الشرك شركان: شرك يتعلق بذات المعبود، وأسمائه وصفاته وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته، وإن كان صاحبه يعتقد أنه – سبحانه – لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته ولا في أفعاله) (1). ثم بدأ الإمام في بيان التفريعات فيهما.
التقسيم المختار:
ولعل التقسيم الذي يجمع بين هذه التقسيمات هو أن يقال:
الشرك على نوعين: أكبر، وأصغر.
أما الأكبر:
فهو أن يتخذ شريكاً أو نداً مع الله – تعالى – في ذاته أو في أسمائه وصفاته، أو أن يعدل بالله – تعالى – مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده (2).
أو يقال: هو أن يجعل الإنسان لله نداً في ربوبيته, أو ألوهيته, أو أسمائه وصفاته (3). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 138
_________
(1) ابن القيم: ((الجواب الكافي)) (ص: 309، 310).
(2) انظر ما ذكره ابن تيمية: ((الاستقامة)) (1/ 344)، وابن القيم: ((مدارج السالكين)) (1/ 339).
(3) انظر ما ذكره حافظ الحكمي: ((معارج القبول)) (2/ 483)، و ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (1/ 516، 517)، وانظر ما ذكره ابن تيمية: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 3، 7)، والسعدي في ((الإرشاد)) (ص: 5، 2).
المطلب الأول: تعريفه
أما الشرك الأكبر فحقيقته هي: أن يضرع الإنسان بعبادة من العبادات إلى غير الله تعالى صلاة أو نذراً أو استغاثة به في شدة أو مكروه فيما لا يقدر عليه إلا الله ونحو ذلك، ويخرج من الملة، فمثاله في الاعتقادات: اعتقاد أن غير الله يستحق العبادة ومثاله في الأعمال: الذبح لغير الله، ومثاله في الأقوال: دعاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله. وهذا هو الذي ورد فيه مثل قول الله تعالى: تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 97 - 98] وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ [البقرة: 165]. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 93
المطلب الثاني: حكمه
من المعلوم أن هذا الشرك أعظم ما نهى الله عنه، قال تعالى: وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [النساء: 36]، فقرن النهي عنه بأعظم أمر أمر به وهو عبادته، التي من أجلها خلق الخلق كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
وهو أول المحرمات كما يدل عليه قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام: 151].
فهذا الشرك الأكبر مخرج عن الملة, وصاحبه حلال الدم والمال، وفي الآخرة خالد مخلد في النار، قال تعالى: فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة: 5].
وقال تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48].
وقال تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72].
كما أن هذا الشرك يحبط العمل، قال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام: 88]، وقال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65].
كما أنه تحرم ذبيحة مرتكبه، لقوله تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 121].
وصاحب هذا الشرك لا يرث ولا يورث، بل ماله لبيت المال، ولا يصلى عليه, ولا يدفن في مقابر المسلمين، وذلك أن المشرك قد ارتكب أعظم جريمة، وأفظع ظلم، قال تعالى: وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48].
وقد جاء في الحديث الذي رواه ابن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار)) (1)، وفي رواية عنه: ((من مات يجعل لله نداً أدخل النار ... )) (2).
وكما جاء عن جابر – رضي الله عنه -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)) (3).
وكما جاء عن ابن مسعود أيضاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار ... )) (4) الحديث.
وفي حديث أبي هريرة قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: ((استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي)) (5).
وفي حديث ابن عمر قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أبي كان يصل الرحم، وكان ... ، فأين هو؟ قال: ((في النار))، قال: فكأنه وجد من ذلك، فقال: يا رسول الله! فأين أبوك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حيثما مررت بقبر مشرك، فبشره بالنار)). قال: فأسلم الأعرابي بعد، وقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعاً، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار (6).
_________
(1) رواه البخاري (4497).
(2) رواه البخاري (6683).
(3) رواه مسلم (93).
(4) رواه البخاري (1238)، ومسلم (92).
(5) رواه مسلم (976).
(6) رواه ابن ماجه (1573). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (1/ 241): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات محمد بن إسماعيل وثقه ابن حبان والدارقطني والذهبي وباقي رجال الإسناد على شرط الشيخين، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).
وفي حديث سلمة بن يزيد الجعفي – رضي الله عنه – قال: انطلقت أنا وأخي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلنا: يا رسول الله، إن أمنا مليكة كانت تصل الرحم وتقري الضيف وتفعل وتفعل، هلكت في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئاً؟ قال: ((لا)) (1).
وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لايغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله، قال الله عز وجل: مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ [المائدة: 72] ... )) (2).
ومثله ما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم, ويطعم المساكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: ((لا يا عائشة، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)) (3).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، نكتفي منها بهذا القدر.
وأما الإجماع: فقد نقل غير واحد من العلماء إجماع الأمة على أن المشرك يخلد في النار.
وأما أقوال السلف في ذلك: فهي كثيرة، منها:
أ- قال الإمام أحمد بن حنبل: (ويخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام شيء إلا الشرك بالله العظيم، أو يرد فريضة من فرائض الله عز وجل جاحداً بها ... ) (4).
ب- قد عقد الإمام البخاري لذلك باباً في صحيحه، فقال: (باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا الشرك) (5).
ج- وقال العلامة ابن جرير – رحمه الله – حول قوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65]: (ومعنى الكلام: ولقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، وإلى الذين من قبلك، بمعنى وإلى الذين من قبلك من الرسل من ذلك، مثل الذي أوحي إليك منه، فاحذر أن تشرك بالله شيئاً فتهلك، ومعنى قوله: ولتكونن من الهالكين بالإشراك بالله إن أشركت به شيئاً) (6).
د- قال القرطبي: تعليقاً على حديث: ((من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)) (7): إن من مات على الشرك لا يدخل الجنة, ولا يناله من الله رحمة, ويخلد في النار أبد الآباد، من غير انقطاع عذاب، ولا تصرم آماد (8).
هـ- قال النووي: (أما دخول المشرك النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي – اليهودي والنصراني -، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا بين من خالف ملة الإسلام, وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده ما يكفر بجحده غير ذلك) (9).
_________
(1) رواه أحمد (3/ 478) (15965)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (11649). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 317): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند: رجاله ثقات.
(2) رواه أحمد (6/ 240) (26073)، والحاكم (4/ 619). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي في ((التلخيص)): صدقة ضعفوه وابن بابنوس فيه جهالة. وقال أحمد شاكر في ((المسند)) (1/ 520): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((ضعيف الجامع)) (3022): ضعيف.
(3) رواه مسلم (214).
(4) ابن أبي يعلى: ((طبقات الحنابلة)) (1/ 343).
(5) ((الإمام البخاري في صحيحه)) (1/ 48).
(6) ابن جرير الطبري: ((جامع البيان)) (23/ 24).
(7) رواه مسلم (93). من حديث جابر رضي الله عنه.
(8) نقله الشيخ عبد الرحمن بن حسن في ((فتح المجيد)) (1/ 99)، وهو في ((المفهم)) للقرطبي (1/ 290).
(9) ((شرح مسلم للنووي)) (2/ 97).
وويقول شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية: (ومن أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان أن يدعى غير الله، فإن ذلك من الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، وإن الشرك لظلم عظيم ... ) (1).
ز- قال ابن كثير: (أخبر – تعالى – أنه لا يغفر أن يشرك به، أي: لا يغفر من لقيه وهو مشرك به، ويغفر ما دون ذلك أي: من الذنوب لمن يشاء من عباده) (2).
ح- قال ابن القيم: (ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله –عز وجل- حرم الجنة على أهله فلا تدخل الجنة نفس مشركة، وإنما يدخلها أهل التوحيد ... ) (3).
ط- وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله -: (أن من لقيه لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار، ولو كان من أعبد الناس) (4).
ي- وقال أحمد بن حجر آل بوطامي الشافعي – رحمه الله -: (الشرك نوعان: أكبر وأصغر، فمن خلص منهما وجبت له الجنة، ومن مات على الأكبر وجبت له النار) (5). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 160
_________
(1) ابن تيمية: ((الرد على البكري)) (ص: 95).
(2) ((ابن كثير في تفسيره)) (2/ 308).
(3) ابن القيم: ((الوابل الصيب)) (ص: 18).
(4) ((التوحيد)) ابن عبد الوهاب (1/ 100) مع ((فتح المجيد)).
(5) أحمد بن حجر آل بوطامي، ((تطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران)) (ص: 38، 39).
المطلب الثالث: أقسام الشرك الأكبر
• أولاً: تعريف الشرك في الربوبية.
• ثانياً: أنواع الشرك في الربوبية والأسماء والصفات.
• ثالثاً: الفرق التي أشركت بالربوبية (1).
• رابعاً: مظاهر الشرك في الربوبية.
_________
(1) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز الحنفي، تحقيق الشيخ أحمد شاكر، (ص: 24 - 26).
أولاً: تعريف الشرك في الربوبية
هو اعتقاد متصرف مع الله عز وجل في أي شيء من تدبير الكون، من إيجاد أو إعدام، أو إحياء أو إماتة، جلب خير أو دفع شر، أو غير ذلك من معاني الربوبية، أو اعتقاد منازع له في شيء من مقتضيات أسمائه وصفاته كعلم الغيب وكالعظمة والكبرياء ونحو ذلك وقال الله تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر: 2 - 3] الآيات، وقال تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ [يونس: 107] الآية، وقال تعالى: قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر: 38].
وقال تبارك وتعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام: 59] الآيات، وقال تعالى: قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65] الآية، وقال تعالى: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [البقرة: 255] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: العظمة إزاري، الكبرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما أسكنته ناري)) (1) وهو في الصحيح (2). أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة لحافظ بن أحمد الحكمي- ص: 30
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ( ... إن الرب سبحانه هو الملك المدبر، المعطي المانع، الضار النافع، الخافض الرافع، المعز المذل، فمن شهد أن المعطي أو المانع، أو الضار أو النافع, أو المعز أو المذل غيره، فقد أشرك بربوبيته) (3).
وقال في موضع آخر: (فأما الأول - الشرك في الربوبية - فهو إثبات فاعل مستقل غير الله، كمن يجعل الحيوان مستقلاً بإحداث فعله، ويجعل الكواكب، أو الأجسام الطبيعية، أو العقول, أو النفوس، أو الملائكة، أو غير ذلك مستقلاً بشيء من الأحداث، فهؤلاء حقيقة قولهم: تعطيل الحوادث عن الفاعل ... ) (4).
أو بعبارة مختصرة يقال: من أشرك مع الله غيره في خصائص الربوبية أو أنكر شيئاً منها، أو شبهه بغيره، أو شبه غيره به، يعد مشركاً بالله، سواء كان في ذاته, أو أفعاله, أو أوصافه.
وهذا الشرك ينقسم إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفوراً (5). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا- 1/ 141
_________
(1) رواه أبو داود (4090)، وابن ماجه (3383)، وأحمد (2/ 376) (8881)، وابن حبان (2/ 35) (328). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال محمد جار الله في ((النوافح العطرة)) (222)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.
(2) رواه مسلم (2620). من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما.
(3) ابن تيمية: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 92).
(4) ابن تيمية: ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 390).
(5) انظر ما ذكره ابن القيم في ((الجواب الكافي)) (ص: 309).
ثانياً: أنواع الشرك في الربوبية والأسماء والصفات
النوع الأول: شرك التعطيل؛ وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وقال تعالى مخبراً عنه ما قال لهامان: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا.
وإنما قلنا لهذا التعطيل بأنه شرك؛ لأن الشرك والتعطيل متلازمان، فكل معطل مشرك، وكل مشرك معطل (1)، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وصفاته، ولكنه عطل حق التوحيد. وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل، وهو على ثلاثة أقسام:
1 - تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه, ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن معدوماً أصلاً، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها يسمونها بالعقول والنفوس (2)، ومنه الإلحاد بإنكار الخالق للكون.
2 - تعطيل الصانع – سبحانه – عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه, وأوصافه, وأفعاله، ومن هذا الشرك من عطل أسماء الرب تعالى, وأوصافه, وأفعاله من غلاة الجهمية، والقرامطة، فلم يثبتوا له اسماً ولا صفة، بل جعلوا المخلوق أكمل منه؛ إذ كمال الذات بأسمائه وصفاته.
ويدخل في ذلك شرك منكري الرسالة للرسل، وشرك منكري القدر، وشرك التشريع والتحليل والتحريم من غير الله.
3 - تعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد، ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون: ما ثم خالق ومخلوق، ولا هاهنا شيئان، بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه.
النوع الثاني: شرك الأنداد من غير تعطيل: وهو من جعل مع الله إلهاً آخر, ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته، ومن ذلك:
1 - شرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة، فجعلوا المسيح إلهاً، وأمه إلهاً.
2 - شرك المجوس (3): القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة.
3 - شرك القدرية (4): القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه، وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته، ولهذا كانوا أشباه المجوس.
4 - شرك الذي حاج إبراهيم في ربه: إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة: 258]، فهذا جعل نفسه نداً لله تعالى، يحيى ويميت بزعمه، كما يحيى الله ويميت، فألزمه إبراهيم أن طرد قولك أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي بها الله منها، وليس هذا انتقالاً كما زعم بعض أهل الجدل، بل إلزاماً على طرد الدليل إن كان حقاً.
5 - شرك فرعون حينما قال: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38]، وقوله تعالى حكاية عن قول قومه له: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: 127]، كما هو في بعض القراءات (5).
6 - وأيضاً من هذا النوع شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات، ويجعلها أرباباً مدبرة لأمر هذا العالم، كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم.
7 - ومن هذا النوع: شرك من أسند النعمة إلى غير الله، قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً.
_________
(1) انظر ما ذكره ابن القيم في ((الجواب الكافي)) (ص: 310).
(2) انظر ما ذكره ابن تيمية في ((الفتاوى)) (17/ 286).
(3) انظر: ((الملل والنحل)) (2/ 73)، و ((الفرق بين الفرق)) (ص: 276).
(4) انظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص: 18 - 20)، و ((تذهيب تهذيب الكمال)) (ص: 383).
(5) وهي قراءة ابن عباس ومجاهد، ((انظر: ما قال الطبري في التفسير)) (6/ 9/17).
8 - ومن هذا شرك عباد الشمس، وعباد النار، وغيرهم، فمن هؤلاء من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة، ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة، ومنهم من يزعم أنه إله من جملة الآلهة، وأنه إذا خصه بعبادته, والتبتل إليه, والانقطاع إليه أقبل عليه واعتنى به، ومنهم من يزعم أن معبوده الأدنى يقربه إلى المعبود الذي هو فوقه، والفوقاني يقربه إلى من هو فوقه حتى تقربه تلك الآلهة إلى الله سبحانه وتعالى!! فتارة تكثر الآلهة والوسائط وتارة تقل (1).
فيستنتج مما سبق أن هذا القسم من الشرك ينقسم قسمين:
1 - نوع في توحيد الربوبية، ويكون من وجهين:
أ- بالتعطيل، وذلك:
إما بالإلحاد، كقول فرعون: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 23]، ويدخل فيه الشيوعية, والاشتراكية, والقومية, وغيرها من الاتجاهات الهدامة التي تجددت.
وإما بتعطيل المصنوع عن صانعه: كالقول بقدم العالم.
وإما بتعطيل معاملة الصانع عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد: كالقول بوحدة الوجود.
وإما تعطيل الصانع عن أفعاله: كمنكري إرسال الرسل، ومنكري القدر، ومنكري البعث والنشور، وغيرها.
ب- بالأنداد، وذلك:
إما بدعوى التصرف في الكون من الغير كمشركي قوم إبراهيم الصابئة، والمتصوفة القائلين بالغوث, والقطب, والأوتاد، والأبدال وتصرفهم كما يدعون.
وإما بإعطاء السلطة لأحد غير الله في التحليل والتحريم، كما كان في النصارى، وفي بعض حكام هذه الأمة، والقوانين الوضعية وغيرها.
وإما بدعوى التأثير في الكون من النجوم والهياكل، كالصابئة من قوم إبراهيم، أو الأولياء، أو التمائم والأحجبة.
2 - نوع في توحيد الأسماء والصفات، وذلك من وجهين أيضاً:
أ- بالتعطيل: وذلك بتعطيل الصانع عن كماله المقدس: كالجهمية الغلاة، والقرامطة الذين أنكروا أسماء الله عز وجل وصفاته.
ب- بالأنداد:
1 - إثبات صفات الصانع للمخلوقين: وذلك؛ بالتمثيل في أسمائه أو صفاته، كالشرك في علم الباري المحيط، ويدخل في ذلك: التنجيم، والعرافة, والكهانة، وادعاء علم المغيبات لأحد غير الله، وكالشرك في قدرة الله الكاملة، وذلك بادعاء التصرف للغير في ملكوت الله، وخوف الضرر أو التماس النفع من الغير، أو بالاستغاثة من الغير، أو تسمية غيره غوثاً، أو بالسحر والتسحر وغيرها.
2 - أو بإثبات صفات المخلوق للصانع جل وعلا: كاليهود المغضوب عليهم الذين شبهوا الله بصفات المخلوقين، وهكذا النصارى في قولهم بالنبوة والأبوة وما إلى ذلك من صفات المخلوقات لله جل وعلا، ويدخل في هذا النوع كل من شبه الله بخلقه ومثله بهم من هذه الأمة.
وكل هذه الأنواع السالفة الذكر يعتبر من الشرك الأكبر، وينقسم إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفوراً باتفاق العلماء (2). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 142
_________
(1) ابن القيم: ((الجواب الكافي)) (ص: 3141)، بتصرف يسير.
(2) على ضوء ما ذكره ابن القيم في ((الجواب الكافي)) (ص: 309 - 314).
ثالثاً: الفرق التي أشركت بالربوبية (1)
1 - المجوس: (الأصلية) قالوا بالأصلين: النور والظلمة، وقالوا: إن النور أزلي، والظلمة محدثة.
2 - الثنوية: (أصحاب الاثنين الأزليين): الذين يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان، بخلاف المجوس الذين قالوا بحدوث الظلام، لكن قالوا باختلافهما في الجوهر، والطبع، والفعل، والخبر، والمكان، والأجناس، والأبدان، والأرواح، ولم يقولوا بتماثلهما في الصفات والأفعال، كما ترى، وإن قالوا بتساويهما في القدم.
3 - المانوية: (أصحاب ماني بن فاتك): قالوا: إن العالم مصنوع من أصلين قديمين، ولكن قالوا باختلافهما في النفس، والصورة، والفعل، التدبير.
4 - النصارى: (القائلون بالتثليث): فالنصارى لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضها عن بعض، بل هم متفقون على أنه صانع واحد يقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، ويقولون: واحد بالذات ثلاثة بالأقنوم. أما الأقانيم فإنهم عجزوا عن تفسيرها.
وقولهم هذا متناقض أيما تناقض, وتصوره كاف في رده، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولهذا قال طائفة من العقلاء: إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى, وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا، بل تكلموا بجهل، وجمعوا في كلامهم بين النقيضين, ولهذا قال بعضهم: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحد عشر قولاً.
وقال آخر: لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم لقال الرجل قولاً، وامرأته قولاً آخر، وابنه قولاً ثالثاً) (2).
وقال ابن القيم رحمه الله في معرض رده عليهم: (أما خبر ما عندكم أنتم فلا نعلم أمة أشد اختلافاً في معبودها منكم؛ فلو سألت الرجل، وامرأته، وابنته، وأمه، وأباه، عن دينهم لأجابك كل منهم بغير جواب الآخر) (3).
بل قيل فيهم: (لو توجهت إلى أي نصراني على وجه الأرض، وطلبت منه أن يصور لك حقيقة دينه، وما يعتقده في طبيعة المسيح تصويراً دقيقاً – لما استطاع ذلك) (4).
هذا وقد بين الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه (إظهار الحق) ما عندهم من التناقض، وكذلك الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (محاضرات في النصرانية).
5 - القدرية: هم في الحقيقة مشركون في الربوبية، وهذا لازم لمذهبهم؛ لأنهم يرون أن الإنسان خالق لفعله، فهم أثبتوا لكل أحد من الناس خلق فعله.
والخلق إنما هو مما اختص الله به، قال تعالى: وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصَّافَّات: 96].
وأفعال العباد لا يخرجها شيء من عموم خلقه –عز وجل- (5).
6 - الفلاسفة الدهرية: في قولهم في حركة الأفلاك بأنها تسعة، وأن التاسع منها وهو الأطلس يحرك الأفلاك كلها، فجعلوه مبدأ الحوادث، وزعموا أن الله يحدث ما يقدره في الأرض.
7 - عبدة الأصنام من مشركي العرب وغيرهم: ممن كانوا يعتقدون أن الأصنام تضر وتنفع، فيتقربون إليها، وينذرون لها، ويتبركون بها.
8 - غلاة الصوفية: لغلوهم في الأولياء، وزعمهم أنهم يضرون، وينفعون، ويتصرفون في الأكوان، ويعلمون الغيب، ولقولهم بوحدة الوجود، وربوبية كل شيء (6).
_________
(1) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز الحنفي، تحقيق الشيخ أحمد شاكر، (ص: 24 - 26).
(2) ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) لابن تيمية (2/ 155).
(3) ((هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى)) لابن القيم، (ص: 321).
(4) ((ما يجب أن يعرفه المسلم عن حقائق النصرانية والتبشير)) لإبراهيم الجيهان (ص: 13).
(5) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 258)، و ((الإيمان بالقضاء والقدر)) لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص: 173 - 174) ,
(6) انظر: ((هذه هي الصوفية)) لعبد الرحمن الوكيل، (ص: 35 - 38 و 133).
9 - الشيعة: لقولهم بأن الدنيا والآخرة للإمام، يتصرف بهما كيف يشاء، وأن تراب الحسين شفاء من كل داء، وأمان من كل خوف، ولقولهم: إن أئمتهم يعلمون الغيب، ويعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلا بإذنهم.
وهذا باطل، وبطلانه لا يحتاج إلى دليل، بل إن فساده يغني عن إفساده (1).
10 - النصيرية: لقولهم بألوهية علي بن أبي طالب رضي الله عنه, وبأنه المتصرف بالكون، لوصفهم إياه بأوصاف لا يجوز أن يوصف بها أحد إلا الله –عز وجل- مع اختلاف أقوالهم في هذا؛ فبعضهم يقول: إنه يسكن في الشمس ويسمون بـ: الشمسية.
وبعضهم يقولون: إنه يسكن في القمر، ويسمون بـ: القمرية.
وبعضهم يقولون: إنه يسكن في السحاب، ولذا إذا رأوا السحاب قالوا: السلام عليك يا أمير النحل (2).
11 - الدروز: لقولهم بألوهية الحاكم بأمر الله العبيدي، وغلوهم فيه، ووصفه بأوصاف لا تليق إلا بالله وحده، كقولهم عنه: (إنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) (3).
12 - من يعتقدون تأثير النجوم, والكواكب, والأسماء: وذلك كحال الذين يتتبعون الأبراج ويقولون – رجماً بالغيب – إذا ولد فلان في البرج الفلاني, أو الشهر الفلاني, أو اليوم الفلاني، أو كان اسمه يبدأ بحرف كذا أو كذا – فسيصيبه كذا وكذا، ويضعون عليها دعايات تقول: من شهر ميلادك تعرف حظك، أو من اسمك تعرف حظك.
كل ذلك شرك في الربوبية؛ لأنه ادعاء لعلم الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله وحده لا شريك له.
13 - القانونيون: الذين يصدون ويصدفون عن شرع الله، والذين يحكمون الناس بالقوانين الوضعية، التي هي من نحاتة أفكارهم، وزبالة أذهانهم فهؤلاء محاربون لله، منازعون له في ربوبيته وحكمه وشرعه (4). رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد– ص: 128
_________
(1) انظر: ((الخطوط العريضة)) لمحب الدين الخطيب، تحقيق: محمد مال الله (ص: 69)، وانظر ((مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة))، د. ناصر القفاري، (1/ 290)، و ((الشيعة والسنة لإحسان إلهي ظهير)) (ص: 66).
(2) انظر: ((الحركات الباطنية في العالم الإسلامي))، د. محمد بن أحمد الخطيب، (ص: 341)، و ((دراسات في الفرق)) لصابر طعمية، (ص: 42)، و ((النصيرية)) د. سهير الفيل (ص: 93 - 103)، و ((الباكورة السليمانية في كشف أسرار الديانة النصيرية)) لسليمان الأذني، و ((رسالة النصيرية في كتاب رسائل في الأديان والفرق والمذاهب)) لمحمد بن إبراهيم الحمد.
(3) انظر ((عقيدة الدروز، عرض ونقض)) د. محمد بن أحمد الخطيب (ص: 117)، وانظر ((الحركات الباطنية)) (ص: 233 - 238).
(4) انظر ((رسالة تحكيم القوانين)) لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.
رابعاً: مظاهر الشرك في الربوبية
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في خاتمة كتابه الإغاثة: وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم كما ... كان في قوم نوح عليه الصلاة والسلام ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتخذين على القبور المساجد والسرج ونهى عن الصلاة إلى القبور وسأل ربه سبحانه وتعالى أن لا يجعل قبره وثنا يعبد ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيدا وقال: ((اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (1) وأمر بتسوية القبور وطمس التماثيل، قال فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله إما جهلا وإما عنادا لأهل التوحيد ولم يضرهم ذلك شيئا وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين وأما خواصهم فإنهم اتخذوها بزعمهم على صور الكواكب المؤثرة في العالم عندهم وجعلوا لها بيوتا وسدنة وحجابا وحجا وقربانا ولم يزل هذا في الدنيا قديما وحديثا فمنها بيت على رأس جبل بأصبهان كانت به أصنام أخرجها بعض ملوك المجوس وجعله بيت نار ومنها بيت ثان وثالث ورابع بصنعاء بناه بعض المشركون على اسم الزهرة فخربه عثمان رضي الله عنه ومنها بيت بناه قابوس الملك المشرك بالهند قال يحيى بن بشر إن شريعة الهند وضعها لهم رجل يقال له برهمن ووضع لهم أصناما وجعل أعظم بيوتها بيتا بمدينة من مدائن السند وجعل فيه صنمهم الأعظم وزعم أنه بصورة الهيولي الأكبر وفتحت هذه المدينة في أيام الحجاج واسمها الملتان إلى أن قال رحمه الله تعالى وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة وهم قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذين ناظرهم في بطلان الشرك وكسر حجتهم بعلمه وآلهتهم بيده فطلبوا تحريقه وهذا مذهب قديم في العالم وأهله طوائف شتى فمنهم من عباد الشمس زعموا أنها ملك من الملائكة لها نفس وعقل وهي أصل نور القمر والكواكب وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم منها وهي عندهم ملك الفلك يستحق التعظيم والسجود والدعاء ومن شريعتهم في عبادتها أنهم اتخذوا لها صنما بيده جوهر على نوع النار وله بيت خاص قد بنوه باسمه وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القرى والضياع وله سدنة وقوام وحجبة يأتون البيت ويصلون فيه ثلاث مرات في اليوم ويأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم ويصلون ويدعون ويستسقون به وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم وإذا غربت وإذا توسطت الفلك ولهذا يقارفها الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة لتقع عبادتهم وسجودهم له ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تحري الصلاة في هذه الأوقات قطعا لمشابهة الكفار ظاهرا وسدا لذريعة الشرك وعبادة الأصنام
قلت وقد ذكر الله عز وجل عبادة الشمس عن أهل سبأ من أرض اليمن في عهد بلقيس كما حكى قول الهدهد حيث قال وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للشَّمْسِ مِنْ دُونِ الله [النمل:24] إلى آخر الآيات وهداها الله تعالى إلى الإسلام على يد نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام حيث قال: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لله رَبِّ العَالَمِين [النمل:44]
_________
(1) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 240)، وعبدالرزاق في ((المصنف)) (1/ 406)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (2/ 150). من حديث عطاء بن يسار مرسلا. وقال ابن عبدالبر في ((التمهيد)) (5/ 41): مرسل غريب وهو صحيح. وقال الألباني في ((مشكاة المصابيح)) (517): صحيح.
ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى (فصل) وطائفة أخرى اتخذت للقمر صنما وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة وإليه تدبير هذا العالم السفلي ومن شريعة عباده أنهم اتخذوا لهم صنما على شكل عجل ويجره أربعة وبيد الصنم جوهرة ويعبدونه ويسجدون له ويصومون له أياما معلومة من كل شهر ثم يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح والسرور فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء وأصوات المعازف بين يديه ومنهم من يعبد أصناما اتخذوها على صور الكواكب وروحانياتها بزعمهم وبنوا لها هياكل ومتعبدات لكل كوكب منها هيكل يخصه وصنم يخصه وعبادة تخصه ومتى أردت الوقوف على هذا فانظر في كتاب (السر المكتوم في مخاطبة النجوم) المنسوب لابن خطيب الري تعرف عبادة الأصنام وكيفية تلك العبادة وشرائطها وكل هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام فإنهم لا تستمر لهم طريق إلا بشخص خاص على شكل خاص ينظرون إليه ويعكفون عليه ومن هنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصناما زعموا أنها على صورها فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته ليكون نائبا منابه وقائما مقامه وإلا فمن المعلوم أن عاقلا لا ينحت خشبة أو حجرا بيده ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده.
ومن أسباب عبادتها أيضا أن الشياطين تدخل فيها وتخاطبهم منها وتخبرهم ببعض المغيبات وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم وهم لا يشاهدون الشيطان فجهلتهم وسقطهم يظنون أن الصنم نفسه هو المتكلم المخاطب، وعقلاؤهم يقولون إن تلك روحانيات الأصنام وبعضهم يقول إنها الملائكة وبعضهم يقول إنها هي العقول المجردة وبعضهم يقول هي روحانيات الأجرام العلوية وكثير منهم لا يسأل عما عهد بل إذا سمع الخطاب من الصنم اتخذه إلها ولا يسأل عما وراء ذلك وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام والأوثان ولم يتخلص منها إلا الحنفاء أتباع ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعبادتها في الأرض من قبل نوح عليه الصلاة والسلام كما تقدم وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحجابها والكتب المصنفة في شرائع عبادتها طبق الأرض قال إمام الحنفاء وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ [إبراهيم:35 - 36] والأمم التي أهلكها الله تعالى بأنواع الهلاك كلهم يعبدون الأصنام كما قص الله عز وجل ذلك عنهم في القرآن وأنجى الرسل وأتباعهم من الموحدين ويكفي في معرفة كثرتهم وأنهم أكثر أهل الأرض ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ((بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون)) (1)، وقد قال الله تعالى: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا [الإسراء:89] وقال الله تعالى: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ [الأنعام:116] وقال الله تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103] وقال الله تعالى: وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ [الأعراف:102] ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها فهم يشاهدون مصارع إخوانهم وما حل بهم ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها وتحمل أنواع المكاره في نصرتها وعبادتها وهم يسمعون أخبار الأمم التي فتنت بعبادتها وما حل بهم من عاجل العقوبات ولا يثنيهم ذلك عن عبادتها ففتنة عبادة الأصنام أشد من فتنة عشق الصور وفتنة الفجور بها والعاشق لا يثنيه عن مراده خشية عقوبة في الدنيا ولا في الآخرة وهو يشاهد ما يحل بأصحاب ذلك من الآلام والعقوبات والضرب والحبس والنكال والفقر غير ما أعد الله له في الآخرة وفي البرزخ ولا يزيده ذلك إلا إقداما وحرصا على الوصول والظفر بحاجته فهكذا الفتنة بعبادة الأصنام وأشد فإن تأله القلوب لها أعظم من تألهها للصور التي يريد منها الفاحشة بكثير والقرآن بل وسائر الكتب الإلهية من أولها إلى آخرها مصرحة ببطلان هذا الدين وكفر أهله وأنهم أعداء الله وأعداء رسله وأنهم أولياء الشيطان وعباده وأنهم هم أهل النار الذين لا يخرجون منها وهم الذين حلت بهم المثلات ونزلت بهم العقوبات وأن الله سبحانه برئ منهم هو وجميع رسله وملائكته وأنه سبحانه لا يغفر لهم ولا يقبل لهم عملا وهذا معلوم بالضرورة من الدين الحنيف وقد أباح الله عز وجل لرسوله وأتباعه من الحنفاء دماء هؤلاء وأموالهم ونساءهم وأبناءهم وأمرهم بتطهير الأرض منهم حيث وجدوا وذمهم بسائر أنواع الذم وتوعدهم بأعظم أنواع العقوبة فهؤلاء في شق ورسل الله في شق معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي- بتصرف - ص584
_________
(1) رواه البخاري (3348)، ومسلم (222). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(ومن أعمال أهل الشرك) التي لا يفعلها غيرهم ولا تليق إلا بعقولهم السخيفة، وأفئدتهم الضعيفة، وقلوبهم المطبوع عليها، وأبصارهم المغشي عليها (ما) أي الذي (لم يأذن الله) عز وجل في كتابه ولا سنة نبيه (بأن يعظما) بألف الإطلاق، وأن ومدخولها في تأويل مصدر أي لم يأذن الله بتعظيمه ذلك التعظيم الذي منحه إياه من لم يفرق بين حق الله تعالى وحقوق عباده من النبيين والأولياء وغيرهم، بل لم يفرق بين أولياء الله وأعدائه ولا بين طاعته ومعصيته، فيتخذ من دون الله أنداداً وهو يرى أن ذلك الذي فعله قربة وطاعة لله وأن الله يحب ذلك ويرضاه، ويكذَّب الرسل ويدَّعي أنه من أتباعهم، ويوالي أعداء الله وهو يظنهم أولياؤه، كفعل اليهود والنصارى يجاهرون الله بالمعاصي ويكذبون كتابه ويغيرونه ويبدلونه ويحرفون الكلم عن مواضعه ويقتلون الأنبياء بغير الحق وينسبون لله سبحانه وتعالى الولد ويفعلون الأفاعيل ويقولون نحن أبناء الله وأحباؤه، وهم البُغَضَاء إلى الله وأعداؤه وسبب هذا كله – في الأمم الأولى والأخرى – هو الإعراض عن الشريعة وعدم الاهتمام لمعرفة ما احتوت عليه الكتب من البشارة والنذارة والأمر والنهي والحلال والحرام والوعد والوعيد، ومعرفة ما يجب لله على عباده فعله وما يجب تركه (كمن يَلُذ ببقعة) أي يعوذ بها ويختلف إليها ويتبرك بها ولو بعبادة الله تعالى عندها، وتقدم تقييد ذلك بما لم يأذن به الله، فيخرج بهذا القيد ما أذن الله تعالى بتعظيمه كتعظيم بيته الحرام بالحج إليه وتعظيم شعائر الله من المشاعر والمواقف وغيرها، فإن ذلك تعظيم لله عز وجل الذي أمر بذلك لا لتلك البقعة ذاتها كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استلم الحجر الأسود: (أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) (1)،
_________
(1) رواه البخاري (1597) ومسلم (1270) ..
وكذلك التعظيم أيضاً نفسه إنَّما أردنا منع تعظيم لم يأذن الله به لا المأذون فيه، فإن الله تعالى قد أمر بتعظيم الرسل بأن يطاعوا فلا يعصوا ويحبوا ويتبعوا، وأن طاعة الرسول هي طاعة الله عز وجل ومعصيته معصية الله عز وجل، فهذا تعظيم لا يتم الإيمان إلا به إذ هو عين تعظيم الله تعالى، فإنهم إنما عُظموا لأجل عظمة المرسل سبحانه وتعالى وأُحبوا لأجله واتُّبعوا على شرعه، فعاد ذلك إلى تعظيم الله عز وجل، فلو أن أحداً عظم رسولاً من الرسل بما لم يأذن الله به ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله عز وجل وغلا فيه حتى اعتقد فيه شيئاً من الإلهية لانعكس الأمر وصار عين التنقص والاستهانة بالله وبرسله كفعل اليهود والنصارى الذي ذكر الله عز وجل عنهم من غلوهم في الأنبياء والصالحين كعيسى وعزير، فكذبوا بالكتاب وتنقصوا الرب عز وجل بنسبة الولد إليه وغير ذلك وكذبوا الرسول في قوله: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم:30] فصار ذلك التعظيم في اعتقادهم هو عين التنقص والشتم، سبحان الله عما يصفون، وسلام على المرسلين (أو حجر، أو قبر ميت، أو ببعض الشجر) أو غير ذلك من العيون ونحوها ولو بعبادة الله عندها فإن ذلك ذريعة إلى عبادتها ذاتها كما فعل إبليس لعنه الله بقوم نوح حيث أشار عليهم بتصوير صالحيهم ثم بالعكوف على قبورهم وصورهم وعبادة الله عندها إلى أن أشار عليهم بعبادتها ذاتها من دون الله تعالى فعبدوها، (متخذاً لذلك المكان) من القبور والأشجار والعيون والبقاع وغيرها (عيداً) أي ينتابها ويعتاد الاختلاف إليها (كفعل عابدي الأوثان) في تعظيمهم أوثانهم واعتيادهم إليها، ولذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم العكوف على الأشجار وتعليق الأسلحة بها على جهة التعظيم (تألهاً)، كما في الترمذي عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من قبلكم)) (1) ولقد عمت البلوى بذلك وطمت في كل زمان ومكان حتى في هذه الأمة لاسيما زماننا هذا، ما من قبر ولا بقعة يذكر لها شيء من الفضائل ولو كذباً إلا وقد اعتادوا الاختلاف إليها والتبرك بها حتى جعلوا لها أوقاتاً معلومة يفوت عيدهم بفواتها ويرون من أعظم الخسارات أن يفوت الرجلَ ذلك العيد المعلوم وآل بهم الأمر إلى أن صنفوا في أحكام حجهم إليها كتباً سموها مناسك حج المشاهد ومن أخل بشيء منها فهو عندهم أعظم جرماً ممن أخل بشيء من مناسك الحج إلى بيت الله الحرام، وجعلوا لها طوافاً معلوماً كالطواف بالبيت الحرام, وشرعوا تقبيلها كما يقبَّل الحجر الأسود حتى قالوا إن زحمت فاستلم بمحجن أو أشر إليه، قياساً على فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر الأسود، وشرعوا لها نذوراً من المواشي والنقود، ووقفوا عليها الوقوف من العقارات والحرث وغيرها وغير ذلك من شرائعهم الشيطانية، وقواعدهم الوثنية معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي- ص64
_________
(1) رواه الترمذي (2180)، وأحمد (5/ 218) (21950)، وابن حبان (15/ 93) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 346)، والطبراني (3/ 244) واللفظ له. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. تنبيه: بعض نسخ الترمذي فيها خيبر بدل حنين.
أولاً: تعريف الشرك في الألوهية
وهو شرك في عبادة الله، وإن كان صاحبه يعتقد أنه – سبحانه – لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته, ولا في أفعاله، وهو الذي يسمى بالشرك في العبادة، وهو أكثر وأوسع انتشاراً ووقوعاً من الذي قبله، فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يضر ولا ينفع, ولا يعطي ولا يمنع إلا الله، وأنه لا إله غيره, ولا رب سواه، ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته، بل يعمل لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة أخرى، فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وحظه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب.
وهذا حال أكثر الناس، ومعلوم أن من لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به، بل الذي أتى به شيء غير الذي أمر به، فلا يصح، ولا يقبل منه، قال الله عز وجل- كما في الحديث القدسي: - ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك به، وأنا منه بريء)) (1).
، ويقول أصحاب هذا الشرك مخاطبين لآلهتهم وقد جمعهم الجحيم: تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 97 - 98]، ومعلوم أنهم ما سووهم به في الخلق والرزق والإماتة والإحياء، والملك والقدرة، وإنما سووهم في الحب والتأله والخضوع لهم, والتذلل, والتعظيم (2). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 147
_________
(1) رواه مسلم (2985). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) انظره مع بعض ما تقدم في ((الجواب الكافي)) (ص: 318)، و ((مدارج السالكين)) (1/ 339).
ثانياً: أنواع الشرك في الألوهية
النوع الأول: اعتقاد شريك لله تعالى في الألوهية (1).
فمن اعتقد أن غير الله تعالى يستحق العبادة مع الله (2) , أو يستحق أن يصرف له أي نوع من أنواع العبادة فهو مشرك في الألوهية.
ويدخل في هذا النوع من يسمي ولده أو يتسمى باسم يدل على التعبد لغير الله تعالى (3)، كمن يتسمى بـ (عبد الرسول)، أو (عبد الحسين)، أو غير ذلك.
فمن سمى ولده أو تسمى بشيء من هذه الأسماء التي فيها التعبد للمخلوق معتقداً أن هذا المخلوق يستحق أن يعبد فهو مشرك بالله تعالى. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 161
النوع الثاني: صرف شيء من العبادات لغير الله تعالى
فالعبادات بأنواعها القلبية, والقولية, والعملية, والمالية حق لله تعالى لا يجوز أن تصرف لغيره. ... فمن صرف شيئاً منها لغير الله فقد وقع في الشرك الأكبر.
قال علامة الهند: صديق حسن خان القنوجي في تفسير قوله تعالى: أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء: 23] قال رحمه الله: (وقد تقرر أن العبادة لا تجوز إلا لله، وأنه هو المستحق لها، فكل ما يسمى في الشرع عبادة ويصدق عليه مسماها فإن الله يستحقه، ولا استحقاق لغيره فيها، ومن أشرك فيها أحداً من دون الله فقد جاء بالشرك، وكتب اسمه في ديوان الكفر) (4).
والشرك بصرف شيء من العبادة لغير الله له صور كثيرة، يمكن حصرها في الأمرين التاليين:
الأمر الأول: الشرك في دعاء المسألة
دعاء المسألة هو أن يطلب العبد من ربه جلب مرغوب, أو دفع مرهوب (5).
ويدخل في دعاء المسألة: الاستعانة, والاستعاذة, والاستغاثة, والاستجارة.
قال الخطابي رحمه الله تعالى: (ومعنى الدعاء: استدعاء العبد ربه – عز وجل – العناية، واستمداده إياه المعونة. وحقيقته: إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوة. وهو سمة العبودية، واستشعار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله – عز وجل – وإضافة الجود والكرم إليه) (6).
_________
(1) ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 28) نقلاً عن القرطبي.
(2) ((الإرشاد)) للسعدي: الردة (ص: 205).
(3) ((الدين الخالص)) لصديق حسن خان (2/ 104)، ((رسالة التوحيد)) للدهلوي الهندي (ص: 17، 25)، وينظر ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (آخر 1/ 378، 379).
(4) ((الدين الخالص)) (باب في رد الإشراك في العبادات) (2/ 52).
(5) ((الاستغاثة)) (2/ 452)، ((تيسير العزيز الحميد باب من الشرك الاستعاذة بغير الله)) (ص: 180)، و ((فتح المجيد)) (2/ 301)، ((مجموعة الرسائل)) (5/ 594).
(6) ((شأن الدعاء)) (ص: 4).
والدعاء من أهم أنواع العبادة، فيجب صرفه لله تعالى، ولا يجوز لأحد أن يدعو غيره كائناً من كان، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]، وقال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18]، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الدعاء هو العبادة)) (1)، وقال صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) (2).، فمن دعا غير الله فقد وقع في الشرك الأكبر – نسأل الله السلامة والعافية -.
ومن أمثلة الشرك في دعاء المسألة ما يلي:
_________
(1) رواه أبو داود (1479)، والترمذي (2969)، وابن ماجه (3828)، والحاكم (1/ 667). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال البغوي في ((شرح السنة)) (3/ 158): حسن لا يعرف إلا من حديث ذر. وقال النووي في ((الأذكار)) (478): إسناده صحيح. وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (1/ 64): إسناده جيد. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.
(2) رواه الترمذي (2516)، وأحمد (1/ 293) (2669)، والحاكم (3/ 623). قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث كبير عال من حديث عبد الملك بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنهما إلا أن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا شهاب بن خراش ولا القداح في الصحيحين وقد روي الحديث بأسانيد عن ابن عباس غير هذا، وصححه عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (3/ 333).
أ- أن يطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الخالق، سواء أكان هذا المخلوق حياً أم ميتاً، نبياً أم ولياً, أو ملكاً أم جنياً أم غيرهم، كأن يطلب منه شفاء مريضه, أو نصره على الأعداء، أو كشف كربة، أو أن يغيثه، أو أن يعيذه، وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا كله شرك أكبر، مخرج من الملة بإجماع المسلمين (1)؛ لأنه دعا غير الله، واستغاث به، واستعاذ به، وهذا كله عبادة لا يجوز أن تصرف لغير الله بإجماع المسلمين، وصرفها لغيره شرك، ولأنه اعتقد في هذا المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى (2).
ب- دعاء الميت.
ج- دعاء الغائب.
_________
(1) ينظر ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (1/ 124، 194، و27/ 67 – 87، 145)، ((قاعدة في التوسل)) (ص: 58، 95)، ((قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام وعبادات أهل الشرك)) (ص: 70)، ((الاستغاثة)) (1/ 376، و2/ 619)، ((مدارج السالكين)) (منزلة التوبة) (3/ 375)، ((القول الفصل النفيس)) (ص: 95)، ((منهاج التأسيس)) (ص: 104)، ((الدر النضيد)) (ص: 28 - 29)، ((مصباح الظلام)) (ص: 188)، ((الدرر السنية)) (2/ 192 - 194)، ((تيسير العزيز الحميد وفتح المجيد)) (باب من الشرك الاستعاذة بغير الله، والأبواب الأربعة بعده)، ((مجموعة الرسائل)) (4/ 469)، ((السنن والمبتدعات فصل في الأدعية المحرمة)) (ص: 212 - 266)، ((القول الجلي)) (ص: 56)، ((سيف الله لصنع الله الحنفي)) (ص: 48).
(2) ((الدر النضيد)) للشوكاني (ص: 69، 70) ((الكواكب الدرية)) للرباطي الحنفي (ص: 36 - 39)، ((الوسيلة)) لجوهر الباكستاني الحنفي (ص: 42 - 67)، ((التبيان)) للرستمي الحنفي (ص: 115 - 161) نقلاً عن كتاب ((جهود علماء الحنفية)) لشمس الدين الأفغاني (ص: 1472 - 1474)، ((منهاج التأسيس)) (ص: 187)، ((القول الفصل النفيس)) (ص: 82)، ((حجة الله البالغة)) (1/ 185)، ((صيانة الإنسان)) (ص: 373)، ((مجموعة الرسائل)) (5/ 593 - 603، 610 - 618)، ((الصواعق المرسلة الشهابية)) (ص: 132 - 137)، ((تصحيح الدعاء)) (ص: 247، 251).
فمن دعا غائباً أو دعا ميتاً وهو بعيد عن قبره، وهو يعتقد أن هذا المدعو يسمع كلامه, أو يعلم بحاله فقد وقع في الشرك الأكبر، سواء أكان هذا المدعو نبياً أو ولياً، أم عبداً صالحاً أم غيرهم، وسواء طلب من هذا المدعو ما لا يقدر عليه إلا الله أم طلب منه أن يدعو الله تعالى له، ويشفع له عنده (1)، فهذا كله شرك بالله تعالى مخرج من الملة؛ لما فيه من دعاء غير الله، ولما فيه من اعتقاد أن المخلوق يعلم الغيب، ولما فيه من اعتقاد إحاطة سمعه بالأصوات، وهذا كله من صفات الله تعالى التي اختص بها، فاعتقاد وجودها في غيره شرك مخرج من الملة (2).
د- أن يجعل بينه وبين الله تعالى واسطة في الدعاء، ويعتقد أن الله تعالى لا يجيب دعاء من دعاه مباشرة، بل لابد من واسطة بين الخلق وبين الله في الدعاء، فهذه شفاعة شركية مخرجة من الملة (3).
_________
(1) وقريب من هذا من جاء إلى القبر وطلب من صاحبه أن يدعو الله له فهذا عمل محرم، وهو بدعة باتفاق السلف. ينظر: ((قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام ... )) (ص: 111 - 136)، ((مجموع الفتاوى)) (1/ 330، 351، 354 و27/ 76) ((قاعدة في المحبة)) (ص: 190 - 192)، ((رسالة زيارة القبور)) لابن تيمية (ص: 25، 49، 50)، ((تلخيص الاستغاثة)) (ص: 57)، ((الرد على الأخنائي)) (ص: 164، 165، 216)، ((صيانة الإنسان)) (ص: 360)، ((القول الجلي)) (ص: 56)، ((تعليق شيخنا عبد العزيز بن باز على الفتح كتاب الاستسقاء)) (2/ 495)، ((تصحيح الدعاء)) (ص: 251). وقد نص جمع من أهل العلم على أن هذا العمل شرك أكبر. ((ينظر مدارج السالكين)) (1/ 369)، ((إغاثة اللهفان)): ((الفرق بين زيارة الموحدين ... )) (1/ 218 - 222)، ((تطهير الاعتقاد)) (ص: 15)، ((الدين الخالص)) (1/ 191، 213، 226، 227، 238، 413، و2/ 57)، ((الدرر السنية)) (1/ 85، 224 و2/ 238، 239)، ((تيسير العزيز الحميد وفتح المجيد باب من الشرك الاستعاذة بغير الله وباب الشفاعة))، ((الكواكب الدرية)) للرباطي الحنفي (ص: 77 - 108)، و ((التبيان)) للرستمي الحنفي (ص: 155 - 161)، و ((الوسيلة)) لجوهر الباكستاني الحنفي (ص: 42 - 67) نقلاً عن كتاب ((جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية)) للدكتور شمس الدين الأفغاني (3/ 1472 - 1474)، ويراجع ((الرسالة الصفدية)) (2/ 187 - 291). وللتوسع في هذه المسألة ينظر ((مجموع الفتاوى)) (24/ 303، 331، 332)، ((الروح)) (المسألة الأولى)، تفسير الآية (64) من النساء في ((تفسيري القرطبي وابن كثير))، ((كتاب الدعاء)) للعروسي.
(2) ((مجموع الفتاوى)) (27/ 81، 82)، ((رسالة التوحيد)) لإسماعيل الدهلوي (ص: 17، 20، 23، 31، 43)، ((مجموع فتاوى عبد الحي اللكنوي)) (1/ 264) نقلاً عن كتاب ((الدعاء)) للعروسي (ص: 274، 275، 296)، ((مصباح الظلام)) للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ابن حسن (ص: 199 - 201، 254)، ((روح المعاني)) للألوسي (13/ 67، و17/ 213، و24/ 11)، ((صيانة الإنسان)) لمحمد بن بشير السهسواني الهندي (ص: 373).
(3) ينظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (1/ 126 - 135، 150 - 163، و24/ 341)، ((إغاثة اللهفان)) (1/ 62)، ((رسالة التوحيد)) للدهلوي الهندي (ص: 46 - 48).
واتخاذ الوسائط والشفعاء هو أصل شرك العرب (1)، فهم كانوا يزعمون أن الأصنام تماثيل لقوم صالحين، فيتقربون إليهم طالبين منهم الشفاعة، كما قال تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3].
الأمر الثاني: الشرك في دعاء العبادة
دعاء العبادة هو: عبادة الله تعالى بأنواع العبادات القلبية، والقولية، والفعلية كالمحبة، والخوف، والرجاء والصلاة، والصيام، والذبح، وقراءة القرآن، وذكر الله تعالى وغيرها.
وسمي هذا النوع (دعاء) باعتبار أن العابد لله بهذه العبادات طالب وسائل لله في المعنى، لأنه إنما فعل هذه العبادات رجاء لثوابه وخوفاً من عقابه، وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال وطلب (2)، فهو داع لله تعالى بلسان حاله، لا بلسان مقاله.
ومن أمثلة الشرك في هذا النوع:
أ- شرك النية والإرادة والقصد:
هذا الشرك إنما يصدر من المنافق النفاق الأكبر، فقد يظهر الإسلام وهو غير مقر به في باطنه، فهو قد راءى بأصل الإيمان، كما قال تعالى: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا [البقرة: 14]، وقد يرائي ببعض العبادات، كالصلاة، كما قال تعالى عن المنافقين: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 142]، فهم قد جمعوا بين الشرك والنفاق.
ب- الشرك في الخوف:
الخوف في أصله ينقسم إلى أربعة أقسام:
1 - الخوف من الله تعالى: ويسمى (خوف السر)، وهو الخوف المقترن بالمحبة, والتعظيم, والتذلل لله تعالى، وهو خوف واجب، وأصل من أصول العبادة.
2 - الخوف الجبلي: كالخوف من عدو، والخوف من السباع المفترسة ونحو ذلك. وهذا خوف مباح؛ إذا وجدت أسبابه، قال الله تعالى عن نبيه موسى عليه السلام: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص: 21].
3 - الخوف الشركي: وهو أن يخاف من مخلوق خوفاً مقترناً بالتعظيم والخضوع والمحبة. ومن ذلك الخوف من صنم أو من ميت خوفاً مقروناً بتعظيم ومحبة، فيخاف أن يصيبه بمكروه بمشيئته وقدرته، كأن يخاف أن يصيبه بمرض, أو بآفة في ماله، أو يخاف أن يغضب عليه؛ فيسلبه نعمه فهذا من الشرك الأكبر، لأنه صرف عبادة الخوف والتعظيم لغير الله، ولما في ذلك من اعتقاد النفع والضر في غير الله تعالى، قال الله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة: 18] قال ابن عطية المالكي الأندلسي المولود سنة 481هـ في تفسيره (3): (يريد خشية التعظيم, والعبادة, والطاعة).
_________
(1) ((شرح الطحاوية)) (ص: 29)، ((تطهير الاعتقاد)) (ص: 15)، بل هو أصل شرك الخلق كلهم. ينظر: ((إغاثة اللهفان)) (فصل في ما في الشرك والزنا من الخبث) (1/ 62)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في ((مجموع الفتاوى)) (1/ 134، 135): (من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عباد الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وأنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله تعالى على النصارى).
(2) ((بدائع الفوائد)) (3/ 2 - 5)، ((تيسير العزيز الحميد وفتح المجيد)) (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله)، ((مقدمة تفسير السعدي)) (ص: 14).
(3) (2/ 148).
4 - الخوف الذي يحمل على ترك واجب أو فعل محرم، وهو خوف محرم (1)، كمن يخاف من إنسان حي أن يضره في ماله أو في بدنه، وهذا الخوف وهمي لا حقيقة له، وقد يكون هناك خوف فعلاً ولكنه يسير لا يجوز معه ترك الواجب أو فعل المحرم. قال الله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 175]. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلم بالحق إذا رآه أو علمه)) (2).
ج- الشرك في المحبة:
المحبة في أصلها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 - محبة واجبة: وهي محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبة ما يحبه الله تعالى من العبادات وغيرها (3).
2 - محبة طبيعية مباحة: كمحبة الوالد لولده، والإنسان لصديقه، ولماله ونحو ذلك.
ويشترط في هذه المحبة أن لا يصحبها ذل, ولا خضوع, ولا تعظيم، فإن صحبها ذلك فهي من القسم الثالث، ويشترط أيضاً أن لا تصل إلى درجة محبته لله ومحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ساوتها أو زادت عليها فهي محبة محرمة، لقوله تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24].
