أخبار الإنترنت
recent
تمهيد
قال الإمام ابن القيم: (والأسماء الحسنى والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والأمر اقتضاؤها لآثارها من الخلق والتكوين، فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها – أعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها – وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي تقع على القلب والجوارح:
(1) فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة تثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً.
(2) علمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه، وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات والأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء باطناً، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح. ومعرفة غناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء، ويثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه.
(3) وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزته تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة هي موجباتها، وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلى يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية، فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات، وارتبطت بها ارتباط الخلق بها. فخلقه سبحانه وأمره هو موجب أسمائه وصفاته في العلم وآثارها ومقتضاها؛ لأنه لا يتزين من عباده بطاعتهم، ولا تشينه معصيتهم. وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه عن ربه تبارك وتعالى: ((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)) ذكر هذا عقب قوله: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم)) (1). فتضمن ذلك أن يفعله تعالى بهم في غفران زلاتهم وإجابة دعواتهم، وتفريج كرباتهم ليس لجلب منفعة منهم ولا لدفع مضرة يتوقعها منهم؛ كما هو عادة المخلوق الذي ينفع غيره ليكافئه بنفع مثله، أو ليدفع عنه ضرراً، فالرب تعالى لم يحسن إلى عباده ليكافئوه، ولا ليدفعوا عنه ضرراً، فقال: ((لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني))، إني لست إذا هديت مستهديكم، وأطعمت مستطعمكم، وكسوت مستكسيكم وأرويت مستسقيكم، وكفيت مستكفيكم وغفرت لمستغفركم، بالذي أطلب منكم أن تنفعوني أو تدفعوا عني ضرراً، فإنكم لن تبلغوا ذلك وأنا الغني الحميد، كيف والخلق عاجزون عما يقدرون عليه، من الأفعال إلا بإقداره وتيسيره وخلقه، فكيف بما لا يقدرون عليه، فكيف يبلغون نفع الغني الصمد الذي يمتنع في حقه أن يستجلب من غيره نفعاً، أو يستدفع منه ضرراً، بل ذلك مستحيل في حقه؟!
_________
(1) رواه مسلم (2577). من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

ثم ذكر بعد هذا قوله: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً)) (1)؛ فيبين سبحانه أن ما أمرهم به من الطاعات وما نهاهم عنه من السيئات لا يتضمن استجلاب نفعهم، ولا استدفاع ضررهم كأمر السيد عبده، والوالد ولده، والإمام رعيته بما ينفع الآمر والمأمور، ونهيهم عما يضر الناهي والمنهي، فبين تعالى أنه المنزه عن لحوق نفعهم وضرهم به في إحسانه إليهم بما يفعله بهم وبما يأمرهم به، ولهذا لما ذكر الأصلين بعد هذا، وأن تقواهم وفجورهم الذي هو طاعتهم ومعصيتهم لا يزيد في ملكه شيئاً، ولا ينقصه، وأن نسبة ما يسألونه كلهم إياه؛ فيعطيهم إلى ما عنده كلا نسبة، فتضمن ذلك أنه لم يأمرهم ولم يحسن إليهم بإجابة الدعوات، وغفر الزلات، وتفريج الكربات لاستجلاب منفعة، ولا لاستدفاع مضرة، وأنهم لو أطاعوه كلهم لم يزيدوا في ملكه شيئاً، ولو عصوه كلهم لم ينقصوا من ملكه شيئاً، وأنه الغني الحميد. ومن كان هكذا فإنه لا يتزيد بطاعة عباده وأمرهم ونهيهم ما يقتضيه ملكه التام وحمده وحكمته، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يستوجب من عباده شكر نعمه التي لا تحصى، بحسب قواهم وطاقتهم، لا بحسب ما ينبغي له، فإنه أعظم وأجل من أن يقدر خلقه عليه، ولكنه سبحانه يرضى من عباده بما تسمح به طبائعهم وقواهم، فلا شيء أحسن في العقول والفطر من شكر المنعم، ولا أنفع للعبد منه) (2).
ويضرب الإمام ابن القيم مثالاً على الآثار المترتبة على عبودية الله تعالى باسمي الأول والآخر قائلاً: (فعبوديته باسمه الأول تقتضي التجرد عن مطالعة الأسباب، والوقوف أو الالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد، إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجوده، وأي وسيلة كانت هناك، إنما هو عدم محض، وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فمنه سبحانه الإعداد، ومنه الإمداد، وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله، وجوده، لم تكن بوسائل أخرى.
فمن نزل اسمه الأول على هذا المعنى أوجب له فقراً خاصاً وعبودية خاصة، وعبوديته باسمه الآخر تقتضي أيضاً عدم ركونه ووقوفه بالأسباب والوقوف معها، فإنها تنعدم لا محالة وتنقضي بالآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها، فالتعلق بها تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بالآخر سبحانه تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلق به حقيق ألا يزول ولا ينقطع بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يغنى به، كذا نظر العارف إليه بسبق الأولية، حيث كان قبل الأسباب كلها، وكذلك نظره إليه ببقاء الآخرية حيث يبقى بعد الأسباب كلها، فكان الله ولم يكن شيء غيره، كل شيء هالك إلا وجهه، فتأمل عبودية هذين الاسمين وما يوجبانه من صحة الاضطرار إلى الله وحده، ودوام الفقر إليه دون كل شيء سواه، وأن الأمر ابتدأ منه وإليه يرجع، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة وإليه تنتهي الأسباب والوسائل، فهو أول كل شيء وآخره، وكما أنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه، فهو الحق وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إلا بأن يكون وحده غايته ونهايته ومقصوده، فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت إليه عبودياتها وإرادتها ومحبتها، فليس وراء الله شيء يقصد ويعبد ويتأله، كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأ) (3).
وللتعبد بهذين الاسمين (الأول والآخر) يرى الإمام ابن القيم أن لهما رتبتين:
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 510 - 513).
(3) ((طريق الهجرتين)) (ص: 19، 20).

الرتبة الأولى: أن تشهد الأولية منه تعالى في كل شيء والآخرية بعد كل شيء، والعلو والفوقية فوق كل شيء، والقرب من الدنو دون كل شيء فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب، والرب جل جلاله ليس دونه شيء أقرب إلى الخلق منه.
والرتبة الثانية من التعبد: أن يعامل كل اسم بمقتضاه؛ فيعامل سبقه تعالى بأوليته لكل شيء وسبقه بفضله وإحسانه، الأسباب كلها بما يقتضيه ذلك من إفراده وعدم الالتفات إلى غيره والوثوق بسواه والتوكل على غيره، فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً حتى سماك باسم الإسلام، ووسمك بسمة الإيمان، وجعلك من أهل قبضة اليمين، وأقطعك في ذلك الغيب عمالات المؤمنين، فعصمك عن العبادة للعبيد، وأعتقك من التزام الرق لمن له شكل ونديد، ثم وجه وجهة قلبك إليه سبحانه دون ما سواه (1).
وعن سر العبودية وغايتها وحكمتها قال: (إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب عز وجل ولم يعطلها، وعرف معنى الإلهية وحقيقتها، ومعنى كونه إلها. بل هو الإله الحق، وكل إله سواه فباطل، بل أبطل الباطل، وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له، وأن العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها وارتباطها بها كارتباط متعلق الصفات بالصفات، وكارتباط المعلوم بالعلم والمقدور بالقدرة، والأصوات بالسمع، والإحسان بالرحمة، والعطاء بالجود) (2).
ويذكر الإمام ابن القيم (أن أعرف الناس بأسماء الله وصفاته أشدهم حباً له، فكل اسم من أسمائه وصفاته تستعدي محبة خاصة، فإن أسماءه كلها حسنى وهي مشتقة من صفاته، وأفعاله دالة عليها، فهو المحبوب المحمود على كل ما فعل وعلى كل ما أمر إذ ليس في أفعاله عبث، وليس في أوامره سفه، بل أفعاله كلها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة، والعدل، والفضل، والرحمة، وكل واحد من ذلك يستوجب الحمد والثناء والمحبة عليه، ولا يتصور نشر هذا المقام حق تصوره فضلاً عن أن يوفاه حقه، فأعرف خلقه به وأحبهم له صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) (3) ولو شهد بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله لاستدعت منه المحبة التامة عليها (4)
وبالنظر والتأمل في أجزاء هذا الفصل يتضح لنا عدة أمور أوردها الإمام ابن القيم وهي لا تخرج عما ذهب إليه أئمة أهل السنة والجماعة، بل هي أصل فيما ذهبوا إليه من أنه لا بد في الأسماء الحسنى من أركان ثلاثة: وهي الإيمان بالاسم، وبما دل عليه من المعنى، وبما تعلق به من الآثار. وهذه الأمور جاءت على النحو التالي:
أولاً: أن الأسماء والصفات مقتضية لآثارها من العبودية اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين، فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها تعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها.
ثانياً: أن مذهب السلف الصالح قائم على الإيمان بأسماء الله وصفاته، وبما دلت عليه من المعاني، وبما تعلقت به من الآثار والأحكام (5).
ثالثاً: أن الوجود خلقاً وأمراً يتعلق بأسماء الله وصفاته، وإن كان العلم بما فيه بعض آثارها ومقتضياتها؛ إذا عرفت هذا فمن أسمائه الغفار والتواب والعفو فلا بد لهذه الأسماء من متعلقات ولا بد من جناية تغفر، وتوبة تقبل، وجرائم يعفى عنها (6).
_________
(1) ((طريق الهجرتين)) (ص: 24، 25).
(2) ((مدارج السالكين)) (1/ 110).
(3) رواه مسلم (486). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) ((مدارج السالكين)) (1/ 110).
(5) ((مفتاح دار السعادة)) (3/ 510)، وانظر: ((الكواشف الجلية)) للسلمان (ص: 425)، ((طريق الوصول إلى العلم المأمول)) لابن سعدي (ص: 349).
(6) ((مدارج السالكين)) (1/ 417 - 419).

رابعاً: (أن ظهور أحكامها وآثارها لا بد منه إذ هو من مقتضى الكمال المقدس والملك التام، وإذا أعطيت اسم الملك حقه – ولن تستطيع – علمت أن الخلق والأمر والثواب والعقاب، والعطاء والحرمان أمر لازم لصفة الملك، وأن صفة الملك تقتضي ذلك ولا بد، وأن تعطيل هذه الصفة أمر ممتنع. فالملك الحق مقتضي إرسال الرسل وإنزال الكتب وأمر العباد ونهيهم وثوابهم وعقابهم) (1).
خامساً: أن لكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها. من عرفها أثمرت له أنواعاً من العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه (2).
سادساً: من مقتضيات العبودية لله بأسمائه الحسنى التجرد عن مطالعة الأسباب، والوقوف أو الالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان والإنعام عليه من غير وسيلة من العبد.
سابعاً: أن العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها، وارتباطها بها كارتباط متعلق الصفات بالصفات، وأعظم الناس سعادة أعظمهم عبودية لله.
ومما تجدر الإشارة إليه ... أن معرفة هذه الآثار على التفصيل لا تجب على كل أحد بل كل بحسبه، فيجب على العالم ما لا يجب على غيره، ولا يعني هذا أيضاً أن تعرف كل آثار أسماء الله تبارك وتعالى لأن هذا محال على البشر معرفته، وليس في مقدورهم الإحاطة به علماً، لأنه قد منع من ذلك فقال عز وجل: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: 110]. منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي الغامدي– ص: 166
_________
(1) ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 50).
(2) ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 510) وما بعدها، وانظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 122).

المبحث الأول: الآثار الإيمانية العامة للأسماء والصفات
إن للتعبد بالأسماء والصفات آثارا كثيرة على قلب العبد وعمله، قال العز بن عبد السلام: (اعلم أن معرفة الذات والصفات مثمرة لجميع الخيرات العاجلة والآجلة، ومعرفة كل صفة من الصفات تثمر حالا علية، وأقوالا سنية، وأفعالا رضية، ومراتب دنيوية، ودرجات أخروية، فمثل معرفة الذات والصفات كشجرة طيبة أصلها – وهو معرفة الذات – ثابت بالحجة والبرهان، وفرعها – وهو معرفة الصفات – في السماء مجدا وشرفا تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ من الأحوال والأقوال والأعمال بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم: 25] وهو خالقها إذ لا يحصل شيء من ثمارها إلا بإذنه وتوفيقه، منبت هذه الشجرة القلب الذي إن صلح بالمعرفة والأحوال صلح الجسد كله) (1).
وهذه إشارة موجزة إلى بعض تلك الآثار؛ إذ تقصي تلك الآثار أمر في غاية العسر، ويجزئ منها ما يبلغ القصد:
أولاً: محبة الله.
من تأمل أسماء الله وصفاته وتعلق قلبه بها طرحه ذلك على باب المحبة، وفتح له من المعارف والعلوم أمورا لا يعبر عنها (2)، وإن من عرف الله أورثه ذلك المحبة له سبحانه وتعالى، قال ابن الجوزي: (فينبغي الاجتهاد في طلب المعرفة بالأدلة، ثم العمل بمقتضى المعرفة بالجد في الخدمة لعل ذلك يورث المحبة ... ذلك الغنى الأكبر، ووافقراه) (3).
ومراده أن من عرف الله أحبه، ومن أحب الله أحبه الله، وذلك والله هو الفوز العظيم والجنة والنعيم، والمحبة هي المنزلة التي (فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبوب وبروح نسيمها تروح العابدون، فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، والتي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه) (4).
حب الله هو الفطرة:
وحب الله هو فطرة القلب التي فطر عليها، قال ابن تيمية: (والقلب إنما خلق لأجل حب الله تعالى، وهذه الفطرة التي فطر الله عليها عباده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء))، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرأوا إن شئتم: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30] أخرجه البخاري ومسلم (5)، فالله سبحانه فطر عباده على محبته وعبادته وحده فإذا تركت الفطرة بلا فساد كان القلب عارفا بالله محبا له عابدا له وحده) (6).
_________
(1) ((شجرة المعارف والأحوال)) (ص: 14 - 15).
(2) انظر: ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 286).
(3) ((صيد الخاطر)) (ص: 70).
(4) ((مدارج السالكين)) (3/ 6 - 7).
(5) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658).
(6) ((مجموع الفتاوى)) (10/ 134 - 135).

ومن سلك طريق التأمل في الأسماء والصفات ولاحظ نعم الله عليه كيف لا يكون حب الله تعالى أعظم شيء لديه، قال أبو سليمان الواسطي: (ذكر النعم يورث المحبة) (1)، وقال ابن القيم: (فإذا انضم داعي الإحسان والإنعام إلى داعي الكمال والجمال لم يتخلف عن محبة من هذا شأنه إلا أردأ القلوب وأخبثها وأشدها نقصاً وأبعدها من كل خير، فإن الله فطر القلوب على محبة المحسن الكامل في أوصافه وأخلاقه، وإذا كانت هذه فطرة الله التي فطر عليها قلوب عباده، فمن المعلوم أنه لا أحد أعظم إحساناً منه سبحانه وتعالى، ولا شيء أكمل منه ولا أجمل، فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صنعه سبحانه وتعالى، وهو الذي لا يحد كماله ولا يوصف جلاله وجماله، ولا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه بجميل صفاته وعظيم إحسانه وبديع أفعاله، بل هو كما أثنى على نفسه وإذا كان الكمال محبوباً لذاته ونفسه وجب أن يكون الله هو المحبوب لذاته وصفاته؛ إذ لا شيء أكمل منه، وكل اسم من أسمائه وصفة من صفاته وأفعاله دالة عليها، فهو المحبوب المحمود على كل ما فعل وعلى كل ما أمر؛ إذ ليس في أفعاله عبث ولا في أوامره سفه، بل أفعاله كلها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة والعدل والفضل والرحمة، وكل واحد من ذلك يستوجب الحمد والثناء والمحبة عليه، وكلامه كله صدق وعدل، وجزاؤه كله فضل وعدل، فإنه إن أعطى فبفضله ورحمته ونعمته، وإن منع أو عاقب فبعدله وحكمته
ما للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله أو نعموا ... فبفضله وهو الكريم الواسع (2)
سرور القلب بمحبة الله:
وإذا شمر العبد إلى تلك المنزلة ورام الوصول إليها وعرف الله بأسمائه وصفاته التفت القلب إلى الله وخلى عن كل ما عداه فـ (لم يكن شيء أحب إليه منه، ولم تبق له رغبة فيما سواه إلا فيما يقربه إليه ويعينه على سفره إليه) (3).
قال يحيى بن أبي كثير: (نظرنا فلم نجد شيئاً يتلذذ به المتلذذون أفضل من حب الله تعالى وطلب مرضاته).
فكأن لسان الحال يقول:
كل محبوب سوى الله سرف ... وهموم وغموم وأسف
كل محبوب فمنه خلف ... ما خلا الرحمن ما منه خلف (4)
وقال ابن تيمية: (وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله والتقرب إليه بما يحبه، ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة لا إله إلا الله) (5).
محبة الله باعث التوحيد والطاعة:
ولذا كانت محبة الله مقتضية لعدم التشريك بينه وبين غيره فهي باعث التوحيد، ألا ترى أن القلب له وجه واحد: مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب: 4]، فإذا مال إلى جهة لم يمل إلى غيرها، وليس لأحد قلبان يوحد بأحدهما ويشرك بالآخر (6).
قال صديق حسن: (محبة الله إذا استغرق بها القلب واستولت عليه لم تبعث الجوارح إلا إلى مراضي الرب، وصارت النفس حينئذ مطمئنة بإرادة مولاها عن ماردها وهواها، يا هذا اعبد الله لمراده منك لا لمرادك منه)، وقال: (من امتلأ قلبه من محبة الله لم يكن فيه فراغ لشيء من إرادة النفس والهوى) (7).
فإلى من ابتلي بهواه حتى ألم به من جوانبه وأعياه هذا هو الدواء لكل داء والبلسم للشفاء، تأمل في أسماء الخالق العظيم وصفاته لتتلمس محبته وما يقربك إليه.
_________
(1) ((المحبة لله سبحانه)) لإبراهيم بن الجنيد (ص: 24).
(2) ((طريق الهجرتين)) (ص: 520 - 521).
(3) ((روضة المحبين)) (ص: 406).
(4) ((المحبة لله سبحانه)) لإبراهيم بن الجنيد (ص: 44، 101).
(5) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 32).
(6) لاحظ ((روضة المحبين)) (ص: 295).
(7) ((الدين الخالص)) (1/ 167).

وإذا أردت كمال العبودية فاعلم أنه تابع لكمال المحبة، وذلك تابع لكمال المحبوب في نفسه، ولما أن كان الله تعالى له الكمال المطلق من كل وجه بحيث لا يعتريه توهم النقص فإن القلوب السليمة والفطر المستقيمة والعقول الحكيمة لا تلتفت إلا إليه ولا تريد أحداً سواه ولا تقبل بحبها إلا إليه سبحانه، وحينذاك فلا تقبل إلا لما تقتضيه تلك المحبة من عبوديته وطاعته وأتباع مرضاته واستفراغ الجهد في التعبد له والإنابة إليه.
قال ابن القيم: (وهذا الباعث أكمل بواعث العبودية وأقواها حتى لو فرض تجرده عن الأمر والنهي والثواب والعقاب استفرغ الوسع واستخلص القلب للمعبود الحق) (1).
وإياك أن يخلو قلبك من الحب لله تعالى أو أن تملئه من محبة غيره فإن الله تعالى يغار على قلب عبده أن يكون معرضاً عن حب، فالله تعالى خلقك لنفسه واختارك من بين خلقه، ولتعلم أن الله تعالى إذا أراد بعبده خيراً سلط على قلبه إذا أعرض عنه واشتغل بحب غيره أنواع العذاب حتى يرجع قلبه إليه وإذا اشتغلت جوارحه بغير طاعته ابتلاها بأنواع البلاء (2).
وبعد هذا اللهج بقولك: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقرب على حبك (3)، فقد كان هذا من دعاء سيد المحبين صلى الله عليه وسلم، فأكثر منه لعل الله تعالى أن يفتح لك الباب، فإن من أكثر الطرق ولج بإذن الله تعالى.
ثانياً: الذل والتعظيم.
من تحقق بمعاني الأسماء والصفات شهد قلبه عظمة الله تعالى فأفاض على قلبه الذل والانكسار بين يدي العزيز الجبار.
سجود القلب:
ولا شك أن تمام العبودية لا يتم إلا بتمام الذل والانقياد لله، وأكمل الخلق عبودية أكملهم ذلا وافتقارا وخضوعا بحيث يحصل للقلب انكسار خاص لا يشبهه شيء فهو يرى حينئذ أنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من خالقه وربه ومولاه، وحينئذ يستكثر القليل من الخير على نفسه كأنه لا يستحقه، ويستكثر قليل معاصيه لعظمة الله تعالى في قلبه، وذلك هو سجود القلب، سئل بعض العارفين أيسجد القلب؟ قال: نعم يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء.
ومن سجد هذه السجدة سجدت معه جميع جوارحه، وعنا الوجه للحي القيوم، ووضع خده على عتبة العبودية التي يقول عنها ابن تيمية: (من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية) ...
وإذا تأمل العبد ذلك ألا يدعوه إلى تعظيم الخالق العظيم، فلا يستصغر في حقه معصية قط مهما صغرت، ولا يستعظم في حقه طاعة قط مهما عظمت.
قال القرافي في سر تحريم العجب: (إنه سوء أدب على الله تعالى، فإن العبد لا ينبغي له أن يستعظم ما يتقرب به إلى سيده، بل يستصغره بالنسبة إلى عظمة سيده لا سيما عظمة الله تعالى، ولذلك قال الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزُّمر: 67] أي ما عظموه حق تعظيمه) (4).
فانظر وفقك الله كيف يثمر التأمل في الأسماء والصفات والتعبد بها من معرفة عظمة الله تعالى، وما يثمره ذلك من الأدب مع الله والذل بين يديه واحتقار كل عمل يتقرب به إليه إذ هو قليل في حق عظمته تعالى، وما يثمره ذلك من الخوف منه والبعد عن معاصيه؛ إذ كل عظيم يخشى من مخالفة أمره والوقوع في نهيه فكيف بأعظم عظيم جل وعلا.
ثالثاً: الخشية والهيبة.
_________
(1) ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 88 - 89).
(2) انظر: ((روضة المحبين)) (ص: 310).
(3) رواه الترمذي (3235)، وأحمد (5/ 243) (22162)، والطبراني (20/ 109) (216)، والحاكم (1/ 702، رقم 1913). من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح، وقال ابن العربي في ((أحكام القرآن)) (4/ 73): صحيح.
(4) ((الفروق)) (4/ 227).

قال ابن القيم: (كلما ازدادت معرفة العبد بربه ازدادت هيبته له وخشيته إياه، كما قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ [فاطر: 28] أي العلماء به، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية)) (1)) (2).
وفي قول تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ يقول البحر ابن عباس في معنى الآية: (إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني) (3).
وقال ابن كثير: (إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر) (4).
وكيف لا يخشع القلب ويهاب إذا امتلأ بالحب والتعظيم والمعرفة بالخالق العظيم، فإن من عرف الله صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف المخلوقين، وأنس بالله وحده (5).
رابعاً: اليقين والسكينة والطمأنينة.
من عبد الله بأسمائه وصفاته وتحقق من معرفة خالقه جل وعلا، وعظمه حق تعظيمه فإنه ولا شك يصل إلى درجة اليقين.
قال ابن القيم: (فاليقين هو الوقوف على ما قام بالحق من أسمائه وصفاته ونعوت كماله وتوحيده) (6).
وباليقين مع الصبر تنال الإمامة في الدين، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24].
وتلك المنزلة العالية الرفيعة هي روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح، وهو حقيقة الصديقية، ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط وغم وامتلأ محبة لله وخوفا منه ورضى به وشكرا له وتوكلا عليه وإنابة إليه، قال أبو بكر الدقاق: (اليقين ملاك القلب وبه كمال الإيمان، وباليقين عرف الله، وبالعقل عقل عن الله).
وإذا تيقن القلب نزلت السكينة، وهي الطمأنينة والسكون الذي ينزل في القلب عند اشتداد المخاوف والبلاء، فيزداد ذلك القلب إيماناً وثباتا، ويكسو الجوارح خشوعا ووقارا، ويضفي على اللسان حكمة وصوابا (7).
خامساً: الرضا.
والرضا من ثمرات المعرفة بالله، فمن عرف الله بعدله وحكمه وحكمته ولطفه أثمر ذلك في قلبه الرضا بحكم الله وقدره في شرعه وكونه فلا يتعرض على أمره ونهيه ولا على قضائه وقدره، بل تراه: (قد يجري في ضمن القضاء مرارات يجد بعض طعمها الراضي، أما العارف فتقل عنده المرارات لقوة حلاوة المعرفة، فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة صارت مرارة الأقدار حلاوة كما قال القائل:
عذابه فيك عذب ... وبعده فيك قرب
وأنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحب
حسبي من الحب أني ... لما تحب أحب (8)
_________
(1) رواه البخاري (6101)، ومسلم (2356). بلفظ: ((إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية)). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) ((روضة المحبين)) (ص: 406).
(3) ((زاد المسير)) (6/ 486).
(4) ((تفسير القرآن العظيم)) (3/ 561).
(5) لاحظ ((روضة المحبين)) (ص: 406).
(6) ((مدارج السالكين)) (2/ 419 - 420) وانظر لليقين منه (1/ 413 وما بعدها).
(7) انظر: ((مدارج السالكين)) (32/ 525 - 527).
(8) ((صيد الخاطر)) (ص: 69).

وقد كان من سؤال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ((أسألك الرضا بعد القضا)) (1).
وإنما يرضى المؤمن العارف بأسماء الله وصفاته بحكم الله وقضائه؛ لأنه يعلم أن تدبير الله له خير من تدبيره لنفسه، وأنه تعالى أعلم بمصلحته من نفسه، وأرحم به من نفسه، وأبر به من نفسه، ولذا تراه يرضى ويسلم، بل إنه يرى أن هذه الأحكام القدرية الكونية أو الشرعية إنما هي رحمة وحكمة، وحينئذ لا تراه يعترض على شيء منها، بل لسان حاله: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، وذلك والله محض الإيمان.
سادساً: التوكل.
إن من أجل ما يثمره التعبد بالأسماء والصفات أن يعتمد القلب على الله ويخلص في تفويض أمره إليه، وذلك حقيقة التوكل على الله.
والتوكل من أعظم العبادات تعلقا بالأسماء والصفات، ذلك أن مبناه على أصلين عظيمين.
الأول: علم القلب، وهو يقينه بعلم الله وكفايته وكمال قيامه بشأن خلقه، فهو القيوم سبحانه الذي كفى عباده شئونهم، فبه يقومون وله يصمدون.
والثاني: عمل القلب، وهو سكونه إلى العظيم الفعال لما يريد وطمأنينته إليه وتفويض أمره إليه ورضاه وتسليمه بتصرفه وفعله؛ إذ كل شيء يمضي ويكون فبحكمه وحكمته وقدره وعلمه، لا ينفذ شيء في الأرض ولا في السماء عن قدرته، فله الحكم كله، وإليه يرجع الأمر كله (2).
ومتى ما أخلص القلب ذلك لله علما وعملا كان من سابقي المتوكلين وصادقي المفوضين والمستسلمين، وإنه والله لغاية الأنس والعز أن يعتمد الإنسان في جميع أمره وشأنه على الله تعالى.
ولما أن كان هذان الأمران إنما ينبنيان على العلم بهذا الباب العظيم باب الأسماء والصفات قال بعض العلماء مفسرا التوكل بأنه المعرفة بالله، وإنما أراد أنه بحسب معرفة العبد بالله تعالى وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا وتعبده بها وعلمه بقدرة الله وكفايته وتمام علمه وقيوميته وصدور الأمور عن مشيئته يصح له التوكل ويتم له ويتحقق، قال ابن القيم: (كلما كان بالله أعرف كان توكله عليه أقوى)، ولذا قال ابن تيمية: (لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف ولا من القدرية النفاة القائلين بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يستقيم أيضا من الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات) (3).
سابعاً: الدعاء.
إن من تأمل شيئا من أسماء الله وصفاته فإنها بلا شك ستقوده إلى أن يتضرع إلى الله بالدعاء ويبتهل إليه بالرجاء، فمن تأمل قرب الله تعالى من عبده المؤمن، وأن الله تعالى هو القريب المجيب والبر الرحيم والمحسن الكريم فإن ذلك سيفتح له باب الرجاء وإحسان الظن بالله وسيدفعه إلى الاجتهاد في الدعاء والتقرب إلى الله به.
بل إن من تأمل وتعبد بالأسماء والصفات لا يقتصر على مجرد الدعاء، بل سيفيض عليه ذلك الأمر حضور القلب وجمعيته بكليته على الله تعالى فيرفع يديه ملحا على الله بالدعاء والسؤال والطلب والرجاء.
_________
(1) رواه أحمد (5/ 191) (21710)، وابن خزيمة في ((التوحيد)) (1/ 34)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (426)، والحاكم (1/ 697)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 314). من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. والحديث صح وثبت بالإسناد الثابت الصحيح عند ابن خزيمة - كما أشار إلى ذلك في المقدمة – وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في (تخريج كتاب السنة لابن أبي عاصم).
(2) انظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 426).
(3) ((مدارج السالكين)) (2/ 123) وانظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 423).

وإنما كان الدعاء من أجل ثمرات العلم بالأسماء والصفات، وكان هو سلاح المؤمن، وميدان العارف، ونجوى المحب، وسلم الطالب، وقرة عين المشتاق، وملجأ المظلوم لما فيه من المعاني الإلهية العظيمة، ولذا قال ابن عقيل مبينا شيئا من هذه المعاني: (قد ندب الله تعالى إلى الدعاء، وفي ذلك معان:
أحدها: الوجود، فإن من ليس بموجود لا يدعى.
الثاني: الغنى، فإن الفقير لا يدعى.
الثالث: السمع، فإن الأصم لا يدعى.
الرابع: الكرم، فإن البخيل لا يدعى.
الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يدعى.
السادس: القدرة، فإن العاجز لا يدعى) (1).
ثامناً: الإخلاص.
إن إدراك معاني الأسماء والصفات على التحقيق يحمل العبد على إفراد الله بالقصد والابتعاد عن صرف شيء من العبادة لغيره تعالى، ولذا كان من أعظم ما يخلص العبد من دنس الرياء ملاحظة أسماء الله وصفاته، فمن لاحظ من أسماء الله الغني دفعه ذلك إلى الإخلاص لغنى الله تعالى عن عمله وفقره هو إلى الله عز وجل قال الله تبارك وتعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) (2).
ومن تأمل اسم الله العليم فإنه يعلم أن ما أخفاه عن أعين الناس من ملاحظة الخلق لا يخفى على الله لعلمه التام بكل شيء، ومن تأمل اسم الله الحفيظ حمله ذلك على ترك الرياء؛ لأن كل ما يفعله العبد محفوظ عليه سيوافى به يوم القيامة.
وإذا صنع ذلك كان عمله كله لله، فحبه لله، وبغضه لله، وقوله لله، ولحظه لله، وعطاؤه لله، ومنعه لله، فلا يريد من الناس جزاء أو شكورا، ولسان حاله: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان: 9]
وإن تقصير العبد في إخلاصه ووقوعه في الرياء أو قصد غير الله إنما هو بسبب جهله بأسماء الله وصفاته، ولذا قال ابن رجب: (ما تظاهر المرائي إلى الخلق بعمله إلا بجهله بعظمة الخالق) (3).
ذلك أن من امتلأ قلبه بعظمة الله فإنه يستصغر كل من سواه ... ولم يتعلق بغير الله، والله تعالى له الأمر كله، فلا يكون في الكون شيء إلا بأمره وعلمه.
تاسعاً: التلذذ بالعبادة.
إن من أعظم المنح الربانية منحة التلذذ بالعبادة، فإذا قام العبد بالعبادة وجد لها من اللذة كما يجد المتذوق طعم الحلاوة في فمه ووجد في قلبه من الأنس والانشراح والسعادة ما لا يجده في وقت آخر، وحينئذ تكون العبادة راحة نفسه وطرب قلبه فيكون لسان حاله أرحنا بالعبادة يا بلال، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة: ((قم يا بلال فأرحنا بالصلاة)) (4)، فتكون الصلاة لما فيها من القرب لله والمناجاة له والتلذذ بكلامه والتذلل له والتعبد بأسمائه قرة العين وسلوة الفؤاد، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) (5).
_________
(1) ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 678).
(2) رواه مسلم (2985). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) ((تحقيق كلمة الإخلاص)) (ضمن مجموعة رسائل له، ت: العزازي: 53).
(4) رواه أبو داود (4986). من حديث صهر لمحمد بن الحنفية. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (14/ 167): كلام صحيح معقول، وقال الزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (1/ 63): إسناده على شرط البخاري.
(5) رواه أحمد (3/ 128) (12315)، والنسائي (7/ 61)، وأبو يعلى (6/ 237) (3530)، والحاكم (2/ 174)، والبيهقي (7/ 78) (13232). قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وقال البيهقي: له متابعة، ورواه جماعة من الضعفاء عن ثابت، وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (2/ 177): إسناده قوي.

قال ابن تيمية: (فإن اللذة والفرحة والسرور وطيب الوقت والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه إنما هو في معرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيده والإيمان به وانفتاح الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية كما قال بعض الشيوخ: لقد كنت في حال أقول فيها إن كان أهل الجنة في هذه الحال إنهم لفي عيش طيب، وقال آخر: لتمر على القلب أوقات يرقص فيها طربا، وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان والمعرفة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أرحنا بالصلاة يا بلال))، ولا يقول أرحنا منها كما يقوله من تثقل عليه الصلاة كما قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ [البقرة: 45]، والخشوع: الخضوع لله تعالى والسكون والطمأنينة إليه بالقلب والجوارح) (1).
خفة العبادة بسبب لذتها:
وبتحصيل هذه اللذة يخف ثقل العبادة على القلب، بل قد تزول تلك المشقة فتكون العبادة بردا وسلاما على القلب، قال الشاطبي: (والضرب الثاني شأنه أن لا يدخل عليه ذلك الملل ولا الكسل لوازع هو أشد من المشقة أو حاد يسهل به الصعب، أو لما له في العمل من المحبة ولما حصل له فيه من اللذة حتى خف عليه ما ثقل على غيره، وصارت تلك المشقة في حقه غير مشقة بل يزيده كثرة العمل وكثرة العناء فيه نورا وراحة أو يحفظ عن تأثير ذلك المشوش في العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره كما جاء في الحديث: ((أرحنا بها يا بلال)) (2).
تأمل الأسماء والصفات طريق للذة العبادة:
وإذا تبين ذلك فإن من أعظم ما يحصل به لذة العبادة هو تأمل الأسماء والصفات وتعبد الله بها ومراعاتها في كل عبادة يأتي بها العبد أو يتركها.
فإذا تصدق العبد بالقليل مستشعرا أن الله شكور لا يضيع عمله، بل يبارك له فيه ولو كان قليلا كان ذلك مدخلا على قلبه الفرح والسرور بربه ووجد في قلبه حلاوة عظيمة لعمله.
ومن صلى لله تعالى متذكرا حينما قام لله صافا قدميه قيومية الله تعالى وأن الله قائم بذاته وعباده لا يقومون إلا به سبحانه وتعالى، ثم إذا كبر ورفع يديه استشعر أن الله أكبر من كل شيء، وشاهد كبرياء الله وعظمته وجلاله، ثم إذا قرأ دعاء الاستفتاح استشعر ما فيه من تنزيه الرب عن كل نقص، وإذا استعاذ وبسمل التجأ بقلبه إلى الركن الركين وتبرأ من كل حول واعتصم بالله من عدوه واستعان به لا بغيره، ثم إذا قرأ الفاتحة استشعر ما فيها من استحقاق الله لكل المحامد وألوهيته وربوبيته ورحمته بخلقه وملكه لكل شيء، واستحضر أنه يناجي ربه وأن ربه يجيبه على مناجاته كما في الصحيح: ((قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ، قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)) (3).
ثم تذكر عظمة الله وعلوه، وتذكر خضوعه وتذلله بين يدي ربه بركوعه وسجوده وانكساره، وتأمل ذلك وهو يقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، إذا صنع ذلك في صلاته كيف لا يصلي صلاة مودع، وكيف لا يتلذذ بصلاته وعبادته (4) ...
وما سبق هو جنس من العبادة، وكل عبادة يقدم عليها العبد مستشعرا هذه المعاني، وقد امتلأ قلبه بالحب للخالق العظيم فإنه ولا بد يحصل لذتها والأنس بها، وفي الحديث: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) (5). التعبد بالأسماء والصفات لمحات علمية إيمانية لوليد بن فهد الودعان - بتصرف – ص: 64
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 31) وهي رسالة يتحدث فيها عن نعم الله عليه وهو في السجن.
(2) ((الموافقات)) (2/ 240) وحديث عن أضرب الناس في تأثرهم من خوضهم في العمل الشاق، وانظر ((كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة)) (مع مجموعة رسائل لابن رجب ت: عاجل العزازي، ص: 108).
(3) رواه مسلم (395). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) انظر كتاب ((الصلاة)) لابن القيم (ص: 171) وما بعدها.
(5) رواه البخاري (16)، ومسلم (43). من حديث أنس رضي الله عنه.

أولا: الآثار الإيمانية لاسم الله الرحمن
وإن من تأمل هذا الاسم الكريم أثمر ذلك في قلبه أمورا عظيمة، ومنها:
أولا: الحب:
فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها وكيف لا يحب الإنسان من أفاض عليه رحمته وعطفه ومنته وفضله ومن هو أرحم به من أمه، جاء في الصحيح أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي تبتغي إذ وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار))، قالوا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) (1).
ثانيا: الرجاء وحسن الظن بالله:
قال العز بن عبد السلام: (من عرف سعة رحمة الله كان حاله الرجاء) (2)، وفي الصحيح: ((قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي)) (3).
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل: ((قال أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى، عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب أعمل ما شئت فقد غفرت لك)) (4).
وفي الحديث: ((أسرف رجل على نفسه –وفي رواية لم يعمل حسنة قط- فلما حضره الموت أوصى بنيه، فقال إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في الريح في البحر فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه به أحدا، قال ففعلوا ذلك به فقال للأرض أدى ما أخذت فإذا هو قائم، فقال له ما حملك على ما صنعت، فقال خشيتك يا رب أو قال مخافتك، فغفر له بذلك)) (5).
وقد دخل حماد بن سلمة على الثوري، فقال سفيان: أترى أن الله يغفر لمثلي، فقال حماد: والله لو خيرت بين محاسبة الله إياي وبين محاسبة أبوي لاخترت محاسبة الله؛ وذلك لأن الله أرحم بي من أبوي.
ومما يزيد العبد تعلقا بربه وإحسان الظن به أن الله تعالى يشكر عمل عبده مع قلته، بل ويغفر لصاحبه بسببه، وفي الحديث: ((بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش، فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغر له))، قالوا يا رسول الله وإن لنا في هذه البهائم لأجرا، فقال: ((في كل كبد رطبة أجر)) (6)، وفي لفظ ((أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها فغفر لها)) (7).
وفيه: ((كان على الطريق غصن شجرة يؤذي الناس فأماطها رجل فأدخل الجنة)) (8).
_________
(1) رواه البخاري (5999)، ومسلم (2754). من حديث عمر رضي الله عنه.
(2) ((مختصر الفوائد في أحكام المقاصد)) (ص: 203 - 204) وانظر ((شجرة المعارف والأحوال)) (ص: 83).
(3) رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) رواه البخاري (7507)، ومسلم (2758). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) رواه البخاري (3482)، ومسلم (2756). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) رواه البخاري (2363)، ومسلم (2244). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) رواه البخاري (3467)، ومسلم (2245). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(8) رواه ابن ماجه (2984)، وأحمد (2/ 495) (10436). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

وفيه: ((كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه)) (1).
وإن من حسن الظن بالله أن ترى البلاء رحمة ونعمة فكم من محنة محصت الذنوب ونبهت من الغفلة وذكرت بالنعمة، وكم من محنة أصبحت منحة أعادت إلى الله وأنقذت من شرك الشيطان:
إذا سر بالسراء عم سرورها ... وإن مس بالضراء أعقبها الأجر
وما منهما إلا له فيه نعمة ... تضيق بها الأوهام والبر والبحر
فإذا أصابك البلاء فهو رحمة، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الطاعون رحمة، فعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فخبرها صلى الله عليه وسلم: ((أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد)) (2).
ولو لم يكن في البلاء إلا تكفير الذنوب لكفى في كونه رحمة وفضلا، وفي الحديث: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)) (3)، وفيه: ((ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها)) (4)، وفي الترمذي: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) (5).
وقد يرى العبد الأمر شرا وهو خير له كما رأى موسى فعل الخضر شرا فكان خيرا.
ثالثا: الحياء:
إن التأمل في إحسان الله ورحمته يورث العبد حياء منه سبحانه وتعالى، فيستحي العبد المؤمن من خالقه أن يعصيه، ثم إن وقع في الذنب جهلا منه استحيا من الله بعد وقوعه في الذنب، ولذا كان الأنبياء يعتذرون عن الشفاعة للناس بذنوبهم خوفا وخجلا، وإن هذا لأمر قل من ينتبه له، بل قد يظن كثير من الناس أن التوبة والعفو قد غمر ذنوبه فلا يلتفت إلى الحياء بعد ذلك.
كان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة والصوم حتى يصفر جسده فلما احتضر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ فقال: ما لي لا أجزع، والله لو أتيت بالمغفرة من الله لأهمني الحياء منه مما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين آخر الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحييا منه.
و ((الله أحق أن يستحيا منه من الناس)) (6).
رابعاً: رحمة الخلق:
ومن استشعر رحمة الله تعالى وشاهد ذلك بقلب صادق أفاض على قلبه رحمة الخلق، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أرحم الخلق بالخلق، وسماه ربه رحيما فقال تعالى: بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128].
_________
(1) رواه البخاري (2078)، ومسلم (1562). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري (5734). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) رواه البخاري (5641، 5642)، ومسلم (2573). من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما.
(4) رواه البخاري (5640)، ومسلم (2572). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(5) رواه الترمذي (2399)، وأحمد (2/ 450) (9810)، وابن حبان (7/ 176) (2913)، والحاكم (4/ 350). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (833) كما أشار إلى ذلك في المقدمة.
(6) رواه أبو داود (4017)، والترمذي (2769)، وابن ماجه (1920)، وأحمد (5/ 3) (20046)، والحاكم (4/ 199). من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حديث حسن، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وحسنه ابن حجر في ((هداية الساري)) (20).

وقد أبصر الأقرع بن حابس النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن، فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه من لا يرحم لا يرحم)) (1).
ولما قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أتقبلون صبيانكم، فقالوا نعم، فقالوا لكن والله ما نقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأملك إن كان الله نزع منك الرحمة)) (2).
وتتبين آثار رحمته صلى الله عليه وسلم حينما رأى ابنه إبراهيم وهو في سكرات الموت، قال أنس لقد رأيته وهو يكيد بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون)) (3) وفي رواية البخاري: ((فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله فقال: يا ابن عوف إنها رحمة)) (4).
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الرحمة، بل وجعلها سببا لرحمة الله تعالى، وجعل من نزعت منه الرحمة شقيا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) (5)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تنزع الرحمة إلا من شقي)) (6)، وكان ابن لبعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم يقضي فأرسلت إليه أن يأتيها فأرسل: ((إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل إلى أجل مسمى فلتصبر ولتحتسب))، فأرسلت إليه فأقسمت عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أسامة ومعاذ بن جبل وسعد بن عبادة، فلما دخل ناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تقعقع في صدره فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد بن عبادة أتبكي! فقال: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) (7)، وفي الترمذي: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) (8).
قال الطيبي: (أتي بصيغة العموم ليشمل جميع أصناف الخلق فيرحم البر والفاجر والناطق والبهم والوحوش والطير) (9).
رحمة تغيب عن كثير من الأذهان:
_________
(1) رواه البخاري (5997)، ومسلم (2318).
(2) رواه البخاري (5998)، ومسلم (2317). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) رواه البخاري (1303)، ومسلم (2315).
(4) رواه البخاري (1303).
(5) رواه البخاري (7376)، ومسلم (2319). من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه.
(6) رواه أبو داود (4942)، والترمذي (1923)، وأحمد (2/ 301) (7988)، وابن حبان (2/ 213) (466)، والحاكم (4/ 277). من حديث أنس رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه الترمذي، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
(7) رواه البخاري (1284)، ومسلم (923). من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.
(8) رواه أبو داود (4941)، والترمذي (1924)، وأحمد (2/ 160) (6494)، والحاكم (4/ 175). من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه العراقي في ((الأربعون العشارية)) (ص: 125).
(9) ((تحفة الأحوذي)) (6/ 51).

ومن الرحمة التي تغيب عن كثير من الأذهان رحمة عموم الخلق مسلمهم وكافرهم، قال ابن تيمية في أهل البدع: (ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر –والحيرة مستولية عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم- رحمتهم ورفقت عليهم، وأتوا ذكاء وما أتوا زكاء، وأعطوا فهوما وما أعطوا علوما، وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأحقاف: 26] (1).
وقال ابن القيم:
وانظر بعين الحكم وارحمهم بها ... إذ لا ترد مشيئة الديان
وانظر بعين الأمر واحملهم على ... أحكامه فهما إذا نظران
واجعل لقلبك مقلتين كلاهما ... من خشية الرحمن باكيتان
لو شاء ربك كنت أيضا مثلهم ... فالقلب بين أصابع الرحمن
تنبيهان:
وختاما للتأمل في هذا الاسم الكريم لا بد من التنبيه على أمرين: أولهما: أن رحمة الله الخاصة إنما تحصل بطاعة الله واتباع مرضاته فالله عز وجل يقول: إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56].
وليس لمن عصى الله أن يتعلق باسمه الرحمن ليستمر في العصيان فالله تعالى يقول: نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ [الحجر: 49 - 50]، وقد حج عمر بن عبد العزيز مع سليمان بن عبد الملك فأصابهم برق ورعد كادت تنخلع له قلوبهم، فقال سليمان: هل رأيت مثل هذه الليلة أو سمعت بها، قال: يا أمير المؤمنين هذا صوت رحمة الله فكيف لو سمعت صوت عذاب الله (2). وفي الحديث: ((لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد)) (3).
ثانيهما: أن ما ذكر من آثار وتأملات في هذا الاسم الكريم إنما هي قطرة من بحر وزهرة من بستان، فلو سودت الدفاتر والأوراق كلها ما أدركت جميع ما في هذا الاسم من الأسرار والمعاني، وهكذا كل اسم من أسماء الله تعالى، وإنما هي فتوحات يفتح الله بها لكل عبد بحسبه، ولو اجتمعت فتوحات الخلق جميعا لما أدركوا جميع ما في كل اسم من أسماء الله تعالى. التعبد بالأسماء والصفات لمحات علمية إيمانية لوليد بن فهد الودعان – ص: 95
_________
(1) ((الفتوى الحموية)) (ص: 553) وانظر كلاما جميل عن ذلك في ((مدارج السالكين)) (1/ 459).
(2) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (45/ 153).
(3) رواه مسلم (2755). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ثانيا: الآثار الإيمانية لاسم الله الجميل
إن التعبد باسمه الجميل يقتضي محبته والتأله له، وأن يبذل العبد له خالص المحبة وصفو الوداد، بحيث يسيح القلب في رياض معرفته, وميادين جماله، ويبتهج بما يحصل له من آثار جماله وكماله، فإن الله ذو الجلال والإكرام (1) ...
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جميل يحب الجمال)) (2).
فائدة مهمة: يشرع الدعاء للغير بالجمال، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم. عن عمرو بن أخطب رضي الله عنه قال: استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بإناء فيه ماء وفيه شعرة، فرفعتها فناولته، فنظر إلي (رسول الله) صلى الله عليه وسلم، فقال: ((اللهم جمله)). قال: فرأيته وهو ابن ثلاث وتسعين، وما في رأسه ولحيته شعرة بيضاء. (3)
وعنه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح وجهه، ودعا له بالجمال (4). نسأل الله جل وعلا أن يجمل قلوبنا وألسنتنا وأعمالنا. الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 114
أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالجمال فإنه يحرص على معرفة ربه تعالى بهذا الجمال الذي بهر القلوب والعقول فكان كل جمال في الوجود من آثار صنعته، فما الظن بمن صدر عنه هذا الجمال؟ قال الإمام ابن القيم: من أعز أنواع المعرفة معرفة الرب سبحانه بالجمال وهي معرفة خواص الخلق، وكلهم عرفه بصفة من صفاته، وأتمهم معرفة من عرفه بكماله وجلاله، وجماله سبحانه ليس كمثله شيء في سائر صفاته، ولو فرضت الخلق كلهم على أجملهم صورة وكلهم على تلك الصورة، ونسبت جمالهم الظاهر والباطن إلى جمال الرب سبحانه لكان أقل من نسبة سراج ضعيف إلى قرص الشمس، ويكفي في جماله: (أنه لو كشف عن وجهه لأحرقت سبحاته ما انتهى إليه بصره من خلقه)، ويكفي في جماله أن كل جمال ظاهر وباطن في الدنيا والآخرة فمن آثار صنعته فما الظن بمن صدر عنه هذا الجمال، ويكفي في جماله أنه له العزة جميعاً، والقوة جميعاً، والجود كله والإحسان كله، والعلم كله، والفضل كله، والنور كله، وجهه أشرقت له الظلمات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الطائف: ((أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة)) (5).
ولقد ضل في مفهوم الجمال أقوام قال عنهم الإمام ابن القيم:
ولكن ضل في هذا الموضوع فريقان: فريق قالوا كل ما خلقه جميل، فهو يحب كل ما خلقه، ونحن نحب جميع ما خلقه فلا ينبغي منه شيئا، قالوا: ومن رأى الكائنات منه رآها كلها جميلة وأنشد منشدهم:
وإذا رأيت الكائنات بعينهم ... فجميع ما يحوي الوجود مليح
_________
(1) ((المجموعة الكاملة)) (3/ 228).
(2) رواه مسلم (91).
(3) رواه أحمد (5/ 340) (22932)، وابن حبان (16/ 132) (7172)، والحاكم (4/ 155)، والطبراني (17/ 28) (13735). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 381): رواه أحمد والطبراني إلا أنه قال: ستون سنة، وإسناده حسن، وحسنه ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (5/ 256).
(4) رواه أحمد (5/ 341) (22941)، وأبو يعلى (12/ 240) (6847)، وابن حبان (16/ 131) (7171). وصححه الألباني في ((صحيح الموارد)) (1932)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (1002).
(5) رواه ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (7/ 269)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (49/ 152). من حديث عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما. قال ابن عدي: لم نسمع أن أحدا حدث بهذا الحديث غير أبي صالح الراسبي، وضعفه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (2933).

واحتجوا بقوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] وقوله: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88] وقوله: مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ [الملك: 3]، والعارف عندهم هو الذي يصرح بإطلاق الجمال، ولا يرى في الوجود قبيحاً، وهؤلاء قد عدمت الغيرة لله من قلوبهم، والبغض في الله، والمعاداة فيه، وإنكار المنكر، والجهاد في سبيله وإقامة حدوده، ويرى جمال الصور من الذكور والإناث من الجمال الذي يحبه الله فيتعبدون بفسقهم فيها، وإن كان اتحادياً قال: هي مظهر من مظاهر الحق، ويسميها المظاهر الجميلة.
وقابلهم الفريق الثاني فقالوا: قد ذم الله سبحانه جمال الصور، وتمام القامة والخلقة، فقال عن المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [المنافقون: 4] وقال: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا [مريم: 74] أي أموالاً ومناظر. قال الحسن: هو الصور.
وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) (1). قالوا: ومعلوم أنه لم ينف نظر الإدراك، وإنما نفى نظر المحبة. قالوا: وقد حرم علينا لباس الحرير والذهب وآنية الذهب والفضة، وذلك من أعظم جمال الدنيا، وقال: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه: 131] وفي الحديث: ((البذاذة من الإيمان)) (2). وقد ذم الله المسرفين، والسرف كما يكون في الطعام والشراب يكون في اللباس. وفصل النزاع أن يقال: الجمال في الصورة واللباس والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يحمد ومنه ما يذم، ومنه ما لا يتعلق به مدح ولا ذم. فالمحمود منه ما كان لله وأعان على طاعة الله، وتنفيذ أوامره، والاستجابة له، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجمل للوفود. وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه، فإن ذلك محموداً إذا تضمن إعلاء لكلمة الله، ونصر دينه، وغيظ عدوه، والمذموم منه ما كان للدنيا والرئاسة والفخر والخيلاء والتوسل إلى الشهوات، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه. فإن كثيراً من النفوس ليس لها هم في سوى ذلك، وأما ما لا يحمد ولا يذم فهو ما خلا عن هذين القصدين، وتجرد عن الوصفين. والمقصود أن هذا الحديث الشريف مشتمل على أصلين عظيمين: فأوله معرفة، وآخره سلوك، فيعرف الله سبحانه بالجمال الذي لا يماثله في شيء، ويعبد بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق، فيحب من عبده أن يجمل لسانه بالصدق وقلبه بالإخلاص والمحبة والتوكل، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بإظهار نعمه عليه في لباسه، وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ في الشعور المكروهة والختان وتقليم الأظافر، فيعرفه بصفات الجمال ويتعرف إليه بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة، فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه، ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه، فجمع الحديث قاعدتين: المعرفة والسلوك (3). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي الغامدي -بتصرف – ص: 467
_________
(1) رواه مسلم (4651). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه أبو داود (4161)، وابن ماجه (3340)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5/ 227). من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 381): صحيح، وصحح إسناده السفاريني في ((شرح كتاب الشهاب)) (281).
(3) ((الفوائد)) (ص: 323 - 327).

ثالثا: الآثار الإيمانية لاسم الله الرقيب
من تعبد الله باسمه الرقيب أورثه ذلك المقام المستولي على جميع المقامات، وهو مقام المراقبة لله في حركاته وسكناته، لأن من علم أنه رقيب على حركات قلبه, وحركات جوارحه وألفاظه السرية والجهرية، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة، وكل نفس وكل طرفة عين، واستدام هذا العلم، فإنه لابد أن يثمر له هذا المقام الجليل، وهذا سر عظيم من أسرار المعرفة بالله. انظروا إلى ثمراته وفوائده العظيمة، وإصلاحه للشؤون الباطنة والظاهرة (1). الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 128
1 - يجب على كل مكلف أن يعلم الله جل شأنه هو القريب على عباده، الذي يراقب حركاتهم وسكناتهم، وأقوالهم وأفعالهم بل ما يجول قلوبهم وخواطرهم، لا يخرج أحد من خلقه عن ذلك قال سبحانه وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة: 235]. وقال رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا [غافر: 7].
قال القرطبي: ورقيب بمعنى راقب، فهو من صفات ذاته، راجعة إلى العلم والسمع والبصر، فإن الله تعالى رقيب على الأشياء بعلمه المقدس عن مباشرة النسيان.
ورقيب للمبصرات ببصره الذي لا تأخذه سنه ولا نوم. ورقيب للمسموعات بسمعه المدرك لكل حركة وكلام. فهو سبحانه رقيب عليها بهذه الصفات،، تحت رقبته الكليات والجزئيات، وجميع الخفيات في الأرضين والسماوات، ولا خفي عنده بل جميع الموجودات كلها على نمط واحد في أنها تحت رقبته التي هي من صفته اهـ (2).
فمن كان لذلك ملاحظاً غير غافل عنه، راقب تصرفاته، ومعاملاته وعباداته، وسائر حياته، وفي ذلك صلاح دنياه وآخرته، بل بلوغه أعلى درجات الإيمان كما جاء في حديث جبريل عليه السلام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فأجابه: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (3).
قال ابن القيم: (المراقبة) دوام علم العبد، وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه.
فاستدامته لهذا العلم واليقين: هي المراقبة، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة وكل نفس وكل طرفة عين.
قال: (والمراقبة) هي التعبد باسمه (الرقيب)، الحفيظ، العليم، السميع، البصير.
فمن عقل هذه الأسماء، وتعبد بمقتضاها، حصلت له المراقبة والله أعلم (4). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 378
_________
(1) ((فتح الرحيم الملك العلام)) (ص: 52).
(2) ((الكتاب الأسنى)) (401 - 402).
(3) رواه البخاري (50)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) ((مدارج السالكين)) (2/ 65 - 66) باختصار.

رابعا: الآثار الإيمانية لاسم الله المحسن
إن الله يحب من خلقه التعبد بمعاني أسمائه وصفاته، فهو جميل يحب الجمال، محسن يحب الإحسان، ولذا كتب الإحسان على كل شيء.
عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله محسن يحب الإحسان، فإذا حكمتم فاعدلوا، وإذا قلتم فأحسنوا)) (1).
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتين أنه قال: ((إن الله محسن يحب الإحسان، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة؛ وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، ثم ليرح ذبيحته)) (2).
فإذا كان العبد مأموراً بالإحسان إلى من استحق القتل من الآدميين، وبإحسان ذبحة ما يراد ذبحه من الحيوان، فكيف بغير هذه الحالة؟ (3)
عن كليب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن)) (4).
قال ابن القيم رحمه الله:
والله لا يرضى بكثرة فعلنا ... لكن بأحسنه مع الإيمان
فالعارفون مرادهم إحسانه ... والجاهلون عموا عن الإحسان (5)
والإحسان هو غاية الوجود الإنساني. قال جل جلاله: الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ [الملك: 2]. وقال تعالى: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30]. وقال سبحانه: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7]، (ولم يقل: أكثر عملاً، فإذا عرف العبد أنه خلق لأجل أن يختبر في إحسان العمل، كان حريصاً على الحالة التي ينجح بها في هذا الاختبار؛ لأن اختبار رب العالمين يوم القيامة، من لم ينجح فيه جر إلى النار، فعدم النجاح فيه مهلكة، وقد أراد جبريل عليه السلام أن ينبه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عظم هذه المسألة وشدة تأكدها، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم في حديثه المشهور: يا محمد – صلوات الله وسلامه عليه – أخبرني عن الإحسان؟ أي: وهو الذي خلق الخلق من أجل الاختبار فيه، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن طرقه الوحيدة هي هذا الواعظ الأكبر, والزاجر الأعظم، الذي هو طريق المراقبة والعلم فقال: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (6).) (7).
والإحسان نوعان: إحسان في عبادة الله وهو: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (8). فهذان مقامان: أحدهما: مقام المراقبة، وهو أن يستحضر العبد قرب الله منه واطلاعه عليه؛ فيتخايل أنه لا يزال بين يدي الله، فيراقبه في حركاته, وسكناته, وسره وعلانيته، فهذا مقام المراقبين المخلصين، وهو أدنى مقام الإحسان.
والثاني: أن يشهد العبد بقلبه ذلك شهادة، فيصير كأنه يرى الله ويشاهده، وهذا نهاية مقام الإحسان، وهو مقام العارفين.
_________
(1) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6/ 40) (5735). قال ابن القيسراني في ((ذخيرة الحفاظ)) (4/ 1984): [فيه] محمد بن بلال قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.
(2) رواه الطبراني (7/ 275) (7121). وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1824).
(3) ((بهجة قلوب الأبرار)) (ص: 119).
(4) رواه الطبراني (19/ 199) (16118)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (4/ 335). وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1891، و8037).
(5) ((الكافية الشافية)) (ص: 70).
(6) رواه البخاري (50)، ومسلم (9).
(7) ((العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير)) (5/ 200).
(8) رواه البخاري (50)، ومسلم (9).

فمن وصل إلى هذا المقام، فقد وصل إلى نهاية الإحسان، وصار الإيمان لقلبه بمنزلة العيان، فعرف ربه وأنس به في خلوته، وتنعم بذكره, ومناجاته, ودعائه (1).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أناس من أهل البدو، فقالوا: يا رسول الله! قدم علينا أناس من قرابتنا، فزعموا أنه لا ينفع عمل دون الهجرة والجهاد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حيثما كنتم، فأحسنوا عبادة الله، وأبشروا بالجنة)) (2).
والإحسان إلى المخلوقين (هو بذل المعروف القولي والفعلي والمالي إلى الخلق. فأعظم الإحسان تعليم الجاهلين، وإرشاد الضالين، والنصيحة لجميع العالمين.
ومن الإحسان: إعانة المحتاجين، وإغاثة الملهوفين، وإزالة ضرر المضطرين، ومساعدة ذوي الحوائج على حوائجهم، وبذل الجاه والشفاعة للناس في الأمور التي تنفعهم.
ومن الإحسان المالي: جميع الصدقات المالية، سواء كانت على المحتاجين، أو على المشاريع الدينية العام نفعها.
ومن الإحسان: الهدايا والهبات للأغنياء والفقراء، خصوصاً للأقارب والجيران، ومن لهم حق على الإنسان من صاحب ومعامل وغيرهم.
ومن أعظم أنواع الإحسان: العفو عن المخطئين المسيئين، والإغضاء عن زلاتهم، والعفو عن هفواتهم) (3).
ومن كانت طريقته الإحسان، أحسن الله جزاءه. قال تعالى: هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ [الرحمن: 60]، وهذا استفهام بمعنى التقرير؛ أي: هل جزاء من أحسن في عبادة الله وإلى عباد الله إلا أن يحسن الله جزاءه. وقال تعالى: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26]؛ فالحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم. وقال تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 195] ومحبة الله هي أعلى (4) ما تمناه المؤمنون، وأفضل ما سأله السائلون، وسببها من العبد أن يكون من المحسنين في عبادته وإلى عباده، فينال من محبة الله ورحمته بحسب ما قام به من الإحسان (5).
ومحبته – تبارك وتعالى – لعبده المؤمن شيء فوق إنعامه، وإحسانه، وعطائه، وإثابته، فإن هذا أثر المحبة وموجبها، أما هي فأعظم من ذلك وأشرف. الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 148
_________
(1) ((فتح الباري)) (1/ 211 - 213)، لابن رجب الحنبلي رحمه الله.
(2) رواه البيهقي (9/ 17) (17553).
(3) ((فتح الرحيم الملك العلام)) (ص: 112 - 113).
(4) ((فتح الرحيم الملك العلام)) (ص: 111 - 112).
(5) ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (1/ 59).

خامسا: الآثار الإيمانية لاسم الله الفتاح
1 - إن الفتح والنصر لا يكون إلا من الله سبحانه وتعالى، فهو يفتح على من يشاء ويخذل من يشاء. وقد نسب الله الفتوح لنفسه لينبه عباده على طلب النصر والفتح منه لا من غيره، وأن يعملوا بطاعته, وينالوا مرضاته ليفتح عليهم وينصرهم على أعدائهم. قال تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح: 1] وهو خطاب لرسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، وقال جل ثناؤه: فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ [المائدة: 52]، وقال: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصَّف: 13]. ومن ذلك: ما هيأ الله تعالى للمسلمين من أسباب النصر، والعز والمنعة يوم خيبر.
عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: ((لأعطين هذه الراية غداً رجلاً، يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)) (1).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنكم منصورون، ومصيبون، ومفتوح لكم ... )) (2).
2 - وقد يفتح الله سبحانه أنواع النعم والخيرات على الناس استدراجاً لهم، إذا تركوا ما أمروا به، ووقعوا فيما نهوا عنه، كما قال سبحانه: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44].
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا، على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج)) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44] (3).
3 - ومما يفتحه الله على من يشاء من عباده من الحكمة والعلم والفقه في الدين، وذلك بحسب التقوى والإخلاص والصدق، ولذا نجد أن فهم السلف أعمق وعلمهم أوسع بمراحل ممن جاء بعدهم. قال تعالى: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ [البقرة:282]، وقال تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ [الزُّمر: 22].
فالرب تعالى هو الفتاح العليم الذي يفتح لعباده الطائعين خزائن جوده وكرمه، ويفتح على أعدائه ضد ذلك، وذلك بفضله وعدله.
4 - مفاتيح كل شيء بيد الفتاح جل وعلا، فعلى المؤمن أن يطلب من الله أن يفتح عليه أبواب رحمته.
_________
(1) رواه البخاري (2943)، ومسلم (2406).
(2) رواه الترمذي (2257)، وأحمد (1/ 436) (4156)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 511) (9828)، وابن حبان (11/ 129) (4804)، والبيهقي (3/ 180) (5827). قال الترمذي: حسن صحيح، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (6/ 96)، وقال الألباني: صحيح.
(3) رواه أحمد (4/ 145) (17349)، والطبري في تفسيره (11/ 361). قال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 773): في إسناد أحمد: رشدين بن سعد وهو ضعيف. وإسناد الطبري لا بأس بهما، فهما يشدان من رواية رشدين ويكونان شاهدين له، وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (413): إسناده قوي.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم)) (1).
وفي ختام الكلام على اسم الله الفتاح، نوصي المسلم بأن يكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، يفتح عليه بأكثر مما فتح به على عباده.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من الناس مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر، مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه)) (2). الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 157
1 - الله سبحانه هو الحاكم بين عباده في الدنيا والآخرة بالقسط والعدل، يفتح بينهم في الدنيا بالحق بما أرسل من الرسل، وأنزل من الكتب.
يقول القرطبي رحمه الله في هذا الاسم: ويتضمن من الصفات كل ما لا يتم الحكم إلا به، فيدل صريحاً على إقامة الخلق وحفظهم في الجملة، لئلا يستأصل المقتدرون المستضعفين في الحال.
ويدل على الجزاء العدل على أعمال الجوارح والقلوب في المثال، ويتضمن ذلك أحكاماً وأحوالاً لا تنضبط بالحد، ولا تحصى بالعد.
وهذا الاسم يختص بالفصل والقضاء بين العباد بالقسط والعدل، وقد حكم الله بين عباده في الدنيا بما أنزل من كتابه، وبين من سنة رسوله، وكل حاكم إما أن يحكم بحكم الله تعالى أو بغيره، فإن حكم بحكم الله فأجره على الله، والحاكم في الحقيقة هو الله تعالى، وإن حكم بغير حكم الله فليس بحاكم إنما هو ظالم وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45] (3).
2) ذكرنا أن الله سبحانه يحكم بين عباده في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويفتح بينهم بالحق والعدل، وقد توجهت الرسل إلى الله الفتاح سبحانه أن يفتح بينهم وبين أقوامهم المعاندين فيما حصل بينهم من الخصومة والجدال.
قال نوح عليه الصلاة والسلام قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 117 - 118].
وقال شعيب عليه الصلاة والسلام رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ [الأعراف: 89].
وقال وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [إبراهيم: 15].
وقد استجاب الله سبحانه لرسله ولدعائهم ففتح بينهم وبين أقوامهم بالحق، فنجي الرسل وأتباعهم وأهلك المعاندين المعرضين عن الإيمان بآيات الله وهذا من الحكم بينهم في الحياة الدنيا.
3) وكذا يوم القيامة فإن الله سبحانه هو الفتاح الذي يحكم بين عباده فيما كانوا يختلفون فيه في الدنيا.
_________
(1) رواه ابن ماجه (634)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 27) (9918) وابن حبان (5/ 399) (2050)، والحاكم (1/ 325)، والبيهقي (2/ 442) (4119). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال البوصيري (1/ 123): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وقال ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/ 275): حسن لشواهده.
(2) رواه ابن ماجه (195)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 455). وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).
(3) ((الكتاب الأسنى)).

قال سبحانه قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ [سبأ: 26] ففي ذلك اليوم يقضي الله سبحانه ويفصل بين العباد، فيتبين الضال من المهتدي، وهو سبحانه لا يحتاج إلى شهود ليفتح بين خلقه، لأنه لا تخفى عليه خافية وما كان غائبا عما حدث في الدنيا فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف: 7]، وقال وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61].
وقد سمى الله يوم القيامة بيوم الفتح في قوله سبحانه قُلْ يَوْمَ الفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ [السجدة: 29].
4) إن الله سبحانه متفرد بعلم مفاتح الغيب التي ذكرها في قوله تعالى وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام: 59].
وقد عددها في قوله سبحانه إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34].
قال القرطبي: مفاتح جمع مفتح هذه اللغة الفصيحة ويقال مفتاح، ويجمع مفاتيح، ويجمع مفاتيح، المفتح عبارة عن كل ما يحل غلقاً، محسوساً كان كالقفل على البيت، أو معقولاً كالنظر، ثم قال: وهو الآية استعارة على التوصل إلى الغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب عن الإنسان.
ولذلك قال بعضهم: هو مأخوذ من قول الناس افتح علي كذا، أي أعطني أو علمني ما أتوصل إليه به، فالله تعالى عنده علم الغيب وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه ومن شاء حجبه عنها حجبه، ولا يكون ذلك من إفاضته إلا على رسوله بدليل قوله تعالى وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران: 179] وقوله عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ [الجن: 26 - 27] (1).
وقال في (الأسنى): والفتح في اللغة حل ما استغلق من المحسوسات والمعقولات، والله سبحانه هو (الفتاح) لذلك، فيفتح ما تغلق على العباد من أسبابهم، فيغني فقيراً، ويفرج عن مكروب، ويسهل مطلباً وكل ذلك يسمى فتحاً، لأن الفقير المتغلق عليه باب رزقه فيفتح بالغنى، وكذلك المتحاكمان إلى الحاكم، يتغلق عليهما وجه الحكم فيفتحه الحاكم عليهما، ولذلك سمي الحاكم فتاحاً لأنه يحل ما استغلق من الخصوم، تقول: افتح بيننا، أي احكم، ومنه قول شعيب: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ [الأعراف: 89] أي: احكم، وَأَنْتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ أي الحاكمين (2).
5) أن الفتح والنصر من الله سبحانه فهو يفتح على من يشاء ويخذل من يشاء، وقد نسب الله الفتوح لنفسه، لينبه عباده على طلب النصر والفتح منه لا من غيره، وأن يعملوا بطاعته وينالوا مرضاته، ليفتح عليهم وينصرهم على أعدائهم. قال تعالى إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح: 1]، وهو خطاب لرسوله الأمين صلى الله عليه وسلم.
_________
(1) ((الجامع لأحكام القرآن)) (7/ 1 - 2).
(2) ((الكتاب الأسنى)).

وقال جل ثناؤه فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ [المائدة: 52]، وقال وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ [الصَّف: 13].
6) أن الله بيده مفاتيح خزائن السماوات والأرض. قال سبحانه.
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الشُّورى: 12]، فما يفتحه من الخير للناس لا يملك أحد أن يغلقه عنهم، وما يغلقه فلا يملك أحد أن يفتحه عليهم كما قال جل وعلا مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [فاطر: 2].
فلو فتح الله المطر على الناس فمن ذا الذي يحبسه عنهم، حتى لو أدى المطر إلى إغراقهم وإهلاكهم مثلما حدث لقوم نوح عليه الصلاة والسلام، فقد وصلت المياه إلى رؤوس الجبال، فما استطاعوا أن يردوها عن أنفسهم، ولو حبس عن عباده القطر والنبات سنين طويلة لما استطاعوا أيضا أن يفتحوا ما أغلقه الله سبحانه وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس: 107].
7) وقد يفتح الله سبحانه أنواع النعم والخيرات على الناس استدراجاً لهم، إذا تركوا ما أمروا به، ووقعوا فيما نهوا عنه كما قال سبحانه فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44].
8) ومما يفتحه الله على من يشاء من عباده الحكمة والعلم والفقه في الدين، ويكون ذلك بحسب التقوى والإخلاص والصدق، ولذا تجد أن فهم السلف أعمق وعلمهم أوسع ممن جاء بعدهم وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ [البقرة: 282].
وقال تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الزُّمر: 22].
قال القرطبي: وهذا الفتح والشرح ليس له حد، وقد أخذ كل مؤمن منه بحظ، ففاز الأنبياء بالقسم الأعلى، ثم من بعدهم الأولياء، ثم العلماء، ثم عوام المؤمنين، ولم يخيب الله منه سوى الكافرين.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم باعدني من الشيطان)) (1). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 194
_________
(1) رواه مسلم (713). من حديث أبي حميد أو أبو أسيد الساعدي رضي الله عنه.

سادسا: الآثار الإيمانية لاسم الله الشاكر والشكور
أولاً: إن العبد من حين استقر في الرحم إلى وقته، يتقلب في نعم الله ظاهراً وباطناً ليلاً ونهاراً، ويقظة ومناماً، سراً وعلانية (1)، في كل الآنات، وفي جميع اللحظات. وتواتر إحسان الله إليه على مدى الأنفاس.
قال ابن القيم رحمه الله:
يكفيك رب لم تزل في فضله ... متقلباً في السر والإعلان (2)
جل وعلا لا تنفد عطاياه، ولا تنقطع آلاؤه، ولا تنتهي نعماؤه، قال جل جلاله: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20]. والنعم الظاهرة بعضها وقع، وبعضها منتظر وقوعه. والنعم الباطنة بعضها نعلمه، وبعضها نحاول أن نعلمه، وبعضها لا نعلمه أبداً.
فلو اجتهد العبد في إحصاء أنواع النعم لما قدر، كما قال الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34] (أي وإن تتعرضوا لتعداد النعم التي أنعم الله تعالى بها عليكم إجمالاً، فضلاً عن التفصيل، لا تطيقوا إحصاءها بوجه من الوجوه، ولا تقوموا بحصرها على حال من الأحوال.
ومن المعلوم أنه لو رام فرد من أفراد العباد أن يحصي ما أنعم الله به عليه في خلق عضو من أعضائه, أو حاسة من حواسه لم يقدر على ذلك قط، ولا أمكنه أصلاً، فكيف بما عدا ذلك من النعم في جميع ما خلقه الله في بدنه؟! فكيف بما عدا ذلك من النعم الواصلة إليه في كل وقت على تنويعها واختلاف أجناسها؟! (3)
وإن كل جزء من أجزاء الإنسان لو ظهر فيه أدنى خلل وأيسر نقص، لنغص النعم على الإنسان, وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الخلل، فهو سبحانه يدبر هذا الإنسان على الوجه الملائم له، مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك، فكيف يطيق حصر بعض نعم الله عليه, أو يقدر على إحصائها, أو يتمكن من شكر أدناها؟ وأي شكر يقابل هذا الإنعام؟ فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه، هذا إلى ما يصرف عنه من المضرات وأنواع الأذى التي تقصده، ولعلها توازن النعم في الكثرة، والعبد لا شعور له بأكثرها أصلاً، والله سبحانه يكلؤه منها بالليل والنهار؛ كما قال تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ [الأنبياء: 42]، فهو سبحانه منعم عليهم بكلاءتهم وحفظهم وحراستهم مما يؤذيهم بالليل والنهار وحده، لا حافظ لهم غيره. هذا مع غناه التام عنهم وفقرهم التام إليه من كل وجه (4).
ولو عمل العبد من الصالحات أعمال الثقلين، فإن نعم الله عليه أكثر، وأدنى نعمة من نعم الله تستغرق جميع أعماله.
ما ثم إلا العجز عن شكر ربنا ... كما ينبغي سبحانه متفضلا (5)
فينبغي على العبد أن يكون عبداً شكوراً, يشكر الله على وافر نعمه، وجميل إحسانه، ويبالغ في الشكر، (على النعم الدنيوية، كصحة الجسم وعافيته، وحصول الرزق وغير ذلك. ويشكره ويثني عليه، بالنعم الدينية، كالتوفيق للإخلاص، والتقوى، بل نعم الدين، هي النعم على الحقيقة) (6). فلله الحمد والمنة، الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي لا يقدرون لها على جزاء ولا شكور (7).
فعلى العبد أن يكثر من الشكر، بالقلب واللسان، والعمل بالجوارح. لعله يشكر الله على بعض مننه العظيمة، وآلائه الجسيمة، وإحسانه التام، وخيره المدرار، وعطائه العظيم، وإكرامه الجليل.
_________
(1) ((الروح)) (ص: 298).
(2) ((الكافية الشافية)) (ص: 287).
(3) ((فتح البيان)) (7/ 119 - 120).
(4) ((طريق الهجرتين)) (ص: 570).
(5) ((مجالس في تفسير قوله تعالى: لقد من الله على المؤمنين (ص: 468).
(6) انظر: ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 1023).
(7) انظر: ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 1311).

فالشكر بالقلب: الاعتراف بالنعم الباطنة والظاهرة للمنعم، وأنها منه وبفضله. وأنها وصلت إليه من غير ثمن بذله فيها, ولا وسيلة منه توسل بها إليه, ولا استحقاق منه لها، وأنها لله في الحقيقة لا للعبد (1)، قال جل وعلا: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ [النحل: 53].
أي ما يلابسكم من النعم على اختلاف أنواعها فهي منه سبحانه، والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به، وإما دنيوية (2). فما (طاب العيش إلا بمنته، وكل نعمة منه في الدنيا والآخرة، فهي منه يمن بها على من أنعم عليه) (3).
فأشرف الناس منزلة: أعرفهم بهذه المنة، وأعظمهم إقراراً بها، وذكراً لها، وشكراً عليها، ومحبة لله لأجلها، فهل يتقلب أحد قط إلا في منته؟
وقد جاء في الحديث ما يبين عظمة تذكر النعمة والاعتراف بها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. ومن قالها من النهار موقناً بها، فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة)) (4).
ويكرر صلى الله عليه وسلم الاعتراف بالنعمة في أدبار الصلوات في قوله: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون)) (5).
فلله النعمة الظاهرة والباطنة، وله الفضل في كل شيء, وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة: 105].
فالعبد لا خروج له عن نعمته وفضله ومنه وإحسانه طرفة عين، لا في الدنيا ولا في الآخرة (6). فهو المان بهدايته للإيمان، وتيسيره للأعمال، وإحسانه بالجزاء، كل ذلك مجرد منته وفضله بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ [الحجرات: 17] (7). فإيجادهم نعمة منه، وجعلهم أحياء ناطقين نعمة منه، وإعطاؤهم الأسماع والأبصار والعقول نعمة منه، وإدرار الأرزاق عليهم على اختلاف أنواعها وأصنافها نعمة منه، وتعريفهم نفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله نعمة منه، وإجراء ذكره على ألسنتهم ومحبته ومعرفته على قلوبهم نعمة منه، وحفظهم بعد إيجادهم نعمة منه، وقيامه بمصالحهم دقيقها وجليلها نعمة منه، وهدايتهم إلى أسباب مصالحهم ومعاشهم نعمة منه. وذكر نعمه على سبيل التفصيل لا سبيل إليه، ولا قدرة للبشر عليه (8).
والشكر باللسان: الثناء بالنعم، وذكرها، وتعدادها، وإظهارها. قال سبحانه وتعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضُّحى: 11].
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر: ((من لم يشكر القليل، لم يشكر الكثير؛ ومن لم يشكر الناس، لم يشكر الله. التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر)) (9).
_________
(1) ((الفوائد)) (ص: 167).
(2) ((فتح البيان)) (7/ 257).
(3) ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 33).
(4) رواه البخاري (6306). من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
(5) رواه مسلم (594). من حديث عبدالله بن الزبير رضي الله عنه.
(6) ((شفاء العليل)) (1/ 153).
(7) ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 515).
(8) ((شفاء العليل)) (1/ 345).
(9) رواه أحمد (4/ 278) (18472)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 516)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 103): إسناده لا بأس به، وحسنه ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 332)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 220): رجاله ثقات.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)) (1).
وعن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب دون، فقال: ((ألك مال؟ قال: نعم. قال: من أي المال؟ قال: قد آتاني الله من الإبل, والغنم, والخيل, والرقيق. قال: فإذا آتاك الله مالاً، فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته)) (2).
فإذا أنعم الله عليك بمال فليكن عليك أثر هذا المال في لباسك، في بيتك، في مركوبك، في صدقاتك، في نفقاتك؛ لير أثر نعمة الله عليك في هذا المال. وإذا أنعم الله عليك بعلم فلير عليك أثر هذا العلم من تعليمه ونشره بين الناس، والدعوة إلى الله، وغير ذلك (3).
والشكر بالجوارح: أن لا يستعان بالنعم إلا على طاعة الله، وأن يحذر من استعمالها في شيء من معاصيه.
قال سبحانه وتعالى: اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا [سبأ: 13].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتفطر قدماه ويقول: ((أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟!)) (4).
فسمى الأعمال شكراً، وأخبر أن شكره قيامه بها ومحافظته عليها (5).
العجب ممن يعلم أن كل ما به من النعم من الله، ثم لا يستحي من الاستعانة بها على ارتكاب ما نهاه!
ولقد أحسن القائل:
أنالك رزقه لتقوم فيه ... بطاعته وتشكر بعض حقه
فلم تشكر لنعمته ولكن ... قويت على معاصيه برزقه
ومن كثرت عليه النعم فليقيدها بالشكر، وإلا ذهبت.
إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم
وحافظ عليها بشكر الإله ... فشكر الإله يزيل النقم
ولو لم يكن من فضل الشكر إلا أن النعم به موصولة، والمزيد لها مرتبط به؛ لكان كافياً، فهو حافظ للموجود من النعم، جالب للمفقود منها بالمزيد. قال سبحانه وتعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7]، نعمة إلى نعمة تفضلاً من الكريم المنان.
فلن ينقطع المزيد من الله تعالى، حتى ينقطع الشكر من العبد.
(فمن شكر الله على ما رزقه وسع الله عليه في الرزق، ومن شكر الله على ما أقدره عليه من طاعته، زاده من طاعته، ومن شكره على ما أنعم من الصحة، زاده الله صحة إلى غير ذلك) (6).
فبالشكر تثبت النعم ولا تزول، ويبلغ الشاكر من المزيد فوق المأمول. فمتى لم تر حالك في مزيد، فاستقبل الشكر.
وإذا وفقك الله للشكر، فهذه نعمة تحتاج إلى شكر جديد؛ فإن شكرت، فإنها نعمة تحتاج إلى شكر ثان، وهلم جرا. فلا يقدر العباد على القيام بشكر النعم. وحقيقة الشكر الاعتراف بالعجز عن الشكر، كما قيل:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الأيام واتصل العمر
ولهذا نقول: سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
والرب سبحانه وتعالى يعطي مع استغنائه عن العبد، والعبد يشكر مع افتقاره إلى الرب. فهل يكافئ شكر المحتاج الفقير عطاء الغني الكريم؟!
_________
(1) رواه الترمذي (2819). وقال: حسن، وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 518): إسناده جيد إلى عمرو حديثه حسن، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 271): له شاهد.
(2) رواه أبو داود (4063)، والنسائي (8/ 181)، والطبراني (19/ 280) (16285). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (9/ 118): رجاله رجال الصحيح، وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 746) كما أشار إلى ذلك في المقدمة.
(3) ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 524).
(4) رواه البخاري (4837). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(5) ((طريق الهجرتين)) (ص: 621).
(6) ((فتح البيان)) (7/ 88 - 89).

ولكن الله تعالى رضي منا بشهود المنة ورؤية التقصير في القيام بشكره، كما في حديث سيد الاستغفار: ((أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي)) (1).
والمعنى: أقر لك، وألتزم بنعمتك علي، وأقر وألتزم بذنبي، فمنك النعمة والإحسان والفضل، ومني الذنب والإساءة.
فالعبد دائماً بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى الشكر، وذنب منه يحتاج فيه إلى الاستغفار، وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائماً، فإنه لا يزال يتقلب في نعم الله وآلائه، ولا يزال محتاجاً إلى التوبة والاستغفار.
والشاكرون هم الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً. قال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] (2) الذين يقرون بنعمة ربهم، ويخضعون لله، ويحبونه، ويصرفونها في طاعة مولاهم ورضاه (3). وقال سبحانه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [البقرة: 243]؛ فضله وإنعامه، ولا يعرفون حق إحسانه (فأكثر الخلق منحرفون عن شكر المنعم، مشتغلون باللهو واللعب، قد رضوا لأنفسهم بأسافل الأمر، وسفاسف الأخلاق) (4). فأكثرهم لم يشكروا الله تعالى على ما أولاهم من النعم، ودفع عنهم من النقم (5).
ثانياً: ومما ينبغي أن يعلم بأن (منفعة الشكر ترجع إلى العبد دنياً وآخرة، لا إلى الله، والعبد هو الذي ينتفع بشكره، لأن نفع ذلك وثوابه راجع إليه وفائدته حاصلة له، إذ به تستبقى النعمة، وبسببه يستجلب المزيد لها من الله سبحانه، كما قال تعالى: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل: 40]، وقال تعالى: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان: 12]، غني عن أعماله، (غني عن شكره غير محتاج إليه، حميد مستحق للحمد من خلقه، لإنعامه عليهم بنعمه التي لا يحاط بقدرها، ولا يحصر عددها، وإن لم يحمده أحد من خلقه، فإن كل موجود ناطق بحمده بلسان الحال) (6).
فشكر العبد إحسان منه إلى نفسه دنيا وأخرى، فإنه إنما هو محسن إلى نفسه بالشكر، لا أنه مكافئ به لنعم الرب، فالرب تعالى لا يستطيع أحد أن يكافئ نعمه أبداً، ولا أقلها، ولا أدنى نعمة من نعمه، فإنه تعالى هو المنعم المتفضل، الخالق للشكر والشاكر وما يشكر عليه، فلا يستطيع أحد أن يحصي ثناء عليه، فإنه هو المحسن إلى عبده بنعمه، وأحسن إليه بأن أوزعه شكرها.
ومن تمام نعمته سبحانه، وعظيم بره وكرمه وجوده، محبته له على هذا الشكر، ورضاه منه به، وثناؤه عليه به، ومنفعته وفائدته مختصة بالعبد، لا تعود منفعته على الله، وهذا غاية الكرم الذي لا كرم فوقه، ينعم عليك ثم يوزعك شكر النعمة، ويرضى عنك، ثم يعيد إليك منفعة شكرك، ويجعله سبباً لتوالي نعمه واتصالها إليك، والزيادة على ذلك منها (7).
وتأمل قوله تعالى: مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء: 147].
كيف تجد في ضمن هذا الخطاب أن شكره تعالى يأبى تعذيب عباده بغير جرم، كما يأبى إضاعة سعيهم باطلاً، فالشكور لا يضيع أجر محسن، ولا يعذب غير مسيء (8).
_________
(1) جزء من حديث الاستغفار؛ رواه البخاري (6306). من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
(2) ((المجموعة الكاملة)) (5/ 428)، للعلامة السعدي رحمه الله.
(3) ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 1041).
(4) ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 1310).
(5) ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 946).
(6) ((فتح القدير)) (4/ 338).
(7) ((تهذيب مدارج السالكين)) (ص: 615 - 616).
(8) ((عدة الصابرين)) (ص: 336).