3 - محبة شركية، وهي أن يحب مخلوقاً محبة مقترنة بالخضوع والتعظيم، وهذه هي محبة العبودية، التي لا يجوز صرفها لغير الله، فمن صرفها لغيره فقد وقع في الشرك الأكبر (4)، قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ [البقرة: 165].
د- الشرك في الرجاء: وهو أن يرجو من مخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله، كمن يرجو من مخلوق أن يرزقه ولداً، أو يرجو منه أن يشفيه بإرادته وقدرته، فهذا من الشرك الأكبر المخرج من الملة (5).
هـ- الشرك في الصلاة والسجود والركوع:
_________
(1) ينظر في أنواع الخوف ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 24)، وينظر باب إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ في ((تيسير العزيز الحميد))، و ((فتح المجيد))، و ((إبطال التنديد))، و ((القول السديد))، و ((القول المفيد))، و ((الإرشاد)) للفوزان (ص: 53 - 60).
(2) رواه أحمد (3/ 44) (11421)، وأبو يعلى (2/ 419) (1212)، وابن حبان (1/ 509) (275)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/ 99). والحديث صحح إسناده ابن حجر على شرط مسلم في ((الأمالي المطلقة)) (163).
(3) ينظر: ((الجواب الكافي)) (ص: 274).
(4) ((قاعدة في المحبة)) (ص: 67 - 107) ((الجواب الكافي)) (ص: 195 و263 - 275)، ((طريق الهجرتين)) (ص: 383)، ((جلاء الأفهام فصل تسمية النبي صلى الله عليه وسلم بمحمد)) (ص: 93)، والباب الخامس (ص: 249)، ((تفسير ابن كثير)) (تفسير الآية 165 من سورة البقرة)، ((تجريد التوحيد)) (ص: 80، 81)، ((تيسير العزيز الحميد)) باب (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً)، ((الدرر السنية)) (2/ 291)، ((الإرشاد)) للفوزان (ص: 60، 61). وينظر ((الدين الخالص)) (1/ 69، 219).
(5) ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 24).
فمن صلى, أو سجد, أو ركع, أو انحنى لمخلوق محبة وخضوعاً له وتقرباً إليه (1)، فقد وقع في الشرك الأكبر بإجماع أهل العلم (2)، قال الله تعالى: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت: 37]، وقال سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: 162 - 163] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما سجد له: ((لا تفعل، فإني لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)) (3).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما ينبغي لأحد أن يسجد لأحد)) (4)، ولأنه قد صرف شيئاً من العبادة لغير الله عز وجل.
وصرف العبادة لغيره شرك بإجماع أهل العلم (5).
والشرك في الذبح:
الذبح في أصله ينقسم إلى أربعة أقسام:
1 - ذبح الحيوان المأكول اللحم تقرباً إلى الله تعالى وتعظيماً له، كالأضحية، وهدي التمتع والقران في الحج، والذبح للتصدق باللحم على الفقراء ونحو ذلك، فهذا مشروع، وهو عبادة من العبادات.
2 - ذبح الحيوان المأكول لضيف، أو من أجل وليمة عرس ونحو ذلك، فهذا مأمور به إما وجوباً وإما استحباباً.
3 - ذبح الحيوان الذي يؤكل لحمه من أجل الاتجار ببيع لحمه، أو لأكله، أو فرحاً عند سكنى بيت ونحو ذلك، فهذا الأصل أنه مباح، وقد يكون مطلوباً فعله، أو منهياً عنه حسبما يكون وسيلة إليه.
_________
(1) ينظر: ((زاد المعاد)): الطب: حلق الرأس (4/ 158 - 160).
(2) حكى هذا الإجماع في السجود القاضي عياض المالكي في آخر كتاب: ((الشفاء)) (2/ 521، 528)، والحافظ ابن عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (ص: 215)، وذكره ابن حجر الهيتمي المكي الشافعي في كتابه ((الإعلام بقواطع الإسلام)) (ص: 20) نقلاً عن كتاب ((المواقف وشرحه))، وينظر ((التمهيد)) (5/ 45)، و ((الاستغاثة)) (1/ 356، و2/ 629)، و ((مجموع الفتاوى)) (27/ 92)، و ((الجواب الكافي)) (ص: 196، 199)، و ((سيف الله)) لصنع الله الحنفي (ص: 69)، و ((الدين الخالص)) (1/ 94)، و ((رسالة التوحيد)) للدهلوي (ص: 53، 54)، وينظر أيضاً رسالة ((النواقض العملية)) ففيها نقول كثيرة عن كثير من العلماء من جميع المذاهب في أن الصلاة والسجود والركوع والانحناء تقرباً إلى المخلوق شرك أكبر مخرج من الملة. وذكر البركوي الحنفي في ((إيقاظ النائمين)) (ص: 79) أن الصلاة لغير الله حرام بالاتفاق.
(3) رواه ابن ماجه (1853)، وابن حبان (1290) والبيهقي (7/ 292). قال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (6/ 360): إسناده صالح وله ما يشهد له فيتقوى به. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. قال الشوكاني: (أخرج قصة معاذ المذكورة في الباب البزار بإسناد رجاله رجال الصحيح. وأخرجها أيضاً البزار والطبراني بإسناد آخر رجاله ثقات، وقصة السجود ثابتة من حديث ابن عباس عند البزار ومن حديث سارقة عند الطبراني، ومن حديث عائشة عند أحمد وابن ماجه، ومن حديث عصمة عند الطبراني وغير هؤلاء)، ((نيل الأوطار)) (6/ 234).
(4) رواه ابن حبان في ((صحيحه)) (9/ 470) (4162)، وحسن إسناده الألباني في ((إرواء الغليل)) (7/ 54).
(5) ينظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله) (ص: 192).
4 - الذبح تقرباً إلى مخلوق, وتعظيماً له, وخضوعاً له، فهذه عبادة – كما سبق – ولا يجوز التقرب به إلى غير الله (1)، فمن ذبح تقرباً إلى مخلوق وتعظيماً له فقد وقع في الشرك الأكبر وذبيحته محرمة لا يجوز أكلها، سواء أكان هذا المخلوق من الإنس أم من الجن أم من الملائكة أم كان قبراً، أم غيره، وقد حكى نظام الدين الشافعي النيسابوري المتوفى سنة 406هـ إجماع العلماء على ذلك.
قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: 162، 163]، وقال تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: 2]، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله من ذبح لغير الله)). رواه مسلم (2).
ز- الشرك في النذر, والزكاة, والصدقة:
النذر هو: إلزام مكلف مختار نفسه عبادة الله تعالى غير واجبة عليه بأصل الشرع (3).
كأن يقول: لله علي نذر أو أفعل كذا، أو لله علي أن أصلي أو أصوم كذا، أو أتصدق بكذا، أو ما أشبه ذلك.
والنذر عبادة من العبادات، لا يجوز أن يصرف لغير الله تعالى، فمن نذر لمخلوق كأن يقول: لفلان علي نذر أن أصوم يوماً، أو لقبر فلان علي أن أتصدق بكذا، أو إن شفي مريضي أو جاء غائبي للشيخ فلان علي أن أتصدق بكذا، أو لقبره علي أن أتصدق بكذا، فقد أجمع أهل العلم على أن نذره محرم وباطل (4)، وعلى أن من فعل ذلك قد أشرك بالله تعالى الشرك الأكبر المخرج من الملة (5)، لأنه صرف عبادة النذر لغير الله، ولأنه يعتقد أن الميت ينفع ويضر من دون الله، وهذا كله شرك (6).
_________
(1) ينظر ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي mm المبحث الثالث فيما شرعت النية لأجله (ص: 12)، ((شرح مسلم للنووي)) (13/ 141)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم: ((قاعدة الأمور بمقاصدها)) (ص: 29)، ((حاشية ابن عابدين)): ((كتاب الذبائح)) (5/ 196، 197)، ((شرح الأصول الستة)) للشيخ ابن عثيمين (ص: 27، 28)، وينظر في ((أنواع الذبائح المباحة)) ((الفتح)): (الأطعمة)) باب حق إجابة الوليمة، و ((الروض مع حاشية)) لابن قاسم: ((النكاح)) (باب الوليمة).
(2) [3539])) (1978).
(3) ((التوضيح عن توحيد الخلاق)) (ص: 280)، وينظر: ((المقنع والشرح الكبير والإنصاف)) (باب النذر) (28/ 128). قال في الشرح الكبير: (فيقول: لله علي أن أفعل كذا، وإن قال: علي نذر كذا. لزمه أيضاً، لأنه صرح بلفظ النذر). وقال في ((التعريفات)) (ص: 308) في تعريفه: (إيجاب عين الفعل المباح على نفسه تعظيماً لله تعالى). وقال في ((كشاف القناع)) (6/ 273): (لا تعتبر له صيغة بحيث لا ينعقد إلا بها، بل ينعقد بكل ما أدى معناه، كالبيع).
(4) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 286، 31/ 11، 27، 35/ 354)، ((منهاج السنة)) (2/ 440)، ((كشاف القناع)) (6/ 276). وينظر ((الدر المختار)) للحصكفي الحنفي مع حاشيته لابن عابدين آخر كتاب ((الصيام)) (2/ 128)، و ((البحر الرائق)) لابن نجيم الحنفي (2/ 320) نقلاً عن الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي، ونقل حكاية هذا الإجماع أيضا جمع من علماء الحنفية، وكذلك نقل جماعة من الحنفية الإجماع على أنه لا يجوز الوفاء به. ينظر رسالة ((جهود علماء الحنفية)) (ص: 1550 - 1552).
(5) ينظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 286)، ((التوضيح عن توحيد الخلائق)) (ص: 282)، ((الدين الخالص)) (1/ 183، 2/ 60)، ((سيف الله)) لصنع الله الحنفي (ص: 69)، ((السنن والمبتدعات)) للشقيري المصري (ص: 74 - 76).
(6) ((حاشية ابن عابدين آخر كتاب الصيام)) (2/ 128).
ومثله إخراج زكاة المال وتقديم الهدايا والصدقات إلى قبر ميت تقرباً إليه، أو تقديمها إلى سدنة القبر تقرباً إلى الميت، أو تقديمها إلى الفقراء الذين يذهبون إلى القبر، وكان يفعل ذلك تقرباً إلى الميت، فهذه كله من الشرك الأكبر أيضاً، لما فيه من عبادة غير الله, ومن اعتقاد أن هذا الميت ينفع أو يضر من دون الله، قال الشيخ قاسم الحنفي: (ما يؤخذ من الدراهم, والشمع, والزيت وغيرها وينقل إلى ضرائح الأموات تقرباً إليهم حرام بإجماع المسلمين) (1)، فمن زكى أو تصدق تديناً تقرباً إلى غير الله فقد وقع في الشرك الأكبر (2).
ح- الشرك في الصيام والحج:
الصيام والحج من العبادات التي لا يجوز صرفها لغير الله بالإجماع، فمن تعبد بها لغير الله فقد وقع في الشرك الأكبر، وذلك كمن يصوم أو يحج إلى الكعبة تقرباً إلى ولي أو ميت أو غيرهما من المخلوقين، وكمن يحج إلى قبر تقرباً إلى صاحبه فهذا كله من الشرك الأكبر المخرج من الملة، سواء أفعله العبد أم اعتقد جوازه (3).
ط- الشرك في الطواف:
الطواف عبادة بدنية لا يجوز أن تصرف إلا لله تعالى، ولا يجوز أن يطاف إلا بالكعبة المشرفة، وهذا كله مجمع عليه، فمن طاف بقبر نبي, أو عبد صالح, أو بمنزل معين, أو حتى بالكعبة المشرفة تقرباً إلى غير الله تعالى، فقد وقع في الشرك الأكبر بإجماع المسلمين (4).
وهكذا بقية العبادات كالتوكل (5)، والتبرك، والتعظيم، والخضوع، وقراءة القرآن، والذكر، والأذان (6) والتوبة والإنابة فهذه كلها عبادات لا يجوز أن تصرف لغير الله، فمن صرف شيئاً منها لغير الله فقد وقع في الشرك الأكبر (7) تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين- بتصرف– ص: 162
النوع الثالث: الشرك في الحكم والطاعة
ومن صور الشرك في هذا النوع:
_________
(1) ((البحر الرائق)) (2/ 320)، نقلاً عن الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي.
(2) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 75).
(3) ((منهاج السنة)) (2/ 440)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 227، 228)، ((مجموع الفتاوى)) (1/ 75، 351)، ((الصارم المنكي)) (ص: 215)، ((الدين الخالص)) (2/ 58)، ((رسالة التوحيد)) للدهلوي الفصل الرابع (ص: 57، 58).
(4) ((مجموع الفتاوى)) (2/ 308)، ((الصارم المنكي)) (ص: 215)، وينظر ((الجواب الكافي)) (ص: 196، 199، 200) ((الدين الخالص)) (2/ 58، 94)، ((رسالة التوحيد)) للعلامة إسماعيل الدهلوي الهندي الفصل الرابع (ص: 55، 56).
(5) ينظر في الشرك في هذه العبادة: ((التحفة العراقية))، ((مجموع الفتاوى)) (7/ 79)، ((الفوائد)) (ص: 163، 208، 211)، ((مدارج السالكين)) (منزلة التوكل) (3/ 521، 522)، ((الجواب الكافي)) (ص: 199، 200)، ((تيسير العزيز الحميد))، ((فتح المجيد))، ((قرة عيون الموحدين))، (القول المفيد)) باب (وعلى الله فتوكلوا)، ((مجموعة التوحيد)) (1/ 285، 415، 474)، ((الإرشاد)) للفوزان (ص: 64).
(6) ينظر: ((الجواب الكافي)) (ص: 199).
(7) ينظر في الشرك في هذه العبادات: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 71، 291، 351)، ((مدارج السالكين)) (1/ 374)، ((زاد المعاد)): الطب (حلق الرأس) (4/ 158 - 162)، ((الجواب الكافي)) (ص: 196، 197، 200)، ((تجريد التوحيد)) (ص: 31، 38، 45)، ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 24 - 26) ((الدرر السنية)) (2/ 318)، ((جهود علماء الحنفية)) (ص: 1575) وغيرها.
1 - أن يعتقد أحد أن حكم غير الله أفضل من حكم الله أو مثله، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، لأنه مكذب للقرآن، فهو مكذب لقوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا [المائدة: 50]، ولقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين: 8] وهذا استفهام تقريري، أي أن الله تعالى أحكم الحاكمين، فليس حكم أحد غيره أحسن من حكمه ولا مثله.
2 - أن يعتقد أحد جواز الحكم بغير ما أنزل الله، فهذا شرك أكبر، لأنه اعتقد خلاف ما دلت عليه النصوص القطعية من الكتاب والسنة، وخلاف ما دل عليه الإجماع القطعي من المسلمين من تحريم الحكم بغير ما أنزل الله (1).
3 - أن يضع تشريعاً أو قانوناً مخالفاً لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويحكم به، معتقداً جواز الحكم بهذا القانون، أو معتقداً أن هذا القانون خير من حكم الله أو مثله، ومثله من يحكم بعادات آبائه وأجداده أو عادات قبيلته – وهي ما تسمى عند بعضهم بـ: السلوم – وهو يعلم أنها مخالفة لحكم الله، معتقداً أنها أفضل من حكم الله, أو مثله, أو أنه يجوز الحكم بها، فهذا كله شرك أكبر مخرج من الملة.
4 - أن يطيع من يحكم بغير شرع الله عن رضى، مقدماً لقولهم على شرع الله، ساخطاً لحكم الله، أو معتقداً جواز الحكم بغيره، أو معتقداً أن هذا الحكم أو القانون أفضل من حكم الله أو مثله.
ومثل هؤلاء من يتبع أو يتحاكم إلى الأعراف القبلية – التي تسمى: السلوم – المخالفة لحكم الله تعالى، مع علمه بمخالفتها للشرع، معتقداً جواز الحكم بها، أو أنها أفضل من الشرع أو مثله، فهذا كله شرك أكبر مخرج من الملة (2).
_________
(1) ينظر تفسير الآيات (60 - 65) من سورة النساء، وتفسير الآيات (44 - 50) من سورة المائدة، وتفسير الآتيتين (31، 37) من سورة التوبة في ((تفاسير ابن جرير, والقرطبي, وابن كثير, والشوكاني, وابن سعدي, والشنقيطي))، ((التمهيد)) (4/ 226)، ((مجموع الفتاوى)) (1/ 97، 98، 3/ 267، 7/ 67 - 72)، و ((شرح الطحاوية)) (ص: 446)، و ((الدين الخالص)) (2/ 66، 67)، و ((تيسير العزيز الحميد))، و ((فتح المجيد))، و ((القول المفيد باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم))، و (الباب بعده)، و ((رسالة تحكيم القوانين)) للشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة السابق المطبوعة ضمن فتاويه (12/ 284 - 291)، و ((رسالة فتنة التكفير)) للألباني، وتقديم شيخنا عبد العزيز بن باز – رحمه الله- لها، وتعليق شيخنا محمد بن عثيمين عليها، و ((رسالة تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن)) (مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية) (1/ 136 - 137)، ((ورسالة النواقض القولية والعملية)) (ص: 312 - 343)، و ((رسالة النواقض الاعتقادية)) الفصل الأخير (2/ 222 - 232)، و ((رسالة الحكم بغير ما أنزل الله)) للدكتور عبد الرحمن المحمود، و ((رسالة الغلو)) (ص: 289 - 300).
(2) ينظر ((فتح المجيد)) (آخر باب من أطاع العلماء ... )، و ((الدين الخالص)) (2/ 66)، وينظر تفسير الآية (31) من التوبة في ((تفسير الشوكاني)).
والدليل على أن هذا كله شرك قوله تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44]، وقوله تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31]، وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فقلت: إنا لسنا نعبدهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((أليس يحرمون ما أحل الله، فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله، فتحلونه؟ قال: قلت: بلى. فقال صلى الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم)) (1). فذكر في هذا الحديث أن طاعتهم في مخالفة الشرع عبادة لهم، وذكر الله تعالى في آخر الآية أن ذلك شرك، ولأن من كره شرع الله كفر، لقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 9].
5 - من يدعو إلى عدم تحكيم شرع الله، وإلى تحكيم القوانين الوضعية محاربة للإسلام وبغضاً له، كالذين يدعون إلى سفور المرأة واختلاطها بالرجال الأجانب في المدارس والوظائف, وإلى التعامل بالربا، وإلى منع تعدد الزوجات، وغير ذلك مما فيه دعوة إلى محاربة شرع الله، فالذي يدعو إلى ذلك مع علمه بأنه يدعو إلى المنكر وإلى محاربة شرع الله ظاهر حاله أنه لم يدع إلى ذلك إلا لما وقع في قلبه من الإعجاب بالكفار وقوانينهم واعتقاده أنها أفضل من شرع الله، ولما وقع في قلبه من كره لدين الإسلام وأحكامه، وهذا كله شرك وكفر مخرج من الملة، ومن كانت هذه حقيقة حاله فقد وقع في الشرك الأكبر، وإن كان يظهر أنه من المسلمين فهو نفاق أيضاً. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 187
_________
(1) [3553])) رواه الترمذي (3095) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 116) والطبراني (17/ 92) , قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث, وحسنه ابن تيمية في ((حقيقة الإسلام والإيمان)) (111) , وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (7/ 861): علة الحديث هي جهالة غطيف ابن أعين, وحسنه في ((صحيح سنن الترمذي)).
أولاً: تعريف الشرك في الأسماء والصفات
وهو: أن يجعل لله تعالى مماثلاً في شيء من الأسماء أو الصفات، أو يصفه تعالى بشيء من صفات خلقه.
فمن سمى غير الله باسم من أسماء الله تعالى معتقداً اتصاف هذا المخلوق بما دل عليه هذا الاسم مما اختص الله تعالى به، أو وصفه بصفة من صفات الله تعالى الخاصة به فهو مشرك في الأسماء والصفات.
وكذلك من وصف الله تعالى بشيء من صفات المخلوقين فهو مشرك في الصفات. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 154
ثانياً: من صور الشرك في الأسماء والصفات
1 - اشتقاق أسماء للآلهة الباطلة من أسماء الله تعالى، كاشتقاق اسم (اللات) من (الإله)، و (العزى) من (العزيز) (1).
2 - اعتقاد بعض الرافضة وبعض الصوفية أن بعض الأحياء أو الأموات يسمعون من دعاهم في أي مكان وفي أي وقت (2).
3 - شرك المشبهة: وهو تشبيه الخالق بالمخلوق، كمن يقول: (يد الله كيدي) أو (سمعه كسمعي)، أو (استواؤه كاستوائي) (3)، وهذا كله شرك، فالله تعالى يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11].
4 - الشرك بدعوى علم الغيب، أو باعتقاد أن غير الله تعالى يعلم الغيب، فكل ما لم يطلع عليه الخلق ولم يعلموا به بأحد الحواس الخمس فهو من علم الغيب، كما قال تعالى: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إلَّا اللهُ [النمل: 65]، وقال جل شأنه: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ [يونس: 20]، وقال سبحانه وتعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام: 59]، وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف: 188]، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم أيضاً: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام: 50].
فمن ادعى أن أحداً من الخلق يعلم الغيب، فقد وقع في الشرك الأكبر المخرج من الملة، لأن في ذلك ادعاء مشاركة الله تعالى في صفة من صفاته الخاصة به، وهي (علم الغيب). ومن أمثلة الشرك بدعوى علم الغيب:
أ- اعتقاد أن الأنبياء أو أن بعض الأولياء والصالحين يعلمون الغيب: وهذا الاعتقاد يوجد عند غلاة الرافضة والصوفية، ولذلك تجدهم يستغيثون بالأنبياء والصالحين الميتين وهم بعيدون عن قبورهم، ويدعون بعض الأحياء وهم غائبون عنهم، ويعتقدون أنهم جميعاً يعلمون بحالهم, وأنهم يسمعون كلامهم، وهذا كله شرك أكبر مخرج من الملة (4).
_________
(1) ((بدائع الفوائد)) (1/ 169)، ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 28).
(2) ((أعلام السنة المنشورة)) (ص: 87)، ((معارج القبول)) (2/ 475).
(3) ((بدائع الفوائد)) (1/ 170)، ((الروح)) (الفرق بين إثبات حقائق الأسماء والصفات وبين التشبيه) (ص: 354)، ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 28).
(4) ((رسالة التوحيد)) للدهلوي (ص: 20، 31، 34)، وينظر ((تيسير العزيز الحميد وفتح المجيد)) (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله).
ب- الكهانة: الكاهن هو الذي يدعي أنه يعلم الغيب. ومثله أو قريب منه (العراف)، و (الرمال)، ونحوهم، فكل من ادعى أنه يعرف علم ما غاب عنه دون أن يخبره به مخبر، أو زعم أنه يعرف ما سيقع قبل وقوعه فهو مشرك شركاً أكبر، وسواء ادعى أنه يعرف ذلك عن طريق (الطرق بالحصى)، أم عن طريق حروف (أبا جاد) (1)، أم عن طريق (الخط في الأرض)، أم عن طريق (قراءة الكف)، أم عن طريق (النظر في الفنجان)، أم غير ذلك، كل هذا من الشرك (2)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) (3).
ج- اعتقاد بعض العامة أن السحرة أو الكهان يعلمون الغيب، أو تصديقه لهم في دعواهم معرفة ما سيقع في المستقبل، فمن اعتقد ذلك أو صدقهم فيه فقد وقع في الكفر والشرك المخرج من الملة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) (4).
د- التنجيم: وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية.
وذلك أن المنجم يدعي من خلال النظر في النجوم معرفة ما سيقع في الأرض من نصر لقوم، أو هزيمة لآخرين، أو خسارة لرجل، أو ربح لآخر، ونحو ذلك، وهذا لا شك من دعوى علم الغيب، فهو شرك بالله تعالى (5).
ومما يفعله كثير من المشعوذين والدجاجلة أن يدعي أن لكل نجم تأثيراً معيناً على من ولد فيه، فيقول: فلان ولد في برج كذا فسيكون سعيداً، وفلان ولد في برج كذا فستكون حياته شقاء، ونحو ذلك، وهذا كله كذب، ولا يصدقه إلا جهلة الناس وسفهاؤهم، قال الشيخ ابن عثيمين: (فهذا اتخذ تعلم النجوم وسيلة لادعاء علم الغيب، ودعوى علم الغيب كفر مخرج من الملة) (6). تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 154
_________
(1) ينظر: ((التيسير)) (ص: 364).
(2) ينظر ((شرح السنة)) (12/ 181 - 184)، ((شرح مسلم)) للنووي (14/ 223)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (35/ 170 - 197)، ((تفسير القرطبي)) (7/ 2، 3)، ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 125 - 242)، ((فتح الباري)) (10/ 216، 217)، ((شرح الطحاوية)) (ص: 759، 760)، ((الفروع)) (6/ 177، 178)، ((الروض مع حاشيته)) لابن قاسم (7/ 413)، ((الزواجر)) (2/ 109)، ((الدين الخالص)) (1/ 423 - 455، و2/ 137 - 141)، ((تيسير العزيز الحميد باب ما جاء في الكهان))، ((معارج القبول)) (ص: 559 - 574)، ((التوحيد)) للدهلوي (ص: 34، 69))، ((فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم)) (1/ 164، 165)، ((عالم السحر)) للأشقر (ص: 13)، ((الإرشاد)) للفوزان (ص: 84)، ((النواقض القولية والعملية)) للدكتور عبد العزيز بن عبد اللطيف (ص: 518 - 522).
(3) [3560])) رواه البزار (8/ 426) , والطبراني (18/ 162) , وقال البزار: روي بعضه من غير وجه [وفيه] أبو حمزة العطار لا بأس به, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 88): إسناده جيد, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 103): فيه إسحاق بن الربيع العطار وثقه أبو حاتم وضعفه عمرو بن علي وبقية رجاله ثقات, وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2195): صحيح بمجموع طرقه.
(4) [3561])) رواه أبو داود (3904) , بلفظ (من أتى كاهنا) بدون (عرافا) وزاد (أو أتى امرأةً حائضا أو أتى امرأةً في دبرها فقد برئ) بدلا من (فقد كفر) والترمذي (135) , وابن ماجه (639) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 323) (9017) بلفظ ((من أتى حائضا أو امرأة في دبرها) بدون (عرافا) , ورواه الحاكم (1/ 49) , قال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرطهما جميعا من حديث ابن سيرين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/ 198): له متابعة, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 227): له شاهد [وروي] بإسنادين جيدين ولفظهما (من أتى كاهنا) , وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) و ((صحيح ابن ماجه)).
(5) ينظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (باب ما جاء في التنجيم، وباب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء).
(6) ((القول المفيد)) (باب ما جاء في التنجيم) (2/ 5).
المطلب الأول: تعريف الشرك الأصغر
وأما الشرك الأصغر فهو: كل ما كان ذريعة إلى الأكبر ووسيلة للوقوع فيه، ونهى عنه الشرع وسماه شركاً (1)، ولا يخرج من الملة. وهو قد يكون في الأعمال، ومن ذلك يسير الرياء كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر – فسئل عنه فقال: الرياء)) (2)، وقد يكون في الأقوال: ومنه الحلف بغير الله كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) (3)، وقد يصير الشرك الأصغر شركاً أكبر بحسب ما يقوم بقلب صاحبه. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 93
فقد جاء في تعريفه عبارات عدة، منها:
1 - (أنه كل وسيلة وذريعة يتطرق بها إلى الأكبر) (4).
وينتقض هذا التعريف بأنه غير مانع؛ إذ إن هذا التعريف يصدق على الكبائر من الذنوب.
2 - (وهو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسل بها إلى الشرك يعد من الشرك, كالغلو في المخلوق الذي لا يبلغ رتبة العبادة؛ كالحلف بغير الله ويسير الرياء ونحو ذلك) (5).