ثالثاً: على العبد أن يشكر من أجرى الله سبحانه النعمة على يده، قال الله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ [لقمان: 14]، فأمر بشكره ثم بشكر الوالدين إذ كانا سبب وجوده في الدنيا، وسهرا وتعبا في تربيته وتغذيته، فيحسن إليهم بالقول الكريم، والخطاب اللطيف، والفعل الجميل، والتواضع لهما، وإكرامهما، وإجلالهما، والقيام بمؤونتهما، واجتناب الإساءة إليهما من كل وجه، بالقول والفعل. فمن عقهما أو أساء إليهما فما شكرهما على صنيعهما، بل جحد أفضالهما عليه، ومن لم يشكرهما فإنه لم يشكر الله الذي أجرى تلك النعم على أيديهما، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يشكر الله، من لا يشكر الناس)) (1).
أي: من كان من طبعه كفران نعمة الناس، وترك الشكر لمعروفهم فلن يكون شاكراً لله، ولا يوفق لذلك، ومن عجز عن القليل عجز عن الكثير من باب أولى، وقد قال الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا [النحل: 18]، فكيف يؤدي العاجز شكر هذه النعم التي لا تحصى؟! إذا لم يؤد القليل (2).
فلابد من مكافأة المحسن وشكره على صنيعه.
عن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي رضي الله عنه. أن النبي صلى الله عليه وسلم استلف منه – حين غزا حنيناً – ثلاثين أو أربعين ألفاً، فلما قدم قضاها إياه؛ ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((بارك الله لك في أهلك ومالك؛ إنما جزاء السلف الوفاء والحمد)) (3).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له، حتى تروا أنكم قد كافأتموه)) (4).
قوله: ((من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)) بأن أعطاك شيئا من المال، أو أكرمك، أو أعانك على شيء تحتاج إليه، هذا معروف؛ لأنه غير واجب عليه، وإنما بذله معروفاً وإحساناً.
قوله: (فكافئوه) بأن تصنع إليه معروفاً مثل معروفه، من باب المكافئة، فالمؤمن يكون كريماً يكافئ على المعروف ولا يجحده ولا ينكره، بل يكافئ عليه، والله تعالى يقول: هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ [الرحمن: 60]؛ فإذا لم تجد شيئاً تكافئه به عن معروفه، فعليك بالدعاء له (فادعوا له)، فادعوا الله له بالخير على معروفه وإحسانه إليك (5).
_________
(1) رواه أبو داود (4811)، وأحمد (2/ 295) (7926)، وابن حبان (8/ 198) (3407)، وأبو نعيم فى ((حلية الأولياء)) (7/ 165)، والبيهقي (6/ 182) (11812). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه ابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (117)، وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 330): إسناده صحيح، وقال السفاريني الحنبلي في ((شرح كتاب الشهاب)) (147): له طرق يقوي بعضها بعضا.
(2) ((شرح صحيح الأدب المفرد)) (1/ 255).
(3) رواه ابن ماجه (1983)، وأحمد (4/ 36) (16457)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (7/ 1119). وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).
(4) رواه أبو داود (1672)، والنسائي (5/ 82)، وأحمد (2/ 68) (5365)، وابن حبان (8/ 199) (3408)، والحاكم (1/ 572). والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه النووي في ((المجموع)) (6/ 245)، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (إسناده صحيح).
(5) ((تسهيل الإلمام بفقه الأحاديث من بلوغ المرام)) (6/ 198).

عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صنع إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيراً، فقد أبلغ في الثناء)) (1).
وهذا لا يعني أن ينسى العبد المعطي الأول، (لأن النعم كلها لله تعالى، وكما قال تعالى: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ [النحل: 53]، وقال تعالى: كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ [الإسراء: 20]؛ فالله سبحانه هو المعطي على الحقيقة، فإنه هو الذي خلق الأرزاق وقدرها، وساقها إلى من يشاء من عباده؛ فالمعطي هو الذي أعطاه، وحرك قلبه لعطاء غيره، فهو الأول والآخر) (2).
فمن سلك هذا المسلك العظيم استراح من عبودية الخلق ونظره إليهم، وأراح الناس من لومه وذمه إياهم، وتجرد التوحيد في قلبه، فقوي إيمانه وانشرح صدره، وتنور قلبه، ومن توكل على الله فهو حسبه (3).
رابعاً: ينبغي على العبد (أن يتدبر نعم الله عليه، ويستبصر فيها، ويقيسها بحال عدمها. فإنه إذا وازن بين حالة وجودها، وبين حالة عدمها، تنبه عقله لموضع المنة. بخلاف من جرى مع العوائد، ورأى أن هذا أمر لم يزل مستمراً، ولا يزال. وعمي قلبه عن الثناء على الله، بنعمه، ورؤية افتقاره إليه في كل وقت. فإن هذا لا يحدث له فكرة شكر) (4).
وإن خصلة تكون لها كل هذه القيمة، وتكون فيها كل هذه الفائدة، لحقيق أن يتمسك بها من غير إغفال بحال.
(اللهم إنا نشكرك على كل نعمة أنعمت بها علينا مما لا يعلمه إلا أنت، ومما علمناه، شكراً لا يحيط به حصر ولا يحصره عد، وعدد ما شكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان) (5).
فائدة مهمة: يشرع سجود الشكر عند النعم المتجددة، (شكراً لله عليها، وخضوعاً له، وذلاً، في مقابلة فرحة النعم, وانبساط النفس لها، وذلك من أكبر أدوائها، فإن الله سبحانه لا يحب الفرحين ولا الأشرين، فكان دواء هذا الداء الخضوع والذل والانكسار لرب العالمين، وكان في سجود الشكر من تحصيل هذا المقصود ما ليس في غيره) (6).
عن أبي بكرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا جاءه أمر سرور، أو بشر به، خر ساجداً شاكراً لله. (7) الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 178
_________
(1) رواه الترمذي (2035)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 53) (10008)، وابن حبان (8/ 202) (3413). قال الترمذي: حسن جيد غريب، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 222) كما قال ذلك في المقدمة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).
(2) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 92).
(3) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 93).
(4) ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 872).
(5) ((فتح البيان)) (7/ 120).
(6) ((إعلام الموقعين)) (2/ 449).
(7) رواه أبو داود (2774). وسكت عنه، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).

سابعا: الآثار الإيمانية لاسم الله الحفيظ
إن التعبد باسم الله الحفيظ يقتضي من العبد أن يحفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك: هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده، فلا يتجاوز ما أمر به، وأذن فيه، إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلك، فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه، قال: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ [ق: 32 - 33]؛ وفسر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامر الله، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها.
ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله: الصلاة، وقد أمر الله بالمحافظة عليها فقال: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى [البقرة: 238] ومدح المحافظين عليها بقوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج: 34].
وكذلك الطهارة، فإنها مفتاح الصلاة. عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)) (1).
فإن العبد تنتقض طهارته ولا يعلم بذلك إلا الله، فالمحافظة على الوضوء للصلاة، دليل على ثبوت الإيمان في القلب.
ومما يؤمر بحفظه الأيمان، قال الله: وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89]، فإن الأيمان يقع الناس فيها كثيراً، ويهمل كثير منهم ما يجب بها، فلا يحفظه، ولا يلتزمه.
فمن حفظ أيمانه، دل على دخول الإيمان في قلبه.
وقد ورد التشديد العظيم في الحلف الكاذب، ولا يصدر كثرة الحلف بالله إلا من الجهل بالله، وقلة هيبته في الصدور.
ومما يلزم المؤمن حفظه: رأسه وبطنه. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استحيوا من الله حق الحياء قال: قلنا: يا رسول الله، إنا نستحيي والحمد لله؛ قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى؛ ومن أراد الآخرة، ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك، فقد استحيا من الله حق الحياء)) (2).
وحفظ الرأس وما وعى: يدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات، وحفظ البطن وما حوى: يتضمن حفظ القلب عن الإصرار على محرم. قال الله: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة: 235]، وقد جمع الله ذلك كله في قوله: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 36].
ويدخل في حفظ البطن وما حوى: حفظه من إدخال الحرام إليه، من المأكولات والمشروبات.
ومما يجب حفظه من المنهيات: حفظ اللسان والفرج.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حفظ ما بين فقميه وفرجه، دخل الجنة)) (3).
وقد أمر الله بحفظ الفروج خاصة، ومدح الحافظين لها، فقال: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور: 30]، وقال: فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 35]. الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 214
_________
(1) رواه ابن ماجه (226)، وأحمد (5/ 276) (22432)، والطبراني (2/ 101) (1444). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (1/ 47): هذا الحديث رجاله ثقات، أثبات إلا أنه منقطع بين سالم وثوبان، فإنه لم يسمع منه بلا خلاف. لكن له طريق أخرى متصلة، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 181) كما قال ذلك في المقدمة، وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/ 143): له سند جيد.
(2) رواه الترمذي (2458). وقال: هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).
(3) رواه أحمد (4/ 398) (19577)، وأبو يعلى (13/ 206) (7275)، والحاكم (4/ 399)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 269). وقال: رواته ثقات، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 301): رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني بنحوه ورجال الطبراني وأبي يعلى ثقات وفي رجال أحمد راو ولم يسم وبقية رجاله ثقات والظاهر أن الرواي الذي سقط عنه أحمد هو سليمان بن يسار، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع الصغير)) (6202).

ثامنا: الآثار الإيمانية لاسم الله الكافي
إذا علم العبد أن الله هو الكافي عباده رزقاً ومعاشاً وقوتاً، وحفظاً وكلاءة، ونصراً وعزاً، اكتفى بمعونته عمن سواه.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ومن استكفى كفاه الله عز وجل)) (1).
فمن وقع في شدة وضائقة، فليطلب من الله الكفاية؛ فإن الله يكفيه.
فإن الغلام المؤمن لما أبى أن يرجع عن دينه، دفعه الملك إلى نفر من أصحابه – أي جماعة من الناس – وقال لهم: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، جبل معروف عندهم شاهق رفيع؛ وقال لهم: إذا بلغوا ذروته فاطرحوه يعني على الأرض، ليقع من رأس الجبل فيموت، بعد أن تعرضوا عليه أن يرجع عن دينه، فإن رجع وإلا فاطرحوه.
فلما بلغوا قمة الجبل فطلبوا منه أن يرجع عن دينه أبى، لأن الإيمان قد وقر في قلبه ولا يمكن أن يتحول أو يتزحزح؛ فلما هموا أن يطرحوه قال: (اللهم اكفنيهم بما شئت) دعوة مضطر مؤمن: (اللهم اكفنيهم بما شئت) أي: بالذي تشاء ولم يعين، فرجف الله بهم الجبل فسقطوا وهلكوا. وجاء الغلام إلى الملك فقال: ما الذي جاء بك؟ أين أصحابك؟ فقال: قد كفانيهم الله، ثم دفعه إلى جماعة آخرين وأمرهم أن يركبوا البحر في قرقور –أي سفينة-؛ فإذا بلغوا لجة البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه، فإن لم يفعل رموه في البحر.
فلما توسطوا من البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه –وهو الإيمان بالله- فقال: لا! فقال: (اللهم اكفنيهم بما شئت) فانقلبت السفينة وغرقوا وأنجاه الله (2) (3).
ومن كان عليه دين، فليتضرع إلى الله تعالى ليكفيه همَّ الدين.
عن علي رضي الله عنه: أن مكاتباً جاءه، فقال: إني قد عجزت عن كتابتي؛ فأعني، قال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كان عليك مثل جبل صير ديناً؛ أداه الله عنك؟! قال: ((قل: اللهم! اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك)) (4).
فنسأل الله تعالى، وهو خير مسؤول، أن يكفينا وإياكم هم الدنيا والآخرة، فإنه الكافي لكل مهم، وبيده الخلق والأمر، وهو على كل شيء قدير. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 220
_________
(1) رواه النسائي (5/ 98)، وأحمد (3/ 9) (11075). وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): حسن صحيح.
(2) رواه مسلم (3005).
(3) ((شرح رياض الصالحين)) (1/ 122 - 123).
(4) رواه الترمذي (3563)، وأحمد (1/ 153) (1318)، والحاكم (1/ 721). قال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 15) كما قال ذلك في المقدمة.

تاسعا: الآثار الإيمانية لاسم الله الحيي
اعلم – بارك الله فيك – بأن أعظم الحياء ينبغي أن يكون من الله تعالى، الذي نتقلب في نعمه وإحسانه الليل والنهار، ولا نستغني عنه طرفة عين، ونحن تحت سمعه وبصره، لا يغيب عنه من حالنا وقولنا وفعلنا شيء. فهو الذي خلقنا وهو الذي رزقنا، فنطعم من خيره، ونتنفس من جوه، ونعيش على أرضه، ونستظل بسمائه، وآلاؤه غمرتنا من المهد إلى اللحد وإلى ما بعد ذلك من خلود طويل في الجنة إن شاء الله تعالى. فكيف لا نستحي منه؟ وكيف نقابل كل هذه النعم بالإساءة؟!
ويتولد الحياء من (المعرفة بعظمة الله وجلاله وقدرته، لأنه إذا ثبت تعظيم الله في قلب العبد، أورثه الحياء من الله والهيبة له، فغلب على قلبه ذكر إطلاع الله العظيم إلى ما في قلبه وجوارحه، وذكر المقام غدا بين يديه، وسؤاله إياه عن جميع أعمال قلبه وجوارحه، وذكر دوام إحسانه إليه، وقلة الشكر منه لربه، فإذا غلب ذكر هذه الأمور على قلبه، هاج منه الحياء من الله، فاستحيى من الله أن يطلع على قلبه، وهو معتقد لشيء مما يكره، أو على جارحة من جوارحه، يتحرك بما يكره، فطهر قلبه من كل معصية، ومنع جوارحه من جميع معاصيه) (1).
فمن استحيى من ربه حق الحياء، حفظ القلب وما وعى، والرأس وما وحوى. وعرف ما خلق له من عبادة ربه، فآثر ما يبقى على ما يفنى (2).
عن سعيد بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه: أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: ((أوصيك أن تستحي الله عز وجل، كما تستحي رجلاً صالحاً من قومك)) (3).
فقل لنفسك: لو كان رجل من صالحي قومي يراني، أو يسمع كلامي، لاستحيت منه، فكيف لا أستحي من ربي تبارك وتعالى، ثم لا آمن تعجيل عقوبته وكشف ستره؟!
فإن من علم أن الله يراه حيث كان، وأنه مطلع على باطنه وظاهره وسره وعلانيته، واستحضر ذلك في خلواته، أوجب له ذلك ترك المعاصي في السر.
قال القحطاني رحمه الله:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة ... والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها ... إن الذي خلق الظلام يراني (4)
وكان ابن السماك ينشد:
يا مدمن الذنب أما تستحي ... والله في الخلوة ثانيكا
عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: ((احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك)) قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: ((إن استطعت أن لا يرينها أحد، فلا يرينها)) قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان أحدنا خالياً؟ قال: ((الله أحق أن يستحيى منه من الناس)) (5).
فقد (أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل: أن يستر عورته، وإن كان خالياً لا يراه أحد، أدباً مع الله، على حسب القرب منه، وتعظيمه وإجلاله، وشدة الحياء منه، ومعرفة وقاره) (6).
فإن أصل أعمال القلوب الحياء، فمن (اتصف بالحياء من الله، فقد انصبغ قلبه بمعرفة الله وحبه، وخوفه ورجائه، والتحبب إليه مهما أمكن) (7). الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 246
_________
(1) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 826).
(2) ((المجموعة الكاملة)) (6/ 45)، للعلامة السعدي رحمه الله.
(3) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 145)، وأحمد في ((الزهد)) (ص: 46). وصححه الألباني في ((صحيح الجامع الصغير)) (2541).
(4) ((نونية القحطاني)) (ص: 90).
(5) رواه أبو داود (4016)، والترمذي (2794)، وابن ماجه (1572)، وأحمد (5/ 3) (20046)، والحاكم (4/ 199). والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه الترمذي، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن القطان في ((أحكام النظر)) (94).
(6) ((تهذيب المدارج)) (ص: 711).
(7) ((المجموعة الكاملة)) (5/ 67)، للعلامة السعدي رحمه الله.

عاشرا: الآثار الإيمانية لاسم الله الهادي
الهداية إلى الصراط المستقيم أجل مطلوب وأعظم مسؤول، ونيله أشرف المواهب. وهي أكبر نعمة ينعم بها الهادي سبحانه على من يشاء من عباده، وأجل مننه الواصلة إلينا. فعلى العبد أن يسأل الله تعالى الهداية إلى الصراط المستقيم. ولهذا فإن العبد في اليوم والليلة، يسأل الله الهداية إلى الصراط المستقيم، كما في سورة الفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6]، ويشهد من (اهدنا) عشر مراتب، إذا اجتمعت حصلت له الهداية.
المرتبة الأولى: هداية العلم والبيان. فيجعله عالماً بالحق مدركاً له.
الثانية: أن يقدره عليه. وإلا فهو غير قادر بنفسه.
الثالثة: أن يجعله مريداً له.
الرابعة: أن يجعله فاعلاً له.
الخامسة: أن يثبته على ذلك، ويستمر به إلى الوفاة.
السادسة: أن يصرف عنه الموانع والعوارض المضادة له (1).
ومعلوم أن وساوس العبد وخواطره، وشهوات الغي في قلبه، كل منها مانع من وصول أثر الهداية إليه، فإن لم يصرفها الله عنه لم يهتد هدى تاماً، فحاجته إلى هداية الله له مقرونة بأنفاسه، وهي أعظم حاجة للعبد (2).
السابعة: أن يهديه في الطريق نفسها هداية خاصة، أخص من الأولى. فإن الأولى هداية إلى الطريق إجمالاً، وهذه هداية فيها وفي منازلها تفصيلاً (3).
فإن العبد قد يهتدي إلى طريق قصده، تتميز له الطرق عن غيرها، ولا يهتدي إلى تفاصيل سيره فيها، ولأوقات المسير من غيره، وزاد المسير، وآفات الطرق (4).
الثامنة: أن يشهده المقصود في الطريق، وينبهه عليه. فيكون مطالعاً له في سيره، وملتفتاً إليه.
التاسعة: أن يشهده فقره وضرورته إلى هذه الهداية، فوق كل ضرورة. في ظاهره وباطنه، في جميع ما يأتيه ويذره. ويدخل في هذا أن يهدي غيره ويعلمه، فيصير هادياً مهدياً، كما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين)) (5).
يعني نهدي غيرنا ونهتدي في أنفسنا، وهذه أفضل الدرجات أن يكون العبد هادياً مهدياً. قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا [السجدة: 24] (6).
العاشرة: أن يشهده طريق المنحرفين عن الهداية. وهما: طريق أهل الغضب، الذين عدلوا عن أتباع الحق قصداً وعناداً؛ وطريق أهل الضلال، الذين عدلوا عنها جهلاً وضلالاً.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه الهداية، ويحث أصحابه على سؤال الله الهداية.
وليتأمل القارئ اللبيب، الأحاديث التالية:
1 - عن أبي ذر رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم – فيما روى عن الله تبارك وتعالى – أنه قال: ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم)) (7).
أي: اطلبوا مني الهداية، أوفقكم إلى سلوك طريقها.
_________
(1) ((تهذيب المدارج)) (ص: 1051).
(2) ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 306).
(3) ((تهذيب المدارج)) (ص: 1051).
(4) ((شفاء العليل)) (ص: 268).
(5) رواه النسائي (3/ 54)، وأحمد (4/ 264) (18351)، والحاكم (1/ 705). من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (2/ 333): رجاله إسناده ثقات، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)).
(6) ((شرح حديث عمار بن ياسر)) (ص: 49).
(7) رواه مسلم (2577).

2 - عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: ((اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت)) (1).
فقوله: (اهدني) سؤال للهداية المطلقة، التي لا يتخلف عنها الاهتداء.
وقوله: (فيمن هديت) فيه فوائد:
أحدها: أنه سؤال له أن يدخله في جملة المهتدين، وزمرتهم ورفقتهم.
الثانية: توسل إليه بإحسانه وإنعامه، أي إنك قد هديت من عبادك بشراً كثيراً فضلاً منك وإحساناً، فأحسن إلي كما أحسنت إليهم، كما يقول الرجل للملك: اجعلني من جملة من أغنيته وأعطيته وأحسنت إليه.
الثالثة: أن ما حصل لأولئك من الهدى، لم يكن منهم ولا بأنفسهم، وإنما كان منك، فأنت الذي هديتهم (2).
3 - عن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل: اللهم اهدني وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم)) (3).
قال ابن القيم رحمه الله: هذا من أبلغ التعليم والنصح، حيث أمره أن يذكر إذا سأل الله الهدى إلى طريق رضاه وجنته، كونه مسافراً، وقد ضل عن الطريق، ولا يدري أين يتوجه، فطلع له رجل خبير بالطريق، عالم بها، فسأله أن يدله على الطريق، فهكذا شأن طريق الآخرة، تمثيلاً لها بالطريق المحسوس للمسافر؛ وحاجة المسافر إلى الله سبحانه، إلى أن يهديه تلك الطريق، أعظم من حاجة المسافر إلى بلد، إلى من يدله على الطريق الموصل إليها.
وكذلك السداد – وهو إصابة القصد قولاً وعملاً – فمثله مثل رامي السهم إذا وقع سهمه وأصاب، وإذا لم يقع باطلاً؛ فهكذا المصيب للحق في قوله وعمله، بمنزلة المصيب في رميه (4).
4 - عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى)) (5).
5 - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: سألت عائشة أم المؤمنين: بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة؛ أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) (6).
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء العظيم القدر، من أوصاف الله وربوبيته ما يناسب المطلوب، فإن فطر السماوات والأرض توسل إلى الله بهذا الوصف في الهداية للفطرة التي ابتدأ الخلق عليها، فذكر كونه فاطر السماوات والأرض، والمطلوب تعليم الحق، والتوفيق له، فذكر علمه سبحانه بالغيب والشهادة، وأن من هو بكل شيء عليم جدير أن يطلب منه عبده أن يعلمه، ويرشده ويهديه؛ وهو بمنزلة التوسل إلى الغني بغناه وسعة كرمه أن يعطي عبده شيئاً من ماله، والتوسل إلى الغفور بسعة مغفرته أن يغفر لعبده، وبعفوه أن يعفو عنه، وبرحمته أن يرحمه، ونظائر ذلك.
وذكر ربوبيته تعالى لجبريل وميكائيل وإسرافيل؛ وهذا – والله أعلم – لأن المطلوب هدى يحيا به القلب؛ وهؤلاء الثلاثة الأملاك، قد جعل الله تعالى على أيديهم أسباب حياة العباد:
أما جبريل: فهو صاحب الوحي الذي يوحيه الله إلى الأنبياء، وهو سبب للحياة الدنيا والآخرة.
وأما ميكائيل: فهو الموكل بالقطر، الذي به سبب حياة كل شيء.
وأما إسرافيل: فهو الذي ينفخ في الصور، فيحيي الله الموتى بنفخته؛ فإذا هم قيام لرب العالمين (7).
فالتوسل إلى الله سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة، له تأثير عظيم في حصول المطلوب. والله المستعان (8). الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 264
_________
(1) رواه أبو داود (1425)، والترمذي (464)، والنسائي (3/ 248)، وابن حبان (3/ 225) (945). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال ابن عبدالبر في ((الاستذكار)) (2/ 285): روي من طرق ثابتة، وصحح إسناده النووي في ((المجموع)) (3/ 496).
(2) ((شفاء العليل)) (ص: 338).
(3) رواه مسلم (2725).
(4) ((إغاثة اللهفان)) (ص: 65).
(5) رواه مسلم (2721).
(6) رواه مسلم (770).
(7) ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 306 - 307).
(8) ((شرح الطحاوية)) (1/ 248).

حادي عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله السلام
1 - الدعاء بالسلامة:
إن الله تعالى هو السلام ويحب السلام، ويعطي السلام لمن طلبه منه بصدق وإخلاص.
أ- عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: ((اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربنا وربك الله)) (1).
قوله: (أهله) أي: أطلعه علينا، وأرنا إياه، والمعنى: اجعل رؤيتنا له مقترناً بالأمن والإيمان.
قوله: (بالأمن) أي: مقترناً بالأمن من الآفات والمصائب.
قوله: (والإيمان) أي: وبثبات الإيمان فيه.
قوله: (والسلامة) أي: السلامة عن آفات الدنيا والدين (2).
ب- وعلى (العبد أن يطلب السلامة يوم القيامة يوم يبعث الله الأحياء، عند معاينته هول المطلع، إذا قدم على الله وحيداً مجرداً عن كل مؤنس، إلا ما قدمه من صالح عمله، وعند موافاته القيامة مع الجمع الأعظم، ليصير إلى إحدى الدارين التي خلق لها، واستعمل بعمل أهلها؛ وطلب السلامة فيه آكد من جميع ما قبله، فإن عطبه لا يستدرك، وعثرته لا تقال، وسقمه لا يداوى، وفقره لا يسد. فأي موطن أحق بطلب السلامة من هذا الموطن، فنسأل الله السلامة فيها بمنه وكرمه، ولطفه وجوده وإحسانه (3).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ... ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم)) (4). الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 264
_________
(1) رواه الطبراني (12/ 356) (13330). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 142): فيه عثمان بن إبراهيم الحاطبي وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات.
(2) ((العلم الهيب)) (ص: 421).
(3) ((بدائع الفوائد)) (2/ 654).
(4) رواه البخاري (806)، ومسلم (182).

ثاني عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله الشافي
أولاً: أن الله تعالى هو الشافي، ولا شافي إلا هو، ولا شفاء إلا شفاؤه، ولا يرفع المرض إلا هو.
وفي الحديث: ((اللهم رب الناس، أذهب الباس، واشفه وأنت الشافي؛ لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً)) (1).
وقوله: (لا شفاء إلا شفاؤك) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شفاء إلا شفاء الله، فشفاء الله لا شفاء غيره، وشفاء المخلوقين ليس إلا سبباً، والشافي هو الله، فليس الطبيب وليس الدواء هما اللذان يشفيان، بل الطبيب سبب، والدواء سبب، وإنما الشافي هو الله.
ولهذا يمرض رجلان بمرض واحد، ويداويان بدواء واحد، وعلى صفة واحدة، فيموت هذا، ويشفى ذاك، لأن الأمر كله بيد الله فهو الشافي، وما يصنع من أدوية أو رقى فهو سبب, ونحن مأمورون بذلك السبب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فتداووا، ولا تتداووا بحرام)) (2).
وقوله: (شفاء لا يغادر سقماً) يعني: شفاء كاملاً لا يبقي سقماً، أي: لا يبقي مرضاً (3).
ففي هذه الرقية توسل إلى الله بكمال ربوبيته، وكمال رحمته بالشفاء، وأنه وحده الشافي، وأنه لا شفاء إلا شفاؤه، فتضمنت التوسل إليه بتوحيده وإحسانه وربوبيته (4).
ثانياً: أن الله تعالى لم ينزل داء إلا وأنزل له شفاء، وله أسباب.
عن جابر رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لكل داء دواء، فإن أصيب دواء الداء، برأ بإذن الله تعالى)) (5).
وعن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كأنما على رؤوسهم الطير، فسلمت ثم قعدت، فجاء الأعراب من ههنا وههنا؛ فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال: ((تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء، إلا وضع له دواء، غير داء واحد: الهرم)) (6). الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 340
_________
(1) رواه أبو داود (3883) , وابن ماجه (3530) , وأحمد (1/ 381) (3615) , والطبراني (10/ 213) , والحاكم (4/ 463). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 219): إسناده حسن, وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2972): إسناده صحيح.
(2) رواه الطبراني (24/ 254) (649). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 89): رجاله ثقات، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1762).
(3) ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 65 - 66).
(4) ((زاد المعاد)) (4/ 188).
(5) رواه مسلم (2204).
(6) رواه أبو داود (3855) واللفظ له، والترمذي (2038)، وابن ماجه (2789)، وأحمد (4/ 278) (18477)، وابن حبان (13/ 426) (6061)، والحاكم (1/ 209). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده النووي في ((المجموع)) (5/ 107).

ثالث عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله الحميد
إذا علم العبد أن الحمد على الإطلاق إنما هو لله، وأنه يستحق جميع المحامد بأسرها، كان حرياً به أن يشتغل بالثناء والمجد لذي العلى والمجد؛ فإنه (سبحانه وتعالى له الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه ما، والإحسان كله له ومنه، فهو سبحانه وتعالى أهل وأحق بكل حمد، وبكل حب من كل جهة، فهو أهل أن يحب لذاته, ولصفاته, ولأفعاله, ولأسمائه, ولإحسانه، ولكل ما صدر منه سبحانه وتعالى) (1).
ولا تتصور القلوب حقيقة نعمته وإحسانه، فضلاً عن أن يقوم بشكره (2).
ولو استنفد العبد أنفاسه كلها في حمده على نعمة من نعمه، كان ما يجب له من الحمد ويستحقه فوق ذلك وأضعافه، ولا يحصي أحد البتة ثناء عليه بمحامده.
(ولكن الله سبحانه لكرمه، رضي من عباده باليسير من شكره، وأداء شكره) (3).
وفضائل الحمد كثيرة في السنة، نذكر بعضها:
1 - عن الأسود بن سريع رضي الله عنه قال: كنت شاعراً، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إني مدحت ربي بمحامد، قال: ((أما إن ربك يحب الحمد)) (4).
فهو سبحانه وتعالى حميد يحب الحمد، ويحب من يحمده، وحمده لنفسه أعظم من حمد العباد له، ويحب من يثني عليه، وثناؤه على نفسه أعظم من ثناء العباد عليه.
والحمد هو الإخبار بمحاسن المحمود على وجه المحب له. (وهذه اللفظة لا تصلح على هذا الوجه، ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه وهو الحميد المجيد) (5).
ومحاسن المحمود تعالى إما قائمة بذاته، وإما ظاهرة في مخلوقاته.
النوع الأول: حمد الأسماء والصفات، وهو حمد يتضمن الثناء عليه بكماله القائم بذاته، وعلى ما له من الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا، والمدائح والمحامد، والنعوت الجليلة الجميلة.
وتفصيل هذا مما لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة به ولا إلى التعبير عنه، ولكن بالجملة فكل صفة عليا, واسم حسن, وثناء جميل، وكل حمد, وتسبيح, وتنزيه, وتقديس, وجلال وإكرام، فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، وجميع ما يوصف به, ويذكر به, ويخبر عنه به فهو محامد له, وثناء, وتسبيح, وتقديس، فسبحانه وبحمده لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني به عليه خلقه، فله الحمد أولاً وآخراً, حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله ورفيع مجده وعلو جده. فهذا تنبيه على أحد نوعي حمده، وهو حمد الأسماء والصفات.
النوع الثاني: حمد النعم والآلاء، وهذا مشهود للخليقة برها وفاجرها، مؤمنها وكافرها، من جزيل مواهبه وسعة عطاياه، وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وحسن معاملته لعباده، وسعة رحمته لهم، وبره ولطفه وحنانه، وإجابته لدعوات المضطرين، وكشف كربات المكروبين، وإغاثة الملهوفين، ورحمته للعالمين، وابتدائه بالنعم قبل السؤال ومن غير استحقاق، بل ابتداء منه بمجرد فضله وكرمه وإحسانه، ودفع المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها وصرفها بعد وقوعها (6).
_________
(1) ((جلاء الأفهام)) (ص: 367).
(2) ((جلاء الأفهام)) (ص: 462).
(3) ((جلاء الأفهام)) (ص: 534).
(4) رواه أحمد (3/ 435) (15624)، والطبراني (1/ 282) (822). قال الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (4/ 298): جاءت الآثار متواترة بذلك، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 98): أحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح، وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 62) كما أشار إلى ذلك في المقدمة.
(5) انظر: ((بدائع الفوائد)) (2/ 537).
(6) ((طريق الهجرتين)) (ص: 242).

2 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ... وما من شيء أحب إلى الله من الحمد)) (1).
وحمده يتضمن أصلين: الإخبار بمحامده وصفات كماله، والمحبة له عليها.
(وهو سبحانه كما يحب أن يعبد، يحب أن يحمد ويثنى عليه، ويذكر بأوصافه العلى وأسمائه الحسنى) (2).
3 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الذكر: لا إله إلا الله وأفضل الدعاء: الحمد لله)) (3).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فسمى الحمد لله دعاء وهو ثناء محض، لأن الحمد متضمن الحب والثناء. والحب أعلى أنواع الطلب؛ فالحامد طالب للمحبوب، فهو أحق أن يسمى داعياً من السائل الطالب؛ فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب، فهو دعاء حقيقة، بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه (4).
4 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ)) (5).
فإن حمده لولي النعمة نعمة أخرى هي أفضل وأنفع له، وأجدى عائدة من النعمة العاجلة، فإن أفضل النعم وأجلها على الإطلاق، نعمة معرفته تعالى وحمده وطاعته (6).
5 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أفضل عباد الله يوم القيامة الحمادون)) (7).
فقد دل هذا الحديث على أن أفضل العباد يوم المعاد الذين يكثرون من حمد الله في السراء والضراء. الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 91
_________
(1) رواه أبو يعلى (7/ 247) (4256)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 359). وقال: رجاله رجال الصحيح، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 22): رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح.
(2) ((طريق الهجرتين)) (ص: 431).
(3) رواه الترمذي (3383)، وابن ماجه (3080)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 208) (10/ 667)، وابن حبان (3/ 126) (846)، والحاكم (1/ 676). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وحسنه ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/ 63)، وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 62) كما أشار إلى ذلك في المقدمة.
(4) ((مجموع الفتاوى)) (15/ 19).
(5) رواه ابن ماجه (3082). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 244): إسناده حسن، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).
(6) ((فتيا في صيغة الحمد)) (ص: 12)، لابن القيم رحمه الله.
(7) رواه أحمد (4/ 434) (19909) موقوفاً، والطبراني (18/ 124) (14964). وصحح إسناده ابن جرير في ((مسند عمر)) (2/ 825)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 98): رواه أحمد موقوفاً وهو شبه المرفوع ورجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1571).

إن المؤمن متى ما عرف أن الله متصف بالحمد فإنه يسعى إلى حمده تعالى على كل حال بكل وسيلة ممكنة ومشروعة في السراء والضراء والشدة والرخاء والعسر واليسر وفيما يحب ويكره، فهو الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فله من الأسماء الحسنى أحسنها، ومن الصفات أكملها وأعلاها، وأن أفعاله تعالى دائرة بين الفضل والعدل، وهو أهل لكل المحامد وليس ذلك لأحد إلا الله تعالى. قال الإمام ابن القيم: وبالجملة فكل صفة عليا واسم حسن وثناء جميل وكل حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، وجميع ما يوصف به ويذكر به ويخبر عنه به فهو حمد له وثناء وتسبيح وتقديس، فسبحانه وبحمده لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني به عليه خلقه، فله الحمد أولاً وآخراً حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله ورفيع مجده وعلو جده (1).
قال القرطبي: فيجب على كل مكلف أن يعتقد أن الحمد على الإطلاق إنما هو لله وأن الألف واللام للاستغراق لا للعهد، فهو الذي يستحق جميع المحامد بأسرها، فنحمده على كل نعمة وعلى كل حال بمحامده كلها ما علم منها وما لم يعلم ... ثم يجب عليه أن يسعى في خصال الحمد وهي التخلق بالأخلاق الحميدة والأفعال الجميلة (2). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 396
فكلمة (الحمد لله) كلمة عظيمة جليلة القدر، كثيرة النفع، لها فضل عظيم وثواب جزيل وأجر جسيم عند الله. حيث أعطى من فضله وكرمه هذا المقدار العظيم لقائل هذا القول اليسير، الذي يمكن أن يقوله القائل في جميع الأحوال والأوقات، من غير تكلف بدن ولا مال.
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: رآني النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أحرك شفتي، فقال لي: ((بأي شيء تحرك شفتيك يا أبا أمامة؟ فقلت: أذكر الله يا رسول الله، فقال: ألا أدلك على ما هو أكثر من ذكرك الله الليل مع النهار؟ تقول: الحمد لله عدد ما خلق، الحمد لله ملء ما خلق، الحمد لله عدد ما في السماوات والأرض، الحمد لله عدد ما أحصى كتابه، والحمد لله على ما أحصى كتابه، والحمد لله عدد كل شيء، والحمد لله ملء كل شيء، وتسبح الله مثلهن. تعلمهن وعلمهن عقبك من بعدك)) (3).
ومن نظر بعين المعرفة في هذا، استكثر منه طمعاً بالخير العظيم, والأجر الجسيم، والعطاء الجليل، والجود الجميل.
(فلله تعالى الحمد والشكر والثناء، حيث أعطى العباد من مصالحهم ومنافعهم فوق ما يطلبون، وأعلى ما يتمنون، وآتاهم من كل ما سألوه، لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه) (4).
ومن أجل نعم الله على الإطلاق، التي يستحق عليها الحمد، ما تعاقب الليل والنهار: نعمة الإسلام. فهي النعمة الحقيقية الكبيرة العظيمة على عباده، قال الله تعالى: اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3].
_________
(1) ((مدارج السالكين)) (1/ 35)، وانظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 130 - 132).
(2) ((الأسنى في شرح الأسماء الحسنى للقرطبي)) (1/ 190).
(3) رواه ابن خزيمة (1/ 371) (754)، والطبراني (8/ 238) (7930). وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2615).
(4) ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 601).

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ((ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومن به علينا؛ قال: آلله ما أجلسكم إلى ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني: أن الله يباهي بكم الملائكة)) (1).
فهؤلاء كانوا قد جلسوا يحمدون الله بذكر أوصافه وآلائه، ويثنون عليه بذلك، ويذكرون حسن الإسلام، ويعترفون لله بالفضل العظيم إذ هداهم له ومن عليهم به (2).
فمن حصل له نصيب من دين الإسلام فقد حصل له الفضل العظيم، وقد عظمت عليه نعمة الله، فما أحوجه إلى القيام بشكر هذه النعمة وسؤاله دوامها والثبات عليها إلى الممات، والموت عليها، فبذلك تتم النعمة (3).
فالحمد لله الذي خصنا بهذه الرحمة، وأسبغ علينا هذه النعمة، وأعطانا هذه الفضائل الجمة (4).
الحمد لله، ثم الحمد لله تعالى، الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
يا ذا الجلال والإكرام، كما هديتنا للإسلام، أسألك أن لا تنزعه عنا، حتى تتوفانا على الإسلام (5). الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 108
_________
(1) رواه مسلم (2701).
(2) ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 291).
(3) ((لطائف المعارق)) (ص: 169 - 170).
(4) ((لطائف المعارف)) (ص: 180).
(5) ((موارد الأمان)) (ص: 469).

رابع عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله القوي
أن المؤمن عندما يعلم أن من أوصافه تعالى القوة والقدرة على كل شيء فإنه يدرك تماماً أنه لا قوة له على طاعة الله تعالى إلا بتوفيقه وقوته وعونه، وأنه لا حول له على اجتناب المعاصي ودفع الشرور عن نفسه إلا بعون من الله، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمات هي من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله)) (1). قال النووي: قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى، واعتراف بالإذعان له، وأنه لا صانع غيره، ولا راد لأمره وأن العبد لا يملك شيئاً من الأمر، ثم قال: قال أهل اللغة: (الحول) الحركة والحيلة أي: لا حركة ولا استطاعة ولا حيلة إلا بمشيئة الله تعالى، وقيل معناه: لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا الله. وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته، وحكي هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه، وكله متقارب (2).
وكما قيل:
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده (3)
قال الإمام ابن القيم: ولو اجتمعت قوى الخلائق على شخص واحد منهم ثم أعطي كل واحد منهم مثل تلك القوة لكانت نسبتها إلى قوته سبحانه دون نسبة قوة البعوضة إلى حملة العرش، ولو كان جودهم على جود رجل واحد، وكل الخلائق على ذلك الجود لكانت نسبته إلى جوده دون نسبة قطرة إلى البحر، وكذلك علم الخلائق إذا نسب إلى علمه كان كنقرة عصفور من البحر، وكذلك سائر صفاته كحياته وسمعه وبصره وإرادته (4). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 392
_________
(1) رواه البخاري (6610)، ومسلم (2704). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2) ((شرح النووي على مسلم)) (17/ 26).
(3) ((ديوان علي بن أبي طالب رضي الله عنه)) (ص: 56).
(4) ((شفاء العليل)) (ص: 228).

خامس عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله الحي
أن المؤمن عندما يدرك أن الله تعالى حي بحياة وهي صفة لازمة له تعالى وله جميع معانيها الكاملة من السمع والبصر والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات الذاتية الثابتة بالكتاب والسنة، والحي من أسمائه عز وجل، فإنه يسلم وجهه له إيماناً به وتوكلاً عليه، ففيه رغبته ورهبته، ومعاذه وملاذه لأنه الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون، وحاديه في هذا كله قوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون)) (1).
ومن مقتضى الإيمان بهذا الاسم أن يلهج المؤمن به لما له من تأثير عظيم في حياة القلوب. قال الإمام ابن القيم: فذكر الله سبحانه وتعالى، ومحبته وطاعته والإقبال عليه ضامن لأطيب الحياة في الدنيا والآخرة، والإعراض عنه والغفلة ومعصيته: كفيل بالحياة المنغصة والمعيشة الضنك في الدنيا والآخرة (2).
ومن تجريبات السالكين التي جربوها فألفوها صحيحة: أن من أدمن (يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت) أورثه ذلك حياة القلب والعقل، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية –قدس الله روحه- شديد الله جبها جداً وقال لي يوماً: لهذين الاسمين – وهما (الحي القيوم) – تأثير عظيم في حياة القلب. وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم، وسمعته يقول: من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر: (يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك استغيث) حصلت له حياة القلب ولم يمت قلبه (3). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 399
_________
(1) رواه مسلم (2717). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) ((مدارج السالكين)) (3/ 270، 271).
(3) ((مدارج السالكين)) (1/ 482).

سادس عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله القيوم
أن المؤمن متى أعطى هذا الاسم الكريم حقه من العلم والعمل بمقتضاه فقد استيقن أن الله تعالى قائم بتدبير أمور العباد وأرزاقهم وجميع أحوالهم، كما أن من أعطى هذا الاسم حقه من التعبد به لله تبارك وتعالى فقد توكل على ربه وانقطع رجاؤه من الخلق إلى الله تعالى، واستغنى عما في أيديهم إلى ما في يدي الله تبارك وتعالى لأن العباد محتاجون مفتقرون إلى خالقهم في قيامهم وقعودهم وحركاتهم وسكناتهم في دنياهم وأخراهم وفي حياتهم وبعد مماتهم.
ومن مقتضى الإيمان بهذا الاسم الكريم (القيوم) الدعاء به والتعبد لله بمقتضاه (فمن علم عبوديات الأسماء الحسنى والدعاء بها، وسر ارتباطها بالخلق والأمر وبمطالب العبد وحاجاته: عرف ذلك وتحققه) (1). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 402
_________
(1) ((مدارج السالكين)) (1/ 482).

سابع عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله الصمد
أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بصمديته وليس في الوجود صمد سوى الله تعالى، فإنه يصمد إليه في الحوائج كلها ويكون مفزعه وغايته فلا يقصد غيره ولا يلجأ في حوائجه إلا إليه.
ومن جعله الله تعالى مقصد عباده في مهمات دينهم ودنياهم وأجرى على لسانه ويده حوائج خلقه، فقد أنعم عليه بحظ من معنى هذا الوصف وعليه أن يتخلق بأخلاق السيادة والسادة حتى يكون مصموداً، وبابه مقصوداً. روى هشام بن عروة عن أبيه قال: أدركت سعد بن عبادة ومناد ينادي على أطمه: من أحب شحماً ولحماً فليأت سعداً، ثم أدركت ابنه قيساً ينادي مثل ذلك (1) (2).
قال الإمام ابن تيمية: والمخلوق وإن كان صمداً من بعض الوجوه فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه فإنه يقبل التفرق والتجزئة، وهو أيضاً محتاج إلى غيره فإن كل ما سوى الله محتاج إليه من كل وجه، فليس أحد يصمد إليه كل شيء ولا يصمد إلى شيء إلا الله تبارك وتعالى (3).
قال الغزالي في المقصد: ومن جعله الله تعالى مقصد عباده في مهمات دينهم ودنياهم وأجرى على لسانه ويده حوائج خلقه فقد أنعم عليه بحظ من هذا الوصف (4). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 404
_________
(1) رواه بنحوه الحاكم (3/ 284).
(2) ((الأسنى في شرح الأسماء الحسنى)) للقرطبي (1/ 186).
(3) ((مجموع الفتاوى)) للإمام ابن تيمية (17/ 238).
(4) ((المقصد الأسنى)) للغزالي (ص: 119).

ثامن عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله الظاهر والباطن
أن المؤمن إذا تحقق علوه تعالى المطلق على كل شيء بذاته، وأنه ليس فوقه شيء البتة وأنه ظاهر فوق عباده يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم توجه إليه، فقد جمع قلبه على المعبود، وجعله له رباً يقصده وصمداً يصمد إليه في حوائجه، وملجأ يلجأ إليه، فإذا استقر ذلك في قلبه وعرف ربه باسم (الظاهر) استقامت له عبوديته وصار معقل وموئل يلجأ إليه ويهرب إليه ويفر كل وقت إليه.
كما أن الله عز وجل هو الباطن المحيط بكل شيء الذي أحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه، دنا من كل شيء ببطونه فلا تواري منه سماء سماء ولا أرض أرضاً، ولا يحجب عنه ظاهر باطناً، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب والسر عنده علانية، فهو العليم ببواطن الأمور وظواهرها يستوي عنده هذا وهذا. قال تعالى سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد: 10] فيستوي عند الله تعالى من هو متخف في قعر بيته في ظلام الليل ومن هو سائر في سربه (طريقه) في بياض النهار وضيائه (1).
وعن عبوديته تعالى بهذين الاسمين قال الإمام ابن القيم: وأما عبوديته باسمه الظاهر فكما فسره النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)) (2)، فإذا تحقق العبد علوه المطلق على كل شيء بذاته وأنه ليس فوقه شيء البتة، وأنه ظاهر فوق عباده يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم توجه إليه إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] صار لقلبه قبلة توجه نحوها ومعبود يتوجه إليه قصده، وصاحب هذه الحال إذا سلك وتأله وتعبد طلب قلبه إلهاً يسكن إليه ويتوجه إليه.
وأما تعبده باسمه الباطن فأمر يضيق نطاق التعبير عن حقيقته ويكل اللسان عن وصفه، وتصطلم الإشارة إليه وتجفو العبارة عنه، فإنه يستلزم معرفة بريئة من شوائب التعطيل مخلصة من فرث التشبيه، منزهة عن رجس الحلول أهل الانحراف، فمن رزق هذا فهم معنى اسمه (الباطن) ووضح له التعبد به.
وباب هذه المعرفة والتعبد هو معرفة إحاطة الرب سبحانه بالعالم وعظمته، وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السماوات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد. قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ [الإسراء: 60] وقال: وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ [البروج: 20] ولهذا يفرق سبحانه بين هذين الاسمين الدالين على هذين المعنيين: اسم العلو الدال على أنه (الظاهر) وأنه لا شيء فوقه، واسم العظمة الدال على الإحاطة، وأنه لا شيء دونه كما قال تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الشورى: 4] وقال تعالى وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23] وقال: وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 115]، وهو تبارك وتعالى كما أنه العالي على خلقه بذاته فليس فوقه شيء فهو (الباطن) بذاته فليس دونه شيء بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه فهذا أقرب لإحاطة العامة (3). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 416
_________
(1) ((طريق الهجرتين)) (ص: 24).
(2) رواه مسلم (2713). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) ((طريق الهجرتين)) (ص: 21 - 24).

تاسع عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله المعطي والمانع
أن المؤمن عندما يدرك أن الله تعالى متصف بالعطاء والمنع فإنه يقطع الأمل من المخلوقين، وينزل حوائجه بالمعطي المانع المتفرد بالعطاء والمنع فيطرح الأواسط طرحاً ويضرب عن الأسباب صفحاً، ويجعل الله هو الكل وكل موجود مع القدرة كالطل لا حكم له في الفعل، فلا يذم مانعاً بوجه ولا يمدح معطياً إلا من حيث ينظر إلى الله فيمدحه لمدح الله إياه إذ جرت بالخير يداه على ما أجراهما الله.
كما يدرك أن التأييد والإحاطة والنصر على الأعداء إنما يكون بحسب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعندها تكون العزة والكفاية والنصرة. كما أنه بحسب متابعته تكون الهداية والنجاة، فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح والعزة، والكفاية والنصرة والولاية، والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذلة والصغار والخوف والضلال، والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة (1).
ومن مقتضى الإيمان بهذين الاسمين الكريمين: أن لا يفر أحد هذين الاسمين عن الآخر وذلك تأدباً مع الله تعالى، فإن إفراد أحدهما عن الآخر يوهم نقصاً.
قال الخطابي: وفي ذكرهما معاً إنباء عن القدرة وأدل على الحكمة، كقوله تعالى: وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245]، وإذا ذكرت القابض مفرداً عن الباسط كنت كأنك قد قصرت بالصفة على المنع والحرمان، وإذا وصلت أحدهما بالآخر فقد جمعت بين الصفتين منبئاً على وجه الحكمة فيهما (2). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 422
_________
(1) انظر: ((زاد المعاد)) (1/ 37) بتصرف.
(2) ((شأن الدعاء)) للخطابي (ص: 58). وانظر: ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للزجاج (ص: 40).

عشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله القابض والباسط
أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالقبض والبسط فيقبض الأرواح عن الأشباح بعد الممات، ويبسط الأرواح في الأجساد عند الحياة، ويقبض الصدقات من الأغنياء ويبسط الرزق لمن يشاء، حتى لا تبقى فاقة؛ فلا ريب أنه يتوجه بكليته إلى الله تعالى فهو المعد وهو الممد، وهو القائل سبحانه تعالى: وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245]. كما أن الآثار الإيمانية لاسم الله هذين الاسمين الكريمين ما قاله الإمام ابن القيم في حالتي القبض والبسط وأثرهما في المؤمن حيث قال: القبض والبسط حالتان تعرضان لكل سالك، يتولدان من الخوف تارة فيقبضه الخوف تارة والرجاء تارة، والجمعية تارة، فتفرقته تورثه القبض، وجمعيته تورثه البسط، ويتولدان من أحكام الوارد تارة فوارد يورث قبضاً، ووارد يورث بسطاً، وقد يهجم على قلب السالك قبض لا يدري ما سببه وبسط لا يدري ما سببه، وحكم صاحب هذا القبض: أمران: الأول: التوبة والاستغفار لأن ذلك القبض نتيجة جناية، أو جفوة ولا شعر بها، والثاني: الاستسلام حتى يمضي عنه ذلك الوقت، ولا يتكلف دفعه، ولا يستقبل وقته مغالبة وقهراً، ولا يطلب طلوع الفجر في وسط الليل، وليرقد حتى يمضي عامة الليل ويحن طلوع الفجر، وانقشاع ظلمة الليل، بل يصبر حتى يهجم عليه الملك فالله يقبض ويبسط.
وكذلك إذا هجم وارد البسط فليحذر كل الحذر من الحركة والاهتزاز، وليحرزه بالسكون والانكماش، فالعاقل يقف على البساط، ويحذر من الانبساط، وهذا شأن عقلاء أهل الدنيا ورؤسائهم: إذا ما ورد عليهم ما يسرهم ويبسطهم ويهيج أفراحهم، قابلوه بالسكون والثبات والاستقرار حتى كأنه لم يهجم عليهم (1).
ومن مقتضى الإيمان بهذين الاسمين الكريمين أن لا يفرد أحدهما في الذكر عن قرينه، وذلك تأدباً مع الله تعالى وإظهاراً لتمام قدرته، قال الزجاج: الأدب في هذين الاسمين أن يذكرا معاً لأن تمام القدرة بذكرهما معاً، ألا ترى أنك إذا قلت: إلى فلان قبض أمري، وبسطه، ولا بمجموعها أنك تريد أن جميع أمرك إليه؟ وتقول: ليس إليك من أمري بسط ولا قبض، ولا حل ولا عقد، أراد ليس إليك منه شيء (2). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 424
_________
(1) ((مدارج السالكين)) (2/ 389، 390).
(2) ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للزجاج (ص: 40).

واحد وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله الخافض الرافع
أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالخفض والرفع يوقن أن الله تعالى يرفع أولياءه بالطاعة فيعلي مراتبهم وينصرهم على أعدائه ويجعل العاقبة لهم كما أنه يخفض الجبارين ويذل الفراعنة المتكبرين. فهو الذي يرفع أولياءه في الدنيا والآخرة وذلك بما وفقهم إليه من طاعته وامتثال أمره ونهيه والعمل بمقتضى شرعه واتباع ما جاء به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا فعلوا ذلك كانت لهم الرفعة والسؤدد على سائر الناس، وكانوا شامة بين الأمم وهداة إلى الحق على المحجة البيضاء التي من وافقها كانت له الرفعة والعلو، ومن خالفها وزاغ عنها فليس له إلا الخفض والذل والصغار في الدنيا والآخرة، وكان مصيره مصير أولئك الكفرة الجبابرة والفراعنة المتكبرين ومصيرهم أن يحشروا يوم القيامة في صورة الذر حتى تطأهم الخلائق بأقدامها (1).
وليس المرفوع قدراً، والمعلى شأناً وأمراً، والمستحق مجداً وفخراً من رفع الطين على الطين وتكبر على المساكين وتجبر على أشكاله بكثرة ماله، واستقامة أحواله، وإنما المشرف شأنا والمعلى رتبة ومكاناً من رفعه الله بتوفيقه، وأيده لتصديقه، وهداه إلى طريقته، صفى قلبه وخلى له وجهه وصعد إلى السماء أنينه، وصدق إلى الله شوقه وحنينه، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)) (2). واعلم أن المخفوض حقاً من تنكبه التوفيق والنصرة وأدركه الخذلان والفترة، ويصبح في حسرة. فعلى هذا: الرفع والخفض أمارتان للجزاء، فمن فتحت لروحه أبواب السماء فرفع واستبشر ومن نكس إلى أسفل أبعد وآيس، وبحسب ذلك الأعمال بشارات ونذارات (3). ومن مقتضى الإيمان بهذين الاسمين كذلك أن يوصل أحدهما في الذكر بالآخر؛ لأن الأسماء المزدوجة تجري الأسماء منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض، فهي وإن تعددت جارية مجرى الاسم الواحد ولذلك لم تجئ مفردة ولم تطلق عليه إلا مقترنة (4). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 426
_________
(1) ((مدارج السالكين)) (2/ 130) بتصرف.
(2) رواه مسلم (2622) بدون لفظة: ((أغبر)). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) ((الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى)) للقرطبي (1/ 398).
(4) ((بدائع الفوائد)) (1/ 184).

اثنان وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله المعز المذل
أن المؤمن عندما يدرك أن الله تعالى المعز المذل فإنه يجد في العزة مظهراً من مظاهر الثقة بالله تعالى ورسوخ اليقين والقوة في الدين والخلق. فعن طارق بن شهاب قال: خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة له فنزل عنها وخلع خفيه فوضعها على عاتقه وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أنت تفعل هذا؟ تخلع خفيك وتضعها على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك. فقال عمر: أوه لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله (1)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر) (2)
وقال الإمام ابن القيم في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة: 54]: لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عداه بأداة (على) تضميناً لمعاني هذه الأفعال، فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل، وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول، فالمؤمن ذلول كما في الحديث: ((المؤمن كالجمل الذلول، والمنافق والفاسق ذليل)) (3)، وأربعة يعشقهم الذل أشد العشق: الكذاب، والنمام، والبخيل، والجبار.
وقوله: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ هو من عزة القوة والمنعة والغلبة، قال عطاء رضي الله عنه: للمؤمنين كالوالد لوده وعلى الكافرين كالسبع على فريسته، كما قال في الآية الأخرى: أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] وهذا عكس حال من قيل فيهم:
كبراً علينا وجبناً عن عدوكم ... لبئست الخلتان الكبر والجبن (4)
@ منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 431
_________
(1) رواه الحاكم (1/ 130)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 35). من حديث طارق بن شهاب رضي الله عنه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين .. ولم يخرجاه، وله شاهد. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1/ 117): صحيح على شرط الشيخين.
(2) رواه البخاري (3684). من حديث قيس بن أبي حازم رضي الله عنه.
(3) لم أقف عليه.
(4) ((مدارج السالكين)) (2/ 340).

ثلاث وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله البَرّ
أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالبر والكرم والإحسان فإن ذلك يوجب له معرفة بكرم الله عليه وفضله في المغفرة وتمام الإحسان إلى الخلائق وإمهاله المسيء والعاصي، فلا يؤاخذهم فيعجلهم عن التوبة مع كمال قدرته على معاجلتهم بالعقوبة، قال الإمام ابن القيم في لطائف أسرار توبة العبد: ومنها: أن يعرف – العبد – بره سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له ولو شاء بره لفضحه بين خلقه فحذروه، وهذا من كمال بره، ومن أسمائه (البر) وهذا البر من سيده كان عن كمال غناه عنه، وكمال فقر العبد إليه، فيستقل بمطالعة هذه المنة، ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم، فيذهل عن ذكر الخطيئة، فيبقى مع الله سبحانه، وذلك أنفع له من الاشتغال بجنايته، وشهود ذل معصيته، فإن الاشتغال بالله والغفلة عما سواه: هو المطلب الأعلى والقصد الأسنى.
ومنها: شهود حلم الله سبحانه وتعالى في إمهال راكب الخطيئة ولو شاء لعاجله بالعقوبة ولكنه الحليم الذي لا يعجل، ومنها: معرفة العبد كرم ربه في قبول العذر منه إذا اعتذر إليه بنحو ما تقدم من الاعتذار لا بالقدر، فإنه مخاصمة ومحاجة، كما تقدم، فيقبل عذره بكرمه وجوده، فيوجب له ذلك اشتغالاً بذكره وشكره.
ومنها: أن يشهد فضله في مغفرته فإن المغفرة فضل من الله، وإلا فلو أخذك بمحض حقه كان عادلاً محموداً، وإنما عفوه بفضله لا باستحقاقك، فيوجب لك ذلك أيضاً شكراً له ومحبة، وإنابة إليه، وفرحاً، وابتهاجاً به، ومعرفة له باسم الغفار، ومشاهدة لهذه الصفة، وتقيداً بمقتضاها، وذلك أكمل في العبودية والمحبة والمعرفة (1). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 435
_________
(1) ((مدارج السالكين)) (1/ 228).

أربع وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله المنّان
أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالمن والعطاء الكثير الذي ليس وراءه استثابة فإنه يستشعر مواهب الله العظيمة، فهو الذي أعطى الحياة والعقل والمنطق وصور فأحسن الصور، وأنعم فأجزل وأسنى النعم، وأكثر العطايا والمنح فقال وقوله الحق: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا [النحل: 18].
قال الإمام ابن القيم في معرض كلامه عن الأول والآخر والظاهر والباطن: فانظر: كيف كانت هذه الأسماء الأربعة الأول والآخر والظاهر والباطن؛ جماع المعرفة وجماع العبودية له. فهنا وقفت شهادة العبد مع فضل خالقه ومنته فلا يرى لغيره شيئا إلا به وبحوله وقوته .. فإذا وصل إلى القلب نور صفة المنة وشهد معنى اسمه المنان، وتجلى سبحانه على قلب عبده بهذا الاسم مع اسمه الأول، ذهل القلب والنفس به، وصار العبد فقيراً إلى مولاه بمطالعة سبق فضله الأول، ... (1).
ومن مقتضى الإيمان بهذا الاسم الكريم أن يأخذ المؤمن بحظه ونصيبه من هذه الصفة على وجهها الحسن من العطاء والصنع الجميل والإحسان إلى الخلق، وحاديه في ذلك السلف الصالح الذين ضربوا أروع الأمثلة في العطاء والفضل. فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه جاء بما له ولم يبق لأهله منه شيء جاء يقدمه للإسلام والمسلمين فقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((وإن من أمن الناس علي في ماله أبو بكر)) (2) وقوله: ((ما أحد أمن علي من أبي بكر واساني بنفسه وماله، وأنكحني ابنته)) (3). وهذا عمر الفاروق الذي أعطى الإسلام حياته كلها دمه ودموعه ليله ونهاره حتى ضرب الإسلام بأطنابه، وقال فيه القائل:
وراع صاحب كسرى أو رأى عمراً ... بين الرعية عطلاً وهو راعيها
وعهده بملوك الفرس أن لها ... سوراً من الجند والأحراس يحميها
رآه مستغرقاً في نومه فرأى ... فيه الجلالة في أسمى معانيها
وقال قولة حق أصبحت مثلاً ... وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم ... فنمت نوم قرير العين هانيها (4)
ولا زال يأمر وينهي بالإسلام حتى وهو مضرج بدمائه، ويحكى عنه رضي الله عنه، أن أعرابياً أتاه فقال:
يا عمر الخير جزيت الجنة ... أكس بنياتي وأمهنه
وكن لنا من الزمانا جنة ... أقسم بالله لتفعلنه
قال عمر: إن لم أفعل يكون ماذا؟ قال:
إذا أبا حفص لأذهبنه.
قال: إذا ذهبت يكون ماذا؟ قال:
يكون عن حالي لتسألنه ... يوم يكون الأعطيات منة
وموقف المسؤول بينهنه ... إما إلى نار وإما جنة
فبكى عمر حتى اختضلت لحيته بالدمع ثم قال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره، فوالله لا أملك غيره (5).
وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي حفر بئر رومة وجهز الجيوش بماله وأعطى عطاء من لا يخشى الفقر حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما على عثمان فعل بعد هذا)) (6). وهذا علي رضي الله عنه قام مقام إخوانه وأصحابه حتى جعلت محبته من علامة الإيمان وبغضه علامة للنفاق (7)، قام بالدين خير قيام حتى طعن وهو يصلي بالناس فكانت حياته مليئة بالعطاء والعلم والجهاد فرضي الله عنهم أجمعين، ولا يزال في الأمة بحمد الله من يترسم خطى هؤلاء المؤمنين –من الأئمة والعلماء والصالحين- في العطاء والتنافس والبذل والمسارعة فيه ولكل مجتهد نصيبه وكل آخذ بحظه ونصيبه من ذلك وكل ميسر لما خلق له.
ومن مقتضى الإيمان بهذا الاسم الكريم أن لا يمن المؤمن بعلمه ولا بعمله. قال الإمام ابن القيم: (فمن جلى الله سبحانه صدأ بصيرته وكمل فطرته وأوقفه على مبادئ الأمور وغاياتها، ومناطها ومصادرها ومواردها أصبح كالمفلس حقاً من علومه وأعماله وأحواله وأذواقه يقول: أستغفر الله من علمي ومن عملي، أي انتسابي إليهما وغيبتي بهما عن فضل من ذكرني بهما وابتدأني بإعطائهما من غير تقدم سبب مني يوجب ذلك ... (8). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي الغامدي - بتصرف – ص: 451
_________
(1) ((طريق الهجرتين)) (ص: 26).
(2) رواه البخاري (3654)
(3) رواه الطبراني (11/ 191) (11461). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 49): فيه أرطأة أبو حاتم وهو ضعيف.
(4) ((شرح ديوان حافظ إبراهيم)) (ص: 388، 389).
(5) ((أسنى في شرح الأسماء الحسنى)) للقرطبي (1/ 263).
(6) رواه الترمذي (3701) , وأحمد (5/ 63) (20649)، والحاكم (3/ 110). من حديث عبدالرحمن بن سمرة رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).
(7) الحديث رواه مسلم (78) بلفظ: (قال علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق).
(8) ((طريق الهجرتين)) (ص: 26).

خمس وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله المجيب
أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالمجيب الذي يقابل الدعاء والسؤال بالعطاء والقبول، ويبتدئ بالنوال قبل السؤال ويجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، ويغيث الملهوف إذا ناداه؛ فإنه يقوى رجاؤه بربه وتعلقه به طمعاً ورجاء. فهو الذي ابتدأ العباد بالإجابة حيث قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] فلا أعظم ولا أكرم من هذا العرض على العباد، فسبحان من انفرد بإجابة الداعين وتنفيس كرب المضطرين الذي من شأنه النوال قبل السؤال، أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
ومن مقتضى الإيمان بهذا الاسم الكريم أن يكون المؤمن مجيباً أولاً لربه تعالى فيما أمره به ونهاه عنه، وفيما قربه إليه ودعاه، ثم لعباده فيما أنعم الله عليه بالاقتدار عليه، وفي كل سائل بما يسأله إن قدر عليه وفي لطف الجواب إن عجز عنه، قال الله تعالى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى: 10].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت)) (1).
وكان حضوره الدعوات وقبوله الهدايا غاية الإكرام والإيجاب منه (2). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 456
_________
(1) رواه البخاري (5178). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) انظر: ((المقصد الأسنى)) للغزالي (ص: 106) بتصرف.

ست وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله الستّير
يجب على المؤمن أن يتصف بالستر لينال بذلك محبة الله عز وجل لأنه تعالى حيي ستير يحب أهل الحياء والستر. قال النووي في شرح مسلم في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن ستر مسلماً ستره الله عز وجل يوم القيامة)) (1) قال: وأما الستر المندوب إليه هنا فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس هو معروفاً بالأذى والفحشاء (2). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 458
_________
(1) رواه البخاري (2442).
(2) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 235).

سبع وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله الجواد
أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالجود وكثرة العطاء فإنه يحرص على مواقع فضله ورحمته تعالى، فإنه أجود الأجودين وأكرم الأكرمين فهو يحب الإحسان والجود والعطاء والبر، وذلك أن الفضل كله بيده والخير كله منه. قال الإمام ابن القيم: وفرحه بعطائه وجوده وإفضاله أشد من فرح الآخذ بما يعطاه ويأخذه، أحوج ما هو إليه أعظم ما كان قدراً، فإذا اجتمع شدة الحاجة وعظم قدر العطية والنفع بها فما الظن بفرح المعطي؟ ففرح المعطي سبحانه بعطائه أشد وأعظم من فرح هذا بما يأخذه ولله المثل الأعلى ... فما الظن بمن تقدس وتنزه عن ذلك كله؟ ولو أن أهل سماواته وأرضه، وأول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم ورطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد ما سأله: ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة وهو الجواد لذاته، كما أنه الحي لذاته، العليم لذاته، السميع البصير لذاته فجوده العالي من لوازم ذاته، ... (1).
والجود صفة الكرماء وشيمة النبلاء، كانت العرب تفاخر به وتطاول حتى تنافس فيه أقوام. وهو عشر مراتب جمعها الإمام ابن القيم في (مدارج السالكين) فقال:
أحدها: الجود بالنفس وهو أعلى مراتبه كما قال الشاعر:
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود (2)
الثانية: والجود بالرياسة. وهو ثاني مراتب الجود، ويحمل الجواد جوده على امتهان رياسته والجود بها والإيثار في قضاء حاجات الملتمس.
الثالثة: الجود براحته ورفاهيته، وإجمامه نفسه، فيجود بها تعباً وكداً في مصلحة غيره، ومن هذا جود الإنسان بنونه ولذته لمسامره كما قيل:
متيم بالندى لو قال سائله ... هب لي جميع كرى عينيك لم ينم
الرابعة: الجود بالعلم وبذله، وهو من أعلى مراتب الجود، والجود به أفضل من الجود بالمال، لأن العلم أشرف من المال.
الخامسة: الجود بالنفع بالجاه، كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان، ونحوه وذلك زكاة الجاه المطالب بها العبد، كما أن التعليم وبذل العلم زكاته.
السادسة: الجود ينفع البدن على اختلاف أنواه كما قال صلى الله عليه وسلم: ((يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين اثنين: صدقة، ويعين الرجل في دابته فيحمله عليها، أو يرفع له عليها متاعه: صدقة، والكلمة الطيبة: صدقة، وبكل خطوة مشيها الرجل إلى الصلاة: صدقة، ويميط الأذى عن الطريق: صدقة)) (3).
السابعة: الجود بالعرض، كجود أبي ضمضم من الصحابة رضي الله عنهم، كان إذا أصبح قال: اللهم إنه لا مال لي، أتصدق به على الناس، وقد تصدقت عليهم بعرضي، فمن شتمني أو قذفني فهو في حل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم)) (4).
الثامنة: الجود بالصبر والاحتمال، والإغضاء، وهذه مرتبة شريفة من مراتبه وهي أنفع لصاحبها من الجود بالمال وأعز له وأنصر، وأملك لنفسه، وأشرف لها، ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار.
_________
(1) ((مدارج السالكين)) (1/ 233، 234).
(2) ((موسوعة الشعر العربي))، معهد البحوث العلمية بجامعة أم القرى (1/ 533)، والبيت لأبي الشيص الخزاعي.
(3) رواه البخاري (2989)، ومسلم (1009). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) رواه بنحوه أبو داود (4887)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 2751)، والضياء (5/ 150). من حديث أنس رضي الله عنه. قال البيهقي: الصحيح رواية من رواه مرسلاً، وقال الضياء: رجاله موثقون والصحيح أنه مرسل.

التاسعة: الجود بالخلق والبشر والبسطة، وهو فوق الجود بالصبر، والاحتمال والعفو، وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، وهو أثقل ما يوضع في الميزان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه)) (1).
العاشرة: الجود بتركه ما في أيدي الناس عليهم، فلا يلتفت إليه، ولا يستشرف له بقلبه، ولا يتعرض له بحاله، ولا لسانه، وهذا الذي قال عبد الله بن المبارك: (إنه أفضل من سخاء النفس بالبذل)، فلسان حال القدر يقول للفقير الجواد: وإن لم أعطك بما تجود به على الناس، فجد عليهم بزهدك في أموالهم وما في أيديهم تفضل عليهم، وتزاحمهم في الجود، وتنفرد عنهم بالراحة، ولكل مرتبة من مراتب الجود مزيد وتأثير خاص في القلب والحال، والله سبحانه وتعالى قد ضمن المزيد للجواد، والإتلاف للإمساك، والله المستعان (2). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 461
_________
(1) رواه أبو داود (4084)، وأحمد (5/ 63) (20651)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 486) (9691)، والطبراني (7/ 63) (6384)، وابن حبان (2/ 281) (522)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 252). من حديث أبي جري الجهني رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1144): حسن غريب، وقال الذهبي في ((المهذب)) (8/ 4253): لبعضه طرق عن جابر وإسناده حسن. والحديث رواه مسلم (2626) بلفظ: ((لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(2) ((مدارج السالكين)) (2/ 305 - 308) باختصار.

ثمان وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله القريب
أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالقرب من داعيه بالإجابة، ومن مطيعه بالإنابة، فإنه يحرص على أن يكون قريباً من الله بتكميله العبودية، فإنه ليس بين الرب والعبد إلا محض العبودية، فكلما كمل قرب العبد إليه خصه بمزيد فضله، فمن تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً.
هذا قربه تعالى من عابده، وأما قربه من داعيه فكما في الآية: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186]، وقربه تعالى من عباده وداعيه قرب خاص أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة، الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه (1).
وبهذا يتبين أن قربه تعالى من عباده نوعان:
أولهما: قربه – تعالى – من قلوب المؤمنين، وقرب قلوبهم منه، وهذا أمر معروف لا يجهل فإن القلوب تصعد إليه على قدر ما فيها من الإيمان والمعرفة به تعالى وذكره وخشيته والتوكل عليه لم ينكره منهم أحد. والثاني: ما دل عليه الحديث ونحوه مثل قربه عشية عرفة، وقربه آخر الليل، كما ثبتت بذلك النصوص. وهذا القرب ينكره أكثر المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والأشعرية، وإنكاره منكر (2).
وللرد على من زعم أن القرب يقصد به الحلول والاتحاد قال الإمام ابن القيم: (وأما ما ذكرتم من أن مشاهدة القرب تجعل القصد قعوداً: فكلام له خبئ، وقد أفصح عنه بعض المغرورين المخدوعين بقوله:
ما بال عينك لا يقر قرارها ... إلام ظلك لا يني متنقلاً
فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ... إلا إليك إذا بلغت المنزلا
وكأن صاحبه يشير إلى أنه وجود قلبه ولسانه، ووجوده أقرب إليه من إرادته ولطفه. هذا خبيء هذا الكلام، وتعالى الله عن إلحاد هذا وأمثاله وإفكهم علواً كبيراً، بل هو سبحانه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه.
وأما ما ذكرتم من القرب: فإن أردتم عموم قربه إلى كل لسان من نطفه، وإلى كل قلب من قصده، فهذا – لو صح – لكان قرب قدرة وعلم وإحاطة لا قرباً بالذات والوجود، فإنه سبحانه لا يمازج خلقه، ولا يخالطهم، ولا يتحد بهم مع أن هذا المنى لم يرد عن الله ورسوله، ولا عن أحد من السلف الأخيار تسميته قرباً، ولم يجئ القرب في القرآن والسنة قط إلا خاصاً كما تقدم.
وإن أردتم القرب الخاص إلى اللسان والقلب: فهذا قرب المحبة، وقرب الرضى، والأنس كقرب العبد من ربه وهو ساجد، وهو نوع آخر من القرب لا مثال ولا نظير، فإن الروح والقلب يقربان من الله وهو على عرشه والروح والقلب والبدن، وهذا لا ينافي القصد والطلب، بل هو مشروط بالقصد، فيستحيل وجوده بدونه، وكلما كان الطلب والقصد أتم كان هذا القرب أقوى (3). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 471
_________
(1) ((بدائع الفوائد)) (2/ 310).
(2) كتاب ((التوحيد)) للغنيمان (1/ 266).
(3) ((مدارج السالكين)) (2/ 300 - 302).

تسع وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله الرشيد
أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالرشد في قوله وفعله وأمره ونهيه، فإنه يطمع في توفيقه تعالى وهدايته له، فمن هداه فهو وليه ومرشده. وفي الدعاء: (اللهم هب لي من لدنك رحمة وهيأ لي من أمري رشدا).
فسبحان من أرشد الصغار من الأطفال والبهائم إلى المنافع، كالتقام الثدي ومص الضرع، والعنكبوت نسيج تلك البيوت، والنحل لصنعة ذلك الشكل، ... وقس على هذا، فكل موجود في الأرض والسماء جاء على منهج السداد، ومنه سبحانه جاء الرشاد وأعظم الرشاد، إرشاد عباده المؤمنين إلى دينه ودين ملائكته ورسله، وما حوته كتبه ذلك الدين القيم، فعليه أن يحسن معاملة مولاه بما أمره به وعن ما نهاه وهذا غاية الرشد، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: ((من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يلومن إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً)) (1). فقد بين صلى الله عليه وسلم أن الرشد في طاعة الله، والغي في معصيته، وعليه أن يرشد عباد الله ويهديهم حتى لا يألفوا أعيادهم وهي –أي الأعادي – كل ذات وصفة من الصفات التي تصدهم عن طاعة الله وعبادته وتوقعهم في حبائل العصيان وشهواته. فإذا اتصف بهذه الصفات تسمى عند الله رشيداً، ونال منه حظاً مجيداً، ولله عليه في هذه المنة والفضل كما امتن على إبراهيم فقال: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ [الأنبياء: 51] (2). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي الغامدي -بتصرف– ص: 474
_________
(1) رواه أبو داود (1097)، والبيهقي (3/ 215) (5594). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده النووي في ((شرح صحيح مسلم)) (6/ 160).
(2) ((الأسنى في شرح الأسماء الحسنى)) للقرطبي (1/ 474).

ثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله الصّبور
أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالصبر فلا يعاجل العصاة بالانتقام منهم ويمهلهم لوقت معلوم، فإن هذا كله يفتح له باب الرجاء ويحثه على الإنابة إلى الله تعالى. قال الإمام ابن القيم: وأما صبره سبحانه فمتعلق بكفر العباد وشركهم، ومسبتهم له سبحانه وأنواع معاصيهم وفجورهم فلا يزعجه ذلك كله إلى تعجيل العقوبة بل يصبر على كيده، ويمهله، ويستصلحه ويرفق به، ويحلم عنه، حتى إذا لم يبق فيه موضع للضيعة، ولا يصلح على الإمهال والرفق بالحلم ولا ينيب إلى ربه ولا يدخل عليه لا من باب الإحسان والنعم، ولا من باب البلاء والنقم أخذه أخذ عزيز مقتدر بعد غاية الإعذار إليه، وبذل النصيحة له ودعائه إليه من كل باب، وهذا كله من موجبات صفة حلمه، وهي صفة ذاتية له لا تزول (1).
ومن مقتضى الإيمان بهذا الاسم الكريم أن يصبر العبد ويتصبر ويصابر، وقد أمر الله بذلك فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ [آل عمران: 200] فأمر سبحانه بالصبر على ما يخصه وعلى مصابرة الأعداء والمداومة على الصبر حتى يتخذه إلفاً وصاحباً وخلاً ومؤانساً، وقد أخبر أنه يحب الصابرين وأنه معهم والصابرون جمع صابر، والصابر أعلى مقاماً من المتصبر، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: ((اتقي الله واصبري)) (2) الحديث، وفيه فقال ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) (3).
وقلما يكون الصبر عند الصدمة الأولى من المتصبر، وإنما يكون من الصابر أو الصبار أو الصبور، وهي مقامات بعضها فوق بعض (4). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 478
_________
(1) ((عدة الصابرين)) (ص: 420، 421).
(2) رواه البخاري (1252)، ومسلم (926). من حديث أنس رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري (1283)، ومسلم (926). من حديث أنس رضي الله عنه.
(4) ((الأسنى في شرح الأسماء الحسنى)) للقرطبي (1/ 141).

واحد وثلاثون: الآثار الإيمانية لأسماء الله الملك – المالك - المليك
1 - إن الملك الحقيقي لله وحده لا يشركه فيه أحد، وكل من ملك شيئا فإنما هو بتمليك الله له، قال صلى الله عليه وسلم ((لا مالك إلا الله)) (1) وفي رواية ((لا ملك إلا الله)) (2) (3).
وقد يسمى بعض المخلوقين ملكا، إذا اتسع ملكه إلا أن الذي يستحق هذا الاسم هو الله جل وعز لأنه مالك الملك، وليس ذلك لأحد غيره، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
فالمخلوقات لا تملك شيئا، وقد أنكر تعالى على المشركين الذين عبدوا هذه المخلوقات التي هي مثلهم في الضعف والعبودية لله تعالى وأنها لا تملك من السماوات والأرض شيئاً ولا مثقال ذرة ولا تنفع أحداً ولا تضره.
قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ [النحل: 73].
وقال سبحانه قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ [المائدة: 76].
وقال سبحانه: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ: 22].
وقال سبحانه: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر: 13].
فالله تبارك وتعالى هو المالك لخزائن السماوات والأرض، بيده الخير، يرزق من يشاء، وهو المالك للموت والحياة والنشور، والنفع والضر وإليه يرجع الأمر كله، فهو المالك لجميع الممالك، العلوية والسفلية وجميع من فيهما مماليك لله فقراء مدبرون.
وهو سبحانه كل يوم هو في شأن يتصرف في ملكوته كيف يشاء، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرَّحمن: 29] قال: ((من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويخفض آخرين)) (4). قال تعالى: يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:247].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا الدهر فإن الله عز وجل قال: أنا الدهر، الأيام والليالي لي، أجددها وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك)) (5).
ولكن من الناس من يطغى ويظن أنه المالك الحقيقي وينسى أنه مستخلف فقط فيما آتاه الله من ملك ومال وجاه وعقار، فيتكبر ويتجبر ويظلم الناس بغير حق، كما حكى الله سبحانه عن فرعون عليه لعنة الله الذي نسى نفسه وضعفها وزعم لنفسه الملك بل والألوهية، قال تعالى عنه: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الزُّخرف: 51].
وهذا كقوله تعالى: فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات: 23 - 24].
_________
(1) رواه مسلم (2143). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه مسلم (2143). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) ((فتح القدير)) (1/ 22).
(4) رواه ابن ماجه (168)، والبزار (10/ 39)، والطبراني في الأوسط (3/ 278) (3140). وحسن إسناده البزار، والبوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (1/ 29).
(5) رواه أحمد (2/ 496) (10442)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (4/ 316). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 74): رجاله رجال الصحيح، وصحح إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 581).

ودعا قومه إلى هذه الضلالة الكبرى فاستجابوا له فعاقبهم جميعاً، قال تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ [الزخرف: 54 - 56]. وقال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [النَّازعات: 26].
وإهلاك الله سبحانه لفرعون وقومه عبرة لكل ظالم متكبر من ملوك الأرض، تفرعن على الناس فيما آتاه الله من ملك، وظن أنه مخلد، ونسي أن ملكه زائل وأن إقامته في ملكه مؤقتة وأن الموت مدركه لا محالة، قال تعالى منبهاً عباده إلى ذلك وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ [المائدة: 18].
2 - وإذا كان الملك المطلق إنما هو لله وحده لا شريك له، فالطاعة المطلقة إنما هي له وحده لا شريك له، لأن من سواه من ملوك الأرض إنما هم عبيد له وتحت إمرته.
فلا بد من تقديم طاعة الملك الحق على طاعة من سواه وتقديم حكمه على حكم غيره، لأن طاعته سبحانه أوجب من طاعة غيره بل لا طاعة لأحد إلا في حدود طاعته، أما في معصيته فلا سمع ولا طاعة.
3 - عدم جواز التسمية بملك الملوك:
وقد ورد في ذلك الحديث المتفق عليه حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخنع اسم عند الله – وقال سفيان غير مرة: أخنع الأسماء عند الله – رجل تسمى بملك الأملاك)) (1) وفي رواية ((أخنى الأسماء يوم القيامة ... )) (2).
قال سفيان: يقول غيره (أي غير أبي الزناد)) تفسيره شاهان شاه (3).
ومعنى أخنع: أوضع اسم وأذله. قال أبو عبيد: الخانع الذليل، وخنع الرجل ذل. قال ابن بطال: وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلاً.
ومعنى أخنى: أي أفحش اسم من الخنا وهو الفحش في القول.
وجاء في رواية مسلم: ((أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه وأغيظه عليه)) (4).
قال ابن حجر: واستدل بهذا الحديث على تحريم التسمي بهذا الاسم لورود الوعيد الشديد ويلتحق به ما في معناه مثل خالق الخلق وأحكم الحاكمين وسلطان السلاطين وأمير الأمراء (5) ...
وقال ابن القيم رحمه الله:
ولما كان الملك الحق لله وحده، ولا ملك على الحقيقة سواه، كان أخنع اسم وأوضعه عند الله، وأغضبه له اسم (شاهان شاه) أي: ملك الملوك، وسلطان السلاطين، فإن ذلك ليس لأحد غير الله، فتسمية غيره بهذا من أبطل الباطل، والله لا يحب الباطل.
وقد ألحق بعض أهل العلم بهذا (قاضي القضاة) وقال: ليس قاضي القضاة إلا من يقضي الحق وهو خير الفاصلين، الذي إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون (6).
4 - الله سبحانه مالك يوم الدين وملكه:
فالملك في ذلك اليوم العظيم لله وحده لا ينازعه فيه أحد من ملوك الأرض وجبابرتها، قال تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4].
وقال تعالى: وَلَهُ المُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [الأنعام: 73].
وقال تعالى: المُلْكُ يَوْمَئِذٍ للهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [الحج: 56].
وقال تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [الفرقان: 26].
وقال تعالى: يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ [غافر: 16].
وقد جاء ما يبين ذلك من السنة الشريفة:
_________
(1) رواه البخاري (6206)، ومسلم (2143).
(2) رواه البخاري (6205).
(3) رواه البخاري بعد حديث (6206).
(4) رواه مسلم (2143). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) ((الفتح)) (10/ 590).
(6) ((الزاد)) (2/ 340 - 341).

فعن عبد الله بن مسعود قال: ((جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أو يا أبا القاسم! إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والجبال والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ثم يهزهن فيقول: أنا الملك أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً مما قال الحبر، تصديقاً له، ثم قرأ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزُّمر: 67])) (1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض)) (2).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون)) (3).
فهل يجيبه أحد من طغاة الأرض وفراعنتها، كلا بل الجميع خاشعون صامتون وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا [طه: 108].
ومن الرحمة للخلق أن الله سبحانه هو الملك الوحيد يوم القيامة لأنه الذي يحاسب بالعدل ولا يظلم ولا يجور وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصِّلت: 46]، وقال: وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء: 47] ...
وثالثها: قوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ لما أثبت لنفسه الملك أردفه بأن وصف نفسه بكونه رحماناً، يعني إن كان ثبوت الملك له في ذلك اليوم يدل على كمال القهر فكونه رحماناً يدل على زوال الخوف وحصول الرحمة.
ورابعها: قوله تعالى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس مَلِكِ النَّاسِ فذكر أولاً كونه رباً للناس ثم أردفه بكونه ملكاً للناس.
وهذه الآيات دالة على أن الملك لا يحسن ولا يكمل إلا مع الإحسان والرحمة، فيما أيها الملوك اسمعوا هذه الآيات، وارحموا هؤلاء المساكين، ولا تطلبوا مرتبة زائدة في الملك على ملك الله تعالى اهـ (4). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود - بتصرف– ص: 88
_________
(1) رواه البخاري (4811)، ومسلم (2786).
(2) رواه البخاري (4812)، ومسلم (2787).
(3) رواه البخاري (7412)، ومسلم (2788).
(4) ((التفسير الكبير)) للرازي (1/ 239).