وهذا التعريف أيضاً غير جامع ولا مانع؛ إذ إنه يصدق على كبائر الذنوب، ثم ليس كل ما يتوسل به إلى الشرك يعد من الشرك الأصغر، كالتوسل إلى الله بذوات الصالحين ونحو ذلك.
3 - (هو كل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر ووسيلة للوقوع فيه, وجاء في النصوص تسميته شركاً) (6).
فيه ما سبق من الاعتراضات، ثم ليس كل شرك أصغر جاء في النصوص تسميته شركاً، فهناك أفراد من الشرك الأصغر لم يأت تسميتها في النصوص شركاً.
4 - (هو تسوية غير الله بالله في هيئة العمل، أو أقوال اللسان، فالشرك في هيئة العمل هو الرياء، والشرك في أقوال اللسان: هو الألفاظ التي فيها معنى التسوية بين الله وغيره، كقوله: ما شاء الله وشئت، ... وقوله: عبد الحارث ونحو ذلك) (7).
5 - (هو مراعاة غير الله تعالى معه في بعض الأمور) (8).
6 - لا يعرف، وإنما يذكر بالأمثلة (9).
وهذا الأخير هو ما أرتضيه؛ لأن تعريف مثل هذا النوع من الشرك غير منضبط لكثرة أفراده وتنوعه.
مصدر تسمية هذا النوع من الشرك بالشرك الأصغر:
جاءت نصوص الشرع بتسميته شركاً أصغر، ومما يدل عليه الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة، إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء)) (10).
فثبتت هذه التسمية بنص الحديث.
وهكذا ثبتت هذه التسمية في لسان الصحابة، ومن ذلك ما رواه شداد بن أوس، وقال: (كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر) (11). الشرك في القديم والحديث لأبو بكر محمد زكريا– 1/ 160
_________
(1) انظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 45)، و ((الفتوى رقم 1653 بتاريخ 22/ 8/1397هـ من فتاوى اللجنة الدائمة بمجلة البحوث الإسلامية عدد رقم 20)) – (ص: 151).
(2) رواه الطبراني (4/ 253) (4301). من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 225): رجاله رجال الصحيح، غير عبد الله بن شبيب بن خالد، وهو ثقة.
(3) رواه أبو داود (3251)، والترمذي (1535)، وأحمد (2/ 125) (6072)، وابن حبان (10/ 199) (4358)، والحاكم (1/ 65). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (735).
(4) عبد العزيز المحمد السلمان، ((الكواشف الجلية)) (ص: 321).
(5) عبد الرحمن بن ناصر السعدي: ((القول السديد في مقاصد التوحيد)) (ص: 15).
(6) انظر: ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (1/ 517)، وما ذكره عواد بن عبد الله المعتق: ((مجلة البحوث الإسلامية)) (37/ 204).
(7) إبراهيم بن محمد البريكان ((المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية)) (ص: 126، 127).
(8) الراغب الأصفهاني: ((المفردات)) (ص: 260).
(9) كما يفهم من صنيع ابن القيم في ((مدارج السالكين)) (1/ 344).
(10) رواه أحمد (5/ 428) (23680)، والمنذري (1/ 34). وقال: رواه أحمد بإسناد جيد، وقال الهيثمى (1/ 102): رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1555).
(11) رواه الحاكم (4/ 365) والطبراني (7/ 289) , وصححه الحاكم ووافقه الذهبي, قال ابن حجر في ((الكافي الشاف)) (178): في إسناده ابن لهيعة, وقال العجلوني في ((كشف الخفاء)) (1/ 525): فيه ابن لهيعة, وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب)).
المطلب الثاني: حكمه
أنه محرم، بل هو أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر، لكنه لا يخرج من ارتكبه عن ملة الإسلام (1).
ولذا ورد التحذير منه في الكتاب والسنة.
فمن الكتاب: قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110].
فإن عموم الآية تشمل الشرك الأكبر والأصغر.
وقوله تعالى: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22].
الآية في الشرك الأكبر، إلا أن بعض السلف كابن عباس – رضي الله عنهما – كانوا يحتجون بها في الأصغر؛ لأن الكل شرك (2).
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر: 10].
قال مجاهد: (هم أهل الرياء (3). ومعلوم أن الرياء هو رأس الشرك الأصغر).
ومن السنة: قوله تعالى في الحديث القدسي: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) (4)، وقوله عليه السلام: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)) (5) الحديث.
وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟)) قال: فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الشرك الخفي ... )) (6).
الحديث.
أما كونه أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر، فلما قال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليَّ من أن أحلف بغيره صادقاً) (7)
ووجه الاستدلال: أن الحلف بالله كاذباً كبيرة من الكبائر، لكن الشرك أكبر من الكبائر وإن كان أصغر، وإلا لما أقدم عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- لأن يقول مثل هذا القول الذي فيه إقدام على ارتكاب الكبائر، والله أعلم.
ولأن الحلف بالله توحيد، والحلف بغيره شرك، وإن قدر الصدق في الحلف بغير الله فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك، ففيه دليل على أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر (8).
_________
(1) ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (1/ 518).
(2) سليمان بن عبد الله آل الشيخ، ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 522، 523).
(3) ابن حجر الهيثمي: ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 31).
(4) رواه مسلم (2985). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) رواه أحمد (5/ 428) (23680)، والطبراني (4/ 253). من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه. قال العراقي في ((المغني)) (3/ 361): رجاله ثقات. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 107): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (951): وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير محمود بن لبيد؛ فإنه من رجال مسلم وحده.
(6) رواه أحمد (3/ 30) (11270)، والحديث رواه ابن ماجه (4204) واللفظ له. قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/ 237): إسناده حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن.
(7) رواه الطبراني (9/ 183) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/ 79) وعبد الرزاق في ((المصنف)) (8/ 496) , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 177) رجاله رجال الصحيح, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 58): رواته رواة الصحيح, وصححه الألباني في ((إرواء الغليل)) (2562).
(8) انظر ما قال الشيخ سليمان بن عبد الله في ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 530).
ثم (إن هذا النوع من الشرك – الشرك الأصغر – يبطل ثواب العمل، وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجباً، فإنه ينزله منزلة من لم يعمله، فيعاقب على ترك امتثال الأمر) (1).
ثم إنه قد يكون وسيلة تؤدي بصاحبه إلى الشرك الأكبر.
أما حكم مرتكبه:
فقد اتفقوا على أن مرتكب الشرك الأصغر غير خارج من الملة، وأنه لا يخلد في النار، ولكن هل يكون تحت المشيئة إن لم يتب كما هو حال أصحاب الكبائر الآخرين لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48]، أو يكون تحت الوعيد بأن لا يغفر له إذا لم يتب، لأنه قد أطلق عليه بأنه أشرك؟ اختلفوا فيه على قولين:
القول الأول: أنه تحت المشيئة، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله (2) – كما يظهر ميل الإمام ابن القيم إليه في (الجواب الكافي) (3).
القول الثاني: أنه تحت الوعيد، وهو الذي مال إليه بعض أهل العلم (4). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 173
_________
(1) ابن القيم ((في الجواب الكافي)) (ص: 316).
(2) انظر تفصيل القول عنه في هذه المسألة في كتابه: ((تفسير آيات أشكلت على كثير من الناس)) (1/ 361 - 365).
(3) انظر ما ذكره في ((الجواب الكافي)) (ص: 317)، وقد وافقه الشيخ البليهي في ((عقيدة المسلمين)) (1/ 339).
(4) انظر ما قال ابن تيمية: ((تلخيص كتاب الاستغاثة)) (1/ 301)، تحقيق محمد بن علي عجال وما قال الشيخ عبد العزيز السلمان في ((الكواشف الجلية)) (ص: 322).
المطلب الثالث: الفروق بين نوعي الشرك الأكبر والأصغر
هناك فروق بين الشرك الأكبر والأصغر، منها:
1 - أن الأكبر لا يغفر الله لصاحبه إلا بالتوبة، وأما الأصغر فقد اختلف فيه فقيل: إنه تحت المشيئة. وقيل: إن صاحبه إذا مات فلابد أن يعذبه الله عليه، لكن لا يخلد في النار.
2 - الأكبر محبط لجميع الأعمال، وأما الأصغر فلا يحبط إلا العمل الذي قارنه (على القول الراجح).
3 - أن الأكبر مخرج عن الملة الإسلامية، وأما الأصغر فلا يخرج منها، ولذا فمن أحكامه: أن يعامل معاملة المسلمين؛ فيناكح، وتؤكل ذبيحته, ويرث ويورث، ويصلى عليه, ويدفن في مقابر المسلمين.
4 - أن الشرك الأكبر صاحبه خالد مخلد في النار، وأما الأصغر فلا يخلد في النار وإن دخلها كسائر مرتكبي الكبائر (1).
5 - أن الشرك الأكبر يحل الأنفس والأموال، بعكس الشرك الأصغر، فإن صاحبه مسلم مؤمن ناقص الإيمان، فاسق من حيث الحكم الديني (2).
ويجتمعان في:
استحقاق صاحبهما الوعيد، وأنهما من أكبر الكبائر من الذنوب (3). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 176
_________
(1) انظر ما ذكره، عبد العزيز المحمد السلمان: ((الكواشف الجلية)) (ص: 187)، و ((فتاوى اللجنة)) (1/ 518).
(2) انظر ما ذكره البريكان: ((المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية)) (ص: 127 - 128).
(3) انظر ما ذكره البريكان: ((المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية)) (ص: 127 - 128).
تمهيد: في أقسام الشرك الأصغر إجمالاً
تنوعت الأقوال في بيان أنواع الشرك الأصغر.
فمنهم من قال: (هو نوعان: ظاهر، وخفي
فالظاهر: يكون بعمل رياء، كالتصنع لغير الله بعمل في ظاهره أنه لله، وفي باطنه عدم الإخلاص لله به، ويكون باللفظ كالحلف بغير الله ...
والخفي: ما ينتابه الإنسان في أقواله وأعماله في بعض الفترات من غير أن يعلم أنه شرك) (1).
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا)) (2).
ولكن هذا القول فيه نظر، فإن ما ينتابه الإنسان من أقواله أو أعماله في بعض الفترات من غير أن يعلم أنه شرك ليس بشرك أصغر فقط، بل قد يدخل في الشرك الأكبر أيضاً.
ومنهم من قال: إنه على نوعين:
أ- الشرك في النيات والمقاصد؛ ويدخل فيه:
1 - الرياء.
2 - إرادة الإنسان بعمله الدنيا.
ب- الشرك في الألفاظ؛ ويدخل فيه:
1 - الحلف بغير الله.
2 - قول القائل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، ونحوهما.
3 - إسناد بعض الحوادث إلى غير الله عز وجل, واعتقاد تأثيره فيها، مثل أن يقول: لولا وجود فلان لحصل كذا، ولولا الكلب لدخل اللص.
4 - قول بعضهم: مطرنا بنوء كذا وكذا، إن كان جرى على لسانه من غير قصد (3).
ولعل من أحسن ما يقال في بيان أنواع الشرك الأصغر ما يلي:
إن له أنواعاً كثيرة، ويمكن حصرها بما يأتي:
أولاً: قولي: وهو ما كان باللسان، ويدخل فيه ما يأتي:
1 - الحلف بغير الله، على تفصيل في ذلك.
2 - قول: (ما شاء الله وشئت)، أو: أنا متوكل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك، ومالي إلا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض، أو يقول: والله وحياة فلان، أو يقول: نذر لله ولفلان، أو أنا تائب لله ولفلان، أو أرجو الله وفلاناً ونحو ذلك (4).
ولعل الضابط في هذا أن يكون الشيء مما يختص بالله جل وعلا، فيعطف عليه غيره سبحانه لا على سبيل المشاركة وإنما بمجرد التسوية في اللفظ، وأما إن كان يعتقد المشاركة فهذا يدخل تحت الشرك الأكبر.
3 - وقوله: (قاضي القضاة).
4 - وهكذا: التعبيد لغير الله، كعبد النبي وعبد الرسول (إذا لم يقصد به حقيقة العبودية).
5 - وإسناد بعض الحوادث إلى غير الله عز وجل، مثل أن يقول: لولا وجود فلان لحصل كذا، ولولا الكلب لدخل اللص، وقول الرجل: لولا الله وفلان، ولولا تجعل فيها فلاناً، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص ... ، وأعوذ بالله وبك.
6 - قول بعضهم: مطرنا بنوء كذا وكذا، (على طريق غير الحقيقة).
ولعل الضابط في هذا: (الاعتماد على سبب لم يجعله الشرع سبباً) (5).
ثانيا: فعلي: وهو ما كان بأعمال الجوارح، ويدخل فيه ما يلي:
1 - التطير، (إذا لم يعتقد القدرة في المتطير به).
2 - إتيان الكهان وتصديقهم، (إذا لم يعتقد وجود علم الغيب لديهم).
3 - والاستعانة على كشف السارق ونحوه بالعرافين، (إذا لم يصاحبه اعتقاد علمهم الغيب).
4 - تصديق المنجمين والرمالين وغيرهم من المشعوذين، (إذا لم يصاحبه اعتقاد علمهم الغيب).
_________
(1) حسن العواجي: ((شرح نواقض التوحيد)) (ص: 24، 25).
(2) رواه الطبري في تفسيره (1/ 369)، وابن أبي حاتم (1/ 62)، والحكيم الترمذي في ((نوادر الأصول)) (4/ 147). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3730).
(3) عواد بن عبد الله المعتق: ((مجلة البحوث الإسلامية)) عدد 37 (ص: 207 - 243) باختصار.
(4) انظر ما ذكره ابن القيم: ((الجواب الكافي)) (ص: 324).
(5) انظر ما قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) (2/ 93).
5 - ولبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه، (إذا لم يعتقد تأثيرها بذاتها).
ثالثاً: قلبي: ويدخل فيه ما يلي:
1 - الرياء، (إذا كان يسيراً)، ولا يخلو من:
أ- أن يكون الرياء بالأعمال: كمن يصلي فيطيل القيام, ويطيل الركوع والسجود, ويظهر الخشوع عند رؤية الناس له، ويصوم فيظهر للناس أنه صائم، فيقول مثلاً مخاطباً غيره: اليوم يوم الاثنين والخميس ألا تعلم؟ ألست بصائم؟ أو يقول له: أدعوك اليوم لتفطر معي، وكذلك في الحج والجهاد فيذهب إليهما ومقصده المراءاة بهما، وكالمراءاة بالصدقة ونحوها.
ب- أو يكون الرياء من جهة القول: كالرياء بالوعظ والتذكير, وحفظ الأخبار والآثار لأجل المحاورة وإظهار غزارة العلم، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، وإظهار الغضب للمنكرات بين الناس، وخفض الصوت وترقيقه بقراءة القرآن ليدل بذلك على الخوف والحزن ونحو ذلك، إذا فعل ذلك يقصد الرياء، ومن ذلك أيضاً: تحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس ويتغافل عنه في منزله.
ج- أو يكون الرياء من جهة الزي: كإبقاء أثر السجود على جبهته، ولبس الغليظ من الثياب وخشنها مع تشميرها كثيراً ليقال: عابد زاهد، أو ارتداء نوع معين من الزي ترتديه طائفة يعدهم الناس علماء ليقال: عالم.
د- أو يكون الرياء بالأصحاب والزائرين: كالذي يتكلف أن يستزير عالماً أو عابداً ليقال: إن فلاناً قد زار فلاناً، ودعوة الناس لزيارته كي يقال: إن أهل الخير يترددون عليه، وكذلك من يرائي بكثرة الشيوخ ليقال: لقي فلان شيوخاً كثيرين واستفاد منهم, فيباهي بذلك.
هـ- أو يكون الرياء لأهل الدنيا: كمن يتبختر ويختال في مشيته، وتحريك يديه وتقريب خطاه، أو يأخذ بطرف ثوبه، أو يصعر خده، أو يلف عباءته، أو يحرك سيارته حركة خاصة.
وأو يكون الرياء من جهة البدن: كأن يرائي بإظهار النحول والصفار ليوهم الناس أنه جاد في العبادة كثير الخوف والحزن، أو يرائي بتشعيث الشعر ليظهر أنه مستغرق في هم الدين لا يتفرغ لتسريح شعره، أو يرائي بحلق الشارب واستئصال الشعر ليظهر بذلك تتبع زي العباد والنساك، أو يرائي بخفض الصوت, وإغارة العينين, وذبول الشفتين ليدلك على أنه مواظب للصوم.
هذه مجامع ما يرائي به المراؤون – غالباً – يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد (1).
2 - إرادة الإنسان بعمله الدنيا:
المراد به: أن يعمل الإنسان أعمالاً صالحة يريد بها الدنيا، إما لقصد المال أو الجاه، كالذي يجاهد أو يتعلم ليأخذ مالاً، أو ليحتل منصباً، أو يتعلم القرآن، أو يواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، أو نحو ذلك من الأعمال الصالحة، لكن نيته الحصول على مصالح دنيوية لا طلب مرضاة الله.
والفرق بينه وبين الرياء:
أن المرائي إنما يعمل لأجل المدح والثناء، والمريد بعمله الدنيا يعمل لدنيا يصيبها كالمال أو المنصب (2).
فهذه أنواع الشرك الأصغر قد تكون هذه الأنواع في خصائص الربوبية، وقد يكون في خصائص الألوهية، كما أن كل قسم من أنواع الشرك الأصغر يحتمل أن ينقلب إلى شرك أكبر، وذلك من وجهين:
1 - إذا صحبه اعتقاد قلبي، وهو تعظيم غير الله كتعظيمه. كالحلف بغير الله معظماً له كتعظيم الله.
2 - أو كان في أصل الإيمان، أو كثر حتى يغلب على العبد؛ كالمراءاة بأصل الإيمان، أو يغلب الرياء على أعماله، أو يغلب عليها إرادة الدنيا بحيث لا يريد بها وجه الله.
فهذه أنواع الشرك الأصغر على الإجمال. الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 168
_________
(1) انظر ما ذكره ابن قدامة في ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص: 215 - 217)، وعمر سليمان الأشقر في ((مقاصد المكلفين)) (ص: 442 - 443).
(2) سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب آل الشيخ: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 273) بتصرف.
المثال الأول: الرياء
الرياء في اللغة مشتق من الرؤية، وهي: النظر، يقال: راءيته، مراءاة، ورياء، إذا أريته على خلاف ما أنا عليه.
وفي الاصطلاح: أن يظهر الإنسان العمل الصالح للآخرين أو يحسنه عندهم، أو يظهر عندهم بمظهر مندوب إليه ليمدحوه ويعظم في أنفسهم (1).
فمن أراد وجه الله والرياء معاً فقد أشرك مع الله غيره في هذه العبادة، أما لو عمل العبادة وليس له مقصد في فعلها أصلاً سوى مدح الناس فهذا صاحبه على خطر عظيم، وقد قال بعض أهل العلم: إنه قد وقع في النفاق والشرك المخرج من الملة.
والرياء له صور عديدة، منها:
1 - الرياء بالعمل، كمراءاة المصلي بطول الركوع والسجود.
2 - المراءاة بالقول، كسرد الأدلة إظهاراً لغزارة العلم، ليقال: عالم.
3 - المراءاة بالهيئة والزيِّ، كإبقاء أثر السجود على الجبهة رياء.
وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الرياء وعظم عقوبة فاعله، وأنه يبطل العمل الذي يصاحبه، منها حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء، يقول الله – عز وجل – لهم يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، هل تجدون عندهم جزاء؟)) (2)
وحديث محمود بن لبيد رضي الله عنه الآخر، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((أيها الناس! إياكم وشرك السرائر)) قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟. قال: ((يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر)) (3). وحديث أبي هريرة في خبر الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، وهم رجل قاتل في الجهاد حتى قتل، ليقال: جريء، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن ليقال: عالم وقارئ، ورجل تصدق ليقال: جواد (4). رواه مسلم.
ولهذا ينبغي للمسلم البعد عن الرياء والحذر من الوقوع فيه، وهناك أمور تعين على البعد عنه، أهمها:
1 - تقوية الإيمان في القلب، ليعظم رجاء العبد لربه، ويعرض عمن سواه، ولأن قوة الإيمان في القلب من أعظم الأسباب التي يعصم الله بها العبد من وساوس الشيطان، ومن الانقياد لشهوات النفس.
2 - التزود من العلم الشرعي، وبالأخص علم العقيدة الإسلامية، ليكون ذلك حرزاً له بإذن الله من فتن الشبهات، وليعرف عظمة ربه جل وعلا، وضعف المخلوقين وفقرهم، فيحمله ذلك كله على مقت الرياء واحتقاره والبعد عنه، وليعرف أيضاً مداخل الشيطان ووساوسه، فيحذرها.
_________
(1) وينظر: ((الرعاية)) (ص: 209)، ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (ص: 160)، ((الإحياء)) (3/ 314)، ((تفسير القرطبي)) للآية 36 من سورة النساء (5/ 181)، وتفسيره للآية 142 من سورة النساء (5/ 422)، وتفسيره للآية الأخيرة من سورة الكهف (11/ 71)، ((منهاج القاصدين)) (ص: 275)، ((الفروق)) (الفرق 122)، ((فتح الباري)) الرقاق، باب الرياء (11/ 336)، ((الزواجر)) (الكبيرة الثانية 1/ 43)، ((الموافقات)) (2/ 217 - 221، 222)، ((سبل السلام)) (4/ 356).
(2) رواه أحمد (5/ 428) (23680)، والطبراني (4/ 253). من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 52): إسناده جيد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 107): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (ص440): إسناده حسن. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (951): إسناده جيد.
(3) رواه ابن خزيمة في ((صحيحه)) (2/ 67). والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (2/ 291) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (2/ 227) والحديث حسنه الألباني في ((صحيح الترغيب)).
(4) رواه مسلم (1905).
3 - الإكثار من الالتجاء إلى الله تعالى ودعائه أن يعيذه من شر نفسه, ومن شرور الشيطان ووساوسه، وأن يرزقه الإخلاص فيما يأتي وما يذر، والإكثار من الأذكار الشرعية التي هي حصن من شرور النفس والشيطان.
4 - تذكر العقوبات الأخروية العظيمة التي تحصل للمرائي، ومن أعظمها أنه من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة.
5 - التفكر في حقارة المرائي وأنه من السفهاء والسفلة؛ لأنه يضيع ثواب عمله الذي هو سبب لفوزه بالجنة, ونجاته من عذاب القبر, وشدة القيامة, وعذاب النار من أجل مدح الناس والحصول على منزلة عند المخلوقين، فهو يبحث عن رضا المخلوق بمعصية الخالق، ولهذا لما سئل الإمام مالك – رحمه الله – من السفلة؟ قال: (من أكل بدينه) (1).
6 - الحرص على كل ما هو سبب في عدم الوقوع في الرياء، وذلك بالحرص على إخفاء العبادات المستحبة، وبمدافعة الرياء عندما يخطر بالقلب، وبالبعد عن مجالسة المداحين وأهل الرياء، ونحو ذلك (2). تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 365
_________
(1) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (5/ 357) (6933).
(2) ينظر ((الرعاية)) (ص: 233 - 242)، ((الإحياء)) (3/ 321 - 334)، ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص: 283 - 285)، ((الزواجر)) (الكبيرة الثانية 1/ 49 - 50)، ((مقاصد المكلفين)) للأشقر (ص: 465 - 473)، ((نور الإخلاص)) لسعيد بن علي القحطاني (ص: 2 - 30)، ((الإخلاص)) لحسين العوايشة (ص: 41 - 56)، ((الإخلاص والشرك الأصغر)) للدكتور عبد العزيز العبد اللطيف (ص: 10 - 12)، ((الشرك الأصغر)) لعبد الله السليم (ص: 95 - 99).
المثال الثاني: إرادة الإنسان بعبادته الدنيا
المراد بهذا النوع: أن يعمل الإنسان العبادة المحضة ليحصل على مصلحة دنيوية مباشرة.
وإرادة الإنسان بعمله الدنيا ينقسم من حيث الأصل إلى أقسام كثيرة، أهمها:
1 - أن لا يريد بالعبادة إلا الدنيا وحدها، كمن يحج ليأخذ المال، وكمن يغزو من أجل الغنيمة وحدها، وكمن يطلب العلم الشرعي من أجل الشهادة والوظيفة ولا يريد بذلك كله وجه الله البتة، فلم يخطر بباله احتساب الأجر عند الله تعالى، وهذا القسم محرم، وكبيرة من كبائر الذنوب، وهو من الشرك الأصغر، ويبطل العمل الذي يصاحبه.
ومن الأدلة على تحريم هذا القسم وأنه يبطل العمل الذي يصاحبه:
أ- قوله تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [هود: 15، 16].
ب- حديث عمر رضي الله عنه مرفوعاً: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)). رواه البخاري ومسلم (1).
ج- حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة)) (2)
يعني ريحها.
2 - أن يريد بالعبادة وجه الله والدنيا معاً، كمن يحج لوجه الله وللتجارة، وكمن يقاتل ابتغاء وجه الله وللدنيا، وكمن يصوم لوجه الله وللعلاج، وكمن يتوضأ للصلاة وللتبرد، وكمن يطلب العلم لوجه الله وللوظيفة، فهذا الأقرب أنه مباح؛ لأن الوعيد إنما ورد في حق من طلب بالعبادة الدنيا وحدها، ولأن الله رتب على كثير من العبادات منافع دنيوية عاجلة، كما في قوله تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3]، وكما في قوله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10 - 12]، والنصوص في هذا المعنى كثيرة، فهذه النصوص تدل على جواز إرادة وجه الله وهذه المنافع الدنيوية معاً بالعبادة؛ لأن هذه المنافع الدنيوية ذكرت على سبيل الترغيب في هذه العبادات.
وهذا القسم لا يبطل العمل الذي يصاحبه، ولكن أجر هذه العبادة ينقص منه بقدر ما خالط نيته الصالحة من إرادة الدنيا. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 375
_________
(1) رواه البخاري (1)، ومسلم (1907).
(2) رواه أبو داود (3664)، وابن ماجه (206)، وأحمد (2/ 338) (8438)، والحاكم (1/ 160). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح سنده ثقات على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده النووي في ((المجموع)) (1/ 23).
المثال الثالث: الاعتماد على الأسباب
السبب لغة: الحبل، ويطلق على (كل شيء يتوصل به إلى غيره) استعير من الحبل الذي يتوصل به إلى الماء (1).
وفي الاصطلاح هو: الأمور التي يفعلها الإنسان ليحصل له ما يريده من مطلوب، أو يندفع عنه ما يخشاه من مرهوب في الدنيا أو في الآخرة.
فمن الأسباب في أمور الدنيا: البيع والشراء أو العمل في وظيفة ليحصل على المال، ومنها: أن يستشفع بذي جاه عند السلطان ليسلم من عقوبة دنيوية، أو ليدفع عنه ظلماً، أو لتحصل له منفعة دنيوية كوظيفة أو مال أو غيرهما، ومنها: أن يذهب إلى طبيب ليعالجه من مرض، ونحو ذلك.
ومن الأسباب في أمور الآخرة: فعل العبادات رجاء ثواب الله تعالى والنجاة من عذابه (2)، ومنها: أن يطلب من غيره أن يدعو الله له بالفوز بالجنة والنجاة من النار، ونحو ذلك.
والذي ينبغي للمسلم في هذا الباب هو أن يستعمل الأسباب المشروعة التي ثبت نفعها بالشرع أو بالتجربة الصحيحة، مع توكله على الله تعالى، واعتقاد أن هذا الأمر إنما هو مجرد سبب، وأنه لا أثر له إلا بمشيئة الله تعالى، إن شاء نفع بهذا السبب، وإن شاء أبطل أثره.
أما إن اعتمد الإنسان على السبب فقد وقع في الشرك، لكن إن اعتمد عليه اعتماداً كلياً، مع اعتقاد أنه ينفعه من دون الله فقد وقع في الشرك الأكبر، وإن اعتمد على السبب مع اعتقاده أن الله هو النافع الضار فقد وقع في الشرك الأصغر، فالمؤمن مأمور بفعل السبب مع التوكل على مسبب الأسباب جل وعلا.
وعليه فإن ترك الأسباب واعتقاد أن الشرع أمر بتركها، وأنها لا نفع فيها كذب على الشرع، ومخالفة لما أمر الله به وأجمع عليه العلم، ومخالفة لمقتضى العقل، ولهذا قال بعض أهل العلم: ((الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد, والعقل, والشرع)) (3).
ومن الشرك في الأسباب: أن يجعل ما ليس بسبب سبباً، فإن اعتقد أن هذا الشيء يستقل بالتأثير بدون مشيئة الله فهو شرك أكبر، كحال عباد الأصنام وعباد القبور الذين يعتقدون أنها تنفع وتضر استقلالاً، وإن اعتقد أن الله جعله سبباً، مع أن الله لم يجعله سبباً فهو شرك أصغر؛ لأنه شارك الله تعالى من الحكم لهذا الشيء بالسببية مع أن الله لم يجعله سببا (4). تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 381
_________
(1) ينظر: ((لسان العرب))، و ((التعريفات))، و ((الكليات)) (مادة: سبب).
(2) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 175 - 176).
(3) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 169)، وينظر آخر ((مدارج السالكين)) (3/ 521)، و ((شرح الطحاوية: الدعاء)) (ص: 679).
(4) ((القول السديد)) باب من الشرك لبس الحلقة (ص: 45 - 46)، ((القول المفيد)) باب الرقى (1/ 183)، ((مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين)) (1/ 102 - 104)، ((الشرك الأصغر)) (ص: 135 - 147).
المثال الرابع: التطير
تعريف التطير:
في اللغة: مصدر تطير، وأصله مأخوذ من الطير، لأن العرب يتشاءمون أو يتفاءلون بالطيور على الطريقة المعروفة عندهم بزجر الطير، ثم ينظر: هل يذهب يميناً أو شمالاً أو ما أشبه ذلك، فإن ذهب إلى الجهة التي فيها التيامن، أقدم، أو فيها التشاؤم، أحجم.
أما في الاصطلاح، فهي التشاؤم بمرئي أو مسموع، وهذا من الأمور النادرة، لأن الغالب أن اللغة أوسع من الاصطلاح، لأن الاصطلاح يدخل على الألفاظ قيوداً تخصصها، مثل الصلاة لغة: الدعاء، وفي الاصطلاح أخص من الدعاء، وكذلك الزكاة وغيرها.
وإن شئت، فقل: التطير: هو التشاؤم بمرئي، أو مسموع، أو معلوم.
بمرئي مثل: لو رأى طيراً فتشاءم لكونه موحشاً.
أو مسموع مثل: من هم بأمر فسمع أحداً يقول لآخر: يا خسران، أو يا خائب، فيتشاءم.
أو معلوم، كالتشاؤم ببعض الأيام أو بعض الشهور أو بعض السنوات، فهذه لا ترى ولا تسمع.
واعلم أن التطير ينافي التوحيد، ووجه منافاته له من وجهين:
الأول: أن المتطير قطع توكله على الله واعتمد على غير الله.
الثاني: أنه تعلق بأمر لا حقيقة له، بل هو وهم وتخييل، فأي رابطة بين هذا الأمر، وبين ما يحصل له، وهذا لا شك أنه يخل بالتوحيد، لأن التوحيد عبادة واستعانة، قال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 4]، وقال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123].
فالطيرة محرمة، وهي منافية للتوحيد كما سبق، والمتطير لا يخلو من حالين:
الأول: أن يحجم ويستجيب لهذه الطيرة ويدع العمل، وهذا من أعظم التطير والتشاؤم.
الثاني: أن يمضي لكن في قلق وهم وغم يخشى من تأثير هذا المتطير به، وهذا أهون.
وكلا الأمرين نقص في التوحيد وضرر على العبيد، بل انطلق إلى ما تريد بانشراح صدر وتيسير واعتماد على الله ـ عز وجل ـ، ولا تسيء الظن بالله ـ عز وجل ـ.
وقول الله تعالى: أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الأعراف: 131].
وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب آيتين:
[الآية الأولى قوله تعالى: أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ.]
هذه الآية نزلت في قوم موسى كما حكى الله عنهم في قوله: وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ [الأعراف: 131]، قال الله تعالى: أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ ومعنى: يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ: أنه إذا جاءهم البلاء والجدب والقحط قالوا: هذا من موسى وأصحابه، فأبطل الله هذه العقيدة بقوله: أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ.
قوله: أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ. ألا: أداة استفتاح تفيد التنبيه والتوكيد، وإنما: أداة حصر.
وقوله: طائر مبتدأ، وعند الله خبر، والمعنى: أن ما يصيبهم من الجدب والقحط ليس من موسى وقومه، ولكنه من الله، فهو الذي قدره ولا علاقة لموسى وقومه به، بل إن الأمر يقتضي أن موسى وقومه سبب للبركة والخير، ولكن هؤلاء ـ والعياذ بالله ـ يلبسون على العوام ويوهمون الناس خلاف الواقع.
قوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ. فهم في جهل، فلا يعلمون أن هناك إلهاً مدبراً، وأن ما أصابهم من الله وليس من موسى وقومه.
وقوله: قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ [يس: 19].
الآية الثانية قوله تعالى: قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ.
أي: قال الذين أرسلوا إلى القرية في قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ. .. الآيات [يس: 13].
فقالوا ذلك رداً على قول أهل القرية: إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ [يس: 18]، أي: تشاءمنا بكم، وإننا لا نرى أنكم تدلوننا على الخير، بل على الشر وما فيه هلاكنا، فأجابهم الرسل بقولهم: طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ، أي: مصاحب لكم، فما يحصل لكم، فإنه منكم ومن أعمالكم، فأنتم السبب في ذلك.
ولا منافاة بين هذه الآية والتي ذكرها المؤلف قبلها، لأن الأولى تدل على أن المقدر لهذا الشيء هو الله، والثانية تبين سببه، وهو أنه منهم، فهم في الحقيقة طائرهم معهم (أي الشؤم) الحاصل عليهم معهم ملازم لهم، لأن أعمالهم تستلزمه، كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم: 41]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
ويستفاد من الآيتين المذكورتين في الباب: أن التطير كان معروفاً من قبل العرب وفي غير العرب، لأن الأولى في فرعون وقومه، والثانية في أصحاب القرية.
وقوله: أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ. ينبغي أن تقف على قوله: ذُكِّرْتُم، لأنها جملة شرطية، وجواب الشرط محذوف تقديره: أإن ذكرتم تطيرتم، وعلى هذا، فلا تصلها بما بعدها.
وقوله: بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ، بَلْ هنا للإضراب الإبطالي، أي: ما أصابكم ليس منهم، بل هو من إسرافكم.
وقوله: مُّسْرِفُونَ. أي: متجاوزون للحد الذي يجب أن تكونوا عليه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر)). أخرجاه (1)، وزاد مسلم: ((ولا نوء)) (2)، ((ولا غول)) (3).
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى". "لا" نافية للجنس، ونفي الجنس أعم من نفي الواحد والاثنين والثلاثة، لأنه نفي للجنس كله، فنفى الرسول صلى الله عليه وسلم العدوى كلها.
والعدوى: انتقال المرض من المريض إلى الصحيح، وكما يكون في الأمراض الحسية يكون أيضاً في الأمراض المعنوية الخلقية، ولهذا أخبر صلى الله عليه وسلم أن جليس السوء كنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة كريهة (4).
فقوله: "لا عدوى" يشمل الحسية والمعنوية، وإن كانت في الحسية أظهر.
قوله: "ولا طيرة". اسم مصدر تطير، لأن المصدر منه تطيُّر، مثل الخيرة اسم مصدر اختار، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا [الأحزاب: 36]، أي: الاختيار، أي يختاروا خلاف ما قضى الله ورسوله من الأمر.
واسم المصدر يوافق المصدر في المعنى، ولذلك تقول كلمته كلاماً بمعنى كلمته تكليماً، وسلمت عليه سلاماً بمعنى سلمت عليه تسليماً.
لكن لما كان يخالف المصدر في البناء سموه اسم مصدر، والطيرة تقدم أنها هي التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم.
قوله: (ولا هامة). الهامة، بتخفيف الميم فسرت بتفسيرين:
_________
(1) [3609])) رواه البخاري (5757) , ومسلم (2220) (102).
(2) [3610])) رواه مسلم (2220) (106) ,
(3) [3611])) رواه مسلم (2222) من حديث جابر رضي الله عنه.
(4) [3612])) رواه البخاري (5534) ومسلم (2628) من حديث أبي موسى رضي الله عنه, ونصه: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة).
الأول: أنها طير معروف يشبه البومة، أو هي البومة، تزعم العرب أنه إذا قتل القتيل، صارت عظامه هامة تطير وتصرخ حتى يؤخذ بثأره، وربما اعتقد بعضهم أنها روحه.
التفسير الثاني: أن بعض العرب يقولون: الهامة هي الطير المعروف، لكنهم يتشاءمون بها، فإذا وقعت على بيت أحدهم ونعقت، قال: إنها تنعق به ليموت، ويعتقدون أن هذا دليل قرب أجله، وهذا كله ـ بلا شك ـ عقيدة باطلة.
قوله: (ولا صفر). قيل: إنه شهر صفر، كانت العرب يتشاءمون به ولا سيما في النكاح.
وقيل: إنه داء في البطن يصيب الإبل وينتقل من بعير إلى آخر، وعلى هذا، فيكون عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام.
وقيل: إنه نهي عن النسيئة، وكانوا في الجاهلية ينسئون، فإذا أرادوا القتال في شهر المحرم استحلوه، وأخروا الحرمة إلى شهر صفر، وهذه النسيئة التي ذكرها الله بقوله تعالى: فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللهُ [التوبة: 37]، وهذا القول ضعيف، ويضعفه أن الحديث في سياق التطير، وليس في سياق التغيير، والأقرب أن صفر يعني الشهر، وأن المراد نفي كونه مشؤوماً، أي: لا شؤم فيه، وهو كغيره من الأزمان يقدر فيه الخير ويقدر فيه الشر.
وهذا النفي في هذه الأمور الأربعة ليس نفياً للوجود، لأنها موجودة، ولكنه نفي للتأثير، فالمؤثر هو الله، فما كان منها سبباً معلوماً، فهو سبب صحيح، وما كان منها سبباً موهوماً، فهو سبب باطل، ويكون نفياً لتأثيره بنفسه إن كان صحيحاً، ولكونه سبباً إن كان باطلاً.
فقوله: (لا عدوى): العدوى موجودة، ويدل لوجودها قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يورد ممرض على مصح)) (1)، أي: لا يورد صاحب الإبل المريضة على صاحب الإبل الصحيحة، لئلا تنتقل العدوى.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فر من المجذوم فرارك من الأسد)) (2).
والجذام مرض خبيث معد بسرعة ويتلف صاحبه، حتى قيل: إنه الطاعون، فالأمر بالفرار من المجذوم لكي لا تقع العدوى منه إليك، وفيه إثبات لتأثير العدوى، لكن تأثيرها ليس أمراً حتمياً، بحيث تكون علة فاعلة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفرار، وأن لا يورد ممرض على مصح من باب تجنب الأسباب لا من باب تأثير الأسباب بنفسها، فالأسباب لا تؤثر بنفسها، لكن ينبغي لنا أن نتجنب الأسباب التي تكون سبباً للبلاء، لقوله تعالى: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة [البقرة: 195]، ولا يمكن أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينكر تأثير العدوى، لأن هذا أمر يبطله الواقع والأحاديث الأخرى.
_________
(1) [3613])) رواه مسلم (2221) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) [3614])) رواه البخاري تعليقا (5707) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وأحمد (2/ 443) (9720) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/ 218) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (5/ 142) , والحديث صححه البيهقي في ((السنن الصغرى)) (3/ 65) , وقال البخاري في ((التاريخ الكبير)) (1/ 139): [روي] مرسلا وهو أصح, وصححه البغوي في ((شرح السنة)) (6/ 264) , والسيوطي في ((تدريب الراوي)) (2/ 207) , وأحمد شاكر في ((الباعث الحثيث)) (2/ 482) , وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (783): إسناده صحيح.
فإن قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: ((لا عدوى. قال رجل: يا رسول الله الإبل تكون صحيحة مثل الظباء، فيدخلها الجمل الأجرب فتجرب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن أعدى الأول؟)) (1) , يعني أن المرض نزل على الأول بدون عدوى، بل نزل من عند الله ـ عز وجل ـ، فكذلك إذا انتقل بالعدوى فقد انتقل بأمر الله، والشيء قد يكون له سبب معلوم وقد لا يكون له سبب معلوم، فجرب الأول ليس سببه معلوماً، إلا أنه بتقدير الله تعالى، وجرب الذي بعده له سبب معلوم، لكن لو شاء الله تعالى لم يجرب، ولهذا أحياناً تصاب الإبل بالجرب، ثم يرتفع ولا تموت، وكذلك الطاعون والكوليرا أمراض معدية، وقد تدخل البيت فتصيب البعض فيموتون ويسلم آخرون ولا يصابون ...
وهذا الجمع الذي أشرنا إليه هو أحسن ما قيل في الجمع بين الأحاديث، وادعى بعضهم النسخ، فمنهم من قال: إن الناسخ قوله: (لا عدوى)، والمنسوخ قوله: (فر من المجذوم)، و (ولا يورد ممرض على مصح)، وبعضهم عكس، والصحيح أنه لا نسخ، لأن من شروط النسخ تعذر الجمع، وإذا أمكن الجمع وجب الرجوع إليه، لأن في الجمع إعمال الدليلين، وفي النسخ إبطال أحدهما، وإعمالهما أولى من إبطال أحدهما، لأننا اعتبرناهما وجعلناهما حجة، وأيضاً الواقع يشهد أنه لا نسخ.
وقوله: (ولا صفر). فيه ثلاثة أقوال سبقت، وبيان الراجح منها.
والأزمنة لا دخل لها في التأثير وفي تقدير الله ـ عز وجل ـ، فصفر كغيره من الأزمنة يقدر فيه الخير والشر، وبعض الناس إذا انتهى من شيء في صفر أرخ ذلك وقال: انتهى في صفر الخير، وهذا من باب مداواة البدعة ببدعة، والجهل بالجهل، فهو ليس شهر خير ولا شهر شر.
أما شهر رمضان، قولنا: إنه شهر خير، فالمراد بالخير العبادة، ولا شك أنه شهر خير، وقولهم: رجب المعظم، بناء على أنه من الأشهر الحرم.
ولهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال: خيراً إن شاء الله، فلا يقال: خير ولا شر، بل هي تنعق كبقية الطيور.
فهذه الأربعة التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم تبين وجوب التوكل على الله وصدق العزيمة، ولا يضعف المسلم أما هذه الأشياء، لأن الإنسان لا يخلو من حالين:
إما أن يستجيب لها بأن يقدم أو يحجم أو ما أشبه ذلك، فيكون حينئذ قد علق أفعاله بما لا حقيقة له ولا أصل له، وهو نوع من الشرك.
وإما أن لا يستجيب بأن يكون عنده نوع من التوكل ويقدم ولا يبالي، لكن يبقى في نفسه نوع من الهم أو الغم، وهذا وإن كان أهون من الأول، لكن يجب ألا يستجيب لداعي هذه الأشياء التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقاً، وأن يكون معتمداً على الله ـ عز وجل ـ.
وبعض الناس قد يفتح المصحف لطلب التفاؤل، فإذا نظر ذكر النار تشاءم، وإذا نظر ذكر الجنة قال: هذا فأل طيب، فهذا مثل عمل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام.
فالحاصل أننا نقول: لا تجعل على بالك مثل هذه الأمور إطلاقاً، فالأسباب المعلومة الظاهرة تقي أسباب الشر، وأما الأسباب الموهومة التي لم يجعلها الشرع سبباً بل نفاها، فلا يجوز لك أن تتعلق بها، بل احمد الله على العافية، وقل: ربنا عليك توكلنا.
قوله: (لا نوء). واحد الأنواء، والأنواء: هي منازل القمر، وهي ثمان وعشرون منزلة، كل منزلة لها نجم تدور بمدار السنة.
وهذه النجوم بعضها يسمى النجوم الشمالية، وهي لأيام الصيف، وبعضها يسمى النجوم الجنوبية، وهي لأيام الشتاء، وأجرى الله العادة أن المطر في وسط الجزيرة العربية يكون أيام الشتاء، أما أيام الصيف، فلا مطر.
_________
(1) [3615])) رواه البخاري (5717) , ومسلم (2220) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فالعرب كانوا يتشاءمون بالأنواء، ويتفاءلون بها، فبعض النجوم يقولون: هذا نجم نحس لا خير فيه، وبعضها بالعكس يتفاءلون به فيقولون: هذا نجم سعود وخير، ولهذا إذا أمطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا، ولا يقولون: مطرنا بفضل الله ورحمته، ولا شك أن هذا غاية الجهل.
ألسنا أدركنا هذا النوء بعينه في سنة يكون فيه مطر وفي سنة أخرى لا يكون فيه مطر؟
ونجد السنوات تمر بدون مطر مع وجود النجوم الموسمية التي كانت كثيراً ما يكون في زمنها الأمطار.
فالنوء لا تأثير له، فقولنا: طلع هذا النجم، كقولنا: طلعت الشمس، فليس له إلا طلوع وغروب، والنوء وقت تقدير، وهو يدل على دخول الفصول فقط.
وفي عصرنا الحاضر يعلق المطر بالضغط الجوي والمنخفض الجوي، وهذا وإن كان قد يكون سبباً حقيقياً، ولكن لا يفتح هذا الباب للناس، بل الواجب أن يقال: هذا من رحمة الله، هذا من فضله ونعمه، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النور: 43]، وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الروم: 48].
فتعليق المطر بالمنخفضات الجوية من الأمور الجاهلية التي تصرف الإنسان عن تعلقه بربه.
فذهبت أنواء الجاهلية، وجاءت المنخفضات الجوية، وما أشبه ذلك من الأقوال التي تصرف الإنسان عن ربه ـ سبحانه وتعالى ـ.
نعم، المنخفضات الجوية قد تكون سبباً لنزول المطر، لكن ليست هي المؤثر بنفسها، فتنبه.
قوله: (ولا غول). جمع غَولة أو غُولة، ونحن نسميها باللغة العامية: (الهولة)، لأنها تهول الإنسان.
والعرب كانوا إذا سافروا أو ذهبوا يميناً وشمالاً تلونت لهم الشياطين بألوان مفزعة مخيفة، فتدخل في قلوبهم الرعب والخوف، فتجدهم يكتئبون ويستحسرون عن الذهاب إلى هذا الوجه الذي أرادوا، وهذا لاشك أنه يضعف التوكل على الله، والشيطان حريص على إدخال القلق والحزن على الإنسان بقدر ما يستطيع، قال تعالى: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المجادلة: 10].
وهذا الذي نفاه الرسول صلى الله عليه وسلم هو تأثيرها، وليس المقصود بالنفي نفي الوجود، وأكثر ما يبتلى الإنسان بهذه الأمور إذا كان قلبه معلقاً بها، أما إن كان معتمدا على الله غير مبال بها، فلا تضره ولا تمنعه عن جهة قصده.
ولهما عن أنسٍ، قال: قال رسول الله ((لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل)). قالوا: وما الفأل؟ قال: ((الكلمة الطيبة)) (1).
قوله في حديث أنس: ((لا عدوى، ولا طيرة)). تقدم الكلام على ذلك.
قوله: (ويعجبني الفأل). أي: يسرني، والفأل بينه بقوله: (الكلمة الطيبة). فـ (الكلمة الطيبة) تعجبه صلى الله عليه وسلم، لما فيها من إدخال السرور على النفس والانبساط، والمضي قدماً لما يسعى إليه الإنسان، وليس هذا من الطيرة، بل هذا مما يشجع الإنسان، لأنها لا تؤثر عليه، بل تزيده طمأنينة وإقداماً وإقبالاً.
وظاهر الحديث: الكلمة الطيبة في كل شيء، لأن الكلمة الطيبة في الحقيقة تفتح القلب وتكون سبباً لخيرات كثيرة، حتى إنها تدخل المرء في جملة ذوي الأخلاق الحسنة.
_________
(1) [3616])) رواه البخاري (5756) , ومسلم (2224) ,
وهذا الحديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم فيه بين محذورين ومرغوب، فالمحذوران هما العدوى والطيرة، والمرغوب هو الفأل، وهذا من حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذكر المرهوب ينبغي أن يذكر معه ما يكون مرغوباً، ولهذا كان القرآن مثاني إذا ذكر أوصاف المؤمنين ذكر أوصاف الكافرين، وإذا ذكر العقوبة ذكر المثوبة، وهكذا.
قوله: (عن عقبة بن عامر). صوابه عن عروة بن عامر، كما ذكره في (التيسير)، وقد اختلف في نسبه وصحبته.
قوله: (ذكرت الطيرة عند رسول الله). وهذا الذكر إما ذكر شأنها، أو ذكر أن الناس يفعلونها، والمراد: تحدث الناس بها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولأبي داود ـ بسند صحيح ـ عن عقبة بن عامر، قل: ذكرت الطيَرَة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك)) (1).
قوله: "أحسنها الفأل". سبق أن الفأل ليس من الطيرة، لكنه شبيه بالطيرة من حيث الإقدام، فإنه يزيد الإنسان نشاطاً وإقداماً فيما توجه إليه، فهو يشبه الطيرة من هذا الوجه، وإلا، فبينهما فرق لأن الطيرة توجب تعلق الإنسان بالمتطير به، وضعف توكله على الله، ورجوعه عما هم به من أجل ما رأى، لكن الفأل يزيده قوة وثباتاً ونشاطاً، فالشبه بينهما هو التأثير في كل منهما.
قوله: "ولا ترد مسلماً". يفهم منه أن من ردته الطيرة عن حاجته فليس بمسلم.
قوله: (فإذا رأى أحدكم ما يكره). فحينئذ قد ترد على قلبه الطيرة، ويبتعد عما يريد، ولا يقدم عليه، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم دواء لذلك وقال: ((فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات .... )) إلخ.
قوله: ((اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت)). وهذا هو حقيقة التوكل، وقوله: "اللهم". يعني: يا الله، ولهذا بنيت على الضم، لأن المنادى علم، بل هو أعلم الأعلام وأعرف المعارف على الإطلاق، والميم عوض عن يا المحذوفة، وصارت في آخر الكلمة تبركاً بالابتداء باسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وصارت ميماً، لأنها تدل على الجمع، فكأن الداعي جمع قلبه على الله.
قوله: ((لا يأتي بالحسنات إلا أنت)). أي: لا يقدرها ولا يخلقها ولا يوجدها للعبد إلا الله وحده لا شريك له، وهذا لا ينافي أن تكون الحسنات بأسباب، لأن خالق هذه الأسباب هو الله، فإذا وجدت هذه الحسنات بأسباب خلقها الله، صار الموجد هو الله.
والمراد بالحسنات: ما يستحسن المرء وقوعه، ويحسن في عينه.
ويشمل ذلك الحسنات الشرعية، كالصلاة والزكاة وغيرها، لأنها تسر المؤمن، ويشمل الحسنات الدنيوية، كالمال والولد ونحوها، قال تعالى: إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ [التوبة: 50]، وقال تعالى في آية أخرى: إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا [آل عمران: 120].
وقوله: (إلا أنت). فاعل يأتي، لأن الاستثناء هنا مفرغ.
_________
(1) [3617])) رواه أبو داود (3919) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 139) , وعبد الرزاق في ((المصنف)) (10/ 406) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال ابن حجر في ((هداية الرواة)) (4/ 291) , والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (7/ 373): مرسل, وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (199).
قوله: ((ولا يدفع السيئات إلا أنت)). السيئات: ما يسوء المرء وقوعه وينفر منه حالاً أو مآلاً، ولا يدفعها إلا الله، ولهذا إذا أصيب الإنسان بمصيبة التجأ إلى ربه تعالى، حتى المشركون إذا ركبوا في الفلك، وشاهدوا الغرق، دعوا الله مخلصين له الدين.
ولا ينافي هذا أن يكون دفعها بأسباب، فمثلاً لو رأى رجلاً غريقاً، فأنقذه فإنما أنقذه بمشيئة الله، ولو شاء الله لم ينقذه، فالسبب من الله.
فعقيدة كل مسلم أنه لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يدفع السيئات إلا الله، وبمقتضى هذه العقيدة، فإنه يجب أن لا يسأل المسلم الحسنات ولا يسأل دفع السيئات إلا من الله، ولهذا كان الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يسألون الله الحسنات ويسألون دفع السيئات، قال تعالى عن زكريا: رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران: 38]، وقال تعالى عن أيوب: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83]، وهكذا يجب أن يكون المؤمن أيضاً.
قوله: "ولا حول ولا قوة إلا بك". في معناها وجهان:
الأول: أنه لا يوجد حول ولا قوة إلا بالله، فالباء بمعنى في، يعني: إلا في الله وحده، ومن سواه ليس لهم حول ولا قوة، ويكون الحول والقوة المنفيان عن غير الله هما الحول المطلق والقوة المطلقة، لأن غير الله فيه حول وقوة، لكنها نسبية ليست بكاملة، فالحول الكامل والقوة الكاملة في الله وحده.
الثاني: أنه لا يوجد لنا حول ولا قوة إلا بالله، فالباء للاستعانة أو للسببية، وهذا المعنى أصح، وهو مقتضى ورودها في مواضعها، إذ إننا لا نتحول من حول إلى حول ولا نقوى على ذلك إلا بالله فيكون في هذه الجملة كمال التفويض إلى الله، وأن الإنسان يبرأ من حوله وقوته إلا بما أعطاه الله من الحول والقوة.
فإن صح الحديث، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إذا رأينا ما نكره مما يتشاءم به المتشائم أن نقول: ((اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك)).
وعن ابن مسعود مرفوعاً: ((الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل)) رواه أبو داود والترمذي وصححه (1). وجعل آخره من قول ابن مسعودٍ.
قوله: "مرفوعاً". أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (الطيرة شرك، الطيرة شرك). هاتان الجملتان يؤكد بعضهما بعضاً من باب التوكيد اللفظي.
وقوله: (شرك). أي: إنها من أنواع الشرك، وليس الشرك كله، وإلا، لقال: الطيرة الشرك.
وهل المراد بالشرك هنا الشرك الأكبر المخرج من الملة، أو أنها نوع من أنواع الشرك؟
نقول: هي نوع من أنواع الشرك، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((اثنتان في الناس هما بهم كفر)) (2)، أي: ليس الكفر المخرج عن الملة، وإلا، لقال: (هما بهم الكفر)، بل هما نوع من الكفر.
_________
(1) [3618])) رواه أبو داود (3910) والترمذي (1614) وابن ماجه (3538) وأحمد (1/ 389) (3687) وابن حبان (13/ 491) والحاكم (1/ 65) وأبو يعلى (9/ 26) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 139) والبخاري في ((العلل الكبير)) وعبد الله بن أحمد في ((السنة)) (1/ 360) والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث سلمة بن كهيل وروى سليمان بن حرب يقول هذا الحديث وما منا ولكن الله يذهبه بالتوكل قال سليمان هذا عندي قول عبد الله بن مسعود وما منا, وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 108) وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).