اثنان وثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله القدوس
1) تقديس الله سبحانه وتنزيهه عن النقائص وأنه موصوف بكل كمال، وصفات الكمال هي ما وصف به نفسه سبحانه في كتابه أو ما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
وليس معنى التنزيه هو تعطيل صفات الله ونفي معاني أسمائه الحسنى كما ظنه الجهمية والمعتزلة ومن شابههم من الفرق الضالة، وإنما هو تنزيهه عن مشابهة الخلق كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشُّورى: 11].
فتنزيه أهل السنة ليس فيه تعطيل، وإثباتهم ليس فيه تشبيه، والآية السابقة فيها تنزيه وإثبات، وكل تنزيه ونفي في الكتاب فإنما هو لثبوت كمال ضده، فمثلاً نفي الله عن نفسه الظلم بقوله وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصِّلت: 46] وذلك لثبوت كمال العدل له سبحانه وهكذا، وأما النفي المحض فلا كمال فيه وهو مذموم.
وقال الحليمي: (القدوس) ومعناه الممدوح بالفضائل والمحاسن، والتقديس مضمن في صريح التسبيح، والتسبيح مضمن في صريح التقديس، لأن نفي المذام إثبات للمدائح، كقولنا: لا شريك له ولا شبيه له، إثبات أنه واحد أحد، وكقولنا: لا يعجزه شيء، إثبات أنه قادر قوي، وكقولنا: إنه لا يظلم أحداً، إثبات أنه عدل في حكمه.
وإثبات المدائح له نفي للمذام عنه كقولنا: إنه عالم، نفي للجهل عنه، وكقولنا: إنه قادر، نفي للعجز عنه، إلا أن قولنا هو كذا، ظاهره التقديس، وقولنا ليس بكذا، ظاهره التسبيح، لأن التسبيح موجود في ضمن التقديس، والتقديس موجود في ضمن التسبيح.
وقد جمع الله تبارك وتعالى بينهما في صورة (الإخلاص) فقال عز اسمه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ فهذا تسبيح، والأمران راجعان إلى إفراده وتوحيده ونفي الشريك والتشبيه عنه (1).
2) وكما أنه منزه عن النقائص في صفاته وأسمائه الحسنى، فهو أيضاً منزه عن النقص في أقواله وأفعاله.
فقوله الصدق وخبره الحق، قال سبحانه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا [النساء: 87] وقال وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا [النساء: 122].
وفعله منزه عن الخطأ والنسيان وغيرها من الآفات، قال سبحانه وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ [الأنعام: 115] أي صدقاً فيما قال وأخبر ووعد، وعدلاً فيما حكم وشرع من أحكام.
وقال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ [المؤمنون: 115 - 116] أي تعالى وتقدس وتنزه عن أن يخلق شيئا عبثاً أو سفهاً.
3) كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكر هذا الاسم في ركوعه وسجوده. فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: سبوح قدوس رب الملائكة والروح (2).
وكان يسبح الله به بعد فراغه من الوتر كما جاء في حديث أبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد فإذا سلم قال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات (3). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 99
_________
(1) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 197) وذكره ضمن الأسماء التي تتبع نفي التشبيه عن الله تعالى جده، ونقله البيهقي في ((الأسماء)) (ص: 38).
(2) رواه مسلم (487).
(3) رواه النسائي (3/ 244)، وأحمد (3/ 406) (15398)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (8/ 108) (8115). والحديث صحح إسناده النووي في ((الأذكار)) (120)، وصححه ابن دقيق في ((الإلمام بأحاديث الأحكام)) (1/ 229) على طريقة أهل الحديث - كما اشترط في المقدمة -، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (3/ 21).

ثلاث وثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله السلام
1) الله سبحانه وتعالى هو (السلام) أي السالم من كل نقص وآفة وعيب، فمعناه قريب من القدوس.
وقيل إن القدوس: إشارة إلى براءته عن جميع العيوب في الماضي والحاضر، والسلام: إشارة إلى أنه لا يطرأ عليه شيء من العيوب في الزمان المستقبل، فإن الذي يطرأ عليه شيء من العيوب تزول سلامته ولا يبقى سليماً (1).
2) الله سبحانه هو المسلم على عباده وأوليائه في الجنة، قال تعالى خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ [إبراهيم: 23].
وقال سبحانه: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا [الأحزاب: 44]. وقال سَلامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ [يس: 58].
فالله تعالى يحيي عباده في الجنة بالسلام عليهم، والجنة هي دار السلام من الموت والمرض وسائر الآفات. قال تعالى: لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ [الأنعام: 127] وقال وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ [يونس: 25].
3) والله تعالى هو المسلم على أنبيائه ورسله، لإيمانهم وإحسانهم وطاعتهم له وتحملهم في سبيله أعظم الشدائد، فيؤمنهم في الآخرة فلا يخافون ولا يفزعون.
وقيل: سلم الله تعالى عليهم ليقتدي بذلك البشر فلا يذكرهم أحد بسوء (2).
قال تعالى سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات: 79].
وقال سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات: 109].
وقال سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات: 120]
وقال تعالى سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ [الصافات: 130].
وقال وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 181].
وقال سبحانه قُلِ الحَمْدُ للهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل: 59].
قال الخطابي: أخبرني أحمد بن إبراهيم بن مالك حدثنا موسى بن إسحاق الأنصاري عن صدقة بن الفضل قال سمعت سفيان بن عيينة يقول: أوحش ما تكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان، ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم. قال: فأكرم الله فيها يحيى فخصه بالسلام فقال وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 15]، كأنه أشار إلى أن الله جل وعز سلم يحيى من شر هذه المواطن الثلاثة وأمنه من خوفها.
وكذا عباده المؤمنين فإن الملائكة تسلم عليهم عند قبض أرواحهم وتطمئنهم وتؤمنهم. قال تعالى الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 32]. فالملائكة تبشرهم بالفوز بالجنة والنجاة من عقاب الله والنار.
4) الأمر بإفشاء الاسم وأنه سبب في دخول الجنة:
...
_________
(1) انظر: ((التفسير الكبير)) للرازي (29/ 293).
(2) ((تفسير البحر المحيط)) لأبي حيان (7/ 349).

وإفشاء السلام من شعائر الإسلام العظيمة التي يتهاون فيها كثير من المسلمين وهي من أوائل ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم عندما وصل إلى المدينة، فعن عبد الله بن سلام قال: أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلما تأملت وجهه واستثبته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب. قال: وكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: ((أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)) (1).
5) لا يقال السلام على الله:
جاء ذلك في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فنقول: السلام على الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو السلام ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) (2).
قال البيضاوي ما حاصله: أنه صلى الله عليه وسلم أنكر التسليم على الله وبين أن ذلك عكس ما يجب أن يقال، فإن كل سلام ورحمة له ومنه وهو مالكها ومعطيها (3).
وقال الخطابي: المراد أن الله هو ذو السلام فلا تقولوا السلام على الله فإن السلام منه بدأ وإليه يعود (4).
ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يقولوا: التحيات لله. قال ابن حجر: جمع تحية ومعناها السلام. وقيل: البقاء. وقيل: العظمة. وقيل: السلامة من الآفات والنقض. وقيل: الملك.
وقال ابن قتيبة: لم يكن يحيا إلا الملك خاصة، وكان لكل ملك تحية تخصه فلهذا جمعت، فكان المعنى التحيات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كلها مستحقة لله.
وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون لفظ التحية مشتركاً بين المعاني المقدم ذكرها، وكونها بمعنى السلام أنسب هنا (5).
وجاء في حديث أنس قال: قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله يقرئ خديجة السلام، يعني فأخبرها. فقالت: ((إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته)) (6).
قال العلماء: في هذه القصة دليل على وفور فقهها لأنها لم تقل (وعليه السلام) كما وقع لبعض الصحابة حيث كانوا يقولون في التشهد (السلام على الله) فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فعرفت خديجة رضي الله عنها لصحة فهمها أن الله لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوقين لأن السلام اسم من أسماء الله تعالى. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود - بتصرف– ص: 105
_________
(1) رواه الترمذي (2485)، وابن ماجه (1334)، وأحمد (5/ 451) (23835)، والدارمي (1/ 405) (1460)، والحاكم (3/ 14). من حديث عبدالله بن سلام رضي الله عنه. قال الترمذي: صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (2/ 463): حسن صحيح.
(2) رواه البخاري (831)، ومسلم (402).
(3) ((الفتح)) (2/ 312).
(4) ((الفتح)) (2/ 312).
(5) ((الفتح)) (2/ 312)، وانظر كذلك ((النهاية لابن الأثير)) (1/ 183).
(6) رواه النسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 94)، والضياء (2/ 266). وقال: له شاهد، وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (116).

أربع وثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله المؤمن
1) إن الله سبحانه وتعالى هو المؤمن الموحد لنفسه، وقد أخبر عن وحدانية نفسه في قوله تعالى شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: 18].
فالله صدق نفسه بهذا، وتصديقه علمه بأنه صادق، وهذا التصديق إيمان.
وأخبر تعالى أنه سيري خلقه علامات وحدانيته ودلائل إلهيته وعظمته، قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصِّلت: 53].
2) إنه سبحانه صدق أنبياءه بإظهار الآيات الباهرة على أيديهم التي تبين للناس أنهم صادقون في ادعائهم أنهم رسل الله ولتحملهم على الدخول في دين الله، قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 49].
وقال: وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ [آل عمران: 50].
3) إنه تعالى يصدق عباده ما وعدهم به من النصر في الدنيا والتمكين في الأرض ومن الثواب في الآخرة، ويصدق الكفار ما أوعدهم من العقاب والخذلان في الدنيا والآخرة، قال تعالى وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ [النور: 55].
ومن نظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين علم صدق وعد الله لعباده المخلصين.
وقال تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ [الأعراف: 44].
وقال وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر: 74].
4) إنه يأمن عذابه من لا يستحقه، ويهب الأمن لعباده المؤمنين يوم القيامة، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ.
وقال تعالى أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [فصلت: 40].
وقال لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ [الأنبياء: 103].
وقال مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ [النمل: 89].
5) وأما المؤمن فقد وجب عليه أن يأمن المؤمنون شره وغوائله. فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن: قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)) (1) أي لا يكون الرجل مؤمناً كامل الإيمان حتى يأمن جاره بوائقه أي: شروره وغوائله.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) (2).
وعن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((ألا أخبركم بالمؤمن! من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده)) (3). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 105
_________
(1) رواه البخاري (6016) من حديث أبي شريح العدوي رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري (10)، ومسلم (40). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(3) رواه ابن ماجه (3193)، أحمد (6/ 21) (24004)، وابن حبان (11/ 203) (4862). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 268): إسناده صحيح، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 271): رجاله ثقات، وصحح إسناده ابن حجر في ((مختصر البزار)) (1/ 464)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

خمس وثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله المهيمن
1 - إن الله سبحانه هو الشاهد على خلقه بما يصدر منهم من قول أو فعل، لا يغيب عنه من أفعالهم شيء، وله الكمال في هذا فلا يضل ولا ينسى ولا يغفل وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 74].
2 - جعل الله تعالى كلامه المنزل على خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم مهيمناً على ما قبله من الكتب، فقال سبحانه: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ [المائدة: 48].
قال ابن الحصار: ومعنى قوله تعالى: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ أي: عال، وعلوه على سائر كتب الله، وإن كان الكل كلام الله تعالى بأمور:
أحدها: بما زاد عليها من السور، فقد جاء في حديث الصحيح أن نبينا صلى الله عليه وسلم خص بسورة الحمد وخواتيم سورة البقرة (1).
والأمر الثاني: أن جعله الله قرآن عربياً مبيناً، وكل نبي قد بين لقومه بلسانهم – كما أخبر الله تعالى – ولكن للسان العرب مزية في البيان.
والثالث: أن جعل نظمه وأسلوبه معجزاً، وإن كان الإعجاز في سائر الكتب المنزلة من عند الله سبحانه، من حيث الإخبار عن المغيبات، والإعلام بالأحكام المحكمات، وسنن الله المشروعات، وغير ذلك، وليس فيها نظم وأسلوب خارج عن المعهود.
فكان أعلى منها بهذه المعاني، ولهذا المعنى الإشارة بقوله الحق: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: 4]. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 120
_________
(1) الحديث رواه مسلم (806) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. بلفظ: (( .. أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته)).

ست وثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله الجبار
1 - إن الله تعالى هو الجبار الذي له العلو على خلقه، علو الذات، وعلو القدر والصفات، وعلو القهر والجبر، لا يدنو منه الخلق إلا بأمره، ولا يشفعون أو يتكلمون إلا من بعد إذنه، لن يبلغوا ضره فيضروه، ولن يبلغوا نفعه فينفعوه.
2 - جبر الله تعالى خلقه على ما أراد أن يكونوا عليه من خلق، لا يمتنع عليه شيء منهم أبداً إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82].
وقال تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران: 83].
وقال: إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ [الأعراف: 54].
وقال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ [فصِّلت: 12].
أي: استجيبا لأمري، وانفعلا لفعلي، طائعتين أو مكرهتين.
3 - والله سبحانه جبر خلقه أيضاً على ما شاء من أمر أو نهي، بمعنى أنه شرع لهم من الدين ما ارتضاه هو، كما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة: 1].
فشرع لهم من الشرائع ما شاء، وأمرهم باتباعها ونهاهم عن العدول عنها، فمن أطاع فله الجنة ومن عصى فله النار. ولم يجبر أحداً من خلقه على إيمان أو كفر، بل لهم المشيئة في ذلك كما قال سبحانه: وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29].
وقال: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس: 7 - 10]. وهم مع ذلك لا يخرجون عن مشيئته.
ولو شاء الله لهدى الناس جميعاً، ولم يجعل لهم اختياراً كما قال سبحانه: أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا [الرعد: 31]، وقال: وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة: 13].
4) الجبروت لله وحده وقد مدح الله بهذا الاسم نفسه وأما في حق الخلق فهو مذموم فما الفرق؟.
الفرق أنه سبحانه قهر الجبابرة بجبروته وعلاهم بعظمته لا يجري عليه حكم حاكم فيجب عليه انقياده، ولا يتوجه عليه أمر آمر فيلزمه امتثاله، آمر غير مأمور، قاهر غير مقهور لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23].
وأما الخلق فهم موصوفون بصفات النقص مقهورون مجبورون تؤذيهم البقة وتأكلهم الدودة، وتشوشهم الذبابة، أسير جوعه، وصريع شبعه ومن تكون هذه صفته كيف يليق به التكبر والتجبر؟! (1)
_________
(1) ((شرح الأسماء)) للرازي (ص: 199).

وقد أنكرت الرسل على أقوامها صفة التجبر والتكبر في الأرض بغير الحق كما قال تعالى عن هود صلى الله عليه وسلم أنه قال لقومه وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إلى أن قال إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء: 130 - 135]. ولكنهم عاندوا واتبعوا أمر جبابرتهم فهلكوا أجمعين. قال تعالى وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [هود: 59].
وقد كان التجبر سببا للطبع على قلوبهم فلم تعرف معروفاً ولم تنكر منكراً كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر: 35].
وقد توعد الله سبحانه الجبابرة بالعذاب والنكال، توعدهم بجهنم وبئس المهاد. قال تعالى وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم: 15 - 17].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين)) (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ... )) (2).
5) الأرض كلها خبزة بيد الجبار سبحانه وتعالى يوم القيامة:
عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة ... )) (3).
6) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بين السجدتين فيقول: ((اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني واهدني وعافني وارزقني)) (4).
فكان يدعو بما دل عليه اسم الجبار جل وعلا.
قال ابن الأثير: وأجبرني أي أغنني، من جبر الله مصيبته: أي رد عليه ما ذهب منه وعوضه، وأصله من جبر الكسر (5).
وكان يعظم ربه أيضاً بهذا الاسم في الصلاة في الركوع والسجود كما جاء في حديث عوف بن مالك الأشجعي أنه كان يقول في ركوعه: ((سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)) (6)، وفي سجوده مثل ذلك. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 133
_________
(1) رواه الترمذي (2574)، وأحمد (2/ 336) (8411)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5/ 190). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (16/ 184).
(2) رواه البخاري (4850)، ومسلم (2846). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري (6520)، ومسلم (2792).
(4) رواه أحمد (1/ 371) (3514)، والطبراني (12/ 20) (12378)، والبيهقي (2/ 122) (2857). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (5/ 172).
(5) ((النهاية)) (1/ 236).
(6) رواه أبو داود (873)، والنسائي (2/ 191)، وأحمد (6/ 24) (24026). والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه النووي في ((المجموع)) (4/ 67)، وحسنه ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/ 74).

سبع وثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله المتكبر والكبير
1) إن الله أكبر من كل شيء، وأكبر من أن يعرف كنه كبريائه وعظمته وأكبر من أن نحيط به علماً. قال تعالى وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: 110]، فالله جلت عظمته أكبر من أن نعرف كيفية ذاته أو صفاته ولذلك نهينا عن التفكر في الله لأننا لن ندرك ذلك بعقولنا الصغيرة القاصرة المحدودة، فقد قال صلى الله عليه وسلم ((تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله عز وجل)) (1).
وقد وقع الفلاسفة في ذلك وحاولوا أن يدركوا كيفية وماهية ربهم بعقولهم فتاهوا وضلوا ضلالاً بعيداً ولم يجنوا سوى الحيرة والتخبط والتناقض فيما سطروه من الأقوال والمعتقدات.
فمن أراد معرفة ربه وصفاته فعليه بطريق الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه أعلم الخلق بالله وصفاته، فعليه أنزل الكتاب العزيز الذي لا تكاد الآية منه تخلو من صفة لله سبحانه سواء كانت ذاتية أو فعلية أو اسم من أسمائه الحسنى، وعليه أيضاً أنزلت السنة الشارحة والمفصلة للكتاب، فطريقه صلى الله عليه وسلم هو الطريق الأسلم ومنهجه هو المنهج الأقوم، فمن اتبعه كان من الناجين، ولذلك بين في الحديث الصحيح أن الفرقة الناجية هي ما كان عليه هو وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين في المعتقد والعبادة والسلوك.
2) إن التكبر لا يليق إلا به سبحانه وتعالى، فصفة السيد التكبر والترفع وأما العبد فصفته التذلل والخشوع والخضوع.
وقد توعد الله سبحانه المتكبرين بأشد العذاب يوم القيامة. قال تعالى فَاليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ [الأحقاف: 20].
وقال أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزُّمر: 60].
واستكبارهم هذا: هو رفضهم الانقياد لله ولأمره ورفضهم عبادة ربهم كما قال تعالى إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصَّفات: 35]، فرفضوا الإذعان لكلمة التوحيد وقوله سبحانه أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الجاثية: 31] يبين أنهم رفضوا الحق الذي جاءت به الرسل وردوه ولم يقبلوه، وقوله سبحانه قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111] يبين أنهم احتقروا أتباع الرسل لكونهم من ضعفة الناس وفقراءهم فلم يدخلوا في جماعتهم ولم يشاركوهم في الإيمان بما جاءت به الرسل.
وكان الكبر سببا للطبع على قلوبهم فلم تعد تعرف معروفا ولا تنكر منكرا. قال تعالى كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر: 35].
فالحاصل أن الكبر كان سببا في هلاك الأمم السابقة بل كان السبب في هلاك إبليس عليه لعنة الله وطرده من رحمة الله لأنه أبي أن يسجد لآدم صلى الله عليه وسلم واستكبر على أمر ربه سبحانه، قال تعالى إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ [البقرة: 34].
3) ولا يكاد يخلو طاغية في الأرض من هذا المرض العضال، الذي كثرت الآيات فيه والأحاديث المحذرة منه، والآمرة بالتواضع.
_________
(1) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6/ 250) (6319)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 136). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث حسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2975).

ودواؤه أن يتذكر العبد دوماً أنه لا حول له ولا قوة إلا بربه وأن الله هو الكبير المتعال على الخلق أجمعين، القادر على الانتقام من الأقوياء للضعفاء والمساكين كما جاء في قوله تعالى وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النساء: 34] أي والنساء اللاتي تتخوفون أن يعصين أزواجهن فذكروهن بالله فإن هي رجعت وإلا هجرها فإن أقبلت وإلا ضربها ضربا غير مبرح فإذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريده منها مما أباحه الله فلا سبيل له عليها، وقوله إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب فإن الله العلي الكبير وليهن، وهو منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن (1).
فذكر الله الرجال بأنه هو العلي الكبير ليحذرهم من الظلم والتكبر والطغيان على المرأة الضعيفة.
4) والكبر يمنع أيضا من طلب العلم والسؤال عنه، لأن المتكبر يترفع عن الجلوس بين يدي العالم للتعلم ويرى أن في ذلك مهانة له ويؤثر البقاء على الجهل فيجمع بين الكبر والجهل، بل قد يجادل ويناقش ويخوض في المسائل بدون علم حتى لا يقال أنه لا يعلم فيصغر عند الناس، قال تعالى ذكره وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج: 8 - 9].
أي ومن الناس من يجادل في الله بغير علم صحيح ولا نقل صريح بل بمجرد الرأي والهوى وإذا دعي إلى الحق ثنى عطفه أي لوى رقبته مستكبراً عما يدعى إليه من الحق كقوله تعالى وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ فأخبر تعالى أن له في الدنيا الخزي وهو الإهانة والذل لأنه استكبر عن آيات الله فجوزي بنقيض قصده وله في الآخرة عذاب النار المحرقة.
ونحوه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [غافر: 56]. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 141
_________
(1) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 491 - 492).

ثمان وثلاثون: الآثار الإيمانية لأسماء الخالق – الخلاق – البارئ – المصور
1) أخبر تعالى عن نفسه أنه هو الخالق وحده وما سواه مخلوق، قال تعالى قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ [الرعد: 16]. وقال سبحانه هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ [فاطر: 3].
فكل ما سوى الله مخلوق محدث، كائن بعد أن لم يكن، وكل المخلوقات سبقها العدم كما قال عز وجل هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان: 1].
وهذا قول الرسل جميعا وأتباعهم، وخالف في ذلك الفلاسفة القائلين بقدم العالم وأبديته وأنه لم يكن معدوماً أصلًا، بل لم يزل ولا يزال، ولكن الكتاب يرد ذلك ويرفضه (1).
2) أن الله سبحانه لم يزل خالقاً كيف شاء ومتى شاء ولا يزال، لقوله سبحانه قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [آل عمران: 47].
وقوله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص: 68]. وقوله سبحانه: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [البروج: 15 - 16]. وليس بعد خلق الخلق استفاد اسم (الخالق)، ولا بإحداثه البرية استفاد اسم (الباري)، وذلك من كماله، ولا يجوز أن يكون فاقداً لهذا الكمال، أو معطلاً عنه في وقت من الأوقات، قال تعالى أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17].
3) إن الله تعالى ذكره خالق كل شيء. قال تعالى: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [غافر: 62].
ومن جملة مخلوقاته أفعال العباد وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يدل هذا على أن العبد ليس بفاعل على الحقيقة ولا مريد ولا مختار، بل هو فاعل لفعله حقيقة، وأن إضافة الفعل إليه إضافة حق، وأنه يستوجب عليه المدح والذم والثواب والعقاب، لكن لا يدل هذا أنه واقع بغير مشيئة الله وقدرته.
والدليل على أن أفعال العباد مخلوقة قوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] فأفعالهم لله تعالى خلق ولهم كسب، ولا ينسب شيء من الخلق لغير الله تعالى، فيكون شريكا وندا ومساويا له في نسبة الفعل إليه، وقد نهى الله سبحانه عن ذلك بقوله فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22] وقد وقع في ذلك القدرية نفاة القدر، الذين جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى، ولهذا كانوا (مجوس هذه الأمة) بل أردأ من المجوس من حيث أن المجوس أثبتوا خالقين، خالقاً للخير وخالقا للشر، وأما هؤلاء فقد أشركوا جميع العباد في الخلق فقالوا هم يخلقون أفعالهم، وخالفوا بذلك الكتاب والسنة وأهل الحق (2).
4) خلق الله عظيم محكم فلا يستطيع مخلوق أن يخلق مثله، فضلاً عن أن يخلق أفضل منه، قال سبحانه وتعالى: هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [لقمان: 11]. وفي الآية تحدي لجميع الخلق من الجن والإنس وغيرهم.
_________
(1) قال ابن تيمية في ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/ 167): وقد نقل غير واحد أن أول من قال بقدم العالم من الفلاسفة أرسطو.
(2) انظر: ((العقيدة الطحاوية)) (ص: 493 - 502)، و ((الفتح)) (13/ 491 - 495).

وقد أثبت الله عجزهم عن خلق خلق ضعيف حقير كالذباب مثلاً ولو اجتمعوا على ذلك وتعاونوا عليه، قال عز وجل يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الحج:73 - 74.
5) ولذلك حرم الله على عباده أن يصوروا الصور ذات الأرواح لما فيها من مضاهاة لخلق الله، أي تشبيه ما يصنعونه ويصورونه من الصور بما يصنعه ويصوره الله كما جاء في رواية مسلم ((الذين يشبهون بخلق الله)) (1).
وقد وردت أحاديث كثيرة في توعد المصورين بأشد العذاب كقوله صلى الله عليه وسلم ((إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون)) (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم ((إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم أحيوا ما خلقتم)) (3)، وهو أمر تعجيز ويستفاد منه صفة تعذيب المصور وهو أن يكلف نفخ الروح في الصورة التي صورها وهو لا يقدر على ذلك فيستمر تعذيبه. قاله الحافظ (4).
وجاء في الحديث القدسي قوله تعالى: ((ومن أظلم مم ذهب – أي قصد – يخلق خلقاً كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة)) (5).
فتحداهم الخالق سبحانه بأن يخلقوا ذرة وهي النملة الصغيرة، ثم زاد في التحدي بأن طلب منهم أن يخلقوا حبة أو شعيرة وهو من الجماد الذي لا حركة فيه نسبياً إذا ما قيس بالنسبة للنمل الذي يتحرك.
وقال بعض الملحدة يوماً: أنا أخلق! فقيل له: فأرنا خلقك؟ فأخذ لحماً فشرحه، ثم جعل بينه روثاً ثم جعله في كوز وختمه ودفعه إلى من حفظه عنده ثلاثة أيام، ثم جاء به إليه فكسر الخاتم وإذا الكوز ملآن دوداً، فقال: هذا خلقي!! فقال له بعض من حضر: فكم عدده؟ فلم يدر، فقال: كم منه ذكور وكم منه إناث، وهل تقوم برزقه؟ فلم يأت بشيء، فقال له: الخالق الذي أحصى كل ما خلق عدداً، وعرف الذكر من الأنثى، ورزق ما خلق، وعلم مدة بقاءه وعلم نفاد عمره، قال الله عز وجل: اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الرُّوم: 40] وقال: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] (6).
وقد قسم النووي – رحمه الله – المصورين إلى ثلاثة أقسام:
أ- من فعل الصورة لتعبد وهو صانع الأصنام ونحوها فهذا كافر وهو أشدهم عذابا.
ب- من فعل الصورة وقصد مضاهاة خلق الله تعالى واعتقد ذلك، فهذا كافر له من أشد العذاب ما للكفار ويزيد عذابه بزيادة قبح كفره.
ج- من لم يقصد بالصورة العبادة ولا المضاهاة فهو فاسق صاحب ذنب كبير ولا يكفر كسائر المعاصي اهـ (7).
_________
(1) رواه مسلم (2107). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) رواه البخاري (5950)، ومسلم (2109). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري (5951)، ومسلم (2108). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4) ((الفتح)) (10/ 384).
(5) رواه البخاري (7559)، ومسلم (2111). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) ((الحجة في المحجة)) (1/ 143)
(7) ((شرح مسلم)) (14/ 91)، وانظر: ((الفتح)) (10/ 383 - 384).

6) وجود هذا الخلق العظيم المحيط بنا من كل ناحية دليل على قدرة الخالق وعلى عظمته وكماله، فالإنسان يعجز في كثير من الأحيان عن معرفة جوانب كثيرة من الأرض التي يعيش عليها، مع أنها صغيرة جداً إذا ما قيست بالنسبة لبقية الكون الفسيح المليء بملايين النجوم المضيئة والشموس والأقمار والتي يعجز عن حصرها أو عدها، وهذا كله في السماء الدنيا، التي فوقها ست سماوات طباق، بعضها فوق بعض وفوقهن جميعاً الكرسي، ومن عظمة خلق هذا الكرسي واتساعه أنه يستوعب السماوات السبع والأرض جميعاً، قال تعالى وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة: 255] والعرش أعظم من ذلك والخالق سبحانه فوق العرش، وهو جلت عظمته أكبر من كل شيء وأعظم.
وبذلك تعلم أن خلق الإنسان ضعيف جداً، إذا ما قورن بالسماوات السبع والكرسي والعرش كما قال تعالى لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر: 57] وقوله تعالى أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا [النازعات: 27 - 29].
7) وأخيرا يجب أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى ما خلق هذا الخلق العظيم لهوا ولعباً، ولا خلقه عبثا وإنما خلقه لغاية عظيمة، قال تعالى أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ [المؤمنون: 115 - 116] أي أفظننتم أنكم مخلوقون عبثاً بلا قصد ولا حكمة لنا فيكم، فتعالى الله أي تقدس وتنزه عن ذلك ثم ذكر العرش لأنه سقف جميع المخلوقات (1).
وقال عز وجل وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء: 18].
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض بالحق – أي بالعدل – ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى وأنه لم يخلق ذلك عبثاً ولا لبعاً (2).
وأبان تعالى عن هذه الغاية العظيمة بقوله وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: 56 - 57]. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 157
_________
(1) من ((تفسير ابن كثير)) (3/ 259) ملخصاً.
(2) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 174 - 175).

تسع وثلاثون: الآثار الإيمانية لأسماء الله الغافر – الغفور – الغفار
1) وصف الله سبحانه نفسه بأنه غفار وغفور للذنوب والخطايا والسيئات لصغيرها وكبيرها، وحتى الشرك إذا تاب منه الإنسان واستغفر ربه، قبل الله توبته وغفر له ذنبه، قال تعالى قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزُّمر: 53] وقال تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 110].
فمهما عظمت ذنوب هذا الإنسان فإن مغفرة الله ورحمته أعظم من ذنوبه التي ارتكبها قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ [النَّجم: 32].
وقد تكفل الله سبحانه بالمغفرة لمن تاب وآمن، قال تعالى وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82].
بل من فضله وجوده وكرمه أن تعهد بأن يبدل سيئات المذنبين إلى حسنات، قال تعالى عن التائبين فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 70].
2) ولكن لا يجوز للمسلم أن يسرف في الخطايا والمعاصي والفواحش بحجة أن الله غفور رحيم، فالمغفرة إنما تكون للتائبين الأوابين، قال تعالى إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا [الإسراء: 25]، وقال سبحانه إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [النمل: 11].
فاشترط تبدل الحال من عمل المعاصي والسيئات إلى عمل الصالحات والحسنات لكي تتحقق المغفرة والرحمة. وقوله تعالى إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] يبين أن المقيم على الشرك حتى الوفاة لا غفران لذنوبه لأنه لم يبدل حسناً بعد سوء، وكذا قوله تعالى عن المنافقين سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ [المنافقون: 6] لأنهم لم يخلصوا دينهم لله ولم يصلحوا من أحوالهم وأما إذا حصل ذلك فإن المغفرة تحصل لهم مع المؤمنين قال تعالى إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ المُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 146] ...
3) اتصاف الله سبحانه بأنه (غفار) للذنوب والسيئات، فضل من الله ورحمة عظيمة للعباد، لأنه غني عن العالمين، لا ينتفع بالمغفرة لهم، لأنه سبحانه لا يضره كفرهم أصلاً، ولا يغفر لهم خوفاً منهم أيضاً، لأنه قوي عزيز، قد قهر كل شيء وغلبه ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وقد نبه الله عباده إلى هذا الأمر في القرآن الكريم عدة مرات، باقتران اسمه (الغفور) مع (العزيز) كقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر: 28] وقوله أَلَا هُوَ العَزِيزُ الغَفَّارُ [الزُّمر: 5] فمع عزته وقهره، إلا أنه غفور رحيم. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود- بتصرف– ص: 165

أربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله القاهر – القهار
1) إن القهار على الحقيقة هو الله وحده سبحانه، هو قهر وغلب عباده أجمعين، حتى إن أعتى الخلق يتضاءل ويتلاشى أمام قهر الله وجبروته، فها هو الموت الذي كتبه الله على عباده لا يستطيع الخلق رده أو دفعه عن أنفسهم، ولو أوتوا من القوة والجبروت ما أوتوا، وقد ذكر الله الموت قريباً من وصفه نفسه بـ (القاهر) لذكرهم بشيء قد قهرهم به أجمعين وذلك في قوله وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: 61 - 62].
ومما قهرهم به أيضاً: الأمراض والمصائب والنكبات التي لا يملكون ردها عن أنفسهم.
وما أحسن قول من قال: القهار الذي طاحت عند صولته صولة المخلوقين، وبادت عند سطوته قوى الخلائق أجمعين، قال تعالى لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ فأين الجبابرة والأكاسرة! عند ظهور هذا الخطاب وأين الأنبياء والمرسلون، والملائكة المقربون في هذا العتاب، وأين أهل الضلال والإلحاد، والتوحيد والإرشاد، وأين آدم وذريته، وأين إبليس وشيعته، وكأنهم بادوا أو انقضوا زهقت النفوس، وتبددت الأرواح وتلفت الأجسام والأشباح، وتفرقت الأوصال، وبقي الموجود الذي لم يزل ولا يزال (1).
2) وأما صفة القهر في الخلق، فغالباً ما تكون مذمومة لقيامها على الظلم والطغيان، والتسلط على الضعفاء والفقراء كما قال فرعون لعنه الله قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف: 127].
وقال تعالى فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [الضُّحى: 9] أي لا تسلط عليه بالظلم وادفع إليه حقه، وخص اليتيم لأنه لا ناصر له غير الله تعالى، فغلظ في أمره بتغليظ العقوبة على ظالمه، وقوله وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ أي لا تزجره ولا تغلظ له القول.
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ قال القرطبي: وهذه هي النعمة العظمى، وهي ما من الله عليه من الرسالة والنبوة والخلة والمحبة والعلم والحكمة، فأوجب عليه أن يظهر ذلك ويشيعه ويحدث به، ويعلم الجاهل غير ممتن عليه ولا متطاول ولا قاهر له.
وكذلك قال معاوية بن الحكم السلمي: (فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني) الحديث خرجه مسلم (2).
وقرئ فلا تكهر بالكاف وهي قراءة عبد الله بن مسعود، قال الكسائي: كهره وقهره بمعنى (3).
3) قوله تعالى وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: 61] يستفاد منه صفة العلو لله سبحانه على عباده، سواء علو (المكانة والرتبة) أو علو (المكان والجهة) وقد تظافرت أدلة الكتاب والسنة عليه (أي الثاني) كقوله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى وقوله أَأَمِنتُم مَّنْ فِي السَّمَاء.
4) أنه سبحانه هو الذي قهر الخلق جميعاً على ما أراد.
5) أن الله هو القهار المستحق للعبادة والألوهية وما سواه من الآلهة فإنما هي مخلوقات عاجزة مقهورة، لا تملك أن ترد الضر عن نفسها فكيف تقهر غيرها، وبهذا جادل نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم صاحباه في السجن فقال يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ [يوسف: 39] فبين لهم أن آلهتهم متعددة متفرقة، والعابد لها متحير أيها يرضى، وأنها مسخرة ومقهورة لله وفي قبضته، وليس لها من الألوهية إلا الاسم الذي أعطي لها زوراً وبهاتاناً دون حجة ولا برهان مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [يوسف: 40]. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 171
_________
(1) انظر: ((شرح الأسماء)) للرازي (ص: 222).
(2) رواه مسلم (537).
(3) ((الكتاب الأسنى)).

واحد وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله الوهاب
1) أن الوهاب هو الله وحده، بيده خزائن كل شيء، الذي له ملك السماوات والأرض ومن فيهن قال تعالى لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى: 49 - 50].
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه خالق السماوات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وأنه يخلق ما يشاء، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وأنه يخلق ما يشاء. ثم قال: فجعل الناس أربعة أقسام منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم من يعطيه من النوعين ذكوراً وإناثاً، ومنهم من يمنعه هذا وهذا، فيجعله عقيماً لا نسل له ولا ولد له، إنه عليم أي بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام، قدير أي على يشاء من تفاوت الناس في ذلك (1).
فالله سبحانه يهب ما يشاء لمن يشاء، لأنه مالك الملك وأما العباد فإنهم ملك لله سبحانه، والعبد لا يملك أن يهب شيئاً على الحقيقة. قال تعالى ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل: 75].
2) الفرق بين هبة الخالق والمخلوق:
قال الخطابي رحمه الله: فكل من وهب شيئاً من عرض الدنيا لصاحبه فهو واهب ولا يستحق أن يسمى وهاباً إلا من تصرفت مواهبه في أنواع العطايا فكثرت نوافله ودامت، والمخلوقون إنما يملكون أن يهبوا مالاً أو نوالاً في حال دون حال، ولا يملكون أن يهبوا شفاء لسقيم، ولا ولداً لعقيم، ولا هدى لضال، ولا عافية لذي بلاء، والله الوهاب سبحانه يملك جميع ذلك، وسع الخلق جوده، فدامت مواهبه واتصلت منه وعوائده (2).
وأكثر الخلق إنما يهبون من أجل عوض ينالونه، كأن يهب لأجل أن يمدح بين الناس، أو يهب من أجل الثواب في الآخرة (3).
3) النبوة والكتاب هبة من الله يختص بها من يشاء من عباده، وقد أنكر أقوام الرسل هذا الأمر فحكى الله عن قوم صالح عليه الصلاة والسلام أنهم قالوا أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [القمر: 25].
وقال سبحانه عن كفار قريش أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ [ص: 8 - 9].
يقول ابن جرير رحمة الله: يقول تعالى ذكره أم عند هؤلاء المشركين المنكرين وحي الله إلى محمد خزائن رحمة ربك يعني مفاتيح رحمة ربك يا محمد، العزيز في سلطانه، الوهاب لمن يشاء من خلقه ما يشاء من ملك وسلطان ونبوة، فيمنعوك يا محمد ما من الله به عليك من الكرامة، وفضلك به من الرسالة (4).
وقال تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ [العنكبوت: 27]. وقال عن موسى عليه الصلاة والسلام فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ المُرْسَلِينَ [الشعراء: 21].
وقال سبحانه وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم: 53].
4) الملك والسلطان هبة من الله سبحانه وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 247].
_________
(1) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 121).
(2) ((شأن الدعاء)) (ص: 53).
(3) انظر: ((شرح الأسماء)) للرازي (ص: 224 - 225) و ((المقصد الأسنى)) (ص: 49).
(4) ((جامع البيان)) (23/ 82).

وقال سبحانه أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [النساء: 53 - 54] وهذا استفهام انكار أي ليس لهم نصيب من الملك بل الله وحده هو المالك للملك الذي يهب ما يشاء لمن يشاء.
وقد دعا سليمان عليه الصلاة والسلام ربه قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ [ص: 35].
دعاه أن يهبه ملكاً لا يكون لأحد من بعده فاستجاب الوهاب سبحانه له فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ص: 36 - 39].
سخر الله له الريح التي تجري بأمره حيث أراد أي تحمله حيث شاء، والشياطين التي تعمل له ما يشاء من تماثيل ومحاريب وقصور وقدور وجفان، ويغوصون في البحار يستخرجون له اللآلئ. فيا له من ملك عظيم يعجز أعظم البشر مالاً وسلطاناً أن يهب شيئاً منه، هذا عطاؤنا هذه هبة الله لمن يريد من خلقه.
5) الذرية هبة من الله أيضاً. قال جل ذكره لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى: 49 - 50] وقد مر قريباً كلام ابن كثير عليها.
وقد وهب الله سبحانه بعض الأنبياء الذرية بعد كبر السن ووهن العظم. قال تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [إبراهيم: 39].
وكذا زكريا صلى الله عليه وسلم وهبه الله الولد بعد ما طعن في السن وشاخ، وكانت امرأته عاقراً أيضا كما بين الله ذلك في مطلع سورة مريم، لكن ذلك لم يمنع زكريا عليه الصلاة والسلام من الطمع في هبة الله الوهاب، فدعا ربه رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران: 38] فاستجاب الله دعاءه فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء: 90] أي شفى امرأته من العقم، فحملت يحيى عليه الصلاة والسلام فسبحان الكريم الوهاب. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 176

اثنان وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله الرزاق
1) إن المتفرد بالرزق هو الله وحده لا شريك له، قال عز وجل يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر: 3]. وقال سبحانه قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ [سبأ: 24].
ينبه الله عباده إلى الاستدلال على توحيده وإفراده بالعبادة، أنه سبحانه هو المستقل بالخلق والرزق لا يشاركه أحد في ذلك، وإذا كان كذلك، فليفرد بالعبادة ولا يشرك به غيره من الأصنام والأنداد، ولهذا قال تعالى بعد ذلك لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر: 3] أي: كيف تصرفون بعد هذا البيان عن عبادة الله وحده.
وقد أنكر الله على المشركين عبادتهم للأوثان والأصنام مع أنها لا تملك لهم رزقاً ولا تملك لهم ضراً ولا نفعاً. قال سبحانه وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ [النحل: 73].
فأخبر تعالى أنها لا تملك لهم رزقاً ولا تستطيع ذلك ثم قال سبحانه فَلَا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ أي لا تجعلوا له الأنداد والأشباه والأمثال إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ أي: أنه يعلم ويشهد أن لا إله إلا هو المتفرد بالخلق والرزق وأنتم بجهلكم تشركون به (1).
وكذا قوله تعالى اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الرُّوم: 40] أي لا يقدر شركاؤكم على شيء من ذلك أبدا، بل لو أمسك الله سبحانه الرزق عن الناس، فلا يملك أحد أن يفتحه عليهم من دون الله، قال تعالى مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [فاطر: 2] وقوله جل وعلا أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [الملك: 21] أي: أمن هذا الذي يطعمكم ويسقيكم ويأتي بأقواتكم إن أمسك ربكم رزقه الذي يرزقكم عنكم (2).
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا انصرف من الصلاة ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولما معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) (3).
2) أن الله عز وجل متكفل برزق من في السماوات والأرض، قال سبحانه وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا [هود: 6]. وقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت: 60]. قال ابن كثير: أي لا تطيق جمعه ولا تحصيله، ولا تدخر شيئاً لغد، اللهُ يَرْزُقُهَا أي يقيض لها رزقها على ضعفها وييسره عليها، فيبعث إلى كل مخلوق من الزرق، ما يصلحه حتى الذر في قرار الأرض والطير في الهواء، والحيتان في الماء (4).
3) قال القرطبي: والفرق بين القوت والرزق، أن القوت ما به قوام البنية مما يؤكل ويقع به الاغتذاء.
والرزق كل ما يدخل تحت ملك العبد: مما يؤكل ومما لا يؤكل، وهو مراتب أعلاها ما يغذي.
_________
(1) ((جامع البيان)) (29/ 6).
(2) ((جامع البيان)) (29/ 6).
(3) رواه البخاري (844)، ومسلم (593). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(4) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 420).

وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه الانتفاع في الرزق في قوله: ((يقول ابن آدم مالي مالي!! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس)) (1).
وفي معنى اللباس يدخل المركوب وغير ذلك مما ينتفع به الإنسان، والقوت رزق مخصوص، وهو المضمون من الرزق الذي لا يقطعه عجز، ولا يجلبه كيس، وهو الذي أراد تعالى بقوله: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا [هود: 6]، فلا ينقطع هذا الرزق إلا بانقطاع الحياة (2).
4) وكل ذلك بلا ثقل ولا كلفة ولا مشقة، قال الطحاوي رحمه الله: رازق بلا مؤنة. اهـ (3). بل لو سألوه جميعاً فأعطاهم لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً، كما جاء في قوله تعالى في الحديث القدسي ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)) (4).
5) أن الله سبحانه لم يختص برزقه من آمن في الحياة الدنيا، وإنما كان الرزق في الدنيا للجميع، للمؤمنين والكافرين، وهذا من عظيم لطفه سبحانه كما قال اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ [الشُّورى: 19].
وعن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم)) (5).
ومعناه أن الله سبحانه واسع الحلم حتى مع الكافر الذي ينسب له الولد فهو يعافيه ويرزقه.
6) أن الله سبحانه متحكم في أرزاق عباده فيجعل من يشاء غنيا كثير الرزق، ويقتر على آخرين، وله في ذلك حكم بالغة. قال تعالى وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [النحل: 71]، وقال سبحانه إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء: 30].
قال ابن كثير: أي خبير بصير بمن يستحق الغنى ومن يستحق الفقر (6) فمن العباد من لا يصلح حاله إلا بالغنى فإن أصابه الفقر فسد حاله ومنهم العكس إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا، وقال ابن كثير في معنى قوله تعالى وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ [الشُّورى: 27]: ولو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً، ثم قال تعالى وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ وهذا كقوله سبحانه وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21].
7) كثرة الرزق في الدنيا لا تدل على محبة الله تعالى، ولكن الكفار لجهلهم ظنوا ذلك، قال تعالى عنهم وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ: 35 - 37].
_________
(1) رواه مسلم (2958). من حديث عبدالله بن الشخير رضي الله عنه.
(2) ((الكتاب الأسنى)).
(3) ((العقيدة الطحاوية)) (ص: 125).
(4) رواه مسلم (2577). من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
(5) رواه البخاري (7378). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(6) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 38).

فظن الكفار والمترفون أن كثرة الأموال والأولاد دليل على محبة الله لهم واعتنائه بهم، وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا ثم يعذبهم في الآخرة، وقد رد الله هذا بقوله أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 56].
ثم قال تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى أي ليست كثرة الأموال والأولاد، هي التي تقرب من الله أو تبعد إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا أي إنما يقرب من الله الإيمان به، وعمل البر والصالحات. وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم)) (1) وفي رواية ((ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) (2).
وبين تعالى أنهم يرضون بالحياة الدنيا وأرزاقها ويطمئنون إليها ويفرحون بها لأنهم لا يرجون بعثاً ولا حساباً، غافلين عن الآخرة وأهوالها. قال سبحانه إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يونس: 7 - 8] وقال سبحانه اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد: 26].
ولم يعملوا أن الدنيا عند الله لا تزن شيئا كما جاء في حديث سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) (3).
ولذلك فإن الله يعطيها لمن يحب ولمن لا يحب فليس كثرة الرزق دليل على الكرامة ولا قلته دليل على الإهانة فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ [الفجر: 15 - 16].
وقوله سبحانه في آخر آية الرعد السابقة وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ دليل على قصر عمر الدنيا وقلة خطرها بالنسبة للآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم: ((وما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع)) (4).
8) إن تقوى وطاعته سبب عظيم للرزق والبركة فيه. قال سبحانه عن أهل الكتاب وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم [المائدة: 66].
وقال وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف: 96].
وقال جل شأنه وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطَّلاق: 2 - 3] أي من جهة لا تخطر بباله، وقال سبحانه وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجنّ: 16].
_________
(1) رواه مسلم (2564). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه مسلم (4651). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) رواه الترمذي (2320) واللفظ له، وابن ماجه (3334)، والحاكم (4/ 341). قال الترمذي: صحيح غريب من هذا الوجه، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).
(4) رواه مسلم (2858). من حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه.

وتأذن بالزيادة لمن شكر وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7].
9) والعكس صحيح أيضاً فإن المعصية تنقص الرزق والبركة، لأن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، قال سبحانه ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الرُّوم: 41].
قيل: الفساد القحط وقلة النبات وذهاب البركة والفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم. وقيل: هو كساد الأسعار وقلة المعاش.
10) أعظم رزق يرزق الله به عباده هو (الجنة) التي أعدها الله لعباده الصالحين وخلق فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وكل رزق يعد الله به عباده الصالحين في القرآن فغالباً ما يراد به الجنة كقوله تعالى لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ [سبأ: 4]. وقوله وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الحج: 58]. وقوله سبحانه وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا [الطَّلاق: 11].
فهو أحسن الرزق وأكمله وأفضله وأكرمه، لا ينقطع ولا يزول إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ [ص: 54]. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 184

ثلاث وأربعون: الآثار الإيمانية لأسماء العليم – العالم – العلام
1) إثبات العلم التام الكامل الشامل لله وحده، ولا يشابهه أحد من مخلوقاته في كمال علمه:
وقد أثبت الله عز وجل لنفسه العلم الكامل الشامل في آيات كثيرة منها قوله تعالى إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه: 98]، وقوله وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر: 7]، وقوله وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطَّلاق: 12].
ففي هذه الآيات إثبات علمه بكل شيء من الأشياء، دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، كما قال سبحانه وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59]، وقال وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجنّ: 28].
وقد أنكر بعض الفلاسفة ومن تابعهم كابن سينا علمه تعالى بالجزيئات، فقالوا إنه يعلم الأشياء على وجه كلي لا جزئي، وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية عليهم في كتابه (درء تعارض العقل والنقل) بقوله: وهذا مما يبين لك أن من قال من المتفلسفة إنه سبحانه يعلم الأشياء على وجه كلي لا جزئي، فحقيقة قوله إنه لم يعلم شيئاً من الموجودات، فإنه ليس في الموجودات إلا ما هو معين جزئي، والكليات إنما تكون في العالم، لاسيما وهم يقولون: إنما علم الأشياء لأنه مبدؤها وسببها، والعلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب، ومن المعلوم أنه مبدع للأمور المعينة المشخصة الجزئية، كالأفلاك المعينة والعقول المعينة، وأول الصادرات عنه – على أصلهم – العقل الأول، وهو معين، فهل يكون من التناقض وفساد العقل في الإلهيات أعظم من هذا؟ (1).
وبين العلامة المحقق ابن القيم أن (الحمد لله) تتضمن الرد على منكري علمه تعالى بالجزئيات، قال: وذلك من وجوه:
أحدهما: كمال حمده، وكيف يستحق الحمد من لا يعلم شيئاً من العالم وأحواله وتفاصيله، ولا عدد الأفلاك، ولا عدد النجوم، ولا من يطيعه ممن يعصيه، ولا من يدعوه ممن لا يدعوه؟
الثاني: أن هذا مستحيل أن يكون إلهاً، وأن يكون رباً فلابد للإله المعبود، والرب المدبر من أن يعلم عابده ويعلم حاله.
الثالث: من إثبات رحمته، فإنه يستحيل أن يرحم من لا يعلم.
الرابع: إثبات ملكه، فإن ملكاً لا يعرف أحداً من رعيته ألبته ولا شيئاً من أحوال مملكته ألبته، ليس بملك بوجه من الوجوه.
الخامس: كونه مستعاناً.
السادس: كونه مسئولا أن يهدي سائله ويجيبه.
السابع: كونه هادياً.
الثامن: كونه منعماً.
التاسع: كونه غضباناً على من خالفه.
العاشر: كونه مجازياً، يدين الناس بأعمالهم يوم الدين.
فنفي علمه بالجزئيات مبطل لذلك كله (2).
وكيف لا يحيط تعالى علماً بكل شيء وهو قد خلق كل شيء أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ [الملك: 14].
فقبح الله من رمى ربه بالجهل وعدم العلم وهو يأنف أن يوصف بشيء من ذلك.
2) أن الله سبحانه لكمال علمه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، أي أنه سبحانه يعلم الأمور الماضية التي وقعت، والأمور المستقبلية التي لم تقع بعد، ويعلم الأمور التي لن تقع لو فرض أنها تقع كيف تقع، وهذا من كمال علمه بالغيب وعواقب الأمور، وهو معتقد أهل السنة والجماعة، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49].
_________
(1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 113)، وانظر: (10/ 151).
(2) ((مدارج السالكين)) (1/ 67).

وقوله تعالى لإبليس عليه لعنة الله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85] وهو خبر عن المستقبل.
وقوله وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 171 - 173].
وقوله تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ [الحج: 70].
وقوله إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل: 20] أي علم الله أنكم لن تستطيعوا القيام بما أمركم به من قيام الليل، لأنه سيكون منكم مرضى وآخرون يجاهدون في سبيل الله وآخرون مسافرون في الأرض يبتغون فضل الله في المكاسب فقوموا من الليل بما يتيسر.
وقوله تعالى فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 27].
وقوله سبحانه مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ [الحديد: 22] أي: ما تقع من مصيبة في الأرض من قحط أو طوفان أو صاعقة وغير ذلك، وَلا فِي أَنفُسِكُمْ أي: من الأمراض والمصائب والبلاء، إلا كان ذلك مكتوباً في اللوح المحفوظ من قبل أن نخلق الخليقة، ونبرأ النسمة، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء)) (1).
3) وقد خالف في ذلك القدرية – قبحهم الله – فقالوا إن الله لا يعلم الأمر قبل وقوعه وإنما يعلمه بعد وقوعه، وقد حدث القول بهذا في أواخر عصر الصحابة، فقد جاء عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف. قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ... (2).
ومعنى قول القدرية أن الأمر أنف أي مستأنف لم يسبق به قدر، ولا علم من الله تعالى، وإنما يعلمه بعد وقوعه، أي أن الله أمر العباد ونهاهم وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولا من يدخل الجنة ممن يدخل النار حتى فعلوا ذلك، فعلمه بعد ما فعلوه (3).
_________
(1) رواه مسلم (2653).
(2) رواه مسلم (8).
(3) راجع إن شئت كتاب ((الإيمان)) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ص: 364 - 369).

4) أن الخلق لا يحيطون علماً بالخالق، أي لا يعلمون شيئا من ذاته وصفاته إلا ما أطلعهم الله سبحانه عليه، عن طريق رسله وكتبه المنزلة. قال تعالى وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة: 255] وقال يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: 110].
5) وعلى وجه أعم، أنهم لا يعلمون شيئاً من المعلومات، إلا بتعليم الله لهم، فكل علم شرعي وقدري فمرجعه إلى الله العليم الحكيم، كما قالت الملائكة سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ [البقرة: 32].
وقال عز وجل وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282]
وقال وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة: 31].
وقال مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء: 113].
وقال عن يوسف صلى الله عليه وسلم رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [يوسف: 101].
وقال عن داود صلى الله عليه وسلم وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الأنبياء: 80].
وعن الخضر صلى الله عليه وسلم وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف: 65].
وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين أن أصل ومنشأ كل علم إنما هو من الله جل ثناؤه سواء كان شرعياً أو دنيوياً.
6) قلة ما بأيدينا من العلم بالنسبة لعلم الله تعالى:
ومع كثرة المعلومات التي تعلمها بنو آدم وتشعبها، إلا أنها قليلة جداً بالنسبة لعلم الله تعالى الواسع، قال سبحانه وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85].
وفي قصة الخضر مع موسى عليهما الصلاة والسلام: ((فلما ركبا في السفينة جاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة أو نقرتين. قال له الخضر: يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر ... )) (1).
7) الفرق بين علم الخالق وعلم المخلوق:
علم الله جل ثناؤه لا يعتريه نقص أبداً، من نسيان أو جهل، أو علم ببعض أمور الخلق وجهل بغيرها.
قال تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم: 64].
وقال وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 79].
وهو سبحانه لا يشغله علم عن علم، كما لا يشغله سمع عن سمع، وأني للمخلوق مثل هذه الصفات، فهم يولدون جهلة لا يعلمون شيئا، ثم يتعلمون شيئا فشيئا، قال تعالى وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل: 78].
فعلمهم قد سبقه الجهل، والله سبحانه كان ومازال عليماً لم يسبق علمه جهل، ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علماً فعلم، كما تقوله المبتدعة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
_________
(1) رواه البخاري (4725)، ومسلم (2380). من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.

واقرأ معي ما يقوله الخطابي رحمه الله عن علم الخلق. يقول: والآدميون – وإن كانوا يوصفون بالعلم – فإن ذلك ينصرف منهم إلى نوع من المعلومات، دون نوع، وقد يوجد ذلك منهم في حال دون حال، وقد تعترضهم الآفات فيخلف علمهم الجهل، ويعقب ذكرهم النسيان، وقد نجد الواحد منهم عالماً بالفقه غير عالم بالنحو، وعالماً بهما غير عالم بالحساب والطب ونحوهما من الأمور، وعلم الله سبحانه علم حقيقة وكمال، قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطَّلاق: 12]، وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن: 28] (1).
8) اختص الله نفسه سبحانه بعلوم الغيب. قال سبحانه وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام: 59] وقال قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ [النمل: 65].
وذكر منها خمسة في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34].
قال الألوسي رحمه الله: وما في الإخبار يحمل على بيان البعض المهم لا على دعوى الحصر، إذ لا شبهة في أن ما عدا الخمس من المغيبات لا يعلمه إلا الله تعالى (2).
فعلم الغيب لا شك أنه أعظم وأوسع من أن يحصر في هذا الخمس فقط.
ومن زعم أن أحداً يعلم الغيب غير الله سبحانه فقد كفر بالآيات السابقة.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ومن زعم أنه (تعني النبي صلى الله عليه وسلم) يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ [النمل:65]. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 203
_________
(1) ((شأن الدعاء)) (ص: 57).
(2) ((روح المعاني)) (7/ 171).

أربع وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله السميع
1) إثبات صفة السمع له سبحانه وتعالى كما وصف الله عز وجل نفسه. قال الأزهري رحمه الله: والعجب من قوم فسروا (السميع) بمعنى المسمع فراراً من وصف الله بأن له سمعاً، وقد ذكر الله الفعل في غير موضع من كتابه، فهو سميع ذو سمع، بلا تكييف ولا تشبيه بالسمع من خلقه، ولا سمعه كسمع خلقه ونحن نصف الله بما وصف به نفسه بلا تحديد ولا تكييف (1).
وقد بوب البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد: باب (وكان الله سميعاً بصيراً).
قال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب الرد على من قال إن معنى (سميع بصير) عليم، قال ويلزم من قال ذلك أن يسويه بالأعمى الذي يعلم أن السماء خضراء ولا يراها، والأصم الذي يعلم أن في الناس أصواتاً ولا يسمعها.
ولا شك أن من سمع وأبصر أدخل في صفة الكمال ممن انفرد بأحدهما دون الآخر، فصح أن كونه سميعاً بصيراً يفيد قدراً زائداً على كونه عليماً، وكونه سميعاً بصيراً يتضمن أنه يسمع بسمع ويبصر ببصر، كما تضمن كونه عليماً أنه يعلم بعلم ولا فرق بين إثبات كونه سميعاً بصيراً وبين كونه ذا سمع وبصر.
2) إن سمع الله تبارك وتعالى ليس كسمع أحد من خلقه، فإن الخلق وإن وصفوا بالسمع والبصر كما في قوله تعالى إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان: 2]، لكن هيهات أن يكون سمعهم وبصرهم كسمع وبصر خالقهم جل شأنه، قد نفى الرب سبحانه المشابهة عن نفسه بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] لأن سمع الله وبصره مستغرق لجميع المسموعات والمرئيات لا يعزب عن سمعه مسموع وإن دق وخلفي سراً كان أو جهراً.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات. لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: 1] (2).
وفي رواية: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء (3).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكنا إذا علونا كبرنا. فقال: ((أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، تدعون سميعاً بصيراً قريبا ... )) (4).
قال ابن بطال: في هذا الحديث نفي الآفة المانعة من السمع، والآفة المانعة من النظر، وإثبات كونه سميعاً بصيراً قريباً، يستلزم أن لا تصح أضداد هذه الصفات عليه (5).
وفي بيان الفرق بين سمع الخالق والمخلوق، يقول أبو القاسم الأصبهاني: خلق الإنسان صغيراً لا يسمع، فإن سمع لا يعقل ما يسمع، فإذا عقل ميز بين المسموعات فأجاب عن الألفاظ بما يستحق، وميز الكلام المستحسن من المستقبح، ثم كان لسمعه مدى إذا جاوزه لم يسمع، ثم إن كلمه جماعة في وقت واحد عجز عن استماع كلامهم، وعن إدراك جوابهم.
_________
(1) ((النونية)) (2/ 215).
(2) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم بعد حديث (7385)، ورواه موصولاً النسائي (6/ 168)، وابن ماجه (188)، وأحمد (6/ 46) (24241). قال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1/ 163)، وابن حجر في ((تغليق التعليق)) (5/ 339)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.
(3) رواه ابن ماجه (1691)، والحاكم (2/ 523). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (2/ 1264): أصله في البخاري من هذا الوجه إلا أنه لم يسمها.
(4) رواه البخاري (4202)، ومسلم (2704).
(5) ((الفتح)) (13/ 375).

والله عز وجل السميع لدعاء الخلق وألفاظهم عند تفرقهم واجتماعهم مع اختلاف ألسنتهم ولغاتهم، يعلم ما في قلب القائل قبل أن يقول، ويعجز القائل عن التعبير عن مراده فيعلم الله فيعطيه الذي في قلبه، والمخلوق يزول عنه السمع بالموت والله تعالى لم يزل ولا يزال، يغني الخلق ويرثهم فإذا لم يبق أحد قال: لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] فلا يكون من يرد! فيقول: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] (1).
واشتراك المخلوق مع الخالق سبحانه في هذا الاسم لا يعني المشابهة، فإن صفات المخلوق تناسب ضعفه وعجزه وخلقه، وصفات الخالق تليق بكماله وجلاله سبحانه وتعالى.
3) وقد أنكر الله تبارك وتعالى على المشركين الذين ظنوا أن الله لا يسمع السر والنجوى.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اجتمع عند البيت قرشيان وثقفي – أو ثقفيان وقرشي – كثيرة شحم بطونهم، قليلة فقه قلوبهم. فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا. وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا. فأنزل الله عز وجل وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت: 22] (2).
وكذا قوله تعالى أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى [الزُّخرف: 80].
4) ورد الاسم مقروناً بغيره من الأسماء كقوله تعالى سَمِيعٌ عَلِيمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وسَمِيعٌ قَرِيبٌ وهي تدل على الإحاطة بالمخلوقات كلها، وأن الله محيط بها، لا يفوته شيء منها ولا يخفى عليه، بل الجميع تحت سمعه وبصره وعلمه. وفي ذلك تنبيه للعاقل وتذكير، كي يراقب نفسه، وما يصدر عنها من أقوال وأفعال، لأن خالقه وربه لا يخفى عليه شيء منها، وأنه سبحانه محصيها عليه ثم يجازي بها في الآخرة إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
ومتى آمن الناس بذلك وتذكروه فإن أحوالهم تتغير من القبيح إلى الحسن ومن الشر إلى الخير.
وإذا نسوا ذلك وتناسوه وغفلوا عنه ففي ذلك ما يكفي لفساد الدنيا وخرابها، والناظر في أحوال الناس يرى ذلك واضحاً جلياً.
5) الله هو (السميع) الذي يسمع المناجاة ويجيب الدعاء عند الاضطرار ويكشف السوء، ويقبل الطاعة.
وقد دعا الأنبياء والصالحين ربهم سبحانه بهذا الاسم ليقبل منهم طاعتهم أو ليستجيب لدعائهم وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186].
فإبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام قالا رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127] وهما يرفعان قواعد البيت الحرام.
وامرأة عمران عندما نذرت ما في بطنها خالصاً لله، لعبادته ولخدمة بيت المقدس قالت فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ [آل عمران: 35].
ودعا زكريا ربه أن يرزقه ذرية صالحة ثم قال إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء [آل عمران: 37] فاستجاب الله دعاءه.
ودعا يوسف عليه الصلاة والسلام ربه أن يصرف عنه كيد النسوة فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف: 34].
وأمر بالالتجاء إليه عند حصول وساوس شياطين الإنس والجن.
قال تعالى وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 200].
قال ابن كثير: سميع لجهل الجاهل عليك، والاستعاذة به من نزغه ولغير ذلك من كلام خلقه لا يخفى عليه منه شيء، عليم بما يذهب عنك نزغ الشيطان وغير ذلك من أمور خلقه (3). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 214
_________
(1) ((الحجة في المحجة)) (ورقة 14ب – 15أ).
(2) رواه البخاري (4816)، ومسلم (2775).
(3) ((ابن كثير)) (2/ 278).

خمس وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله البصير
1) إثبات صفة البصر له جل شأنه، لأنه وصف نفسه بذلك وهو أعلم بنفسه.
وصفة البصر من صفات الكمال كصفة السمع، فالمتصف بهما أكمل ممن لا يتصف بذلك، قال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام: 50].
وقال مَثَلُ الفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [هود: 24].
وقد أنكر إبراهيم صلى الله عليه وسلم على أبيه عندما عبد ما لا يبصر ولا يسمع لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم: 42].
وقال تعالى موبخاً الكفار ومسفها عقولهم لعبادتهم الأصنام التي هي من الحجارة الجامدة التي لا تتحرك ولا تملك سمعاً ولا بصراً أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف: 195].
أي أنتم أكمل من هذه الأصنام لأنكم تسمعون وتبصرون فكيف تبعدونها وأنتم أفضل منها!
قال الأصبهاني: وأما (البصير) فهذا الاسم يقع مشتركاً، فيقال: فلان بصير، ولله المثل الأعلى، والرجل قد يكون صغيراً لا يبصر ولا يميز بالبصر بين الأشياء المتشاكلة، فإذا عقل أبصر فميز بين الردئ والجيد، وبين الحسن والقبيح، يعطيه الله هذا مدة ثم يسلبه ذلك، فمنهم من يسلبه وهو حي ومنهم من يسلبه بالموت.
والله بصير لم يزل ولا يزول، والخلق إذا نظر إلى ما بين يديه عمي عما خلفه وعما بعد منه، والله تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في خفيات مظلم الأرض، وكل ما ذكر مخلوقاً به وصفه بالنكرة، فإذا وصف به ربه وصفه بالمعرفة (1).
2) إن الله تبارك وتعالى بصير بأحوال عباده خبير بها بصير بمن يستحق الهداية منهم ممن لا يستحقها، بصير بمن يصلح حاله بالغنى والمال، وبمن يفسد حاله بذلك وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى: 27].
وهو بصير بالعباد شهيد عليهم، الصالح منهم والطالح، المؤمن والكافر هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن: 2]، إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء: 96]. بصير خبير بأعمالهم وذنوبهم وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا [الإسراء: 17] وسيجزيهم عليها أتم الجزاء.
3) ومن علم أن ربه مطلع عليه استحى أن يراه على معصية أو فيما لا يحب.
ومن علم أنه يراه أحسن عمله وعبادته وأخلص فيها لربه وخشع فقد جاء في حديث جبريل عليه السلام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال صلى الله عليه وسلم: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (2).
قال النووي رحمه الله: هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئاً مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت، واجتماعه بظاهره وباطنه وعلى الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به.
فقال صلى الله عليه وسلم: اعبد الله في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان، فإن التتميم المذكور في حال العيان إنما كان لعلم العبد بإطلاع الله سبحانه وتعالى عليه فلا يقدم العبد على تقصير في هذا الحال للإطلاع عليه، وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد، فينبغي أن يعمل بمقتضاه، فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى في إتمامه الخشوع والخضوع وغير ذلك اهـ (3). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 221
_________
(1) ((الحجة بالمحجة)) (ورقة 15أ).
(2) رواه البخاري (50)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) ((شرح مسلم)) (1/ 157 - 158).

ست وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله الحكم –الحكيم
1) أن الحكم لله وحده لا شريك له في حكمه، كما لا شريك له في عبادته، قال تعالى وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف: 26] وقال فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا.
وقال سبحانه إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ [الأنعام: 57].
وقال جل شأنه وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 70].
وقال أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: 62].
وقال وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: 10].
وقال ابن الحصار: وقد تضمن هذا الاسم (يعني –الحكم-) جميع الصفات العلى والأسماء الحسنى، إذ لا يكون حكماً إلا سميعاً بصيراً عالماً خبيراً إلى غير ذلك، فهو سبحانه الحكم بين العباد في الدنيا والآخرة في الظاهر والباطن، وفيما شرع من شرعه، وحكم من حكمه وقضاياه على خلقه قولاً وفعلاً، وليس ذلك لغير الله تعالى، ولذلك قال وقوله الحق: لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 70].
وقال: الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1]. فلم يزل حكيماً قبل أن يحكم، ولا ينبغي ذلك لغيره (1).
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى:
وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه، كفر بواح لا نزاع فيه. اهـ (2).
ثم بين رحمه الله أن الله سبحانه بصفاته العظيمة يستحق أن يكون له الحكم، فهل يوجد في البشر من له مثل صفات خالقه ليشارك ربه في الحكم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!
فتعال معي أخي القارئ لنطلع على ما سطره في هذه المسألة في كتابه القيم (أضواء البيان)، قال رحمه الله:
مسألة
اعلم أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة، صفات من يستحق أن يكون الحكم له، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة، التي سنوضحها الآن إن شاء الله، ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع.
سبحان الله وتعالى عن ذلك. فإن كانت تنطبق عليهم ولن تكون، ليتبع تشريعهم.
وإن ظهر يقيناً أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية.
سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته، أو حكمه أو ملكه.
فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ، ثم قال مبيناً صفات من له الحكم ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الشورى: 10 – 12].
_________
(1) ((الكتاب الأسنى))
(2) ((أضواء البيان)) (7/ 162).

فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور، ويتوكل عليه، وأنه فاطر السماوات والأرض أي خالقهما ومخترعهما، على غير مثال سابق، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجاً، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله تعالى: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ الآية، وأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ وأنه لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وأنه هو الذي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ أي يضيقه على من يشاء وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولا تقبلوا تشريعاً من كافر خسيس حقير جاهل.
ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]، فقوله فيها فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ كقوله في هذه فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف: 26].
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصرات؟ وأنه ليس لأحد دونه من ولي؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؟
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88].
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصرات؟ وأنه ليس لأحد دونه من ولي؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؟
سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 70 - 73].
فهل في مشرعي القوانين الوضعية، من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الأولى والآخرة، وأنه هو الذي يصرف الليل والنهار مبينا بذلك كمال قدرته، وعظمة إنعامه على خلقه.
سبحان خالق السماوات والأرض، جل وعلا أن يكون له شريك في حكمه أو عبادته، أو ملكه.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 40].
فهل في أولئك من يستحق أن يوصف بأنه هو الإله المعبود وحده، وأن عبادته وحده هي الدين القيم. اهـ باختصار (1).
_________
(1) راجع ((أضواء البيان)) (7/ 163 - 173).

2) الله سبحانه يحكم ما يريد، وما يشاء هو وحده لا شريك له.
قال سبحانه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة: 1].
فالله سبحانه يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله، وتحريم ما أراد تحريمه، وإيجاب ما شاء إيجابه عليهم، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه. وله الحكمة البالغة في ذلك كله.
وليس لأحد أن يراجع الله في حكمه، كما يراجع الناس بعضهم البعض في أحكامهم، قال تعالى وَاللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد: 41]، فحكمه في الخلق نافذ، ليس لأحد أن يرده أو يبطله.
3) كلام الله حكيم ومحكم، وكيف لا يكون بهذه الصفة وهو كلام أحكم الحاكمين ورب العالمين.
وقد وصف الله القرآن العظيم (وهو كلامه المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) بأنه حكيم ومحكم في ثمان آيات منها قوله تعالى الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1].
وقوله الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان: 1 - 2].
وقوله يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 1 - 2].
وقوله وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ... الآية [محمد: 20].
وحكمة الله تقتضي ذلك، تقتضي أن يكون القرآن حكيماً ومحكماً، لأنه الكتاب الذي ليس بعده كتاب، ولأنه الكتاب الذي أنزله الله ليكون تشريعاً عاماً لكل مجتمع بشري ولكل فرد من أفراده، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
فالقرآن حكيم في أسلوبه الرائع الجذاب، وحكيم في هدايته ورحمته، وحكيم في إيضاحه وبيانه، وحكيم في تشريعاته وحكيم في كل أحكامه، وحكيم في أمره ونهيه، وحكيم في ترغيبه وترهيبه، وحكيم في وعده ووعيده، وحكيم في أقاصيصه وأخباره، وحكيم في أقسامه وأمثال، وحكيم في كل ما اشتمل عليه، بل هو فوق ذلك وأعظم من ذلك.
والقرآن أيضاً محكم فلا حشو فيه، ولا نقص ولا عيب كما يكون في كلام البشر، الله أكبر ما أعظم هذا القرآن، لقد بلغ الغاية في البهاء والجمال والكمال (1).
4) والإيمان بما سبق يقتضي تحكيم كتاب الله جل شأنه بيننا، لأنه لا يوجد كتاب مثل القرآن حكيماً في كل شيء.
لأن ما شرعه الله سبحانه لعباده من الأحكام والمعاملات والقصاص والحدود وتقسيم المواريث وما يتعلق بالأحوال الشخصية في القرآن الكريم هي في منتهى الحكمة، لأنها تشريع الحكيم العليم سبحانه، الذي لا يدخل حكمه خلل ولا زلل، ولأنها قضاء من لا يخفى عليه مواضع المصلحة في البدء والعاقبة.
وقد نبه الله سبحانه عباده لهذا بقوله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50]، وقوله ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الممتحنة: 10] وقوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين: 8].
ولذا فإنك تجد آيات الأحكام كثيراً ما تشتمل خواتيمها على اسمه (الحكيم)، ومن الأمثلة على ذلك:
قوله يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ إلى قوله فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا [النساء: 11].
وقوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ إلى قوله إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 24].
_________
(1) باختصار من كتاب ((الهدى والبيان في أسماء القرآن)) للشيخ صالح بن إبراهيم البليهي (ص: 212).

وقوله في القتل الخطأ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا إلى قوله وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 92] وقوله وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا [النساء: 130].
وقوله قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التحريم: 2]، وغيرها من الآيات.
5) وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بين الناس بما أنزل إليه من الأحكام الربانية، وأن يترك ما سواها من الآراء والأهواء، قال تعالى فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ [المائدة: 48].
قال تعالى وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [المائدة: 49].
ولم يكن هذا الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وإنما هو ما أمرت به جميع الرسل من قبله، يبين هذا قوله تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ [البقرة: 213].
وقوله إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ [المائدة: 44].
والمؤمنون يرضون بحكم الله، قال سبحانه إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور: 51].
أما من لم يرض بذلك وترك تشريع الحكيم العليم، وأخذ بآرائه وما يمليه عليه عقله من أفكار، أو اتبع أهواءه وما تشتهيه نفسه، فقد وقع في هاوية الكفر أو الظلم أو الفسق التي حكم الله بها عليه.
قال سبحانه وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44].
وقال وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45].
وقال وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة: 47].
6) الله سبحانه يؤتي حكمته من يشاء:
كما قال عن نفسه جل ثناؤه يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة: 269].
وقد تنوعت عبارات المفسرين في تأويل قوله تعالى يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فمنهم من قال هي الإصابة في القول والفعل، وقيل: هي الفقه في القرآن والفهم فيه. وقال بعضهم: هي الفهم والعقل في الدين والأتباع له. وقال آخرون: هي النبوة. وقيل هي: الخشية لله.
قال ابن جرير جامعاً بين الأقوال السابقة: وقد بينا فيما مضى معنى الحكمة وأنها مأخوذة من الحكم وفصل القضاء، وأنها الإصابة بما دل على صحته، فأغنى عن تكريره في هذا الموضع.
فإذا كان ذلك كذلك معناه، كان جميع الأقوال التي قالها القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك، داخلاً فيما قلنا من ذلك، لأن الإصابة في الأمور، إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة، وإذا كان ذلك كذلك، كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره، فهو خاشياً لله عالماً، وكانت النبوة من أقسامه لأن الأنبياء مسددون مفهمون وموفقون لإصابة الصواب في الأمور، والنبوة بعض معاني الحكمة.
فتأويل الكلام: يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء، ومن يؤته الله ذلك فقد أتاه خيراً كثيراً. اهـ (1).
_________
(1) ((جامع البيان)) (3/ 60 - 61)، وانظر ((تفسير ابن كثير)) (1/ 322).

7) وقد جاء في الحديث ما يدل على أنه من أوتي الحكمة ينبغي أن يغبط لعظم هذه النعمة عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمه فهو يقضي بها ويعلمها)) (1).
وقد ذكر الله في كتابه بعض الذين آتاهم الحكمة وأكثرهم من الأنبياء فامتن على محمد صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113].
وعلى آل إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [النساء: 54].
وعلى عيسى عليه السلام وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [المائدة: 110].
وعلى داود عليه السلام وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء [البقرة: 251].
وعلى لقمان العبد الصالح وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان: 12]. والله سبحانه أعلم حيث يجعل حكمته.
8) خلق الله سبحانه محكم لا خلل فيه ولا قصور. قال تعالى صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88].
وقال الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ [تبارك: 3].
أي خلقهن طبقة بعد طبقة مستويات ليس فيها اختلاف ولا تنافر ولا نقص ولا عيب، ولهذا قال تعالى فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ أي انظر إلى السماء فتأملها هل ترى فيها عيباً أو نقصاً أو خللاً أو فطوراً وشقوقاً، ثم قال تعالى ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ أي مهما كررت البصر مرتين أو أكثر لرجع إليك البصر خاسئاً عن أن يرى عيباً أو خللاً، وهو حسير أي كليل قد انقطع من الإعياء من كثرة التكرر ولا يرى نقصاً (2).
قال الخطابي: ومعنى الإحكام لخلق الأشياء، إنما ينصرف إلى إتقان التدبير فيها، وحسن التقدير لها، إذ ليس كل الخليقة موصوفاً بوثاقة البنية، وشدة الأسر كالبقة، والنملة، وما أشبههما من ضعاف الخلق، إلا أن التدبير فيهما، والدلالة بها على كون الصانع وإثباته، ليس بدون الدلالة عليه بخلق السماوات والأرض والجبال وسائر معاظم الخليقة، وكذلك هذا في قوله جل وعز الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7]، لم تقع الإشارة به إلى الحسن الرائق في المنظر، فإن هذا المعنى معدوم في القرد والخنزير والدب، وأشكالها من الحيوان، وإنما ينصرف المعنى فيه إلى حسن التدبير في إنشاء كل شيء من خلقه على ما أحب أن ينشئه عليه وإبرازه على الهيئة التي أراد أن يهيئه عليها، كقوله تعالى وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2] اهـ (3).
9) إن الله سبحانه خلق الخلق لحكمة عظيمة، وغاية جليلة، وهي عبادته تبارك وتعالى حيث قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 56 - 58].
_________
(1) رواه البخاري (7141)، ومسلم (816). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 396).
(3) ((شأن الدعاء)) (ص: 73 - 74).

ولم يخلقهم عبثاً وباطلاً كما يظن الكفار والملاحدة، قال تعالى وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27].
وقال سبحانه مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى [الأحقاف: 3].
وقال عز من قائل أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [المؤمنون: 115].
وجعل يوم القيامة موعدا لهم، يرجعون إليه ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
10) كراهة التكني بأبي الحكم:
فعن هانئ بن يزيد أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله هو الحكم، وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟ فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرض كلا الفريقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا. فما لك من الولد؟ قال: لي شريح ومسلم وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال: فأنت أبو شريح)) (1).
فتغيير النبي صلى الله عليه وسلم لكنية الصحابي دليل على كراهته التكني بهذا الاسم أو التسمي به.
قال ابن الأثير: وإنما كره له ذلك لئلا يشارك الله تعالى في صفته (2). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 229
_________
(1) رواه أبو داود (4955)، والنسائي (8/ 226). والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (819) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).
(2) ((النهاية)) (1/ 419).

سبع وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله اللطيف
1 - إن الله سبحانه وتعالى لا يفوته من العلم شيء وإن دق وصغر، أو خفي وكان في مكان سحيق قال سبحانه وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام: 59].
وجاء في قوله تعالى عن لقمان: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان: 16].
فالله لا يخفى عليه شيء، ولا الخردلة وهي الحبة الصغيرة التي لا وزن لها، فإنما ولو كانت في صخرة في باطن الأرض، أو في السماوات فإن الله يستخرجها ويأت بها، لأنه اللطيف الخبير.
2 - وإذا علم العبد أن ربه متصف بدقة العلم، وإحاطته بكل صغيرة وكبيرة، حاسب نفسه على أقواله وأفعاله، وحركاته وسكناته، فإنه في كل وقت وحين، بين يدي اللطيف الخبير، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [تبارك: 14].
والله سبحانه يجازي الناس على أفعالهم يوم الدين، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، لا يفوته من أعمالهم شيء، فلا المحسن يضيع من إحسانه مثقال ذرة، ولا المسيء يضيع من سيئاته مثقال ذرة.
قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47].
وقال فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7 - 8].
ثم هو بعد ذلك يزيد أجور الصالحين من فضله وكرمه ما يشاء، ويعفو ويتجاوز عن ذنوب من يشاء من عباده بلطفه وعفوه، ويعذب بالذنوب من يشاء من عباده بعدله، إنه كان بعباده خبيراً بصيراً.
4 - الله لطيف بعباده، أي كثير اللطف بهم بالغ الرأفة لهم.
قال الحليمي في معنى (اللطيف): وهو الذي يريد بعباده الخير واليسر، ويقيض لهم أسباب الصلاح والبر (1).
ومن لطفه بعباده أنه يسوق إليهم أرزاقهم، وما يحتاجونه في معاشهم.
قال القرطبي في تفسير الآية السابقة يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ ... : وهذا القول من لقمان إنما قصد به إعلام ابنه بقدر قدرة الله تعالى، وهذه الغاية التي أمكنه أن يفهمه، لأن الخردلة يقال: إن الحس لا يدرك لها ثقلاً، إذ لا ترجح ميزاناً.
أي لو كان للإنسان رزق مثقال حبة خردل في هذه المواضع، جاء الله بها حتى يسوقها إلى من هي رزقه، أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء الفرائض، وعن أتباع سبيل من أناب إلي اهـ (2).
قال الغزالي: إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دق منها وما لطف، ثم يسلك في إيصالها إلى المستحق سبيل الرفق دون العنف، فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في العلم تم معنى اللطف، ولا يتصور كحال ذلك في العلم والفعل إلا لله تعالى.
_________
(1) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 202).
(2) ((الجامع لأحكام القرآن)) (14/ 66).

فأما إحاطته بالدقائق والخفايا فلا يمكن تفصيل ذلك، بل الخفي مكشوف في علمه كالجلي، من غير فرق، وأما رفقه في الأفعال ولطفه فيها فلا يدخل أيضا تحت الحصر، إذ لا يعرف اللطف في الفعل، إلا من عرف تفاصيل أفعاله وعرف دقائق الرفق فيها، وبقدر اتساع المعرفة فيها تتسع المعرفة بمعنى اسم (اللطيف)، وشرح ذلك يستدعي طويلاً ثم لا يتصور أن يفي بعشر عشره، مجلدات كبيرة، وإنما يمكن التنبيه على بعض جمله.
فمن لطفه: خلقه الجنين في بطن الأم في ظلمات ثلاث وحفظه فيها وتغذيته بواسطة السرة، إلى أن ينفصل، فيستقل بالتناول بالفم، ثم إلهامه إياه عند الانفصال التقام الثدي وامتصاصه ولو في ظلام الليل، من غير تعليم ومشاهدة. بل فلق البيضة عن الفرخ وقد ألهمه التقاط الحب في الحال.
ثم تأخير خلق السن عن أول الخلقة، إلى وقت الحاجة للاستغناء في الاغتذاء باللبن عن السن، ثم إنباته بعد ذلك عند الحاجة إلى طحن الطعام، ثم تقسيم الأسنان إلى عريضة للطحن، وإلى، أنياب للكسر، وإلى ثنايا حادة الأطراف للقطع، ثم استعمال اللسان الذي الغرض الأظهر منه النطق في رد الطعام إلى المطحن كالمجرفة.
ولو ذكر لطفه في تيسير لقمة يتناولها العبد من غير كلفة يتجشمها وقد تعاون على إصلاحها خلق لا يصحى عددهم، من مصلح الأرض وزارعها وساقيها وحاصدها ومنقيها وطاحنها وعاجنها وخابزها إلى غير ذلك، لكان لا يستوفي شرحه (1).
الآثار الإيمانية لاسم الله الخبير:
1 - إن الله هو الخبير، العالم ببواطن الأمور ومخفياتها، عالم بما كان وما يكون، لا يفوته من العلم شيء وإن كان صغيراً دقيقاً، وهذا لله وحده لا يشاركه فيه أحد من خلقه.
2 - والله أخبر بنفسه، إذ لا أحد أعلم بالله من الله، قال سبحانه الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان: 59]. أي اسأل عنه خبيراً (و-الباء- هنا مكان –عن-) (2) وهو الله عز وجل (3).
3 - إن الله خبير عليم بأعمال عباده وأقوالهم، وما يجول في صدورهم من خير أو شر.
قال سبحانه وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء: 17].
وقال أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14].
ولذلك أمرنا سبحانه وتعالى أن نتقيه ونعمل بما يحب، وأن نبتعد عن كل ما يسخطه ويغضبه.
قال تعالى محرضاً على التقوى والإحسان وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء: 128].
وقال وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
وحض على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المجادلة: 13].
وأمر بالإيمان به وبرسوله وبكتابه فقال فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن: 8].
_________
(1) ((المقصد الأسنى)) (ص: 62 - 63).
(2) انظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 568) و ((تفسير القرطبي)) (13/ 63) والشوكاني (4/ 84) وهو كقوله تعالى سأل سائل بعذاب واقع.
(3) انظر: ((تفسير البغوي)) (5/ 106) والشوكاني (4/ 84).

وفي قوله تعالى وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء: 135]، تحذير من معصيته، وهي عدم إقامة الشهادة بالحق وعبر عنه بقوله وإن تلووا أو كتمان الشهادة مع الحاجة إليها وعبر عنه بقوله أو تعرضوا، ثم جاء التحذير وهو قوله فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا أي فإن الله خبير بما تعملون، من عدم إقامتكم الشهادة وتحريفكم لها، وإعراضكم عنها بكتمانها، ويحفظ ذلك منكم عليكم حتى يجازيكم به يوم الجزاء، فاتقوا ربكم في ذلك.
4 - إن الله سبحانه خبير، قد أحاط بكل شيء خبراً يخبر بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه، يعلم ما كان وما يكون وما سيكون.
فقد أخبر عن خلقه للسماوات والأرض في ستة أيام، واستواءه على عرشه فقال الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان: 59].
وأخبر عن نفسه سبحانه أنه يعلم مفاتح الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا هو، فقال إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34].
وهذه الخمسة كلها غيبية مستقبلية.
وأخبر عما سيقع في يوم القيامة من الأهوال الكونية من انشقاق السماء وانفطارها، وارتجاف الأرض وزلزالها، ونسف الجبال وسيرها وتسجير البحار وانفجارها، وغير ذلك من الأهوال المنتظرة التي لم تقع.
وأخبر عن حال أهل الإيمان وما هم فيه من الاطمئنان والأمان من تلك الأهوال، ثم عن دخولهم الجنان بسلام.
وأخبر عن حال أهل الكفران، وما هم فيه عند قيامهم من تخبط الشيطان، لاتخاذهم إياه ولياً – في الدنيا – من دون الرحمن، واتباعهم لخطواته وتركهم لكلام الكريم المنان.
والله خبير بالطائفتين في ذلك اليوم المشهود، قال تعالى أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ [العاديات: 9 - 11].
ولا يخبر بهذه الأمور كلها إلا الله وحده العليم الخبير، كما قال سبحانه وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14] أي: لا ينبئك أحد مثلي لأني عالم بالأشياء (1). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 252
_________
(1) ((تفسير البغوي)) (5/ 300)، وانظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 551).

ثمان وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله الحليم
1 - إثبات صفة (الحلم) لله عز وجل، وهو الصفح عن العصاة من العباد، وتأجيل عقوبتهم رجاء توبتهم عن معاصيهم.
2 - وحلم الله سبحانه عن عباده، وتركه المعالجة لهم بالعقوبة، من صفات كماله سبحانه وتعالى، وتأجيل عقوبتهم رجاء توبتهم عن معاصيهم.
2 - وحلم الله سبحانه عن عباده، وتركه المعاجلة لهم بالعقوبة، من صفات كماله سبحانه وتعالى. فحلمه ليس لعجزه عنهم، وإنما هو صفح وعفو عنهم، أو إمهال لهم مع القدرة، فإن الله لا يعجزه شيء.
قال سبحانه أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر: 44].
وحلمه أيضاً ليس عن عدم علمه بما يعمل عباده من أعمال، بل هو العليم الحليم الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
قال سبحانه وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا [الأحزاب: 51].
وحلمه عن خلقه ليس لحاجته إليهم، إذ هو سبحانه يحلم عنهم ويصفح ويغفر مع استغنائه عنهم، قال سبحانه اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة: 235].
3 - حلم الله عظيم، ويتجلى في صبره سبحانه على خلقه، والصبر داخل تحت الحلم، إذ كل حليم صابر، وقد جاء في السنة وصف الله عز وجل بالصبر، كما في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس أحد – أو ليس شيء – أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم ليدعون له ولداً وإنه ليعافيهم ويرزقهم)) (1).
قال الحليمي في معنى (الحليم): الذي لا يحبس أنعامه وأفضاله عن عباده لأجل ذنوبهم، ولكن يرزق العاصي كما يرزق المطيع، ويبقيه وهو منهمك في معاصيه، كما يبقي البر التقي، وقد يقيه الآفات والبلايا وهو غافل لا يذكره، فضلاً عن أن يدعوه، كما يقيها الناسك الذي يسأله، وربما شغلته العبادة عن المسألة (2).
وقد أخبر تعالى عن تأخيره لعقاب من أذنب من عباده في الدنيا، وأنه لو كان يؤاخذهم بذنوبهم أولاً بأول، لما بقي على ظهر الأرض أحد.
قال سبحانه وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [النمل: 61].
وقال وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً [الكهف: 58].
قال ابن جرير: ولو يؤاخذ الله عصاة بني آدم بمعاصيهم (ما ترك عليها) يعني: الأرض من دابة تدب عليها (ولكن يؤخرهم) يقول: ولكن بحلمه يؤخر هؤلاء الظلمة، فلا يعاجلهم بالعقوبة، (إلى أجل مسمى) يقول: إلى وقتهم الذي وقت لهم، (فإذا جاء أجلهم) يقول: فإذا جاء الوقت الذي وقت لهلاكهم لا يستأخرون عن الهلاك ساعة فيمهلون ولا يستقدمون قبله حتى يستوفوا آجالهم اهـ (3).
فتأخير العذاب عنهم إنما هو رحمة بهم.
ولكن الناس يغترون بالإمهال، فلا تستشعر قلوبهم رحمة الله وحكمته، حتى يأخذهم سبحانه بعدله وقوته، عندما يأتي أجلهم الذي ضرب لهم.
ومن العجب! أن يريد الله للناس الرحمة والإمهال، ويرفض الجهال منهم والأجلاف تلك الرحمة وذلك الإمهال، حين يسألون الله أن يعجل لهم العذاب والنقمة!
_________
(1) رواه البخاري (6099)، ومسلم (2804).
(2) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 200 - 201)، وانظر: ((الأسماء للبيهقي)) (ص: 72 - 73).
(3) ((تفسير الطبري)) (17/ 230).

قال تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يونس: 11].
وقال وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحِسَابِ [ص: 16].
وقال عن كفار مكة وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32].
وأمثال ذلك مما وقع من المسرفين السفهاء.
تنبيه: تأخير العذاب عن الكفار إنما هو في الدنيا فقط، وأما في الآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون.
قال الأقليشي: أما تأخير العقوبة في الدنيا عن الكفرة والفجرة من أهل العصيان، فمشاهد بالعيان، لأنا نراهم يكفرون ويعصون، وهم معافون في نعم الله يتقلبون.
وأما رفع العقوبة في الأخرى، فلا يكون مرفوعاً إلا عن بعض من استوجبها من عصاة الموحدين.
وأما الكفار فلا مدخل لهم في هذا القسم، ولا لهم في الآخرة حظ من هذا الاسم، وهذا معروف بقواطع الآثار، ومجمع عليه عند أولى الاستبصار اهـ (1).
4 - يجوز إطلاق صفة الحلم على الخلق، فقد وصف الله عز وجل أنبياءه بذلك، قال عز من قائل إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة: 9].
وقال إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ [هود: 75]. وقال حكاية عن قوم شعيب عليه السلام إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: 87] وقال فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات: 59] يعني بذلك إسحاق عليه السلام.
والحلم من الخصال العظيمة التي يريد الله من عباده أن يتخلقوا بها، وهي خصلة يحبها الله ورسوله كما مر آنفا في حديث أشج عبد القيس.
قال القرطبي رحمه الله: فمن الواجب على من عرف أن ربه حليم على من عصاه، أن يحلم هو على من خالف أمره، فذاك به أولى حتى يكون حليماً فينال من هذا الوصف بمقدار ما يكسر سورة غضبه ويرفع الانتقام عن من أساء إليه، بل يتعود الصفح حتى يعود الحلم له سجية.
وكما تحب أن يحلم عنك مالك، فاحلم أنت عمن تملك لأنك متعبد بالحلم مثاب عليه قال الله تعالى وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40]، وقال وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى: 43] اهـ (2). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 258
_________
(1) ((الكتاب الأسنى))
(2) ((الكتاب الأسنى))

تسع وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله العظيم
1 - إن الله سبحانه، هو العظيم المطلق، فهو عظيم في ذاته، عظيم في أسمائه كلها، عظيم في صفاته كلها، فهو عظيم في سمعه وبصره، عظيم في قدرته وقوته، عظيم في علمه ... ، فلا يجوز قصر عظمته في شيء دون شيء، لأن ذلك تحكم لم يأذن به الله.
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته مقرراً ذلك:
وهو العظيم بكل معنى يوجب التـ ... ـعظيم لا يحصيه من إنسان (1)
فمن عظمته في علمه وقدرته أنه لا يشق عليه أن يحفظ السماوات السبع والأرضين السبع، ومن فيهما كما قال وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255].
2 - الفرق بين عظمة الخالق والمخلوق:
أن المخلوق قد يكون عظيماً في حال دون حال، وفي زمان دون زمان، فقد يكون عظيماً في شبابه، ولا يكون كذلك عند شيبه، وقد يكون ملكاً أو غنياً معظماً في قومه، فيذهب ملكه وغناه أو يفارق قومه وتذهب عظمته معها، لكن الله سبحانه هو العظيم أبدا.
قال الحليمي في (العظيم): ومعناه الذي لا يمكن الامتناع عليه بالإطلاق، لأن عظيم القوم إنما يكون مالك أمورهم، الذي لا يقدرون على مقاومته ومخالفة أموره، إلا أنه وإن كان كذلك، فقد يلحقه العجز بآفات تدخل عليه فيما بيده فتوهنه وتضعفه، حتى يستطاع مقاومته، بل قهره وإبطاله، والله جل ثناؤه قادر لا يعجزه شيء، ولا يمكن أن يعصى كرهاً، أو يخالف أمره قهراً. فهو العظيم إذاً حقاً وصدقا، وكان الاسم لمن دونه مجازاً اهـ (2).
3 - على المسلم أن يعظم الله حق تعظيمه، ويقدره حق قدره، وإن كان هذا لا يستقصى، إلا أن على المسلم أن يبذل قصارى ما يملك لكي يصل إليه.
وتعظيم الله سبحانه وتعالى أولاً، إنما هو بوصفه بما يليق به من الأوصاف والنعوت التي وصف بها نفسه، والإيمان بها وإثباتها له، دون تشبيهها بخلقه، ولا تعطيلها عما تضمنته من معاني عظيمة.
فمن شبه ومثل، أو عطل وأول، فما عظم الله حق تعظيمه.
ومن تعظيمه جل علا، الإكثار من ذكره في كل وقت وحين، والبدء باسمه في جميع الأمور، وحمده والثناء عليه بما هو أهل له، وتهليله وتكبيره.
ومن تعظيم الله سبحانه، أن يطاع رسوله صلى الله عليه وسلم وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ [النساء: 64]، فمن أطاع الرسول فقد أطاع المرسل مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ [النساء: 80]، ومن عصاه فقد عصى الله.
ومن تعظيم الله سبحانه أن يعظم رسوله ويوقر، قال تعالى لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9] (3).
وأن لا يقدم على كلامه أحد مهما كانت مكانته قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات: 1].
ومن تعظيم الله سبحانه أن يصدق كتابه، لأنه كلامه، وأن يحكم في الأرض لأنه شرعه الذي ارتضاه للناس أجمعين. فمن لم يفعل فما عظم الله حق تعظيمه، بل التحق بأشباهه من اليهود الذين اتخذوا كتاب الله وراءهم ظهرياً واتبعوا شياطين الإنس والجن.
ومن تعظيم الله سبحانه، أن تعظم شعائر دينه كالصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة وغيرها.
قال تعالى: وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32].
_________
(1) ((النونية بشرح أحمد بن إبراهيم بن عيسى)) (2/ 214).
(2) ((المنهاج)) (1/ 195).
(3) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 362 - 363).

ومن تعظيم الله سبحانه أن تجتنب نواهيه ومحارمه التي حرمها في كتابه، أو حرمها رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ [الحج: 30] ومن أعظم ما حرمه الله الشرك بأنواعه. ومقابل هذا أن يعمل المسلم بأوامره التي أمر بها، والتي من أعظمها توحيده وإفراده بالعبادة. وحده لا شريك له.
4 - ليس أضل من ذلك الإنسان الذي أبى أن يعبد الله وحده، وأصر على أن يشرك به مالا يملك له رزقاً، ولا يملك له نفعاً ولا ضراً، من أوثان وأحجار وأشجار، أو قبور وأضرحة، قد صار أصحابها عظاماً نخرة، فكيف تقضي لهم حاجة؟ أو تشفي لهم مريضاً؟ أو ترد لهم غائباً؟ لكنه العمى والضلال البعيد، وهم في الآخرة في العذاب الشديد خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ [الحاقة: 30 - 33]، فلما لم يعظمه حق التعظيم، عذب العذاب العظيم.
وهذا في المشركين الذين أقروا بخالقهم وخالق السموات والأرض، وأنه منزل المطر ومحي الأرض بعد موتها، فما بالك بأولئك الشيوعيين الأنجاس، الذين أبت نفوسهم العفنة أن تقر بخالقها ورازقها ومدبر أمرها، والذين يسمون أنفسهم بـ (اليساريين) وما أصدق هذه التسمية عليهم، فهم أهل اليسار حقاً في الآخرة وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة: 41 - 44].
4 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسبح بهذا الاسم في الركوع فقال: (( ... ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)) (1). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 266
_________
(1) رواه مسلم (479). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

خمسون: الآثار الإيمانية لأسماء الله العلي – الأعلى – المتعال
1 - إثبات العلو المطلق لله رب العالمين بكل معانيه، دون أن نعطل أو نؤول شيئاً، ونثبت شيئاً لأن ذلك تحكم لم يأذن الله به.
أولاً: تضمنت هذه الأسماء إثبات علو ذات ربنا سبحانه، وأنه عال على كل شيء، وفوق كل شيء، ولا شيء فوقه، بل هو فوق العرش كما أخبر عن نفسه، وهو أعلم بنفسه.
وهذا اعتقاد سلف الأمة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، من علماء الحديث والتفسير والفقه والأصول والسيرة والتاريخ والعربية والأدب وغيرهم (1).
وسنحاول باختصار ذكر ما يدل على علو ذاته سبحانه وتعالى من آيات الكتاب، والأحاديث الشريفة.
فعن آيات الكتاب:
1 - قوله تعالى إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54].
وقد ذكر الاستواء في ست آيات أخر في سورة يونس: 3، الرعد: 2، طه: 5، الفرقان: 59، السجدة: 4، الحديد: 4.
2 - بين تعالى في آيات كثيرة أن (الروح) وهو جبريل عليه السلام والملائكة منه تتنزل، وإليه تعرج وتصعد.
منها قوله تعالى: مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج: 3 - 4].
وقوله عن ليلة القدر تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ [القدر: 4].
ومعلوم أن التنزل لا يكون إلا من العلو.
3 - وأخبر تعالى أنه ينزل ملائكته بالوحي والكتاب على ما يشاء من عباده، قال سبحانه يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ [النحل: 2].
وقال وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [الشعراء: 192 - 194].
4 - أن الأعمال الصالحة والكلام الطيب إليه يصعدان، قال تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10].
قال الدارمي: فإلى من ترفع الأعمال، والله بزعمكم الكاذب مع العامل بنفسه في بيته ومسجده ومنقلبه ومثواه؟!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً اهـ (2).
5 - قوله تعالى مخاطباً المسيح عليه السلام إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [آل عمران: 55].
وقوله سبحانه وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء: 157 - 158].
6 - أخبر تعالى عن تنزيله لآيات الكتاب في آيات كثيرة منها: قوله تعالى نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران: 3 - 4].
قوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا [الكهف: 1].
وقوله حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت: 1 - 2].
وقوله سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [النور: 1].
وقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1].
_________
(1) انظر النقول الكثيرة التي نقلها الذهبي رحمه الله في ((العلو)) وابن القيم رحمه الله في ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) عن علماء الأمة في هذه المسألة.
(2) ((الرد على الجهمية)) (ص: 53).

قال أبو سعيد الدارمي رحمه الله: فظاهر القرآن وباطنه يدل على ما وصفنا من ذلك، نستغني فيه بالتنزيل عن التفسير، ويعرفه العامة والخاصة، فليس منه لمتأول تأول، إلا لمكذب به في نفسه مستتر بالتأويل.
ويلكم!! إجماع من الصحابة والتابعين وجميع الأمة، من تفسير القرآن والفرائض والحدود والأحكام: نزلت آية كذا في كذا، ونزلت آية كذا في كذا، ونزلت سورة كذا في مكان كذا، ولا نسمع أحداً يقول: طلعت من تحت الأرض، ولا جاءت من أمام ولا من خلف ولكن كله: نزلت من فوق. وما يصنع بالتنزيل من هو بنفسه في كل مكان؟
إنما يكون شبه مناولة لا تنزيلاً من فوق السماء مع جبريل، إذ يقول سبحانه وتعالى قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل: 102]، والرب بزعمكم الكاذب في البيت معه وجبريل يأتيه من خارج، هذا واضح، ولكنكم تغالطون.
فمن لم يقصد بإيمانه وعبادته إلى الله الذي استوى على العرش فوق سمواته، وبان من خلقه، فإنما يعبد غير الله ولا يدري أين الله اهـ (1).
7 - قول الله تعالى عن فرعون وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [غافر: 36 - 37]، دليل على أن فرعون كان يريد الإطلاع إلى الله تعالى في السماء، وذلك أن موسى وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كانوا يدعونهم إلى الله بذلك.
وأما الأحاديث التي تدل على (العلو) فهي كثيرة منها:
1 - حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: وكان لي جارية ترعى غنماً لي قبل (أحد والجوانية) فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي، قالت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال ((ائتني بها)) فأتيته بها فقال لها: ((أين الله؟)) قالت: في السماء، قال: ((من أنا؟)) قالت: أنت رسول الله. قال: ((اعتقها فإنها مؤمنة)) (2).
قال أبو سعيد الدارمي: ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا دليل على أن الرجل إذا لم يعلم أن الله عز وجل في السماء دون الأرض فليس بمؤمن، ولو كان عبداً فأعتق لم يجز في رقبة مؤمنه، إذ لا يعلم أن الله في السماء اهـ (3).
2 - الأحاديث الكثيرة في معراج النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج، وقد تواترت (4) وأجمع عليها سلف الأمة وأئمتها.
3 - حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قام بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: ((إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل ... )) (5).
4 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم – وهو أعلم بهم – كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون)) (6).
5 - حديث أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها، فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها)) (7).
6 - حديث أبي سعيد الخدري: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذهبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها، قال فقسمها .. وفيه فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء؟ ... )) (8).
6 - حديث أنس أن زينب كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول (زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات) (9). وفي رواية (وكانت تقول: عن إن الله أنكحني في السماء) (10). وغيرها من الأحاديث. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 308
_________
(1) ((الرد على الجهمية)) (ص: 55).
(2) رواه مسلم (537). من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه.
(3) ((الرد على الجهمية)) (ص: 39).
(4) ذكر ذلك ابن القيم في ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص: 29).
(5) رواه مسلم (179).
(6) رواه البخاري (555)، ومسلم (632).
(7) رواه مسلم (1436).
(8) رواه البخاري (4351)، ومسلم (1064).
(9) رواه البخاري (7420). من حديث أنس رضي الله عنه.
(10) رواه البخاري (7421). من حديث أنس رضي الله عنه.

واحد وخمسون: الآثار الإيمانية لأسماء الله الحفيظ
1 - إن الحافظ لهذه السماوات السبع والأرض وما فيهما هو الله وحده لا شريك له.
فهو سبحانه يحفظ السماوات أن تقع على الأرض كما في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 32]، أي: كالسقف على البيت، قاله الفراء (1)، وهو كقوله وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [الحج: 65].
وقال بعض المفسرين في قوله (محفوظا) أي من الشياطين، كما في قوله تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ [الحجر: 16 - 18].
قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره وحفظنا السماء الدنيا من كل شيطان لعين، قد رجمه الله ولعنه، إلا من استرق السمع يقول لكن قد يسترق من الشياطين السمع مما يحدث في السماء بعضها، فيتبعه شهاب من النار مبين، يبين أثره فيه إما بإخباله وإفساده، أو بإحراقه اهـ (2).
وقيل: محفوظاً من الهدم والنقض، وعن أن يبلغه أحد بحيلة.
وقيل: محفوظاً فلا يحتاج إلى عماد (3).
والله يحفظ ذلك كله بلا مشقة ولا كلفة، ودون أدنى تعب أو نصب، كما قال سبحانه وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الحجر: 9].
فبقى كذلك – كما قال سبحانه – هذه القرون الطويلة محفوظاً بحفظ الله تعالى له، فهو من آيات الله الظاهرة للعيان، الدالة على صدق وعد الله جل شأنه.
ولقد أتى على المسلمين أيام فتن سوداء، انتشر فيها أهل البدع والأهواء، وأدخلوا على هذا الدين أنواع المحدثات، وافتروا على رسول الأمة صلى الله عليه وسلم أنواع المفتريات، ولكنهم عجزوا جميعاً عن أن يحدثوا في هذا القرآن شيئاً، أو أن يغيروا فيه حرفاً واحداً، فبقي كما هو، وبقيت نصوصه كما أنزلها الله على نبيه صلى الله عليه وسلم.
وكذا أماكن العبادة، فإن المحفوظ منها هو ما حفظه الله سبحانه وتعالى وهو خير حافظاً.
قال ابن تيمية رحمه الله عن آيات الله العظيمة: وكذلك الكعبة، فإنها بيت من حجارة بواد غير ذي زرع، ليس عندها أحد يحفظها من عدو، ولا عندها بساتين وأمور يرغب الناس فيها، فليس عندها رغبة ولا رهبة، ومع هذا فقد حفظها بالهيبة والعظمة، فكل من يأتيها يأتيها خاضعا ذليلاً متواضعاً في غاية التواضع، وجعل فيها من الرغبة ما يأتيها الناس من أقطار الأرض محبة وشوقاً من غير باعث دنيوي، وهي على هذه الحال من ألوف من السنين، وهذا مما لا يعرف في العالم لبنية غيرها، والملوك يبنون القصور العظيمة فتبقى مدة، ثم تهدم لا يرغب أحد في بنائها ولا يرهبون من خرابها.
_________
(1) ((معاني القرآن)) (2/ 201)، وكذا في ((تفسير ابن كثير)) (3/ 177) فقد قال: وقوله وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً أي: على الأرض وهي كالقبة عليها.
(2) ((جامع البيان)) (14/ 11).
(3) ((الجامع لأحكام القرآن)) (11/ 285).

وكذلك ما بني للعبادات قد تتغير حاله على طول الزمان، وقد يستولي العدو عليه كما استولى على بيت المقدس، والكعبة لها خاصة ليست لغيرها، وهذا مما حير الفلاسفة ونحوهم، فإنهم يظنون أن المؤثر في هذا العالم هو حركات الفلك، وأن ما بنى وبقي فقد بني بطالع سعيد، فحاروا في طالع الكعبة إذ لم يجدوا في الأشكال الفلكية ما يوجب مثل هذه السعادة والفرح والعظمة والدوام والقهر والغلبة، وكذلك ما فعل الله بأصحاب الفيل لما قصدوا تخريبها قال تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُول [الفيل: 1 - 5].
قصدها جيش عظيم ومعهم الفيل، فهرب أهلها منهم فبرك الفيل وامتنع من المسير إلى جهتها، وإذا وجهوه إلى غير جهتها توجه، ثم جاءهم من البحر طير أبابيل أي جماعات في تفرقة فوجاً بعد فوج رموا عليهم حصى هلكوا به كلهم، فهذا مما لم يوجد نظيره في العالم، فآيات الأنبياء هي أدلة وبراهين على صدقهم اهـ (1).
3 - والله سبحانه وحده هو الذي يحفظ الإنسان من الشرور والآفات والمهالك، ويحفظه من عقابه وعذابه وسخطه، إن هو حفظ حدود الله واجتنب محارمه، فبتقوى الله وخوفه يحفظ الإنسان، وبقدر ذلك يكون الحفظ والكلاءة، قال تعالى فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ [النساء: 34]، فالآية تدل على ذلك، فلأنهن صالحات حافظات لمغيب أزواجهن – من عرض ومال وولد – حفظهن الله سبحانه، وأعانهن وسددهن على ذلك.
فبحفظهن الله – أي أمره ودينه – حفظهن الله. وجاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: ((يا غلام إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك ... )) (2).
قال ابن رجب رحمه الله: يعني احفظ حدود الله، وحقوقه وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوز ولا يتعدى ما أمر به إلى ما نهى عنه، فدخل في ذلك فعل الواجبات جميعاً وترك المحرمات جميعاً اهـ (3).
وقد مدح الله سبحانه عباده الذين يحفظون حقوقه وحدوده فقال في معرض بيانه لصفات المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 113].
وقال هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ [ق: 32 - 33].
4 - ومن أعظم ما يجب على المسلم حفظه من حقوق الله هو التوحيد، أن يعبده ولا يشرك به شيئا، كما جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حق الله على العباد؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديكن قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم)) (4).
_________
(1) ((النبوات)) (ص: 160 - 161).
(2) رواه الترمذي (2516)، وأحمد (1/ 293) (2669)، والحاكم (3/ 624). قال الترمذي: صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث كبير عال من حديث عبد الملك بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنهما إلا أن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا شهاب بن خراش ولا القداح في الصحيحين وقد روي الحديث بأسانيد عن ابن عباس غير هذا.
(3) ((نور الاقتباس)) (ص: 34).
(4) رواه البخاري (5967)، ومسلم (30).

فهذا هو الحق العظيم الذي أمر الله سبحانه عباده أن يحفظوه ويراعوه، وهو الذي من أجل حفظه، أرسل الرسل وأنزل الكتب.
فمن حفظه في الدنيا، حفظه الله تعالى من عذابه يوم القيامة، وسلمه وأمنه منه، وكان له عند الله عهداً أن يدخله الجنة ويجيره من النار.
وإن عذب بسبب ذنوبه، فإنه أيضاً محفوظ بتوحيده من الخلود في نار جهنم، مع الكفار الذين ضيعوا هذا الحق العظيم.
5 - ومن أعظم ما أمر الله بحفظه من الواجبات: الصلاة، قال تعالى حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى [البقرة: 238]. وقال وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون: 9].
فمن حافظ على الصلوات وحفظ أركانها، حفظه الله من نقمته وعذابه وكانت له نجاة يوم القيامة. قال ابن القيم رحمه الله: والصلاة مجلبة للرزق، حافظة للصحة، دافعة للأذى، مطردة للأدواء، مقوية للقلب، مبيضة للوجه، مفرحة للنفس، مذهبة للكسل، منشطة للجوارح، ممدة للقوى، شارحة للصدر، مغذية للروح، منورة للقلب، حافظة للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مبعدة من الشيطان، مقربة من الرحمن.
وبالجملة: فلها تأثير عجيب في حفظ صحة البدن والقلب وقواهما، ودفع المواد الرديئة عنهما، وما ابتلى رجلان بعاهة أو داء أو محنة أو بلية إلا كان حظ المصلي منهما أقل، وعاقبته أسلم.
وللصلاة تأثير عجيب في دفع شرور الدنيا، ولاسيما إذا أعطيت حقها من التكميل ظاهراً وباطناً، فما استدفعت شرور الدنيا والآخرة، ولا استجلبت مصالحها بمثل الصلاة.
وسر ذلك: إن الصلاة صلة بالله عز وجل، وعلى قدر صلة العبد بربه عز وجل تفتح عليه من الخيرات أبوابها، وتقطع عنه الشرور أسبابها، وتفيض عليه مواد التوفيق من ربه عز وجل، والعافية، والصحة، والغنيمة والغنى، والراحة والنعيم، والأفراح والمسرات، كلها محضرة لديه، ومسارعة إليه اهـ (1).
ومما جاء في أن الصلاة تحفظ صاحبها قوله صلى الله عليه وسلم: ((عن الله عز وجل أنه قال: يا ابن آدم! اركع لي من أول النهار أربع ركعات أكفك آخره)) (2) وقيل: إن الصلاة تحفظ صاحبها الحفظ الذي نبه عليه في قوله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [العنكبوت: 45] (3) وأما من ضيع الصلاة فقد توعده الله سبحانه بالهلاك والشر العظيم. قال سبحانه فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59].
ومما أمر الله بحفظه السمع والبصر والفؤاد، قال سبحانه وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 36]. فاحفظ سمعك، فلا تسمع إلا ما يرضيه، واحفظ بصرك فلا تنظر إلا إلى ما يرضيه، واحفظ قلبك وعقلك من أن يتعلقا بما يغضبه ويسخطه، وينشغلا بغيره.
7 - ومما أمر سبحانه وتعالى بحفظه الفروج، قال سبحانه قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور: 30] ومدح المؤمنين بذلك فقال وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون: 5 - 6]. وقال صلى الله عليه وسلم ((من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه أضمن له الجنة)) (4).
_________
(1) ((الطب النبوي)) (ص: 332).
(2) رواه الترمذي (475). وقال: هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).
(3) ((المفردات)) للراغب (ص: 124).
(4) رواه البخاري (6474). من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

8 - ومما أمر الله بحفظه الإيمان، فقال وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89]. لأن حفظ اليمين يدل على إيمان المرء وورعه، فكثير من الناس يتساهل في الحلف والقسم، وقد تلزمه الكفارة وهو لا يدري، أو يعجز عنها، فيقع في الإثم لتضييعه وعدم حفظه لأيمانه واستقصاء هذا يطول.
وبالجملة فالمؤمن مأمور بحفظ دينه أجمع، فلا يترك منه شيئاً لتعارضه مع هواه ومصلحته، بل هو مطيع لربه على أي حال، وفي كل زمان ومكان.
وكلما كان وفاءه بحفظ حدود الله وشرائعه أعظم، كان حفظ الله له كذلك، قال تعالى وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40].
وقال فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152].
وقال إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد: 7].
قال ابن رجب رحمه الله: وحفظ الله سبحانه له يتضمن نوعين: أحدهما حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وماله.
وفي حديث ابن عمر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: ((اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم أني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)) (1).
قال: ودعا رجل لبعض السلف بأن يحفظه الله، فقال له: يا أخي لا تسأل عن حفظه ولكن قل يحفظ الإيمان.
يعني أن المهم هو الدعاء بحفظ الدين، فإن الحفظ الدنيوي قد يشترك فيه البر والفاجر، فالله تعالى يحفظ على المؤمن دينه، ويحول بينه وبين ما يفسده عليه بأسباب قد لا يشعر العبد ببعضها وقد يكون يكرهه.
وهذا كما حفظ يوسف عليه السلام – قال كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24]. فمن أخلص لله خلصه من السوء والفحشاء وعصمه منهما من حيث لا يشعر، وحال بينه وبين أسباب المعاصي المهلكة. قال: وفي الجملة فمن حفظ حدود الله وراعى حقوقه، تولى الله حفظه في أمور دينه ودنياه، وفي دنياه وآخرته.
وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنه ولي المؤمنين، وأنه يتولى الصالحين، وذلك يتضمن أنه يتولى مصالحهم في الدنيا والآخرة، ولا يكلهم إلى غيره قال تعالى اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ [البقرة: 257].
وقال تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد: 11]، وقال وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3]، وقال أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] اهـ (2).
9 - الله سبحانه يحفظ أعمال عباده فلا يضيع شيء منها ولا يخفى عليه، صغيراً كان أو كبيراً، ويوافيهم بها يوم الحساب إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولا ينسى الله منه شيئاً وإن نساه الناس، قال تعالى أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة: 6]، وقال وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا [النبأ: 29]. وقد وكل الله بذلك حفظة كراماً من الملائكة.
قال تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10 - 12].
_________
(1) رواه أبو داود (5074)، والنسائي (8/ 282)، وابن ماجه (3135)، وأحمد (2/ 25) (4785)، والحاكم (1/ 698). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (897) كما أشار إلى ذلك في المقدمة.
(2) من ((نور الاقتباس)) باختصار.

وقال إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ [الطارق: 4]، وغيرها. ولا يسقط من هذه الصحف شيئاً ولو صغر، قال تعالى وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49].
وقال وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر: 53 - 54].
وهذا الأمر ليس من مهام الرسل ولا أتباع الرسل، بل هو لله وحده كما قال سبحانه في ذلك قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ [الأنعام: 104].
وقال عن شعيب عليه السلام في خطابه لقومه بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ [هود: 86].
وقال تعالى وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء: 80] وغيرها.
10 - يجوز إطلاق هذا الاسم على الخلق، فقد جاء ذلك في قوله تعالى هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ [ق: 22]. وقال يوسف عليه الصلاة والسلام اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف: 55]. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 324

اثنان وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله المقيت
1 - إن الله هو (المقيت) أي القدير على كل شيء، وسيأتي بسط الكلام على ذلك في (القدير) إن شاء الله تعالى.
2 - إن الله سبحانه وتعالى هو المعطى لأقوات الخلق صغيرهم وكبيرهم، قويهم وضعيفهم، غنيهم وفقيرهم، قال تعالى وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود: 6].
وقد قدر الله ذلك كله عند خلقه للأرض، قال تعالى وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ [فصلت: 10].
قال ابن كثير: وقدر فيها أقواتها، وهو ما يحتاج أهلها إليه من الأرزاق والأماكن التي تزرع وتغرس (1).
وقال القرطبي: معنى قدر فيها أقواتها أي أرزاق أهلها وما يصلح لمعايشهم من التجارات والأشجار والمنافع في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة والأسفار من بلد على بلد (2).
3 - قال القرطبي في الأسنى: وقد يقوت الأرواح إدامة المشاهدة ولذيذ المؤانسة، قال الله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ [يونس: 9] (3).
وإلى هذا أحد أوجه قوله عليه الصلاة والسلام: ((إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)) (4).
وأنشدوا:
فقوت الروح أرواح المعاني ... وليس بأن طعمت وأن شربتا
فلكل مخلوق قوت، فالأبدان قوتها المأكول والمشروب، والأرواح قوتها العلوم، وقوت الملائكة التسبيح، وبالجملة فالله سبحانه هو المقيت لعباده، الحافظ لهم، والشاهد لأحوالهم، والمطلع عليهم، وقد تضمن هذا الاسم جميع الصفات.
فيجب على كل مكلف أن يعلم أن لا قائم بمصالح العباد إلا الله سبحانه، وأنه الذي يقوتهم ويرزقهم.
وأفضل رزق يرزقه الله العقل، فمن رزقه العقل أكرمه، ومن حرمه ذلك فقد أهانه اهـ (5). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 341
_________
(1) ((التفسير)) (4/ 93).
(2) ((التفسير)) (15/ 342 - 343).
(3) قال في ((التفسير)) (8/ 312): يهديهم ربهم بإيمانهم أي يزيدهم هداية كقوله والذين اهتدوا زادهم هدى.
(4) رواه البخاري (7299)، ومسلم (1103). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) ((الكتاب الأسنى))

ثلاث وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله الحسيب
1 - إن الله سبحانه وتعالى هو الكافي لعباده، الذي لا غنى لهم عنه أبداً، بل لا يتصور لهم وجود بدونه، فهو خالقهم وبارئهم ورازقهم وكافيهم في الدنيا والآخرة، لا يشاركه في ذلك أحد أبداً، وإن ظن الناس أن غير الله يكفيهم فهو ظن باطل، وخطأ محض، بل كل شيء بخلقه وتقديره وأمره.
قال في المقصد: هو الكافي، وهو الذي من كان له كان حسبه، والله تعالى حسيب كل أحد وكافيه، وهذا وصف لا يتصور حقيقته لغيره، فإن الكفاية إنما يحتاج إليها المكفي، لوجوده ولدوام وجوده ولكمال وجوده.
وليس في الوجود شيء هو وحده كاف لشيء إلا الله تعالى، فإنه وحده كاف لكل شيء، لا لبعض الأشياء، أي هو وحده كاف يتحصل به وجود الأشياء ويدوم به وجودها ويكمل به وجودها.
ولا تظنن أنك إذا احتجت إلى طعام وشراب وأرض وسماء وشمس وغير ذلك، فقد احتجت إلى غيره ولم يكن هو حسبك، فإنه هو الذي كفاك بخلق الطعام والشراب والأرض والسماء، فهو حسبك.
ولا تظنن أن الطفل الذي يحتاج إلى أمه، ترضعه وتتعهده، فليس الله حسيبه وكافيه، بل الله كفاه إذ خلق أمه، وخلق اللبن في ثديها وخلق له الهداية إلى التقامه، وخلق الشفقة والمودة في قلب الأم حتى مكنته من الالتقام، ودعته إليه وحملته عليه.
فالكفاية إنما حصلت بهذه الأسباب، والله وحده المتفرد بخلقها لأجله، ولو قيل لك أن الأم وحدها كافية للطفل وهي حسبه لصدقت به، ولم تقل إنها لا تكفيه لأنه يحتاج إلى اللبن فمن أين تكفيه الأم إذا لم يكن لبن؟ ولكنك تقول: نعم، يحتاج إلى اللبن، ولكن اللبن أيضاً من الأم، فليس محتاجاً إلى غير الأم، فاعلم أن اللبن ليس من الأم، بل هو والأم من الله، ومن فضله وجوده.
فهو وحده حسب كل أحد، وليس في الوجود شيء وحده هو حسب شيء سواه، بل الأشياء يتعلق بعضها ببعض وكلها تتعلق بقدرة الله تعالى اهـ (1).
فالله وحده حسب كل أحد، لا يشاركه في ذلك أحد، وهذا هو المعنى الصحيح لقول تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64]، وهو المعنى الذي اختاره أكثر العلماء والذي تؤيده الأدلة الكثيرة.
قال ابن القيم رحمه الله بعد ذكره للآية السابقة: أي الله وحده كافيك، وكافي أتباعك، فلا تحتاجون معه إلى أحد.
قال: وهنا تقديران، أحدهما: أن تكون الواو عاطفة لـ (من) على الكاف المجرورة، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة والثاني أن تكون الواو واو (مع)، وتكون (من) في محل نصب عطفاً على الموضع، (فإن حسبك) في معنى (كافيك)، أي: الله يكفيك ويكفي من اتبعك، كما تقول العرب: حسبك وزيداً درهم، قال الشاعر:
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك سيف مهند
وهذا أصح التقديرين:
وفيها تقدير ثالث: أن تكون (من) في موضع رفع بالابتداء، أي: ومن اتبعك من المؤمنين، فحسبهم الله.
_________
(1) ((المقصد الأسنى)) (ص: 72).

وفيها تقدير رابع، وهو خطأ من جهة المعنى، وهو أن تكون (من) في موضع رفع عطفاً على اسم الله، ويكون المعنى: حسبك الله وأتباعك، وهذا وإن قاله بعض الناس (1) فهو خطأ محض، لا يجوز حمل الآية عليه، فإن (الحسب) و (الكفاية) لله وحده، كالتوكل والتقوى والعبادة، قال الله تعالى: وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 62]. ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173].
ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، فإذا كان هذا قولهم، ومدح الرب تعالى لهم بذلك، فكيف يقول لرسوله: الله وأتباعك حسبك؟ وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب، ولم يشركوا بينه وبين رسوله فيه، فكيف يشرك بينهم وبينه في حسب رسوله؟! هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل.
ونظير هذا قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ [التوبة: 59]. فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله، كما قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: 59]. وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا: حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال تعالى: إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ [التوبة: 59] ولم يقل: وإلى رسوله، بل جعل الرغبة إليه وحده، كما قال تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الانشراح: 7 - 8]. فالغربة، والتوكل، والإنابة، والحسب لله وحده، كما أن العبادة والتقوى، والسجود لله وحده، والنذر والحلف لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى.
ونظير هذا قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] فالحسب: هو الكافي، فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده، فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه الكفاية؟! والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر ها هنا اهـ (2).
وبقدر ما يلتزم العبد بطاعة الله ورسوله، تكون الولاية والكفاية، ولذلك يتابع ابن القيم كلامه قائلاً:
والمقصود أن بحسب متابعة الرسول تكون العزة والكفاية والنصرة، كما أن بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاة، فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن، والفلاح والعزة، والكفاية والنصرة، والولاية والتأييد، وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذلة والصغار، والخوف والضلال، والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة. اهـ.
3 - والله سبحانه وتعالى (الحاسب) الذي أحصى كل شيء، لا يفوته مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
قال تبارك وتعالى: وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن: 28].
وقال إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا [مريم: 93 - 94].
وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو (3).
_________
(1) ذكره الفراء في ((معاني القرآن)) (1/ 417) وقال: وهو أحب الوجين إلي اهـ ونقله القرطبي (8/ 43). عن الحسن والنحاس.
(2) ((زاد المعاد)) (1/ 35 - 37).
(3) رواه مسلم (2653).

وتصديق ذلك من كتاب الله قوله سبحانه وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس: 12]، والإمام هو أم الكتاب (1).
وقوله مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد: 22].
وقوله وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا [النبأ: 29].
4 - وأعمالك أيها الإنسان كلها محسوبة محصية، لا يضيع منها شيء، ولا يزاد عليك شيء، فتجزى بها يوم القيامة ولا تظلم.
قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47].
وقال سبحانه: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة: 6].
وقد أمر الله سبحانه الحفظة بذلك، أن يدونوا كل صغيرة وكبيرة.
قال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18]. وهذا الحفظ والإحصاء الدقيق، والحساب الذي لا يفوته شيء، هو الذي يبهت أهل الأجرام، الذين لا يبالون بأعمالهم صلحت أو فسدت، يعملون السيئات بلا حساب ويظنون أنهم متروكون سدى، لا حساب ولا عذاب، قال تعالى عنهم وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49].
لذلك كان لزاماً علينا أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، وأن نزن أعمالنا قبل توزن (2).
قال الأقليشي: فأرباب القلوب، المحسون بأوجاع الذنوب العالمون يقيناً بمحاسبة علام الغيوب، وإحصاء حسابه لجميع العيوب، أقاموا في الدنيا موازين القسط على أنفسهم وأحصوا عليها بالحساب المحرر كلما برز عنها وصدر ثم حاسبوها محاسبة الشريك النحرير القائم بماله شريكه الذي انفصل عن شركته بعداوة وقعت بينه وبينه، فانظر هل يسمح له بترك حبة، أو يسقيه من مائه عند ظمأه عبه، فلذلك انتثرت ذنوب هؤلاء من الصحائف كما ينتثر ورق الشجر اليابس بالريح العاصف. فإذا قدموا قضاء الموقف، برزت لهم تلك الصحائف منيرة وقد استنارت فيها المعاني والأحرف، لأنها ممحضة مخلصة بدقيق المحاسبة وشديد المطالبة فكان حسابهم عرضاً لا مناقشة اهـ (3).
5 - وحساب الخلق لا مشقة فيه على الخالق الحاسب، بل هو يسير عليه.
قال تعالى ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: 62].
قال ابن جرير: ثم ردت الملائكة الذين توفوهم فقبضوا نفوسهم وأرواحهم إلى الله سيدهم الحق، (ألا له الحكم) يقول: ألا له الحكم والقضاء دون من سواه من جميع خلقه، (وهو أسرع الحاسبين) يقول: وهو أسرع من حسب عددكم وأعمالكم وآجالكم وغير ذلك من أموركم أيها الناس، وأحصاها وعرف مقاديرها ومبالغها.
لأنه لا يحسب بعقد يد، ولكنه يعلم ذلك ولا يخفى عليه منه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين اهـ (4).
فكما أن خلقهم وبعثهم لا مشقة فيه كما قال سبحانه مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان: 28].
فكذلك حسابهم لا مشقة فيه ولا تأخير، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82].
فسبحان الله العظيم، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 349
_________
(1) انظر ((تفسير ابن جرير)) (22/ 100) وغيره.
(2) روي عن عمر رضي الله عنه: ((أنه قال في خطبته حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنه أهون لحسابكم وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا)) رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (ص: 306)، وابن أبى شيبة (7/ 96)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 52).
(3) ((الكتاب الأسنى)) (209 - 210)
(4) ((جامع البيان)) (7/ 140).