(2) [3619])) رواه مسلم (67) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
لكن في ترك الصلاة قال: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) (1)، فقال: (الكفر)، فيجب أن نعرف الفرق بين (أل) المعرفة أو الدالة على الاستغراق، وبين خلو اللفظ منها، فإذا قيل: هذا كفر، فالمراد أنه نوع من الكفر لا يخرج من الملة، وإذا قيل: هذا الكفر، فهو المخرج من الملة.
فإذا تطير إنسان بشيء رآه أو سمعه، فإنه لا يعد مشركاً شركاً يخرجه من الملة، لكنه أشرك من حيث إنه اعتمد على هذا السبب الذي لم يجعله الله سبباً، وهذا يضعف التوكل على الله ويوهن العزيمة، وبذلك يعتبر شركاً من هذه الناحية، والقاعدة: (أن كل إنسان اعتمد على سبب لم يجعله الشرع سبباً، فإنه مشرك شركاً أصغر).
وهذا نوع من الإشراك مع الله، إما في التشريع إن كان هذا السبب شرعياً، وإما في التقدير إن كان هذا السبب كونياً، لكن لو اعتقد هذا المتشائم المتطير أن هذا فاعل بنفسه دون الله، فهو مشرك شركاً أكبر، لأنه جعل لله شريكاً في الخلق والإيجاد.
قوله: (وما منا). (منا): جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، إما قبل (إلا) إن قدرت ما بعد إلا فعلاً، أي: وما منا أحد إلا تطير، أو بعد (إلا)، أي: وما منا إلا متطير.
والمعنى: ما منا إنسان يسلم من التطير، فالإنسان يسمع شيئاً فيتشاءم، أو يبدأ في فعل، فيجد أوله ليس بالسهل فيتشاءم ويتركه.
والتوكل: صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة بالله، وفعل الأسباب التي جعلها الله تعالى أسباباً.
فلا يكفي صدق الاعتماد فقط، بل لابد أن تثق به، لأنه سبحانه يقول: مَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 4].
قوله: (وجعل آخره من قول ابن مسعود). وهو قوله: (وما منا إلا ... ) إلخ.
وعلى هذا يكون موقوفاً، وهو مدرج في الحديث، والمدرج: أن يدخل أحد الرواة كلاماً في الحديث من عنده بدون بيان، ويكون في الإسناد والمتن، ولكن أكثره في المتن، وقد يكون في أول الحديث، وقد يكون في وسطه، وقد يكون في آخره، وهو الأكثر.
مثال ما كان في أول الحديث: قول أبي هريرة رضي الله عنه: ((أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار)) (2)، فقوله: (أسبغوا الوضوء) من كلام أبي هريرة، وقوله: (ويل للأعقاب من النار) من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومثال ما كان في وسطه قول الزهري في حديث بدء الوحي: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء، والتحنث: التعبد)) (3)، ومثال ما كان في آخره: هذا الحديث الذي ذكره المؤلف، وكذا حديث أبي هريرة، وفيه: ((فمن استطاع منكم أن يطيل غرته، فليفعل)) (4) , فهذا من كلام أبي هريرة.
ولأحمد من حديث ابن عمرو ((من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك قالوا: فما كفارة ذلك، قال: أن تقولوا اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك)) (5).
قوله: "من ردته الطيرة عن حاجته". "من". شرطية، وجواب الشرط: "فقد أشرك"، واقترن الجواب بالفاء، لأنه لا يصلح لمباشرة الأداة، وحينئذ يجب اقترانه بالفاء، وقد جمع ذلك في بيت شعر معروف، وهو قوله:
اسمية طلبية وبجامد ... وبما وقد وبلن وبالتنفيس
_________
(1) [3620])) رواه مسلم (82) , من حديث جابر رضي الله عنه.
(2) [3621])) رواه البخاري (165) , ومسلم (242) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) [3622])) رواه البخاري (6982) , ومسلم (160) , من حديث عائشة رضي الله عنه.
(4) [3623])) رواه البخاري (136) , ومسلم (246).
(5) [3624])) رواه أحمد (2/ 220) (7045) , وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 108): فيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (12/ 10) , والألباني في ((السلسلة الصحيحة)): إسناده صحيح.
وقوله: (عن حاجته) الحاجة: كل ما يحتاجه الإنسان بما تتعلق به الكمالات، وقد تطلق عن الأمور الضرورية.
قوله: (فقد أشرك). أي: شركاً أكبر إن اعتقد أن هذا المتشاءم به يفعل ويحدث الشر بنفسه، وإن اعتقده سبباً فقط فهو أصغر، .... قاعدة مفيدة .... وهي: (أن كل من اعتقد في شيء أنه سبب ولم يثبت أنه سبب لا كوناً ولا شرعاً، فشركه شرك أصغر، لأنه ليس لنا أن نثبت أن هذا سبب إلا إذا كان الله قد جعله سبباً كونياً أو شرعياً، فالشرعي: كالقراءة والدعاء، والكوني: كالأدوية التي جرب نفعها).
وقوله: "فما كفارة ذلك". أي: ما كفارة هذا الشرك، أو ما هو الدواء الذي يزيل هذا الشرك؟ لأنه الكفارة قد تطلق على كفارة الشيء بعد فعله، وقد تطلق على الكفارة قبل الفعل، وذلك لأن الاشتقاق مأخوذ من الكفر، وهو الستر، والستر واق، فكفارة ذلك إن وقع وكفارة ذلك إن لم يقع.
وقوله: ((اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك)). يعني: فأنت الذي بيدك الخير المباشر، كالمطر والنبات، وغير المباشر، كالذي يكون سببه من عند الله على يد مخلوق، مثل: أن يعطيك إنسان دراهم صدقة أو هدية، وما أشبه ذلك، فهذا الخير من الله، لكن بواسطة جعلها الله سبباً، وإلا، فكل الخير من الله ـ عز وجل ـ.
وقوله: ((فلا خير إلا خيرك)). هذا الحصر حقيقي، فالخير كله من الله، سواء كان بسبب معلوم أو بغيره.
وقوله: ((لا طير إلا طيرك)). أي: الطيور كلها ملكك، فهي لا تفعل شيئاً، وإنما هي مسخرة، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ [الملك: 19]، وقال تعالى: أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل: 72]، فالمهم أن الطير مسخرة بإذن الله، فالله تعالى هو الذي يدبرها ويصرفها ويسخرها تذهب يميناً وشمالاً، ولا علاقة لها بالحوادث.
ويحتمل أن المراد بالطير هنا ما يتشاءم به الإنسان، فكل ما يحدث للإنسان من التشاؤم والحوادث المكروهة، فإنه من الله كما أن الخير من الله، كما قال تعالى: أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ [الأعراف: 131].
... وأن الشر في فعل الله ليس بواقع، بل الشر في المفعول لا في الفعل، بل فعله تعالى كله خير، إما خير لذاته، وإما لما يترتب عليه من المصالح العظيمة التي تجعله خيراً.
فيكون قوله: "لا طير إلا طيرك" مقابلاً لقوله: "ولا خير إلا خيرك".
قوله: (ولا إله غيرك). (لا) نافية للجنس، و (إله) بمعنى: مألوه، كغراس بمعنى مغروس، وفراش بمعنى مفروش، والمألوه: هو المعبود محبة وتعظيماً يتأله إليه الإنسان محبة له وتعظيماً له.
فإن قيل: إن هناك آلهة دون الله، كما قال تعالى: فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيْءٍ [هود: 101].
أجيب: أنها وإن عبدت من دون الله وسميت آلهة، فليست آلهة حقاً لأنها لا تستحق أن تعبد، فلهذا نقول: لا إله إلا الله، أي: لا إله حق إلا الله.
يستفاد من هذا الحديث:
أنه لا يجوز للإنسان أن ترده الطيرة عن حاجته، وإنما يتوكل على الله ولا يبالي بما رأى أو سمع أو حدث له عند مباشرته للفعل أول مرة، فإن بعض الناس إذا حصل له ما يكره في أول مباشرته الفعل تشاءم، وهذا خطأ، لأنه مادامت هناك مصلحة دنيوية أو دينية، فلا تهتم بما حدث.
أن الطيرة نوع من الشرك، لقوله: (من ردته الطيرة عن حاجته، فقد أشرك).
أن من وقع في قلبه التطير ولم ترده الطيرة، فإن ذلك لا يضر كما سبق في حديث ابن مسعود: (وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل).
أن الأمور بيد الله خيرها وشرها.
انفراد الله بالألوهية، كما انفرد بالخلق والتدبير.
وله من حديث الفضل بن عباس: ((إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)) (1).
قوله في حديث الفضل: (إنما الطيرة). هذه الجملة عند البلاغيين تسمى حصراً، أي: ما الطيرة إلا ما أمضاك أو ردك لا ما حدث في قلبك ولم تلتفت إليه، ولا ريب أن السلامة منها حتى في تفكير الإنسان خير بلا شك، لكن إذا وقعت في القلب ولم ترده ولم يلتفت لها، فإنها لا تضره، لكن عليه أن لا يستسلم، بل يدافع، إذ الأمر كله بيد الله.
قوله: (ما أمضاك أو ردك). أما (ما ردك)، فلا شك أنه من الطيرة، لأن التطير يوجب الترك والتراجع.
وأما (ما أمضاك)، فلا يخلو من أمرين:
الأول: أن تكون من جنس التطير، وذلك بأن يستدل لنجاحه أو عدم نجاحه بالتطير، كما لو قال: سأزجر هذا الطير، فإذا ذهب إلى اليمين، فمعنى ذلك اليمن والبركة، فيقدم، فهذا لا شك أنه تطير، لأن التفاؤل بمثل انطلاق الطير عن اليمين غير صحيح، لأنه لا وجه له، إذا الطير طار، فإنه يذهب إلى الذي يرى أن وجهته، فإذا اعتمد عليه، فقد اعتمد على سبب لم يجعله الله سبباً، وهو حركة الطير.
الثاني: أن يكون سبب المضي كلاماً سمعه أو شيئاً شاهده يدل على تيسير هذا الأمر له، فإن هذا فأل، وهو الذي يعجب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إن اعتمد عليه وكان سبباً لإقدامه، فهذا حكمه حكم الطيرة، وإن لم يعتمد عليه ولكنه فرح ونشط وازداد نشاطاً في طلبه، فهذا من الفأل المحمود.
والحديث في سنده مقال، لكن على تقدير صحته هذا حكمه. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - بتصرف – 2/ 93
_________
(1) [3625])) رواه أحمد (1/ 213) (1824) , قال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 358): [فيه] محمد بن عبد الله بن علاثة وهو مختلف فيه وفيه انقطاع, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 240): إسناده ضعيف.
وأما الطِّيَرَةُ فهي: ترك الإنسان حاجته، واعتقاده عدم نجاحها، تشاؤماً بسماع بعض الكلمات القبيحة كيا هالك أو يا ممحوق ونحوها. وكذا التشاؤم ببعض الطيور كالبومة وما شاكلها إذا صاحت، قالوا إِنَّها ناعية أو مخبرة بشر، وكذا التشاؤم بملاقاة الأعورِ أو الأعرج أو المهزول أو الشيخ الهرم أو العجوز الشمطاء، وكثير من الناس إذا لقيه وهو ذاهب لحاجة صَدَّهُ ذلك عنها ورجع معتقداً عدم نجاحها، وكثير من أهل البيع لا يبيع مِمَّنْ هذه صفته إذا جاءهُ أول النهار، حتى يبيع من غيره تشاؤماً به وكراهة له. وكثير منهم يعتقد أنه لا ينال في ذلك اليوم خيراً قط، وكثير من الناس يتشاءم بما يعرض له نفسه في حال خروجه كما إذا عثر أو شيك يرى أَنَّه لا يجد خيراً، ومن ذلك التشاؤم ببعض الأيام أو ببعض الساعات كالحادي والعشرين من الشهر وآخر أربعاء فيه ونحو ذلك فلا يسافر فيها كثير من الناس ولا يعقد فيها نكاحاً ولا يعمل فيها عملاً مهماً ابتداء، يظن أو يعتقد أن تلك الساعة نحس، وكذا التشاؤم ببعض الجهات في بعض الساعات فلا يستقبلها في سفر ولا أمر حتى تنقضي تلك الساعة أو الساعات. وهي من أكاذيب المنجمين ... ، يزعمون أَنَّ هناك فلكاً دَوَّاراً يكون كل يوم أو ليلة في جهة من الجهات فمن استقبل تلك الجهة في الوقت الذي يكون فيها هذه الفلك لا ينال خيراً ولا يأمن شراً، وهم في ذلك كاذبون مفترون قبَّحهم الله ولعنهم، وقد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل. ومن ذلك التشاؤم بوقوع بعض الطيور على البيوت يرون أَنَّها معلمةٌ بشرٍّ، وكذا صوت الثعلب عندهم، ومن ذلك الاستقسام بتنفير الطير والظباء فإِنْ تيامنت ذهبوا لحاجتهم وإِنْ تياسرت تركوها، وهذا من الاستقسام بالأزلام الذي أمر الله تعالى باجتنابه وأخبر أَنَّه رجس من عمل الشيطان، وهذا وما شاكله كثير منه كان في الجاهلية قبل النبوة وقد أبطله الإسلام فأَعاده الشيطان في هذا الزمان أكثر مما كان عليه في الجاهلية بأضعاف مضاعفة، ووسع دائرة ذلك وساعده عليه شياطين الإنس من الكهنة والمنجمين وأضرابهم وأتباعهم؛ أرداهم الله وألحقهم به آمين.
قال الله تعالى وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الأعراف:131]، وقال تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [النمل:45 – 47]، وقال تعالى في قصة الثلاثة رسل عيسى قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ [يس:16 - 18] قال مجاهد في قوله تعالى فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ قالوا: العاقبة والرخاء نحن أحق بها وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ قال بلاء وعقوبة يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى قال: يتشاءموا به.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ [الأعراف:131] قال ((الأمر مِنْ قِبَلِ اللهِ)) (1). وقال رضي الله عنه في قوله طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ [النحل:47] قال: الشؤم أتاكم مِنْ عندِ اللهِ لكفركم (2)، وتقدم ذكر الطيرة ونفيها في الأحاديث السابقة.
وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدَّثني عبد الله بن محمد حدَّثنا عثمان بن عمر حدَّثنا يونس عن الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا عَدْوى ولا طيرة، والشؤم في ثلاث: في المرأةِ والدار والدابة)) (3). والشُّؤم ضد اليمن، وهو عدم البركة، والمراد به الأمر المحسوس المشاهد كالمرأة العاقر التي لا تلد أو اللسنة المؤذية أو المبذرة بمال زوجها سفاهة ونحو ذلك. وكذا الدار الجدبة أو الضيقة أو الوبيئة الوخيمة المشرب أو السيئة الجيران وما في معنى ذلك، وكذا الدابة التي لا تلد ولا نسل لها أو الكثيرة العيوب الشينة الطبع وما في معنى ذلك، فهذا كله شيء ضروري مشاهد معلوم ليس هو من باب الطيرة المنفية فإِنَّ ذلك أمر آخر عند من يعتقده ليس من هذا لأنهم يعتقدون أنَّها نحس على صاحبها لذاتها لا لعدم مصلحتها وانتفائها فيعتقدون أَنَّه إِنْ كان غنياً افتقر ليس بتبذيرها بل لنحاستها عليه، وإِنَّه إِنْ يأخذها يموت بمجرد دخولها عليه لا بسبب محسوس، بل عندهم أَنَّ لها نجما لا يوافق نجمه بل ينطحه ويكسره، وذلك مِنْ وحي الشيطان يوحيه إلى أوليائه من المشركين، قال الله تعالى وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ [الأنعام:121]، وقال تعالى إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:27].
حتَّى إنَّ رجلاً في زماننا هذا كان يشعوذ على الناس بذلك ويفرق به بين المرء وزوجه، فتنبه له بعض العامة ممن يحضر مجالس الذكر ويسمع ذم المنجمين وتكذيبهم بالآيات والأحاديث فقال له: إنِّي أُرِيد أَنْ أنكح امرأة، ما ترى فيها هل هي سعد لي أو نحس عليَّ؟ فعرض ذلك على قواعده الشيطانية ثم قال له: دعها فإنِّك إنْ أخذتها لا تبلي معها ثوباً، يعني يموت سريعاً لا تطول معها صحبته، وكانت تلك المرأة التي سأله عنها وسماها له هي زوجته وقد طالت صحبته معها وله منها نحو خمسة من الأولاد، فدعاهم كلهم بأسمائهم حتى حضروا فقال له: هؤلاء أولادي منها. ولهذا نظائر كثيرة من خرافاتهم.
والمقصود أنَّ الشؤم المثبت في هذا الحديث أمر محسوس ضروري مشاهد ليس من باب الطيرة المنفية التي يعتقدها أهل الجاهلية ومن وافقهم.
وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدَّثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أَنَّ أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا طيرة، وخيرها الفأل. قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة. يسمعها أحدكم)) (4).
قال حدَّثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصَّالح الكلمة الحسنة)) (5).
...
_________
(1) [3626])) رواه ابن جرير في ((التفسير)) (13/ 48).
(2) [3627])) ذكره البغوي في ((التفسير)) (6/ 169) ,
(3) [3628])) رواه البخاري (5753).
(4) [3629])) رواه البخاري (5754) , ومسلم (2223).
(5) [3630])) رواه البخاري (5756) , ومسلم (2224) ,
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية حين جاء سهيل بن عمرو قال: ((سَهَّلَ اللهُ أَمْرَكُمْ)) (1) الحديث وما شاكله.
ومن شرط الفأل أَنْ لا يعتمد عليه وأَنْ لا يكون مقصوداً، بل أَنْ يتفق للإنسان ذلك مِنْ غير أنْ يكون له على بال. ومن البِدَع الذميمة والمحدثات الوخيمة مأخذ الفأل من المصحف فإنَّه من اتخذ آيات الله هزواً ولعباً ولهواً، ساءَ ما يعملون. وما أدري كيف حال مَنْ فتح على قوله تعالى لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:78]، وقوله وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء:93] وأمثال هذا الآيات. ويروى أَنَّ أَوَّل من أحدث هذه البدعة بعض المروانية وأَنَّه تفاءلَ يوماً ففتح المصحف فاتفق لاستفتاحه قول الله عز وجل وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنيدٍ [إبراهيم:15] الآيات فيقال إنَّه أَحرق المصحف غضباً من ذلك وقال أبياتاً لا نسوِّد بها الأوراق. والمقصود أَنَّ هذه بدعة قبيحة، والفأْلُ إذا قصده المتفائل فهو طيرة كالاستقسام بالأزلام، وقد روى الإمام أحمد في تعريف الطيرة حديث الفضل بن العباس رضي الله عنهما ((إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)) (2)، وروى في كفارتها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وقفه ((مَنْ ردَّتْهُ الطِّيرة عَنْ حاجته فقد أَشْرَك. قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أَنْ تقول: اللهم لا خير إلا خيرُك، ولا طير إلا طيرُك، ولا إله غيرك)) (3).
_________
(1) [3631])) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (1/ 353) , قال الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)): حسن لغيره.
(2) [3632])) رواه أحمد (1/ 213) (1824) , قال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 358): [فيه] محمد بن عبد الله بن علاثة وهو مختلف فيه وفيه انقطاع, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 240): إسناده ضعيف.
(3) [3633])) رواه أحمد (2/ 220) (7045) , وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 108): فيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (12/ 10) , والألباني في ((السلسلة الصحيحة)): إسناده صحيح.
وقال أبو داود رحمه الله تعالى: حدَّثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عيسى بن عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الطيرة شرك)) ثلاثاً ((وما منّا إلا، ولكنَّ الله يذهبه بالتوكل)) (1)، وقوله ((ما منّا إلا)) إلخ هو من كلام ابن مسعود كما فصله الترمذي رحمه الله في روايته عن المرفوع حيث قال: سمعت محمد بن إسماعيل يقول كان سليمان بن حرب يقول في هذا الحديث ((وما منا إلاَّ، ولكن الله يذهبه بالتوكل)): كل هذا عندي قول عبد الله بن مسعود (215). وقال رحمه الله تعالى: حدَّثنا أحمد بن حنبل وأبو بكر بن أبي شيبة قالا حدَّثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة بن عامر (قال أحمد: القرشي) قال ذُكرت الطِّيَرَةُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أحسنها الفأل ولا تَرُدُّ مسلماً. فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهُمَّ لا يأتي بالحسنات إلا أنْت، ولا يدفع السيئات إلا أَنْتَ ولا حول ولا قوة إلا بك)) (2).
_________
(1) [3634])) رواه أبو داود (3910) والترمذي (1614) وابن ماجه (3538) وأحمد (1/ 389) (3687) وابن حبان (13/ 491) والحاكم (1/ 65) وأبو يعلى (9/ 26) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 139) والبخاري في ((العلل الكبير)) وعبد الله بن أحمد في ((السنة)) (1/ 360) والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث سلمة بن كهيل وروى سليمان بن حرب يقول هذا الحديث وما منا ولكن الله يذهبه بالتوكل قال سليمان هذا عندي قول عبد الله بن مسعود وما منا, وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 108) وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).
(2) [3635])) رواه أبو داود (3919) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 139) , وعبد الرزاق في ((المصنف)) (10/ 406) , والحديث سكت عنه أبو داود, وصححه النووي في ((رياض الصالحين)) (537) , وقال ابن حجر في ((هداية الرواة)) (4/ 291) , والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (7/ 373): مرسل, وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (199).
وأما الغول فهي واحد الغيلان وهي من شَرِّ شياطين الجن وسحرتهم والنفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية فيهم من الضُرِّ والنَّفعِ، وكانوا يخافونهم خوفاً شديداً ويستعيذون ببعضهم من بعض كما قال تعالى عنهم وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] زاد الإنس الجن جرأة عليهم وشراً وطغياناً، وزادتهم الجن إخافة وخبلاً وكفراناً. وكان أَحَدُهم إذا نزل واديا قال: أعوذُ بِسَيِّدِ هذا الوادي من سفهائه (1) فيأتي الشيطان فيأخذ من مال هذا المستعيذ أو يروعه في نفسه، فيقول: يا صاحب الوادي، جارك أو نحو ذلك. فيسمع منادياً ينادي ذلك المعتدي أَنْ اتركه أو دعه أو ما أشبه ذلك. فأبطل الله تعالى ورسولُهُ صلى الله عليه وسلم ذلك ونفى أَنْ يضروا أحداً إلاَّ بإذن اللهِ عز وجل، وأبدلنا عن الاستعاذة بالمخلوقين الاستعاذة بجبَّار السموات والأرض، رب الكون وخالقه ومالكه وإلهه وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا وكلماته التامات التي لا يجاوزهن جبار ولا متكبر، فقال الله تبارك وتعالى وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ [المؤمنون:97]، وقال تعالى وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأعراف:200]، وقال تعالى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] إلى آخر السورة، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] إلى آخر السورة. وغيرها من الآيات. وقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم في هاتين السورتين: ((ما سأل سائلٌ بمثلهما ولا استعاذَ مستعيذٌ بمثلهما)) (2)، وقال صلى الله عليه وسلم ((مَنْ نَزَلَ منْزلاً فقال: أعوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّات مِنْ شَرِّ ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منْزله ذلك)) (3) وهو في الصحيح، ... وفي الحديث الصحيح ((إِنَّ الشيطان إذا سمع النداء أَدْبَرَ وله ضُراط (4) – وفي لفظ حصاص)) (5) وأحاديث الاستعاذة والأذكار في طرد الشيطان وغيره كثيرة مشهورة مسبورة في مواضعها من كتب السنة، وأَمَّا قول مَنْ قال إِنَّ المراد في الحديث نفي وجود الغيلان مطلقاً فليس بشيءٍ لأنَّ ذلك مكابرة للأمور المشاهدة المعلومة بالضرورة في زمن النّبي صلى الله عليه وسلم وقبله وبعده من إتيانهم وانصرافهم ومخاطبتهم وتشكلهم. والله أعلم.
وأما الهامة والصفر: فقال أبو داود رحمه الله تعالى: حدَّثنا محمَّدُ بن المصفى حدَّثنا بقية قال: قلت لمحمد – يعني ابن راشد – قوله ((هام)) قال: كانت الجاهلية تقول: ((لَيْسَ أحدٌ يموت فيدفن إلا خرج مِنْ قبره هامة)). ... فقوله ((صَفَر)) قال: سمعت أهل الجاهلية يستشئمون بصَفَر، فقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ((لا صَفَر)) قال محمد: وقد سمعنا من يقول هو وجع يأخذ في البطن، فكانوا يقولون هو يعدي فقال ((لا صفر)) (6)، وقال رحمه الله: حدَّثنا يحيى بن خلف حدَّثنا أبو عاصم حدَّثنا ابن جريج عن عطاء قال: يقول الناس صفر وجع يأخذ في البطن. قلت: فما الهامة؟ قال: يقول الناس الهامة التي تصرخ هامة الناس، وليست بهامة الإنسان، إنما هي دابة (7). وقال رحمه الله: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا شاهدٌ أخبركم أشهب قال: سئل مالك عن قوله ((لا صَفَر)) قال: إنَّ أَهْل الجاهلية كانوا يحلِّون صَفَر، يحلّونه عاماً ويحرِّمونه عاماً، فقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: ((لا صَفَر)) (8).
... وكل هذه المعاني لهذه الألفاظ قد اعتقدها الجهال وكلها بجميع معانيها المذكورة منفية بنص الحديث. ولله الحمد والمنّة. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي -بتصرف – ص1160
_________
(1) [3636])) رواه ابن جرير في ((التفسير)) (23/ 654).
(2) [3637])) رواه النسائي في (8/ 253) (5438) , والدارمي (2/ 554) , والحميدي (2/ 376) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 78) , من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه, قال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 232): إسناده جيد, وقال الألباني في ((صحيح النسائي)): حسن صحيح.
(3) [3638])) رواه مسلم (2708).
(4) [3639])) رواه البخاري (608) , ومسلم (389) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: ((إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين .... )).واللفظ للبخاري.
(5) [3640])) رواه مسلم (389).
(6) [3641])) رواه أبو داود (3915) , وقال الألباني صحيح مقطوع.
(7) [3642])) رواه أبو داود (3918) , وقال الألباني صحيح مقطوع.
(8) [3643])) رواه أبو داود (3914) , وقال الألباني صحيح مقطوع.
المثال الأول: الرقى الشركية
الرقى في اللغة: جمع رقية، والاسم منه (رقيا)، يقال: رقيته، أرقيه، رقيا، والمرة (رقية) (1).
وفي الاصطلاح: الأمور التي يعوذ بها لرفع البلاء أو دفعه (2).
والرقية الشرعية هي الأذكار من القرآن والأدعية والتعويذات الثابتة في السنة أو الأدعية الأخرى المشروعة التي يقرؤها الإنسان على نفسه أو يقرؤها عليه غيره ليعيذه الله من الشرور بأنواعها، من الأمراض وشرور جميع مخلوقات الله الأخرى من السباع والهوام والجن والإنس وغيرها، فيعيذه منها بدفعها قبل وقوعها، بأن لا تصيبه، أو يعيذه منها بعد وقوعها بأن يرفعها ويزيلها عنه، وغالباً يصحب قراءة هذه الأذكار نفث من الراقي، وقد تكون الرقية بالقراءة والنفث على بدن المرقي أو في يديه ويمسح بهما جسده ومواضع الألم إن وجدت، وقد تكون بالقراءة في ماء ثم يشربه المرقي أو يصب على بدنه، وبعضهم يقوم بكتابة الأذكار بزعفران أو غيره على ورق أو في إناء، ثم يغسله بماء، ثم يسقيه المريض.
والرقى التي يفعلها الناس تنقسم إلى نوعين:
النوع الأول: الرقى الشرعية، وهي الرقى التي سبق ذكرها، وقد أجمع أهل العلم جوازها في الجملة.
ويشترط في هذه الرقية أيضا أن يعتقد الراقي والمرقي أن الرقية لا تؤثر بذاتها، وأن لا يعتمد عليها المرقي بقلبه، وأن يعتقد أن النفع إنما هو من الله تعالى، وأن هذه الرقية إنما هي سبب من الأسباب المشروعة (3)، ويشترط أن لا تكون هذه الرقية من ساحر أو متهم بالسحر، وحكم هذه الرقية عند اجتماع الشروط السابقة أنها مستحبة، وهي من أعظم أسباب الشفاء من الأمراض بإذن الله تعالى.
والدليل على استحباب الرقية في حق المرقي: ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ: قل هو الله أحد، وبالمعوذتين جميعاً، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به.
والدليل على استحبابها في حق الراقي: ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال: كان لي خال يرقي من العقرب، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، قال: فأتاه فقال: يا رسول الله، إنك نهيت عن الرقى، وأنا أرقي من العقرب؟ فقال: ((من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)).
النوع الثاني: الرقى المحرمة:
ومنها: الرقى الشركية، وهي الرقى التي يعتمد فيها الراقي أو المرقي على الرقية، فإن اعتمد عليها مع اعتقاده أنها سبب من الأسباب، وأنها لا تستقل بالتأثير فهذا شرك أصغر، وإن اعتمد عليها اعتماداً كلياً حتى اعتقد أنها تنفع من دون الله، أو تضمنت صرف شيء من العبادة لغير الله، كالدعاء، أو الاستعاذة بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو من الشرك الأكبر المخرج من الملة.
والدليل على تحريم جميع الرقى الشركية: قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك))، وما روى عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: ((اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى، ما لم يكن فيه شرك)) رواه مسلم.
_________
(1) ((النهاية))، و ((المصباح))، (مادة: رقى).
(2) وينظر ((النهاية))، و ((المصباح)) و ((فتح الباري)): الطب باب الرقى بالقرآن (10/ 195)، و ((عمدة القاري)) (21/ 262). والرقى تسمى العزائم. والعزائم في الأصل: رقى كانوا يعزمون بها على الجن، فيقال: عزم الراقي، كأنه أقسم على الداء. ينظر ((لسان العرب)) (مادة: عزم)، وينظر ((المراد بالعزائم عند المشعوذين في الفروق)) (الفرق 242، 4/ 147).
(3) ينظر: ((المدخل)) لابن الحاج (4/ 326).
ومن الرقى المحرمة: أن تكون الرقية فيها طلاسم، أو ألفاظ غير مفهومة، والغالب أنها رقى شركية، وبالأخص إذا كانت من شخص غير معروف بالصلاح والاستقامة على دين الله تعالى، أو كانت من كافر كتابي أو غيره. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 397
هذه الأمور المذكورة التي يتعلق بها العامة غالبها من الشرك الأصغر لكن إذا اعتمد العبد عليها بحيث يثق بها ويضيف النفع والضر إليها كان ذلك شركا أكبر والعياذ بالله لأنه حينئذ صار متوكلا على سوى الله ملتجئا إلى غيره
وَمَن يَثِقْ بِوَدْعَةٍ أوْ نَابِ ... أَوْ حَلْقَةٍ أوْ أَعْيُنِ الذِّئَابِ
أَوْ خَيْطٍ اَوْ عُضْوٍ مِنَ النُّسُورِ ... أَو وَتَرٍ أوْ تُرْبَةِ الْقُبُورِ
لأَيِّ أَمْرٍ كَائِنٍ تَعَلَّقَهْ ... وَكلَهُ اللهُ إِلَى مَا عَلَّقَهْ
(ومن يثق) هذا الشرط جوابه (وكلهُ) الآتي:
(بودعة) قال في النهاية هو شيء أبيض يجلب من البحر يعلق في حلوق الصبيان وغيرهم. وإنما نهى عنه لأنهم كانوا يعلقونها مخافة العين (227).
(أو ناب) كما يفعله كثير من العامة يأخذون ناب الضبع ويعلقونه من العين.
(أو حلقة) وكثيراً ما يعلقونها من العين وسيأتي في الحديث أنهم يعلقونها من الواهنة وهو مرض العضد.
(أو أعين الذئاب) وكثيراً ما يعلقونها يزعمون أن الجن تفر منها، ومنهم من يقول إنه إذا وقع بصر الذئب على جني لا يستطيع أن يفر منه حتى يأخذه، ولهذا يعلقون عينه إذا مات على الصبيان ونحوهم.
(أو خيط) وكثيراً ما يعلقونه على المحموم ويعتقدونه فيه عقداً بحسب اصطلاحاتهم، وأكثرهم يقرأ عليه سورة: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1] إلى آخرها، ويعقد عند كل كاف منها عقدة، فيجتمع في الخيط تسع عقد بعدد الكافات، ثم يربطونه بيد المحموم أو عنقه.
(أو عضو من النسور) كالعظم ونحوه يجعلونها خرزاً ويعلقونها على الصبيان يزعمون أنها تدفع العين.
(أو وتر) وكانوا في الجاهلية إذا عتق وتر القوس أخذوه وعلقوه يزعمون عن العين على الصبيان والدواب.
(أو تربة القبور) وما أكثر من يستشفي بها لا شفاهم الله، واستعمالهم لها على أنواع: فمنهم من يأخذها ويمسح بها جلده، ومنهم من يتمرغ على القبر تمرغ الدابة، ومنهم من يغتسل بها مع الماء، ومنهم من يشربها وغير ذلك. وهذا كله ناشئ عن اعتقادهم في صاحب ذلك القبر أنه ينفع ويضر، حتى عدوا ذلك الاعتقاد فيه إلى تربته فزعموا أنها فيها شفاء وبركة لدفنه فيها، حتى إن منهم من يعتقد في تراب بقعة لم يدفن فيها ذلك الولي بزعمه بل قيل له إن جنازته قد وضعت في ذلك المكان. وهذا وغيره من تلاعب الشيطان بأهل هذه العصور زيادة على ما تلاعب بمن قبلهم. نسأل الله العافية.
(لأي أمر كائن تعلقه) الضمير عائد إلى ما تقدم وغيره (وكله الله) أي تركه (إلى ما علقه) دعاء عليه أي لا حفظه الله ولا كلأه بل تركه إلى ما وثق به واعتمد عليه دون الله عز وجل: قال الله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف:106] وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له)) رواه أحمد (1). وله عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر فقال: ((ما هذا؟)) قال: من الواهنة، فقال: ((انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهناً، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)) (2) , ولابن أبي حاتم عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف:106] (3) وفي (الصحيح) عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولاً أن ((لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت)) (4). وعن رويفع رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا رويفع، لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وتراً أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً بريء منه)) رواه أحمد (5). وله عن عبد الله بن عكيم مرفوعاً ((من علق شيئاً وكل إليه)) ورواه الترمذي (6).
_________
(1) [3647])) رواه أحمد (4/ 154) (17440) , وأبو يعلى (3/ 295) , قال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (8/ 232): [فيه] مشرح بن عقبة أرجو أنه لا بأس به, وقال الذهبي في ((المهذب)) (8/ 3949): فيه خالد لم يضعف تفرد به, وضعفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1266).
(2) [3648])) رواه أحمد (4/ 445) (20014) , وابن ماجه باختصار (3531) قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 240): [فيه] مبارك بن فضالة عن الحسن عن عمران والحسن اختلف في سماعه من عمران, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 106):فيه مبارك بن فضالة وهو ثقة وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات, وضعفه الألباني في ((ضعيف الترغيب)) (2015).
(3) [3649])) رواه ابن أبي حاتم في ((التفسير)) (8/ 473).
(4) [3650])) رواه البخاري (3005) , ومسلم (2115).
(5) [3651])) رواه أبو داود (36) , والنسائي (8/ 135) (5067) , وأحمد (4/ 108) (17036) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال النووي في ((المجموع شرح المهذب)) (2/ 116) , وابن الملقن في ((البدر المنير)) (2/ 352): إسناده جيد, وصححه ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 140) , والألباني في ((صحيح الجامع)) (7910).
(6) [3652])) رواه الترمذي (2072) , وأحمد (4/ 310) (18803) , والحاكم (4/ 241) , ورواه الطبراني (22/ 385) بلفظ: ((من علق)) بدلاً من ((من تعلق)) , قال الترمذي عبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي, وقال ابن حجر في ((إتحاف المهرة)) (8/ 260): مرسل, وقال أبو حاتم في ((المراسيل)): عبد الله بن عكيم ليس له سماع من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كتب إليه, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 103): [أبو معبد الجهني] قد قيل إنه عبد الله بن عكيم قلت فإن كان هو قد ثبتت صحبته بقوله سمعت وفي إسناده محمد بن أبى ليلى وهو سيئ الحفظ وبقية رجاله ثقات, وقال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (3456): حسن لغيره.
وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهية أن يهجم منا على أمر يكرهه، قالت: وإنه جاء ذات يوم فتنحنح وعندي عجوز ترقيني من الحمرة فأدخلتها تحت السرير. قالت: فدخل فجلس إلى جانبي فرأى في عنقي خيطاً. فقال: ما هذا الخيط؟ قالت قلت: خيط رقي لي فيه، فأخذه فقطعه ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)) قالت قلت له: لم تقول هذا، وقد كانت عيني تقذف فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها سكنت. فقال: إنما ذاك من الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقاها كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أذهب البأس رَبَّ الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً)) رواه أحمد (1). وروى جملة الدلالة منه على الباب أبو داود، أعني الجملة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كتاب التوحيد: الرقى هي التي تسمى العزائم وخص منها الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة، والتمائم شيء يلقونه على الأولاد عن العين، والتولة شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته ا. هـ. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 623
_________
(1) [3653])) رواه أبو داود (3883) , وابن ماجه (3530) , وأحمد (1/ 381) (3615) , والطبراني (10/ 213) , والحاكم (4/ 463) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 219): إسناده حسن, وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2972): إسناده صحيح.
المثال الثاني: التمائم الشركية
التمائم في اللغة: جمع تميمة، وهي في الأصل خرزة كانت تعلق على الأطفال، يتقون بها من العين ونحوها (1)، وكأن العرب سموها بهذا الاسم لأنهم يريدون أنها تمام الدواء والشفاء المطلوب.
وفي الاصطلاح: هي كل ما يعلق على المرضى أو الأطفال أو البهائم أو غيرها من تعاويذ لدفع البلاء أو رفعه (2).
ومن أنواع التمائم: الحجب والرقى التي يكتبها بعض المشعوذين ويكتبون فيها طلاسيم وكتابات لا يفهم معناها، وغالبها شرك، واستغاثات بالشياطين، وتعلق على الأطفال أو على البهائم، أو على بعض السلع أو أبواب البيوت يزعمون أنها سبب لدفع العين أو أنها سبب لشفاء المرضى من بني الإنسان أو من الحيوان، ومنها: الخلاخيل التي يجعلها بعض الجهال على أولادهم يعتقدون أنها سبب لحفظهم من الموت، ومنها: لبس حلقة الفضة للبركة أو للبواسير، ولبس خواتم لها فصوص معينة يعتقدون أنها تحفظ من الجن، ولبس أو تعليق خيوط عقد فيها شخص له اسم معين كـ (محمد) عقداً للعلاج من بعض الأمراض (3)، ومنها الحروز وجلود الحيوانات والخيوط وغيرها مما يعلق على الأطفال أو على أبواب البيوت ونحو ذلك، والتي يزعمون أنها تدفع العين أو المرض أو الجن أو أنها سبب للشفاء من الأمراض، وهذه كلها محرمة، وهي من الشرك، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك))، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((من علق تميمة فقد أشرك))، فهي من الشرك، لأنهم ظنوا أن لغير الله تأثيرا في الشفاء، وطلبوا دفع الأذى من غيره تعالى مع أنه لا يدفعه أحد سواه جل وعلا (4)، لكن إن اعتقد متخذها أنها تنفع بذاتها من دون الله فهو شرك أكبر، وإن اعتقد أن الله هو النافع وحده، لكن تعلق قلبه بها في دفع الضر، فهو شرك أصغر، لاعتماده على الأسباب، ولأنه جعل ما ليس بسبب سبباً (5)، فهذه التمائم السابق ذكرها كلها ليس فيها نفع بوجه من الوجوه، وهي من خرافات الجاهلية التي ينشرها السحرة والمشعوذون، ويدجلون بها على السذج والجهلة من الناس.
ويدخل في التمائم أن تكتب آيات من القرآن أو بعض الأذكار الشرعية (الرقى) في ورقة ثم توضع في جلد أو غيره ثم تعلق على الأطفال أو على بعض المرضى، وقد اختلف في جواز تعليقها، ولعل الأحوط المنع من هذه التمائم، لعدة أمور، أهمها:
1 - أن الأحاديث جاءت عامة في النهي عن التمائم، ولم يأت حديث واحد في استثناء شيء منها.
2 - أن تعليق التمائم من القرآن والأدعية والأذكار المشروعة نوع من الاستعاذة والدعاء، فهي على هذا عبادة، وهي بهذه الصفة لم ترد في القرآن ولا في السنة، والأصل في العبادات التوقيف، فلا يجوز إحداث عبادة لا دليل عليها.
_________
(1) انظر: ((تأويل مختلف الحديث)) (ص: 226)، و ((الصحاح))، و ((النهاية))، و ((القاموس))، و ((لسان العرب)) (مادة: تمم).
(2) ((التمهيد)) (17/ 162)، ((سنن البيهقي: الضحايا)) (9/ 350)، ((تفسير القرطبي)) تفسير الآية 82 من الإسراء (10/ 320)، ((النهاية)) لابن الأثير (مادة: تمم)، ((شرح السنة)) (12/ 158)، ((القوانين الفقهية كتاب الجامع)) (ص: 295).
(3) ينظر ((تعليق الشيخ محمد حامد الفقي المصري –رحمه الله – على فتح المجيد)) باب من الشرك لبس الحلقة (ص: 114، 118).
(4) ((النهاية)) لابن الأثير (مادة: تمم)، ((حاشية ابن عابدين)): أول البيع (5/ 232).
(5) ينظر: ((التيسير))، و ((قرة عيون الموحدين))، و ((القول السديد))، و ((القول المفيد باب من الشرب لبس الحلقة))، و ((تعليق شيخنا عبد العزيز بن باز على فتح المجيد باب الرقى)) (ص: 12) و ((مجموع فتاويه ومقالاته)) (1/ 275)، و ((الشرك الأصغر)) (ص: 216).
3 - أن في تعليقها تعريضاً للقرآن وكلام الله تعالى وعموم الأذكار الشرعية للإهانة، إذ قد يدخل بالتميمة أماكن الخلاء، وقد ينام عليها الأطفال أو غيرهم، وقد تصيبها بعض النجاسات، وفي منع تعليقها صيانة للقرآن ولذكر الله تعالى عن الإهانة.
4 - سد الذريعة؛ لأن تعليق هذه التمائم يؤدي إلى تعلق القلوب بها من دون الله، ويؤدي إلى تعليق التمائم الشركية، كما هو الواقع عند كثير من المسلمين. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 408
وَإِنْ تَكُنْ مِمَّا سِوَى الْوَحْيَيْنِ ... فَإِنَّهَا شِرْكٌ بِغَيْرِ مَيْنِ
بَلْ إِنَّهَا قَسِيمَةُ الأَزْلاَمِ ... فِي الْبُعْدِ عَنْ سِيمَا أُولي الإسْلامِ
(وإن تكن) أي التمائم (مما سوى الوحيين) بل من طلاسم اليهود وعباد الهياكل والنجوم والملائكة ومستخدمي الجن ونحوهم أو من الخرز أو الأوتار أو الحلق من الحديد وغيره (فإنها شرك) أي تعلقها شرك (بدون مين) أي شك، إذ ليست هي من الأسباب المباحة والأدوية المعروفة، بل اعتقدوا فيها اعتقاداً محضاً أنها تدفع كذا وكذا من الآلام لذاتها لخصوصية زعموا فيها كاعتقاد أهل الأوثان في أوثانهم، (بل إنها قسيمة) أي شبيهة (الأزلام) التي كان يستصحبها أهل الجاهلية في جاهليتهم ويستقسمون بها إذا أرادوا أمراً، وهي ثلاثة قداح مكتوب على أحدها: افعل، والثاني: لا تفعل، والثالث: غفل، فإن خرج في يده الذي فيه افعل مضى لأمره، أو الذي فيه لا تفعل ترك ذلك، أو الغفل أعاد استقسامه. وقد أبدلنا الله تعالى – وله الحمد – خيراً من ذلك: صلاة الاستخارة ودعاءها.
والمقصود أن هذه التمائم التي من غير القرآن والسنة شريكة للأزلام وشبيهة بها من حيث الاعتقاد الفاسد والمخالفة للشرع (في البعد عن سيما أولي الإسلام) أي عن زي أهل الإسلام، فإن أهل التوحيد الخالص من أبعد ما يكون عن هذا وهذا، والإيمان في قلوبهم أعظم من أن يدخل عليه مثل هذا، وهم أجل شأناً وأقوى يقيناً من أن يتوكلوا على غير الله أو يثقوا بغيره. وبالله التوفيق. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي –2/ 640
المثال الأول: الحلف بغير الله
الحلف في اللغة: مصدر حلف، يحلف، وهو الملازمة؛ لأن الإنسان يلزمه الثبات على ما حلف عليه، ويسمى (اليمين)؛ لأن المتحالفين كان أحدهما يصفق بيمينه على يمين صاحبه (1)، ويسمى أيضاً (القسم).
والحلف في الأصل: توكيد لشيء بذكر معظم مصدراً بحرف من حروف القسم.
وفي الاصطلاح: توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله تعالى مصدراً بحرف من حروف القسم.
وقد أجمع أهل العلم على أن اليمين المشروعة هي قول الرجل: والله، أو بالله، أو تالله، واختلفوا فيما عدا ذلك.
واليمين عبادة من العبادات التي لا يجوز صرفها لغيره الله (2)، فيحرم الحلف بغيره تعالى، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله، وإلا فليصمت)) (3) متفق عليه، فمن حلف بغير الله سواء أكان نبياً أم ولياً أم الكعبة أم غيرها فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، ووقع في الشرك، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) (4)، ولأن الحلف فيه تعظيم للمحلوف به، فمن حلف بغير الله كائناً من كان، فقد جعله شريكاً لله – عز وجل – في هذا التعظيم الذي لا يليق إلا به سبحانه وتعالى، وهذا من الشرك الأصغر إن كان الحالف إنما أشرك في لفظ القسم لا غير (5)، أما إن كان الحالف قصد بحلفه تعظيم المخلوق الذي حلف به كتعظيم الله تعالى، كما يفعله كثير من المتصوفة الذين يحلفون بالأولياء والمشايخ أحياء وأمواتاً، حتى ربما بلغ تعظيمهم في قلوبهم أنهم لا يحلفون بهم كاذبين مع أنهم يحلفون بالله وهم كاذبون، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة؛ لأن المحلوف به عندهم أجل وأعظم وأخوف من الله تعالى. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 417
_________
(1) ينظر: ((معجم مقاييس اللغة)) (مادة: حلف، ومادة: يمن)، ((المطلع)) (ص: 387)، ((الدر النقي)) (3/ 796).
(2) ((بدائع الصنائع)): الإيمان (3/ 2).
(3) رواه البخاري (6108)، مسلم (1646)
(4) رواه أبو داود (3251)، والترمذي (1535) واللفظ له، وأحمد (2/ 125) (6072). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حديث حسن. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (735) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وأحمد شاكر في ((المسند)) (8/ 222). وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.
(5) ينظر: ((مشكل الآثار)) للطحاوي الحنفي (2/ 297 - 299)، ((مدارج السالكين)) (1/ 373)، ((معطية الأمان من حنث الأيمان)) لابن العماد الحنبلي (ص: 83 - 84)، ((فتح المجيد والقول السديد باب فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً))، ((اليمين)) لسعاد الشايقي (ص: 157 - 158)، ((فقه الإيمان)) للدكتور أمير عبد العزيز (ص: 29 - 32)، ((فقه الإيمان)) للدكتور محمد عبيدات (ص: 31 - 33)، ((من أحكام اليمين)) لناجي الطنطاوي (ص: 22)، ((فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين)) جمع فهد السليمان (2/ 215 - 221).
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: ((ألا إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)) (1) وفي رواية قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذاكراً ولا آثراً (2). متفق عليه. ولأبي داود والنّسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون)) (3). ولأحمد ومسلم والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله)) (4) ... وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من حلف بالأمانة)) رواه أبو داود (5). وفي الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يحلف بالأمانة فقال: ((ألست الذي يحلف بالأمانة)) (6). وعن قتيلة بنت صفي أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تنددون وإنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ((ورب الكعبة))، ويقول أحدهم: ((ما شاء الله ثم شئت)) رواه النسائي وصححه وابن ماجه (7). وقد ثبت في كفارة الحلف بغير الله حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حلف فقال في حلفه باللات والعزَّى فليقل لا إله إلا الله (8). معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص 615
_________
(1) رواه البخاري (6646).
(2) رواه البخاري (6647) ومسلم (1646).
(3) رواه أبو داود (3248) والنسائي (7/ 5) وابن حبان (10/ 199) والطبراني في ((الأوسط)) (5/ 25) والحديث سكت عنه أبي داود, وصححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 455) , وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.
(4) رواه البخاري (3836) ومسلم (1646).
(5) رواه أبو داود (3253) وأحمد (5/ 352) (23030) واللفظ له, والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 30) والحديث سكت عنه أبو داود, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 124): إسناده صحيح, وقال النووي في ((الأذكار)) (456): إسناده صحيح وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 335): رجاله رجال الصحيح خلا الوليد بن ثعلبة وهو ثقة, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).
(6) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4/ 77) وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 178): رجاله ثقات. وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (9/ 126): رجاله ثقات.
(7) رواه النسائي (7/ 6) قال ابن حجر في ((الإصابة)) (4/ 389): إسناده صحيح, وقال البخاري في ((العلل الكبير)) (253) [روى] منصور: عن عبد الله بن يسار، عن حذيفة حديث منصور أشبه عندي وأصح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)).
(8) رواه البخاري (4860) ومسلم (1647).
المثال الثاني: التشريك بين الله تعالى وبين أحد من خلقه بـ (الواو)
ومن الشرك الأصغر قول ما شاء الله وشئت، كما روى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: ((أجعلتني لله نداً؟ ما شاء الله وحده)) (1). ولأبي داود بسند صحيح عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان)) (2). وتقدم في ذلك حديث قتيلة، والفرق بين الواو وثم أنه إذا عطف بالواو كان مضاهياً مشيئة الله بمشيئة العبد إذ قرن بينهما، وإذا عطف بثم فقد جعل مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله عز وجل كما قال تعالى: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ [الإنسان: 30] ومثله قول: لولا الله وفلان هذا من الشرك الأصغر، ويجوز أن يقول: لولا الله ثم فلان، ذكره إبراهيم النخعي. ولابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22] قال: الأندادُ هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو أن يقول والله وحياتك يا فلان وحياتي ويقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت، وقول الرجل لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك (226). معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص 615
عن قتيلة: ((أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنكم تشركون، تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت)). رواه النسائي وصححه (3)
قوله: (أن يهودياً) اليهودي: هو المنتسب إلى شريعة موسى عليه السلام، وسموا بذلك من قوله تعالى: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ، أي: رجعنا، أو لأن جدهم اسمه يهوذا بن يعقوب، فتكون التسمية من أجل النسب، وفي الأول تكون التسمية من أجل العمل، ولا يبعد أن تكون من الاثنين جميعاً.
قوله: (إنكم تشركون). أي: تقعون في الشرك أيها المسلمون.
قوله: (ما شاء الله وشئت). الشرك هنا أنه جعل المعطوف مساوياً للمعطوف عليه، وهو الله عز وجل حيث كان العطف بالواو المفيدة للتسوية.
قوله: " والكعبة ". الشرك هنا أنه حلف بغير الله، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ما قال اليهودي، بل أمر بتصحيح هذا الكلام، فأمرهم إذا حلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، فيكون القسم بالله.
_________
(1) رواه أحمد (1/ 214) (1839) والبخاري في ((الأدب المفرد)) (1/ 290) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 245) , قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 200): إسناده صحيح, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 253): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (601).
(2) رواه أبو داود (4980) وأحمد (5/ 384) (23313) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (3/ 216) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (5/ 340) الحديث سكت عنه أبو داود, وقال الذهبي في ((المهذب)) (3/ 1144):إسناده صالح, وقال النووي في ((الأذكار)) (444): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).
(3) رواه النسائي (7/ 6) قال ابن حجر في ((الإصابة)) (4/ 389): إسناده صحيح, وقال البخاري في ((العلل الكبير)) (253) [روى] منصور: عن عبد الله بن يسار، عن حذيفة حديث منصور أشبه عندي وأصح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)).
وأمرهم أن يقولوا: ما شاء الله، ثم شئت، فيكون الترتيب بثم بين مشيئة الله ومشيئة المخلوق، وبذلك يكون الترتيب صحيحاً، أما الأول، فلأن الحلف صار بالله، وأما الثاني، فلأنه جعل بلفظ يتبين به تأخر مشيئة العبد عن مشيئة الله، وأنه لا مساواة بينهما.
ويُستفاد من الحديث:
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على اليهودي مع أن ظاهر قصده الذم واللوم للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأن ما قاله حق.
2 - مشروعية الرجوع إلى الحق وإن كان من نبه عليه ليس من أهل الحق.
3 - أنه ينبغي عند تغيير الشيء أن يغير إلى شيء قريب منه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقولوا: ((ورب الكعبة))، ولم يقل: احلفوا بالله، وأمرهم أن يقولوا: ((ما شاء الله، ثم شئت)).
إشكال وجوابه:
وهو أن يقال: كيف لم ينبه على هذا العمل إلا هذا اليهودي؟
وجوابه: أنه يمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمعه ولم يعلم به.
ولكن يقال: بأن الله يعلم، فكيف يقرهم؟
فيبقى الإشكال، لكن يجاب: إن هذا من الشرك الأصغر دون الأكبر، فتكون الحكمة هي ابتلاء هؤلاء اليهود الذين انتقدوا المسلمين بهذه اللفظة مع أنهم يشركون شركاً أكبر ولا يرون عيبهم.
وله أيضاً عن ابن عباس، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت فقال: ((أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)) (1).
قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم. .. )). الظاهر أنه قاله للنبي صلى الله عليه وسلم تعظيماً، وأنه جعل الأمر مُفوضاً لمشيئة الله ومشيئة رسوله.
قوله: ((أجعلتني لله نداً؟!)). الاستفهام للإنكار، وقد ضمن معنى التعجب، ومن جعل للخالق نداً، فقد أتى شيئاً عجاباً.
والنِّد: هو النظير والمساوي، أي: أجعلتني لله مساوياً في هذا الأمر؟!
قوله ((بل ما شاء الله وحده)). أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يقطع عنه الشرك، ولم يرشده إلى أن يقول ما شاء الله ثم شئت حتى يقطع عنه كل ذريعة عن الشرك وإن بَعُدَت.
يستفاد من الحديث:
أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ يقتضي مساواته للخالق شرك، فإن كان يعتقد المساواة، فهو شرك أكبر، وإن كان يعتقد أنه دون ذلك، فهو أصغر، وإذا كان هذا شركاً، فكيف بمن يجعل حق الخالق للرسول صلى الله عليه وسلم؟!
هذا أعظم، لأنه صلى الله عليه وسلم ليس له شيء من خصائص الربوبية، بل يلبس الدرع، ويحمل السلاح، ويجوع، ويتألم، ويمرض، ويعطش كبقية الناس، ولكن الله فضله على البشر بما أوحى إليه من هذا الشرع العظيم، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ [الكهف: 110]، فهو بشر، وأكد هذه البشرية بقوله: مِّثْلُكُمْ، ثم جاء التمييز بينه وبين بقية البشر بقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110]، ولا شك أن الله أعطاه من الأخلاق الفاضلة التي بها الكمالات من كل وجه أعطاه من الصبر العظيم، وأعطاه من الكرم ومن الجود، لكنها كلها في حدود البشرية، أما أن تصل إلى خصائص الربوبية، فهذا أمر لا يمكن، ومن ادعى ذلك، فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفر بمن أرسله.
_________
(1) رواه أحمد (1/ 214) (1839) , والبخاري في ((الأدب المفرد)) (1/ 290) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 245) , قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 200): إسناده صحيح, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 253): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (601).
فالمهم أننا لا نغلو في الرسول عليه الصلاة والسلام فننزله في منزلة هو ينكرها، ولا نهضم حقه الذي يجب علينا فنعطيه ما يجب له، ونسأل الله أن يعيننا على القيام بحقه، ولكننا لا ننزله منزلة الرب عز وجل.
2 - إنكار المنكر وإن كان في أمر يتعلق بالمنكر، لقوله صلى الله عليه وسلم ((أجعلتني لله نداً))، مع أنه فعل ذلك تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا إذا انحنى لك شخص عند السلام، فالواجب عليك الإنكار.
3 - أن من حسن الدعوة إلى الله عز وجل أن تذكر ما يباح إذا ذكرت ما يحرم، لأنه صلى الله عليه وسلم لما منعه من قوله: ((ما شاء الله وشئت)) أرشده إلى الجائز وهو قوله: ((بل ما شاء الله وحده)).
ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: ((رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت، أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، قال: هل أخبرت بها أحداً؟. قلت نعم قال: فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده)) (1). القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين – 2/ 408
_________
(1) رواه ابن ماجه (2199) , والطبراني (8/ 325) , والحاكم (3/ 323). قال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 91): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (138).
المثال الثالث: الاستسقاء بالأنواء
الاستسقاء في اللغة: من سقى، يسقي، والمصدر: سقيا، بفتح السين وتسكين القاف، والاسم: السقيا، والمراد: إنزال الغيث (1)، والسين والتاء في ((الاستسقاء)) تدل على الطلب، أي السقيا، كالاستغفار، فهو طلب المغفرة، فمادة (استفعل) تدل على الطلب غالباً (2).
والأنواء: جمع نوء، وهو النجم، وفي السنة الشمسية ثمانية وعشرون نجماً، كنجم الثريا، ونجم الحوت.
فالاستسقاء بالأنواء: أن يطلب من النجم أن ينزل الغيث، ويدخل فيه أن يُنسب الغيث إلى النجم، كما كان أهل الجاهلية يزعمون، فكانوا إذا نزل مطر في وقت نجم معين نسبوا المطر إلى ذلك النجم، فيقولون: مطرنا بنوء كذا، أو هذا مطر الوسمي، أو هذا مطر الثريا، ويزعمون أن النجم هو الذي أنزل هذا الغيث (3).
والاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن ينسب المطر إلى النجم معتقداً أنه هو المنزل للغيث بدون مشيئة الله وفعله جل وعلا، فهذا شرك أكبر بالإجماع.
القسم الثاني: أن ينسب المطر إلى النوء معتقداً أن الله جعل هذا النجم سبباً في نزول هذا الغيث، فهذا من الشرك الأصغر؛ لأنه جعل ما ليس بسبب سبباً، فالله تعالى لم يجعل شيئاً من النجوم سبباً في نزول الأمطار، ولا صلة للنجوم بنزولها بأي وجه، وإنما أجرى الله العادة بنزول بعض الأمطار في وقت بعض النجوم.
وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الاستسقاء بالأنواء، ومنها:
1 - ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا)) (4). قال: فنزلت هذه الآية: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: 75] حتى بلغ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، ومعنى الآية الأخيرة: أنكم تجعلون شكر ما أنعم الله به عليكم من الغيث أنكم تكذبون بذلك، وذلك بنسبة إنزال الغيث إلى غير الله تعالى (5).
2 - ما رواه البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) (6). وهذا الحديث يشمل على الصحيح النوعين السابقين، فهذا القول كفر، لكن إن نسب الغيث إلى النجم من دون الله فهو كفر وشرك أكبر، وإن نسبه إليه نسبة تسبب فهو كفر نعمة وشرك أصغر.
3 - ما رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري مرفوعاً: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)) (7).
_________
(1) ((معجم مقاييس اللغة)) و ((النهاية)) (مادة: سقي).
(2) ((القول المفيد)) باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء.
(3) ينظر: ((التمهيد)) (16/ 287 - 288)، ((شرح السنة)) (4/ 420)، ((شرح النووي لصحيح مسلم)) (2/ 61)، ((النهاية)) (مادة: نوأ)، ((جامع الأصول)): النجوم (11/ 577 - 578).
(4) رواه مسلم (73)
(5) ((المفهم)) (1/ 261)، ((إكمال المعلم)) (1/ 333).
(6) رواه البخاري (846)، ومسلم (71).
(7) رواه مسلم (934).
هذا وإذا قال المسلم: (مطرنا بنوء كذا وكذا) ومقصده أن الله أنزل المطر في وقت هذا النجم، معتقداً أنه ليس للنجم أدنى تأثير لا استقلالاً ولا تسبباً فقد اختلف أهل العلم في حكم هذا اللفظ: فقيل: هو محرم (1).
وقيل: مكروه (2). وقيل: مباح (3)، ولا شك أن هذا اللفظ ينبغي تركه، واستبداله بالألفاظ الأخرى التي لا إيهام فيها، فإما أن يقول: (مطرنا بفضل الله ورحمته)، أو يقول: (هذه رحمة الله)، وهذا هو الذي ورد الثناء على من قاله، كما سبق في النصوص، فهو أولى من غيره، وإما أن يقول: (هذا مطر أنزله الله في وقت نجم كذا)، أو يقول: (مطرنا في نوء كذا)، ونحو ذلك من العبارات الصريحة التي لا لبس ولا إشكال فيها، فقول (مطرنا بنوء كذا) أقل أحواله الكراهة الشديدة، والقول بالتحريم قول قوي، لما يلي:
1 - أنه قد جاء الحديث القدسي مطلقاً بعيب قائلي هذا اللفظ، وباعتبار قولهم كفراً بالله تعالى، وإيماناً بالكوكب.
2 - أن هذا القول ذريعة إلى الوقوع في الاعتقاد الشركي، فاعتياد الناس عليه في عصر قد يؤدي بجهالهم أو بمن يأتي بعدهم إلى الوقوع في الاستسقاء الشركي بالأنواء.
3 - أنه لفظ موهم لاعتقاد فاسد.
4 - أن فيه استبدالاً للفظ المندوب إليه شرعاً في هذه الحال، وهو قول: (مطرنا بفضل الله ورحمته) بلفظ من ألفاظ المشركين، ففي هذا ترك للسنة وتشبه بالمشركين، وقد نهينا عن التشبه بهم.
قريب من لفظ (مطرنا بنوء كذا وكذا) ما يشبهه من الألفاظ الموهمة، كلفظ (هذا مطر الوسمي)، ونحو ذلك.
هذا وهناك أمثلة أخرى كثيرة للشرك الأصغر تركتها خشية الإطالة، ومن ذلك التسمي بالأسماء التي فيها تعظيم لا يليق إلا بالله تعالى، كملك الملوك، وقاضي القضاة ونحوهما، ومنها التسمي بأسماء الله تعالى، ومنها التسمي باسم فيه تعبيد لغير الله تعالى، كعبد الرسول، وعبد الحسين، ونحوهما، ومنها بعض صور التبرك البدعي، ومنها التصوير لذوات الأرواح إذا كان فيه نوع تعظيم، ومنها سب الدهر، ومنها الحكم بغير ما أنزل الله، وبالأخص إذا كان في قضية واحدة. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 429
الاستسقاء: طلب السقيا، كالاستغفار: طلب المغفرة والاستعانة: طلب المعونة، والاستعاذة: طلب العوذ، والاستهداء: طلب الهداية، لأن مادة استفعل في الغالب تدل على الطلب، وقد لا تدل على الطلب، بل تدل على المبالغة في الفعل، مثل: استكبر، أي: بلغ في الكبر غايته، وليس المعنى طلب الكبر، والاستسقاء بالأنواء، أي: أن تطلب منها أن تسقيك.
والاستسقاء بالأنواء، أي: أن تطلب منها أن تسقيك.
والاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: شرك أكبر، وله صورتان:
الأولى: أن يدعو الأنواء بالسقيا، كأن يقول: يا نوء كذا! اسقنا أو أغثنا، وما أشبه ذلك، فهذا شرك أكبر، لأنه دعا غير الله، ودعاء غير الله من الشرك الأكبر، قال تعالى: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 17]، وقال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18]، وقال تعالى وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ [يونس: 106].
_________
(1) ((الفروع)): صلاة الاستسقاء (1/ 163)، ((التيسير وفتح المجيد)) باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء.
(2) ((الأذكار)) للنووي (ص: 308)، ((شرح مسلم للنووي)) (2/ 61).
(3) ((شرح السنة)) الاستسقاء (4/ 421)، ((النهاية)) (مادة: نوأ)؛ ((جامع الأصول)) النجوم (11/ 578).
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على النهي عن دعاء غير الله، وأنه من الشرك الأكبر.
الثانية: أن ينسب حصول الأمطار إلى هذه الأنواء على أنها هي الفاعلة بنفسها دون الله ولو لم يدعها، فهذا شرك أكبر في الربوبية، والأول في العبادة، لأن الدعاء من العبادة، وهو متضمن للشرك في الربوبية، لأنه لم يدعها إلا وهو يعتقد أنها تفعل وتقضي الحاجة.
القسم الثاني
شرك أصغر، وهو أن يجعل هذه الأنواء سبباً مع اعتقاده أن الله هو الخالق الفاعل، لأن كل من جعل سبباً لم يجعله الله سبباً لا بوجه ولا بقدرة، فهو مشرك شركاً أصغر.
وقال الله تعالى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 82].
قوله تعالى: وتجعلون. أي: تصيرون، وهى تنصب مفعولين: الأول: رزق، والثاني أن، وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول ثان، والتقدير: وتجعلون رزقكم كونكم تكذبون أو تكذيبكم.
والمعنى: تكذبون أنه من عند الله، حيث تضيفون حصوله إلى غيره.
قوله: رزقكم. الرزق هو العطاء، والمراد به هنا: ما هو أعم من المطر، فيشمل معنيين:
الأول: أن المراد به رزق العلم، لأن الله قال: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 75 - 83]، أي: تخافونهم فتداهنونهم، وتجعلون شكر ما رزقكم الله به من العلم والوحي أنكم تكذبون به، وهذا هو ظاهر سياق الآية.
الثاني: أن المراد بالرزق المطر، وقد روي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه ضعيف، إلا أنه صح عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: أن المراد بالرزق المطر، وأن التكذيب به نسبته إلى الأنواء (1)، وعليه يكون ما ساق المؤلف الآية من أجله مناسباً للباب تماماً. والقاعدة في التفسير أن الآية إذا كانت تحتمل المعنيين جميعاً بدون منافاة تحمل عليهما جميعاً، وإن حصل بينهما منافاة طلب المرجح.
ومعنى الآية: أن الله يوبخ هؤلاء الذين يجعلون شكر الرزق التكذيب والاستكبار والبعد، لأن شكر الرزق يكون بالتصديق والقبول والعمل بطاعة المنعم، والفطرة كذلك لا تقبل أن تكفر بمن ينعم عليها، فالفطرة والعقل والشرع كل منها يوجب أن تشكر من ينعم عليك، سواء قلنا: المراد بالرزق المطر الذي به حياة الأرض، أو قلنا: إن به القرآن الذي به حياة القلوب، فإن هذا من أعظم الرزق، فكيف يليق بالإنسان أن يقابل هذه النعمة بالتكذيب؟!
واعلم أن التكذيب نوعان:
أحدهما: التكذيب بلسان المقال، بأن يقول هذا كذب، أو المطر من النوء ونحو ذلك.
والثاني: التكذيب بلسان الحال، بأن يعظم الأنواء والنجوم معتقداً أنها السبب، ولهذا وعظ عمر بن عبد العزيز الناس يوماً، فقال: (أيها الناس! إن كنتم مصدقين، فأنتم حمقى، وإن كنتم مكذبين، فأنتم هلكى) (2). وهذا صحيح، فالذي يصدق ولا يعمل أحمق، والمكذب هالك، فكل إنسان عاص نقول له الآن: أنت بين أمرين: إما أنك مصدق بما رتب على هذه المعصية، أو مكذب، فإن كنت مصدقاً، فأنت أحمق، كيف لا تخاف فتستقيم؟ ! وإن كنت غير مصدق، فالبلاء أكبر، فأنت هالك كافر.
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)) (3).
_________
(1) [3687])) رواه مسلم (73).
(2) [3688])) رواه أبو نعيم في ((الحلية)) (5/ 290).
(3) [3689])) رواه مسلم (934).
قوله في حديث أبي مالك: (أربع في أمتي). الفائدة من قوله: (أربع) ليس الحصر، لأن هناك أشياء تشاركها في المعنى، وإنما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك باب حصر العلوم وجمعها بالتقسيم والعدد، لأنه يقرب الفهم، ويثبت الحفظ.
قوله: (من أمر الجاهلية). أمر هنا بمعنى شأن، أي: من شأن الجاهلية وهو واحد الأمور، وليس واحد الأوامر، وليس الأوامر، لأن واحد الأوامر طلب الفعل على وجه الاستعلاء.
وقوله: (من أمر الجاهلية). إضافتها إلى الجاهلية الغرض منها التقبيح والتنفير، لأن كل إنسان يقال: فعلك فعل الجاهلية لا شك أنه يغضب، إذ إنه لا أحد يرضى أن يوصف بالجهل، ولا بأن فعله من أفعال الجاهلية، فالغرض من الإضافة هنا أمران:
التنفير.
بيان أن هذه الأمور كلها جهل وحمق بالإنسان، إذ ليست أهلاً بأن يراعيها الإنسان أو يعتني بها، فالذي يعتني بها جاهل.
والمراد بالجاهلية هنا: ما قبل البعثة، لأنهم كانوا على جهل وضلال عظيم حتى إن العرب كانوا أجهل خلق الله، ولهذا يسمون بالأميين، والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، نسبة إلى الأم، كأن أمه ولدته الآن.
لكن لما بعث فيهم هذا النبي الكريم، قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [آل عمران: 164]، فهذه منة عظيمة أن بعث فيهم النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأمور السامية:
يتلو عليهم آيات الله. ويزكيهم، فيطهر أخلاقهم وعبادتهم وينميها.
ويعلمهم الكتاب والحكمة.
هذه فوائد أربع عظيمة لو وزنت الدنيا بواحدة منها لوزنتها عند من يعرف قدرها، ثم بين الحال من قبل فقال وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [عمران: 164] و (إن هذه ليست نافية بل مؤكدة؛ فهي مخففة من الثقيلة، يعني: وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
إذا ًالمراد بالجاهلية ما قبل البعثة، لأن الناس كانوا فيها على جهل عظيم. فجهلهم شامل للجهل في حقوق الله وحقوق عباده، فمن جهلهم أنهم ينصبون النصب ويعبدونها من دون الله، ويقتل أحدهم ابنته لكي لا يعير بها، ويقتل أولاده من ذكور وإناث خشية الفقر.
قوله: ((لا يتركونهن)). المراد: لا يتركون كل واحد منها باعتبار المجموع بالمجموع، بأن يكون كل واحد منها عند جماعة، والثاني عند آخرين، والثالث عند آخرين، والرابع عند آخرين، وقد تجتمع هذه الأقسام في قبيلة، وقد تخلو بعض القبائل منها جميعاً، إنما الأمة كمجموع لابد أن يوجد فيها شيء من ذلك، لأن هذا خبر من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، والمراد بهذا الخبر التنفير، لأنه صلى الله عليه وسلم قد يخبر بأشياء تقع وليس غرضه أن يؤخذ بها، كما قال صلى الله عليه وسلم ((لتركبن سنن من كان قبلكم اليهود والنصارى)) (1) أي: فاحذروا، وأخبر صلى الله عليه وسلم: ((أن الظعينة تخرج من صنعاء إلى حضرموت لا تخشى إلا الله)) (2)، أي: بلا محرم، وهذا خبر عن أمر واقع وليس إقراراً له شرعاً.
قوله (أمتي) أي: أمة الإجابة.
_________
(1) [3690])) رواه البخاري (3456) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه, ولفظه: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه) قلنا يارسول الله, اليهود والنصارى قال ((فمن)).
(2) روى البخاري (3595) من حديث عدي بن حاتم بلفظ: (فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله). أما لفظ: (أن الظعينة تخرج من صنعاء إلى حضر موت ...... ) , لم أجده.
قوله: (الفخر بالأحساب). الفخر: التعالي والتعاظم، والباء للسببية، أي: يفخر بسبب الحسب الذي هو عليه.
والحسب: ما يحتسبه الإنسان من شرف وسؤدد، كأن يكون من بني هاشم فيفتخر بذلك، أو من آباء وأجداد مشهورين بالشجاعة، فيفتخر بذلك، وهذا من أمر الجاهلية، لأن الفخر في الحقيقة يكون بتقوى الله الذي يمنع الإنسان من التعالي والتعاظم، والمتقي حقيقة هو الذي كلما ازدادت نعم الله عليه ازداد تواضعاً للحق وللخلق.
وإذا كان الفخر بالحسب من فعل الجاهلية، فلا يجوز لنا أن نفعله، ولهذا قال تعالى لنساء نبيه صلى الله عليه وسلم: وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ [الأحزاب: 33]، واعلم أن كل ما ينسب إلى الجاهلية، فهو مذموم ومنهي عنه.
قوله: ((الطعن في الأنساب)). الطعن العيب، لأنه وخز معنوي كوخز الطاعون في الجسد، ولهذا سمي العيب طعناً.
والأنساب: جمع نسب، وهو أصل الإنسان وقرابته، فيطعن في نسبه كأن يقول: أنت ابن الدباغ، أو أنت ابن مُقطَّعة البظور – وهو شيء في فرج المرأة يقطع عند ختان النساء -.
قوله: ((والاستسقاء بالنجوم)). أي: نسبة المطر إلى النجوم مع اعتقاد أن الفاعل هو الله – عز وجل، أما إن أعتقد أن النجوم هي التي تخلق المطر والسحاب أو دعاها من دون الله لتنزل المطر، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة .............
أن الشرك الأصغر لا يخرج من الملة، فمن أهل العلم من قال: إنه داخل تحت المشيئة: إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له.
ومن أهل العلم من قال: إنه ليس بداخل تحت المشيئة، وإنه لابد أن يعاقب، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيميه لإطلاق قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 116]، فقال: والشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، وبهذا نعرف عظم سيئة الشرك، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقاً) (1)
لأن الحلف بغير الله من الشرك، والحلف بالله كاذباً من كبائر الذنوب وسيئة الشرك أعظم من سيئة الذنب.
ثبوت الجزاء والبعث.
أن الجزاء من جنس العمل.
ولهما عن زيد بن خالد رضي الله عنه، قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصراف، اقبل على الناس، فقال ((هل تدرون ماذا قال ربكم)) (2)؟.
قوله في حديث زيد بن خالد (صلى لنا). أي إماماً، لأن الإمام يصلي لنفسه ولغيره، ولهذا يتبعه المأموم، وقيل: إن اللام بمعنى الباء، وهذا قريب وقيل: إن اللام للتعليل، أي: صلى لأجلنا.
قوله: (صلاة الصبح بالحديبية). أي صلاة الفجر، والحديبية فيها لغتان: التخفيف، وهو أكثر، والتشديد، وهى أسم بئر سمي بها المكان، وقيل أن أصلها شجرة حدبا تسمى حديبية، والأكثر على أنها بئر، وهذا المكان قريب من مكة بعضه في الحل وبعضه في الحرم، نزل به الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة السادسة من الهجرة لما قدم معتمراً، فصده المشركون عن البيت، وما كانوا أولياءه، إن أولياؤه إلا المتقون، ويسمى الآن الشميسي.
قوله: (على إثر سماء كانت من الليل). الإثر معناه العقب، والأثر معناه العقب، والأثر: ما ينتج عن السير.
قوله: (سماء). المراد به المطر.
_________
(1) رواه الطبراني (9/ 183) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/ 79) وعبد الرزاق في ((المصنف)) (8/ 496) , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 177) رجاله رجال الصحيح, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 58): رواته رواة الصحيح, وصححه الألباني في ((إرواء الغليل)) (2562).
(2) [3693])) رواه البخاري (846) , ومسلم (71).
قوله: (كانت من الليل). (من) لابتداء الغاية هذا هو الظاهر – والله أعلم -، ويحتمل أن تكون بمعنى في للظرفية.
قوله: (فلما انصرف) أي: من صلاته، وليس من مكانه بدليل قوله: (أقبل على الناس).
قوله: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟). الاستفهام يراد به التنبيه والتشويق لما سيلقي عليهم، وإلا، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم لا يعلمون ماذا قال الله، لأن الوحي لا ينزل عليهم.
ومعنى قوله: (هل تدرون). أي: هل تعلمون.
والمراد بالربوبية هنا الخاصة، لأن ربوبية الله للمؤمن خاصة كما أن عبودية المؤمن له خاصة، ولكن الخاصة لا تنافي العامة، لأن العامة تشمل هذا وهذا، والخاصة تختص بالمؤمن.
قوله: (قالوا: الله ورسوله). فيه إشكال نحوي، لأن: (أعلم) خبر عن اثنين، وهي مفرد، فيقال: أن اسم التفضيل: إن اسم التفضيل إذا نوي به معنى (من)، وكان مجرداً من أل والإضافة لزم فيه الإفراد والتذكير.
وفيه أيضاً إشكال معنوي، وهو أنه جمع بين الله ورسوله بالواو، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له الرجل: ((ما شاء الله وشئت. قال أجعلتني لله نداً!)) (1)
فيقال: أن هذا أمر شرعي، وقد نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما إنكاره على من قال: ما شاء وشئت، فلأنه أمر كوني، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس له شأن في الأمور الكونية.
والمراد بقولهم: (الله ورسوله أعلم) تفويض العلم إلى الله ورسوله، وأنهم لا يعلمون.
قالوا: الله ورسوله أعلم. قال ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال، مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) (2).
قوله: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر). (مؤمن) صفة لموصوف محذوف، أي: عبد مؤمن، وعبد كافر.
و (أصبح): من أخوات كان، واسمها: (مؤمن)، وخبرها: (من عبادي). ويجوز أن يكون (أصبح) فعلاً ماضياً ناقصاً، واسمها ضمير الشأن، أي: أصبح الشأن، فـ (من عبادي) خبر مقدم، و (مؤمن) مؤخر، أي: أصبح شأن الناس منهم مؤمن ومنهم كافر.
قوله: (فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته). أي: قال بلسانه وقلبه، والباء للسببية، وأفضل: العطاء والزيادة.
والرحمة: صفة من صفات الله، يكون بها الإنعام والإحسان إلى الخلق.
وقوله: (فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب). لأنه نسب المطر إلى الله ولم ينسبه إلى الكوكب، ولم ير له تأثيراً في نزوله، بل نزل بفضل الله.
قوله: (وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا). الباء للسببية، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب، وصار كافراً بالله، لأنه أنكر نعمة الله ونسبها إلى سبب لم يجعله الله سبباً، فتعلقت نفسه بهذا السبب، ونسي نعمة الله، وهذا الكفر لا يخرج من الملة، لأن المراد نسبة المطر إلى النوء على أنه سبب وليس إلى النوء على أنه فاعل.
لأنه قال: (مطرنا بنوء كذا)، ولم يقل: أنزل علينا المطر نوء كذا، لأنه لو قال ذلك، لكان نسبة المطر إلى النوء نسبة إيجاد، وبه نعرف خطأ من قال: إن المراد بقوله: (مطرنا بنوء كذا) نسبة المطر إلى النوء نسبة إيجاد، لأنه لو كان هذا هو المراد لقال: أنزل علينا المطر نوء كذا ولم يقل مطرنا به.
فعلم أن المراد أن من أقر بأن الذي خلق المطر وأنزله هو الله، لكن النوء هو السبب، فهو كافر، وعليه يكون من باب الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة.
_________
(1) رواه أحمد (1/ 214) (1839) والبخاري في ((الأدب المفرد)) (1/ 290) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 245) , قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 200): إسناده صحيح, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 253): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (601).
(2) [3695])) رواه البخاري (846) , ومسلم (71).
والمراد بالكوكب النجم، وكانوا ينسبون المطر إليه، ويقولون: إذا سقط النجم الفلاني جاء المطر، وإذا طلع النجم الفلاني جاء المطر، وليسوا ينسبونه إلى هذا نسبة وقت، وإنما نسبة سبب، فنسبة المطر إلى النوء تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
نسبة إيجاد، وهذه شرك أكبر.
نسبة سبب، وهذه شرك أصغر.
نسبة وقت، وهذه جائزة بأن يريد بقوله: مطرنا بنوء كذا، أي: جاءنا المطر في هذا النوء أي في وقته.
ولهذا قال العلماء: يحرم أن يقول: مطرنا بنوء كذا، ويجوز مطرنا في نوء كذا، وفرقوا بنيهما أن الباء للسببية، و (في) للظرفية، ومن ثم قال أهل العلم: إنه إذا قال: مطرنا بنوء كذا وجعل الباء للظرفية فهذا جائز، وهذا وإن كان له وجه من حيث المعنى، لكن لا وجه له من حيث اللفظ، لأن لفظ الحديث: (من قال: مطرنا بنوء كذا)، والباء للسببية أظهر منها للظرفية، وهي وإن جاءت للظرفية كما في قوله تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137، 138]، لكن كونها للسببية أظهر، والعكس بالعكس، (في) للظرفية أظهر منها للسببية وإن جاءت للسببية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم ((دخلت امرأة النار في هرة)) (1)
والحاصل أن الأقرب المنع ولو قصد الظرفية، لكن إذا كان المتكلم لا يعرف من الباء إلا الظرفية مطلقاً، ولا يظن أنها تأتى سببية، فهذا جائز، ومع ذلك فالأولى أن يقال لهم: قولوا: في نوء كذا.
ولهما من حديث ابن عباس معناه وفيه قال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا. فأنزل الله هذه الآيات: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 75 - 82].
قوله: (ولهما). الظاهر أنه سبق قلم، وإلا، فالحديث في (مسلم) وليس في (الصحيحين).
ومعنى الحديث: أنه لما نزل المطر نسبه بعضهم إلى رحمة الله وبعضهم قال: لقد صدق نوء كذا وكذا، فكأنه جعل النوء هو الذي أنزل المطر أو نزل بسببه.
ومنه ما يذكر في بعض كتب التوقيت: (وقل أن يخلف نوؤه)، أو: (هذا نوؤه صادق)، وهذا لا يجوز، وهو الذي أنكره الله – عز وجل – على عباده، وهذا شرك أصغر، ولو قال بإذن الله، فإنه لا يجوز لأن كل الأسباب من الله، والنوء لم يجعله الله سبباً. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - بتصرف– 2/ 141
_________
(1) [3696])) رواه البخاري (3318) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. ومسلم (2619) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.