أربع وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله الواسع
1 - الله سبحانه وتعالى واسع في علمه، واسع في حكمته، فلو كان ماء البحر مداداً للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمته، وآياته وعلمه وشرعه وقدره، لنفد ماء البحر قبل أن تنفد ما عند الله من علم وحكمة وآيات، ولو مددنا البحر بمثل ما فيه، كما قال تعالى قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف: 109].
وقال سبحانه وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان: 27]. أي لو أن أشجار الأرض كانت أقلاما، والبحار مداداً، وسبعة بحار مثلها مداداً، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات في الله، لنفدت البحار وتكسرت الأقلام، ولم تنفد كلمات الله جل شأنه.
وقد نظم ذلك ابن القيم بقوله:
كلماته جلت عن الإحصاء والتعداد بل عن حصر ذي الحسبان
لو أن أشجار البلاد جميعها الأقلام تكتبها بكل بنان
والبحر تلقى فيه سبعة أبحر ... لكتابة الكلمات كل زمان
نفدت ولم تنفد بها كلماته ... ليس الكلام من الإله بفان (1)
2 - تقدم قول الحليمي رحمه الله أن (الواسع) معناه الكثير مقدوراته ومعلوماته.
فقد جاء اسمه (الواسع) مقترناً بـ (العليم) في سبع آيات من كتاب الله، فالله سبحانه واسع العطاء، كثير الأفضال على خلقه، والخلق كلهم يتقلبون في رحمته وجوده وفضله، يعطى من يشاء ويمنع، ويخفض من يشاء ويرفع، بعلمه الذي وسع كل شيء وحكمته.
وقد ذكر الله اعتراض بنو إسرائيل على نبيهم حين قال لهم: إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ [البقرة: 247]. أي كيف يكون له الملك وليس من سبط النبوة ولا الملك (2)، ونحن أحق بالملك منه، ثم هو ليس من الأغنياء أصحاب الأموال والسعة في الرزق ليفضل علينا، فرد عليهم نبيهم عليه الصلاة والسلام بقوله قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ أي: أن الله سبحانه قد زاده بسطة وسعة في العلم والجسم، وهما خير من الملك والمال، ثم ذكرهم بأنه مختار من قبل الله سبحانه وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
قال ابن جرير: يعني تعالى بذلك: إن الملك لله وبيده دون غيره، (يؤتيه) قول: يؤتى ذلك من يشاء فيضعه عنده ويخصه به ويمنحه من أحب من خلقه، يقول فلا تستنكروا يا معشر الملأ من بني إسرائيل أن يبعث الله طالوت ملكا عليكم، وإن لم يكن من أهل بيت المملكة، فإن الملك ليس بميراث عن الآباء والأسلاف، ولكنه بيد الله يعطيه من يشاء من خلقه، فلا تتخيروا على الله.
وأما قوله (والله واسع عليم) فإنه يعني بذلك: والله واسع بفضله فينعم به على من أحب، ويريد به من يشاء، عليم بمن هو أهل لملكه الذي يؤتيه، وفضله الذي يعطيه، فيعطيه ذلك لعلمه به، وبأنه لما أعطاه أهل، إما للإصلاح به، وإما لأن ينتفع هو به اهـ (3).
3 - تقدم قول القرطبي في الواسع أنه الذي يوسع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم.
ومصداق ذلك من كتاب الله قوله سبحانه يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185].
_________
(1) ((النونية)) (2/ 217).
(2) لأنه من سبط بنيامين بن يعقوب ((ابن جرير)) (2/ 378).
(3) ((جامع البيان)) (2/ 381).

وقوله: لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 233].
وقوله: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: 286].
وقوله: يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 28].
وقوله: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ... )) (1).
فكل ما كلفنا الله سبحانه به من العبادات والشرائع هو مما تطيقه النفوس على وجه العموم، ثم خفف الله عن المريض والمسافر، والمسن والفقير، والمرأة والصغير، وغيرهم من أصحاب الأعذار، كل ذلك تخفيفاً وتوسعة على عباده، ورفعاً للضيق والحرج عنهم.
واضرب على ذلك مثالاً مناسباً لما نسمعه هذه الأيام من اتجاه الغرب لإباحة الطلاق بعد أن حرموه على أنفسهم وضيقوا ما وسع الله عليهم.
قال الله تعالى في كتابه العزيز عن الزوجين وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا [النساء: 130]. قال ابن جرير: يغنى الله الزوج والمرأة المطلقة من سعة فضله، أما هذه فبزوج هو أصلح لها من المطلق الأول، أو برزق واسع وعصمة، وأما هذا فبرزق واسع وزوجة هي أصلح له من المطلقة أو عفة، وكان الله واسعاً يعني: وكان الله واسعاً لهما في رزقه إياهما وغيرهما من خلقه، حكيماً فيما قضى بينه وبينها من الفرقة والطلاق، وسائر المعاني التي عرفناها من الحكم بينهما في هذه الآيات وغيرها، وفي ذلك من أحكامه وتدبيره وقضاياه في خلقه اهـ (2).
4 - أن الله واسع المغفرة، ومن سعة مغفرته أنه يغفر لكل من تاب وأناب مهما بلغت ذنوبه وخطاياه، قال عز من قائل قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53].
وقال حمله العرش عن ربهم تبارك وتعالى رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر: 7]. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 386
_________
(1) رواه البخاري (39)، ومسلم (2816). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) ((جامع البيان)) (5/ 204)، وبنحوه ابن كثير (1/ 564).

خمس وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله الرب
1 - أن الله سبحانه هو الرب على الحقيقة، فلا رب على الحقيقة سواه وهو رب الأرباب ومالك الملك، وملك الملوك سبحانه وتعالى.
قال القرطبي: فالله سبحانه رب الأرباب، ومعبود العباد، يملك الممالك والملوك، وجميع العباد، وهو خالق ذلك ورازقه، وكل رب سواه غير خالق ولا رازق، وكل مخلوق فمملك بعد أن لم يكن، ومنتزع ذلك من يده، وإنما يملك شيء دون شيء. وصفة الله مخالفة لهذا المعنى، فهذا الفرق بين صفات الخالق والمخلوقين.
فأما قول فرعون –لعنة الله- إذ قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات: 24]، فإنه أراد أن يستبد بالربوبية العالية على قومه، ويكون رب الأرباب فينازع الله في ربوبيته وملكه الأعلى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى [النازعات: 25].
وقد قيل إن الرب مشتق من التربية فالله سبحانه مدبر لخلقه ومربيهم ومصلحهم وجابرهم والقائم بأمورهم، قيوم الدنيا والآخرة، كل شيء خلقه، وكل مذكور سواه عبده وهو ربه، لا يصلح إلا بتدبيره ولا يقوم إلا بأمره، ولا يربه سواه، ومنه قوله تعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ [النساء: 23]، فسمى ولد الزوجة ربيبة لتربية الزوج لها.
فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم ومصلحهم وجابرهم يكون صفة فعل، وعلى أن الرب المالك والسيد يكون صفة ذات اهـ (1).
ويبين الحليمي أن الله سبحانه يرعى العباد ويربيهم في أحوالهم وأطوارهم المختلفة فيقول: (الرب) وهو المبلغ كل ما أبدع حد كماله الذي قدره له، وهو يسل النطفة من الصلب ويجعلها علقة، والعلقة مضغة، ثم يجعل المضغة عظاماً، ثم يكسو العظام لحماً، ثم يخلق في البدن الروح ويخرجه خلقاً آخر وهو صغير ضعيف، فلا يزال ينميه وينشئه حتى يجعله رجلاً، ويكون في بدء أمره شاباً ثم يجعله كهلاً ثم شيخاً.
وهكذا كل شيء خلقه فهو القائم عليه به، والمبلغ إياه الحد الذي وصفه وجعله نهاية ومقداراً له (2).
2 - فمن عرف ذلك لم يطلب غير الله تعالى له رباً وإلهاً، بل رضى به سبحانه وتعالى ربا، ومن كانت هذه صفته ذاق طعم الإيمان وحلاوته، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً)) (3).
قال القاضي عياض رحمه الله: معنى الحديث صح إيمانه واطمأنت به نفسه وخامر باطنه، لأن رضاه بالمذكورات دليل لثبوت معرفته، ونفاذ بصيرته، ومخالطة بشاشته قلبه، لأن من رضي أمراً سهل عليه، فكذا المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان سهل عليه طاعات الله تعالى ولذت له، والله أعلم (4).
3 - وقد تكلم العلامة ابن القيم عن ارتباط اسم (الرب) باسم (الله) كلاماً جيداً حيث يقول:
وتأمل ارتباط الخلق والأمر بهذه الأسماء الثلاثة. وهي (الله، والرب، والرحمن) كيف نشأ عنها الخلق، والأمر، والثواب، والعقاب؟ وكيف جمعت الخلق وفرقتهم؟ فلها الجمع، ولها الفرق.
فاسم (الرب) له الجمع الجامع لجميع المخلوقات. فهو رب كل شيء وخالقه، والقادر عليه لا يخرج شيء عن ربوبيته، وكل من في السموات والأرض عبد له في قبضته، وتحت قهره. فاجتمعوا بصفة الربوبية، وافترقوا بصفة الإلهية، فألهه وحده السعداء، وأقروا له طوعاً بأن الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا تنبغي العبادة والتوكل، والرجاء والخوف، والحب والإنابة والإخبات والخشية، والتذلل والخضوع إلا له.
_________
(1) ((الكتاب الأسنى)).
(2) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 205) وقد ذكره في الأسماء التي تتبع إثبات التدبير له دون ما سواه، وكذا البيهقي في ((الأسماء)) (ص: 94).
(3) رواه مسلم (34). من حديث العباس رضي الله عنه.
(4) ((شرح مسلم للنووي)) (2/ 2).

وهنا افترق الناس، وصاروا فريقين: فريقا مشركين في السعير، وفريقاً موحدين في الجنة.
فالإلهية هي التي فرقتهم، كما أن الربوبية هي التي جمعتهم.
فالدين والشرع، والأمر والنهي – مظهره، وقيامه-: من صفة الإلهية. والخلق والإيجاد والتدبير والفعل: من صفة الربوبية. الجزاء بالثواب والعقاب والجنة والنار: من صفة الملك. وهو ملك يوم الدين. فأمرهم بإلهيته، وأعانهم ووفقهم وهداهم وأضلهم بربوبيته وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله. وكل واحدة من هذه الأمور لا تنفك عن الأخرى.
وأما الرحمة: فهي التعلق، والسبب الذي بين الله وبين عباده. فالتأليه منهم له، والربوبية منه لهم. والرحمة سبب وأصل بينه وبين عباده، بها أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه. وبها هداهم. وبها أسكنهم دار ثوابه. وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم. فبينهم وبينه سبب العبودية، وبينه وبينهم سبب الرحمة.
واقترن ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشه برحمته. فـ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى مطابق لقوله رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى شمول الرحمة وسعتها. فوسع كل شيء برحمته وربوبيته، مع أن في كونه رباً للعالمين ما يدل على علوه على خلقه، وكونه فوق كل شيء، كما يأتي بيانه إن شاء الله اهـ (1).
4 - قال القرطبي رحمه الله: فيجب على كل مكلف أن يعلم أن لا رب له على الحقيقة إلا الله وحده، وأن يحسن تربية من جعلت تربيته إليه، فيقوم بأمره ومصالحه كما قام الحق فيرقيه شيئاً شيئاً وطوراً طوراً، ويحفظه ما استطاع جهده، كما حفظه الله.
قال ابن عباس وقد سئل عن الرباني فقال: هو الذي يعلم الناس بصغار الأمر قبل كباره.
فالعالم الرباني هو الذي يحقق علم الربوبية وربي الناس بالعلم على مقدار ما يحتملوه، فبذل لخواصهم جوهره ومكنونه، وبذل لعوامهم ما ينالون به فضل الله ويدركونه اهـ (2).
5 - وقد دعا الأنبياء والصالحون الله سبحانه وتعالى بهذا الاسم وتضرعوا به إليه.
فدعا آدم عليه السلام وحواء به كما في قوله تعالى: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23].
ونوح عليه السلام في دعائه رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح: 28].
وإبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127].
وموسى عليه الصلاة والسلام رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأعراف: 151].
وعيسى عليه الصلاة والسلام اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء [المائدة: 114].
والرسول صلى الله عليه وسلم وأمته في قوله آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285].
وغير ذلك في كتاب الله كثير لا يحصى.
6 - وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم العبد أن يقول لسيده (ربي) فقال: ((لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، وليقل: سيدي مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي)) (3).
_________
(1) ((مدارج السالكين)) (1/ 34 - 35).
(2) ((الكتاب الأسنى)).
(3) رواه البخاري (2552)، ومسلم (2248). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قال الحافظ ابن حجر: وفيه نهي العبد أن يقول لسيده ربي، وكذلك نهي غيره فلا يقول له أحد ربك، ويدخل في ذلك أن يقول السيد ذلك عن نفسه، فإنه قد يقول لعبده إسق ربك، فيضع الظاهر موضع الضمير على سبيل التعظيم لنفسه.
والسبب في النهي أن حقيقة الربوبية لله تعالى، لأن الرب هو المالك القائم بالشيء، فلا توجد حقيقة ذلك إلا لله تعالى. قال الخطابي: سبب المنع أن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد لله، وترك الإشراك معه، فكره له المضاهاة في الاسم لئلا يدخل في معنى الشرك، ولا فرق في ذلك بين الحر والعبد، فأما ما لا تعبد عليه من سائر الحيوانات والجمادات فلا يكره إطلاق ذلك عليه عند الإضافة، كقوله: رب الدار ورب الثوب.
قال ابن بطال: لا يجوز أن يقال لأحد غير الله رب، كما لا يجوز أن يقال له إله.
وتعقبه الحافظ بقوله: والذي يختص بالله تعالى إطلاق الرب بلا إضافة، أما مع الإضافة فيجوز إطلاقه كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ [يوسف: 42]، وقوله ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ [يوسف: 50]، وقوله عليه الصلاة والسلام في أشراط الساعة ((أن تلد الأمة ربتها)) (1) فدل على أن النهي في ذلك محمول على الإطلاق، ويحتمل أن يكون النهي للتنزيه، وما ورد في ذلك فلبيان الجواز.
وقيل هو مخصوص بغير النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرد ما في القرآن، أو المراد النهي عن الإكثار من ذلك واتخاذ استعمال هذه اللفظة عادة، وليس المراد النهي عن ذكرها في الجملة اهـ (2). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 394
_________
(1) رواه مسلم (8). من حديث عمر رضي الله عنه.
(2) ((الفتح)) (5/ 179).

ست وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله الودود
1 - قال القرطبي: فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الله سبحانه هو (الودود) على الإطلاق، المحب لخلقه، والمثنى عليهم والمحسن إليهم اهـ (1).
فالله سبحانه وتعالى يحب من أطاعه ويبغض من عصاه. يحب التوابين والمتطهرين والصابرين والمتوكلين والمقسطين والمؤمنين والمتقين والمحسنين، وجميع الطائعين. ويبغض ويكره المعتدين والمفسدين والمسرفين والخائنين والمستكبرين والفاسقين والظالمين والكافرين، ولا يحب كل مختال فخور، ولا كل خوان كفور، وهذا كله في كتابه العزيز.
فيجب على العبد أن يتبع ما يحبه الله ويرضاه، ويتجنب ما يبغضه ولا يحبه.
يقول القرطبي في تتمه كلامه السابق: ثم يجب عليه أن يتودد على ربه بامتثال أمره ونهيه، كما تودد إليه بإدرار نعمه وفضله، ويحبه كما أحبه.
ومن حب العبد لله رضاه بما قضاه وقدره، وحب القرآن والقيام به، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم وحب سنته والقيام بها والدعاء إليها، قال الله العظيم قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران: 31]، فمن اتبع رسوله فيما جاء به، وصدق في أتباعه، فذلك الذي أحب الله وأحبه الله.
واعلم أن مثال محبة الله تعالى بترك المناهي، أكثر من مثالها بسواها من أعمال الطاعات، فالأعمال الصالحة قد يعملها البر والفاجر، والانتهاء عن المعاصي لا تكون إلا بالكمال (و) إلا من مصدق.
قلت (القرطبي) وعلى هذا الحذو – والله أعلم – يترتب حب الله تعالى للعبد وحب الناس له، وعليه يخرج الحديث الذي خرجه مالك والبخاري ومسلم وغيرهم واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أحب فلاناً فأحبه، قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض)) (2) (3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو سبحانه يحب عباده الذين يحبونه، والمحبوب لغيره أولى أن يكون محبوباً.
فإذا كنا إذا أحببنا شيئاً لله كان الله هو المحبوب في الحقيقة، وحبنا لذلك بطريق التبع، وكنا نحب من يحب الله لأنه يحب الله، فالله تعالى يحب الذين يحبونه، فهو المستحق أن يكون هو المحبوب المألوه المعبود، وأن يكون غاية كل حب (4).
2 - أن المستحق أن يحب لذاته هو الله سبحانه، وتعالى، وكل محبة يجب أن تكون لله وفي الله، فإذا أحب العبد أحب الله وإذا أبغض أبغض لله، وإذا أعطى أعطى لله، وإذا منع منع لله، وإذا والى والى في الله وإذا عادى عادى في الله، وهكذا كل أعماله يجب أن تكون فيما يحبه الله ويرضاه.
وكذا فإنه لا يجوز للعبد أن يبغض من أحبه الله تعالى من الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، ولا يحب من أبغضه الله من الفساق والعاصين والمكذبين والمحاربين لله بأموالهم وأنفسهم، مهما كانت قرابتهم له.
_________
(1) ((الكتاب الأسنى)).
(2) رواه البخاري (3209)، ومسلم (2637).
(3) ((الكتاب الأسنى)).
(4) ((درء تعارض العقل والنقل)) (4/ 15).

فعن الأول يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم ((إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته)) (1).
فالحديث يدل على أن معاداة أولياء الله إنما هي في الحقيقة معاداة الله، ومن ذا الذي يطيق أن يعادي الله تعالى شأنه أو يحاربه، ويدل أيضاً على أن الفرائض من أحب ما يتقرب به إلى الله تعالى، ويليها النوافل.
وأما عن الثاني وهي أن لا يحب من عصى الله، يقول تعالى لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة: 22].
قال ابن تيمية رحمه الله:
وليس ما يستحق أن يكون هو المحبوب لذاته، المراد لذاته، المطلوب لذاته، المعبود لذاته: إلا الله. كما أنه ليس ما هو بنفسه مبدع خالق إلا الله، فكما أنه لا رب غيره، فلا إله إلا هو، فليس في المخلوقات ما يستقل بإبداع شيء حتى يكون ربا له، ولكن ثم أسباب متعاونة ولها فاعل هو سببها.
وكذلك ليس في المخلوقات ما هو مستحق لأن يكون المستقل بأن يكون هو المعبود المقصود المراد بجميع الأعمال، بل إذا استحق أن يحب ويراد، فإنما يراد لغيره، وله ما شاركه في أن يحب معه، وكلاهما يحب أن يحب الله، لا يحب واحد منهما لذاته، إذ ليست ذاته هي التي يحصل بها كمال النفوس وصلاحها وانتفاعها، إذا كانت هي الغاية المطلوبة.
والله فطر عباده على ذلك، وهو أعظم من كونه فطرهم على حب الأغذية التي تصلحهم، فإذا تناولوا غيرها أفسدتهم، فإن ذلك، وإن كان كذلك، ففي الممكن أن يجعل في غير ذلك ما يغذيهم. وأما كون الفطرة يمكن أن تصلح على عبادة غير الله، فهذا ممتنع لذاته كما يمتنع لذاته أن يكون للعالم مبدع غير الله. قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم: 30].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)) (2).
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء (كلهم) فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا)) (3).
والفطر تعرف هذا أعظم مما تعرف ما يلائمها من الطعام والشراب، لكن قد يحصل للفطرة نوع فساد، فيفسد إدراكها، كما يفسد إدراكها إذا وجدت الحلو مرا، وهذا هو أعرف المعروف الذي أمر الله الرسل أن تأمر به، والشرك أنكر المنكر الذي أمرهم بالنهي عنه، والشرك لا يغفره الله، فإنه فساد لا يقبل الصلاح.
ولهذا وجب التفريق بين الحب مع الله، والحب لله، فالأول شرك، والثاني إيمان.
قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [البقرة: 165]، فليس لأحد أن يحب شيئاً مع الله.
_________
(1) رواه البخاري (6502). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري (1385)، ومسلم (2658).
(3) رواه مسلم (2865).

وأما الحب لله فقال تعالى: أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ [التوبة: 24].
وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذا أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار)) (1) اهـ (2).
3 - حب الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم يقوى بقوة العلم الشرعي، وكلما كان المسلم عالماً بدين الله وأحكامه وشرائعه، عاملاً به، كان حبه أقوى من غيره من الجاهلين، وإن كانت محبة الله سبحانه توجد في الفطر، ولكنها تقوى بالعلم وتخبو وتضعف بالشهوات والشبهات.
قال ابن تيمية رحمه الله: وكذلك حب الله ورسوله حاصل لكل مؤمن، ويظهر ذلك بما إذا خير المؤمن بين أهله وبين الله ورسوله، فإنه يختار الله ورسوله.
والمؤمنون متفاضلون في هذه المحبة، ولكن المنافقون – الذين أظهروا الإسلام ولما يدخل الإيمان في قلوبهم – ليسوا من هؤلاء، وما من مؤمن إلا وهو إذا ذكر له رؤية الله اشتاق إلى ذلك شوقاً لا يكاد يشتاقه إلى شيء.
وقد قال الحسن البصري: لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت أنفسهم في الدنيا (3).
والحب لله يقوى بسبب قوة المعرفة وسلامة الفطرة، ونقصها من نقص المعرفة ومن خبث الفطرة بالأهواء الفاسدة.
ولا ريب أن النفوس تحب اللذة بالأكل والشرب والنكاح، وقد تشتغل النفوس بأدنى المحبوبين عن أعلاهما، لقوة حاجته العاجلة إليه، كالجائع الشديد الجوع، فإن ألمه بالجوع قد يشغله عن لذة مناجاته لله في الصلاة.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((لا يصلين أحدكم بحضرة طعام، ولا هو يدافع الأخبثين)) (4).
وإن كانت الصلاة قرة عين العارفين، والإنسان إنما يشتاق إلى ما يشعر به من المحبوبات، فأما ما لم يشعر به فهو لا يشتاق إليه، وإن كان لو شعر به لكان شوقه إليه أشد من شوقه إلى غيره اهـ (5). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 404
_________
(1) رواه البخاري (43)، ومسلم (43). من حديث أنس رضي الله عنه.
(2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (9/ 374 - 376).
(3) رواه عبد الله في ((السنة)) (1/ 263) (2/ 471)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 253).
(4) رواه مسلم (560). من حديث عائشة رضي الله عنه.
(5) ((درء تعارض العقل والنقل)) (6/ 72 - 73).

سبع وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله المجيد
1 - قال الأزهري: الله تعالى هو (المجيد) تمجد بفعاله، ومجده خلقه لعظمته (1).
فالله سبحانه له المجد العلي العظيم، بفعاله العظيمة وصفاته العلية وبأسمائه الحسنى، فلا مجد إلا مجده، ولا عظمة إلا عظمته، وكل مجد لغيره إنما هو منه عطاء وتفضل.
وفي اقتران (الحميد) مع (المجيد) بيان أنه محمود على مجده وعظمته وكمال صفاته، فليس كل ذي شرف محمود، وكذلك ليس كل محمود يكون ذو شرف.
قال الحليمي: (المجيد) ومعناه: المنيع المحمود، لأن العرب لا تقول لكل محمود مجيداً، ولا لكل منيع مجيداً. أو قد يكون الواحد منيعاً غير محمود، كالمتآمر الخليع الجائر، أو اللص المتحصن ببعض القلاع.
وقد يكون محموداً غير منيع، كأمير السوقة والصابرين من أهل القبلة.
فلما لم يقل لكل واحد منهما مجيد، علمنا أن (المجيد) من جمع بينهما فكان منيعاً لا يرام، وكان في منعته حسن الخصال جميل الفعال، والباري – جل ثناؤه – يجل عن أن يرام وأن يوصل إليه، وهو مع ذلك فحسن مجمل لا يستطيع العبد أن يحصي نعمته، ولو استنفذ فيه مدته، فاستحق اسم المجيد وما هو أعلى منه اهـ (2).
2 - إن الله سبحانه عطاؤه واسع، وفضله سابغ، قد شمل المؤمن والكافر، والبر والفاجر، مجد بذلك نفسه في قوله عز وجل وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34].
3 - مجد الله تعالى نفسه في كتابه العزيز في آيات كثيرة بل القرآن مليء بتمجيد الله وتعظيمه، وكذا حديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعظم آيات القرآن وسوره هي التي احتوت على ذلك، كآية الكرسي في البقرة، وسورة الفاتحة والإخلاص.
ومن أعظم من يعظم به العبد ربه ويمجده هو تلاوة كتابه، في آناء الليل وأطراف النهار، فإنه لا أحد يحصى الثناء عليه والتمجيد له، هو كما أثنى على نفسه.
ففي الحديث القدسي ((قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي ... )) (3).
ثم ذكره وتسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله، وما يلتحق بها من الحوقلة والبسملة والحسبلة والاستغفار والدعاء بخيري الدنيا والآخرة.
وهذه الحال هي حال أهل الذكر، من لا يشقى بهم الجليس، من الأنبياء والصديقين، والشهداء والصالحين، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم، قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قال تقول: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، قال فيقول: هل رأوني؟ قال فيقولون: لا والله ما رأوك، قال فيقول: كيف لو رأوني؟ قال يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً وأكثر لك تسبيحاً ... ، حتى قال تعالى: فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال يقول: ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة قال هم الجلساء لا يشقى جليسهم)) (4).
4 - سمى الله تبارك وتعالى كتابه بـ (المجيد) في آيتين من كتابه: في قوله تعالى ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1]. وقوله بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ [البروج: 21 - 22].
_________
(1) ((اللسان)) (5/ 4138).
(2) ((المنهاج)) (1/ 197) ذكره في الأسماء التي تتبع نفي التشبيه عن الله تعالى جده، وكذا البيهقي في ((الأسماء)) (ص: 57).
(3) رواه مسلم (395). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) رواه البخاري (6408)، ومسلم (2689).

قال قتادة: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ يقول: قرآن كريم (1). فالقرآن مجيد أي شريف كريم عظيم، ولا غرابة في ذلك فإنه كلام الله المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
ومن مجد القرآن وشرفه أنه لا يمكن للجن والأنس أن يأتوا بمثله، بل بسورة منه، قال تعالى قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88].
وهذا يتجلى لنا في جوانب عديدة:
منها، أنه لا يمكن للجن والإنس أن يأتوا بمثل ما فيه من التشريعات من أمر ونهي، وحلال وحرام، وما فيه من العبادات الدينية والمعاملات الدنيوية، فهذا من أعظم إعجازه.
ومنها أن بلاغته وفصاحته، وروعته وبهاؤه، وحسن تراكيبه وأسلوبه، وأخذه بالنفوس كله مما لا يضاهي.
ومنها كثرة فوائده التي لا تنقضي، ولا يشبع منها العلماء على مر الدهور والعصور.
ومن شرفه ورفعته، أن الله سبحانه حفظه وصانه من كيد الكفار والمنافقين، ومن الحاقدين على هذا الدين، حفظه من أن يبدلوه أو أن يحرفوه، أو أن يزيدوا فيه أو ينقصوه، قال سبحانه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9].
ومن عظمة هذا الكتاب ومجده، أن الله يرفع به من عمل به واتخذه دينا ومنهاجاً، ويخفض به ويذل من تركه وراء ظهره، ورأى أن العمل به رجعية وتخلف وجمود.
ففي صحيح مسلم عن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزي، قال: ومن ابن أبزي؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلف عليهم مولى؟! قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)) (2).
فقد رفع الله تعالى هذا المولى لحفظه لكتابه وعلمه به مع انحطاط نسبه وشرفه على غيره من أهل مكة أهل الشرف والنسب.
وهكذا الجد والرفعة في الدرجات في الآخرة، فإنما هي لمن أخذ بهذا الكتاب، وعمل به، والذل والمهانة والدركات لمن تركه وأعرض عنه النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 415
_________
(1) رواه الطبري في تفسيره (24/ 347).
(2) رواه مسلم (817).

تمهيد
أن العلم بصفات الله عَزَّ وجَلَّ، والإيمان بها، على ما يليق به سبحانه، وتدبرها: يورث ثمرات عظيمة وفوائد جليلة، تجعل صاحبها يذوق حلاوة الإيمان، وقد حُرِمها قوم كثيرون من المعطِّلة والمؤوِّلة والمشبهة، وإليك بعضاً منها:
1 - فمن ثمرات الإيمان بصفات الله عَزَّ وجَلَّ: أن العبد يسعى إلى الاتصاف والتحلِّي بها على ما يليق به؛ لأنه من المعلوم عند أرباب العقول أن المحب يحب أن يتصف بصفات محبوبه؛ كما أن المحبوب يحب أن يتحلَّى مُحِبُّهُ بصفاته؛ فهذا يدعو العبد المحب لأن يتصف بصفات محبوبه ومعبوده كلٌّ على ما يليق به، فالله كريم يحب الكرماء، رحيم يحب الرحماء، رفيق يحب الرفق، فإذا علم العبد ذلك؛ سعى إلى التحلي بصفات الكرم والرحمة والرفق، وهكذا في سائر الصفات التي يحب الله تعالى أن يتحلَّى بها العبد على ما يليق بذات العبد.
2 - ومنها: أن العبد إذا آمن بصفة (الحب والمحبة) لله تعالى وأنه سبحانه (رحيم ودود) استأنس لهذا الرب، وتقرَّب إليه بما يزيد حبه ووده له، ((ولا يزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه)) وسعى إلى أن يكون ممن يقول الله فيهم: ((يا جبريل إني أُحبُّ فلاناً فأحبَّه، فيُحبُّه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحبُّ فلاناً فأحبوه، فيُحبُّه أهلُ السماء ثم يوضع له القبول في الأرض)) ومن آثار الإيمان بهذه الصفة العظيمة أن من أراد أن يكون محبوباً عند الله اتبع نبيه صلى الله عليه وسلم قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ وحبُّ الله للعبد مرتبطٌ بحبِ العبدِ لله، وإذا غُرِست شجرةُ المحبة في القلب، وسُقيت بماء الإخلاص، ومتابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم، أثمرت أنواعَ الثمار، وآتت أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذن ربها. 3 - ومنها: أنه إذا آمن العبد بصفات (العلم، والإحاطة، والمعية)؛ أورثه ذلك الخوف من الله عَزَّ وجَلَّ المطَّلع عليه الرقيب الشهيد، فإذا آمن بصفة (السمع)؛ علم أن الله يسمعه؛ فلا يقول إلا خيراً، فإذا آمن بصفات (البصر، والرؤية، والنظر، والعين)؛ علم أن الله يراه؛ فلا يفعل إلا خيراً؛ فما بالك بعبد يعلم أن الله يسمعه، ويراه، ويعلم ما هو قائله وعامله، أليس حريٌّ بهذا العبد أن لا يجده الله حيث نهاه، ولا يفتقده حيث أمره؟! فإذا علم هذا العبد وآمن أن الله (يحبُّ، ويرضى)؛ عمل ما يحبُّه معبوده ومحبوبه وما يرضيه، فإذا آمن أن من صفاته (الغضب، والكره، والسخط، والمقت، والأسف، واللعن)؛ عمل بما لا يُغْضب مولاه ولا يكرهه حتى لا يسخط عليه ويمقته ثم يلعنه ويطرده من رحمته، فإذا آمن بصفات (الفرح، والبشبشة، والضحك)؛ أنس لهذا الرب الذي يفرح لعباده ويتبشبش لهم ويضحك لهم؛ ما عدمنا خيراً من ربًّ يضحك.
4 - ومنها: أنه إذا علم العبد وآمن بصفات الله من (الرحمة، والرأفة، والتَّوْب، واللطف، والعفو، والمغفرة، والستر، وإجابة الدعاء)؛ فإنه كلما وقع في ذنب؛ دعا الله أن يرحمه ويغفر له ويتوب عليه، وطمع فيما عند الله من سترٍ ولطفٍ بعباده المؤمنين، فأكسبه هذا رجعة وأوبة إلى الله كلما أذنب، ولا يجد اليأس إلى قلبه سبيلاً، كيف ييأس من يؤمن بصفات (الصبر، والحلم)؟! كيف ييأس من رحمة الله من علم أن الله يتصف بصفة (الكرم، والجود، والعطاء)؟!.
5 - ومنها: أن العبد الذي يعلم أن الله متصف بصفات (القهر، والغلبة، والسلطان، والقدرة، والهيمنة، والجبروت)؛ يعلم أن الله لا يعجزه شيء؛ فهو قادر على أن يخسف به الأرض، وأن يعذبه في الدنيا قبل الآخرة؛ فهو القاهر فوق عباده، وهو الغالب من غالبه، وهو المهيمن على عباده، ذو الملكوت والجبروت والسلطان القديم؛ فسبحان ربي العظيم.

6 - ومن ثمرات الإيمان بصفات الله عَزَّ وجَلَّ أن يظل العبد دائم السؤال لربه، فإن أذنب؛ سأله بصفات (الرحمة، والتَّوب، والعفو، والمغفرة) أن يرحمه ويتوب عليه ويعفو عنه ويغفر له، وإن خشي على نفسه من عدو متجهم جبار؛ سأل الله بصفات (القوة، والغلبة، والسلطان، والقهر، والجبروت)؛ رافعاً يديه إلى السماء، قائلاً: يا رب! يا ذا القوة والسلطان والقهر والجبروت! اكفنيه. فإن آمن أن الله (كفيل، حفيظ، حسيب، وكيل)؛ قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وتوكل على (الواحد، الأحد، الصمد)، وعلم أن الله ذو (العزة، والشدة، والمحال، والقوة، والمنعة) مانعه من أعدائه، ولن يصلوا إليه بإذنه تعالى، فإذا أصيب بفقر؛ دعا الله بصفات (الغنى، والكرم، والجود، والعطاء)، فإذا أصيب بمرض؛ دعاه لأنه هو (الطبيب، الشافي، الكافي)، فإن مُنع الذُرِّيَّة؛ سأل الله أن يرزقه ويهبه الذرية الصالحة؛ لأنه هو (الرَّزَّاق، الوهَّاب) وهكذا فإنَّ من ثمرات العلم بصفات الله والإيمان بها دعاءه بها.
7 - ومنها: أن العبد إذا تدبر صفات الله من (العظمة، والجلال، والقوة، والجبروت، والهيمنة)؛ استصغر نفسه، وعلم حقارتها، وإذا علم أن الله مختص بصفة (الكبرياء)؛ لم يتكبَّر على أحد، ولم ينازع الله فيما خصَّ نفسه من الصفات، وإذا علم أن الله متصف بصفة (الغنى، والملك، والعطاء)؛ استشعر افتقاره إلى مولاه الغني، مالك الملك، الذي يعطي من يشاء ويمنع من يشاء.
8 - ومنها: أنه إذا علم أن الله يتصف بصفة (القوة، والعزة، والغلبة)، وآمن بها؛ علم أنه إنما يكتسب قوته من قوة الله، وعزته من عزة الله؛ فلا يذل ولا يخنع لكافر، وعلم أنه إن كان مع الله؛ كان الله معه، ولا غالب لأمر الله.
9 - ومن ثمرات الإيمان بصفات الله: أن لا ينازع العبدُ اللهَ في صفة (الحكم، والألوهية، والتشريع، والتحليل، والتحريم)؛ فلا يحكم إلا بما أنزل الله، ولا يتحاكم إلا إلى ما أنزل الله. فلا يحرِّم ما أحلَّ الله، ولا يحل ما حرَّم الله.
10 - ومنها: أن صفات (الكيد، والمكر، والاستهزاء، والخداع) إذا آمن بها العبد على ما يليق بذات الله وجلاله وعظمته؛ علم أن لا أحد يستطيع أن يكيد لله أو يمكر به، وهو خير الماكرين سبحانه، كما أنه لا أحد من خلقه قادر على أن يستهزئ به أو يخدعه، لأن الله سيستهزئ به ويخادعه ومن أثر استهزاء الله بالعبد أن يغضب عليه ويمقته ويعذبه، فكان الإيمان بهذه الصفات وقاية للعبد من الوقوع في مقت الله وغضبه.
11 - ومنها: أن العبد يحرص على ألاَّ ينسى ربه ويترك ذكره، فإن الله متصف بصفة (النسيان، والترك)؛ فالله قادرٌ على أن ينساه – أي: يتركه،) نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ (، فتجده دائم التذكر لأوامره ونواهيه.
12 - ومنها أن العبد الذي يعلم أن الله متصف بصفة (السلام، والمؤمن، والصِّدق)؛ فإنه يشعر بالطمأنينة والهدوء النفسي؛ فالله هو السلام، ويحب السلام، فينشر السلام بين المؤمنين، وهو المؤمن الذي أمِنَ الخلقُ من ظلمه، وإذا اعتقد العبد أن الله متصف بصفة (الصَّدق)، وأنه وعده إن هو عمل صالحاً جنات تجري من تحتها الأنهار؛ علم أن الله صادق في وعده، لن يخلفه، فيدفعه هذا لمزيدٍ من الطاعة، طاعة عبدٍ عاملٍ يثقُ في سيِّده وأجيرٍ في مستأجره أنَّه موفيه حقَّه وزيادة.

13 - ومنها: أن صفات الله الخبرية كـ (الوجه، واليدين، والأصابع، والأنامل، والقدمين، والساق، وغيرها) تكون كالاختبار الصعب للعباد، فمن آمن بها وصدق بها على وجه يليق بذات الله عَزَّ وجَلَّ بلا تمثيل ولا تحريف ولا تكييف، وقال: كلُّ من عند ربنا، ولا فرق بين إثبات صفة العلم والحياة والقدرة وبين هذه الصفات، مَن هذا إيمانه ومعتقده؛ فقد فاز فوزاً عظيماً، ومن قدَّم عقله السقيم على النقل الصحيح، وأوَّل هذه الصفات، وجعلها من المجاز، وحرَّف فيها، وعطَّلها؛ فقد خسر خسراناً مبيناً، إذ فرَّق بين صفة وصفة، وكذَّب الله فيما وصف به نفسه، وكذَّب رسوله صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكن من ثمرة الإيمان بهذه الصفات إلا أن تُدخل صاحبها في زمرة المؤمنين الموحِّدين؛ لكفى بها ثمرة، ولو لم يكن من ثمراتها إلا أنها تميِّز المؤمن الحق الموحِّد المصدِّق لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبين ذاك الذي تجرَّأ عليهما، وحرَّف نصوصهما، واستدرك عليهما؛ لكفى، فكيف إذا علمت أن هناك ثمراتٍ أخرى عظيمةً للإيمان بهذه الصفات الخبرية؛ منها أنك إذا آمنت أن لله وجهاً يليق بجلاله وعظمته، وأن النظر إليه من أعظم ما ينعم الله على عبده يوم القيامة، وقد وعد به عباده الصالحين؛ سألت الله النظر إلى وجهه الكريم، فأعطاكه، وأنك إذا آمنت أن لله يداً ملأى لا يغيضها نفقة، وأن الخير بين يديه سبحانه؛ سألته مما بين يديه، وإذا علمت أن قلبك بين إصبعين من أصابع الرحمن؛ سألت الله أن يثبت قلبك على دينه000 وهكذا.
14 - ومن ثمرات الإيمان بصفات الله عَزَّ وجَلَّ: تَنْزِيه الله وتقديسه عن النقائص، ووصفه بصفات الكمال، فمن علم أن من صفاته (القُدُّوس، السُّبُّوح)؛ نَزَّه الله من كلِّ عيبٍ ونقصٍ، وعلم أن الله) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء (
15 - ومنها: أن من علم أن من صفات الله (الحياة، والبقاء)؛ علم أنه يعبد إلهاً لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، فأورثه ذلك محبة وتعظيماً وإجلالاً لهذا الرب الذي هذه صفته.
16 - ومن ثمرات الإيمان بصفة (العلو، والفوقية، والاستواء على العرش، والنُّزُول، والقُرب، والدُّنُو)؛ أن العبد يعلم أن الله منزه عن الحلول بالمخلوقات، وأنه فوق كل شيء، مطَّلع على كل شيء، بائن عن خلقه، مستو على عرشه، وهو قريب من عبده بعلمه، فإذا احتاج العبد إلى ربه؛ وجده قريباً منه، فيدعوه، فيستجيب دعاءه، وينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الآخر من الليل كما يليق به سبحانه، فيقول: من يدعوني فأستجب له، فيورث ذلك حرصاً عند العبد بتفقد هذه الأوقات التي يخلو فيها مع ربه القريب منه، فهو سبحانه قريب في علوه، بعيد في دنوه.
17 - ومنها أن الإيمان بصفة (الكلام) وأن القرآن كلام الله يجعل العبد يستشعر وهو يقرأ القرآن أنه يقرأ كلام الله، فإذا قرأ: يا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؛ أحسَّ أن الله يكلمه ويتحدث إليه، فيطير قلبه وجلاً، وأنه إذا آمن بهذه الصفة، وقرأ في الحديث الصحيح أن الله سيكلمه يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان؛ استحى أن يعصي الله في الدنيا، وأعد لذلك الحساب والسؤال جواباً.
وهكذا؛ فما من صفة لله تعالى؛ إلا وللإيمان بها ثمرات عظيمة، وآثار كبيرة مترتبة على ذلك الإيمان؛ فما أعظم نعم الله على أهل السنة والجماعة الذين آمنوا بكل ذلك على الوجه الذي يليق بالله تعالى!. صفات الله الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف – ص 30

أولا: الآثار الإيمانية لصفة الفرح
1 - كمال رحمته جل وعلا ورأفته بعباده؛ حيث يحب رجوع العاصي إليه هذه المحبة العظيمة، هارب من الله، ثم وقف ورجع إلى الله، يفرح الله به هذا الفرح العظيم.
(وهذا أمر عظيم إلى الغاية، فإذا كانت التوبة بهذه المنزلة، كيف لا يكون صاحبها معظماً عند الله؟!) (1).
ويفيدنا أن نحرص على التوبة غاية الحرص، كلما فعلنا ذنباً؛ تبنا إلى الله.
فأنت إذا علمت أن الله يفرح بتوبتك هذا الفرح الذي لا نظير له؛ لا شك أنك سوف تحرص غاية الحرص على التوبة (2). الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 205
_________
(1) ((شرح حديث أبي بكر)) (ص: 53)، لشيخ الإسلام رحمه الله.
(2) ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص: 405).

ثانيا: الآثار الإيمانية لصفة المعية
إذا عرف العبد أن الله معه؛ فلا شك أنه يراقب الله، يعرف أن الله مطلع عليه، وأنه لا تخفى عليه منه خافية. فإذا آمن بأن الله معه، أي عالم به ومطلع عليه ورقيب على أعماله؛ (فإن ذلك يحمله على مراقبة الله، وعلى خوفه، وعدم الخروج عن طاعته، وعدم ارتكاب شيء من معاصيه. تقول له نفسه وقلبه: كيف تتجرأ على مخالفته وهو مراقب لك ولأعمالك؟ ويحمله هذا على إصلاح الأعمال وعدم إفسادها، وعلى الإكثار من الحسنات والبعد عن السيئات، هذه فائدة الإيمان بالمعية) (1) العامة.
عن عبد الله بن معاوية الغاضري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده فإنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه ... وزكى عبد نفسه)) فقال رجل: وما تزكية المرء نفسه يا رسول الله؟ قال: ((يعلم أن الله معه حيث ما كان)) (2).
فحصلت التزكية بالإيمان بهذه المعية، وأي تزكية أعظم منها!
وأما المعية الخاصة، فإن الإنسان إذا عرف أن هذا العمل يحظى أهله بمعية الله، حرص على أن يكون من أهله، فيحرص على أن يكون من أهل التقوى والإحسان والصبر والإيمان، ويكثر من الذكر والدعاء. (وأي فضيلة تداني فضيلة من كان الله معه! وأي مزية توازي مزية من هو من أهل هذه الطبقة الشريفة، والمنزلة السامية؟!) (3).
فمتى حظي العبد بمعية الله (هانت عليه المشاق، وانقلبت المخاوف في حقه أماناً، فبالله يهون كل صعب، ويسهل كل عسير، ويقرب كل بعيد، وبالله تزول الهموم والغموم والأحزان؛ فلا هم مع الله، ولا غم ولا حزن) (4). وإنما الحزن كل الحزن لمن فاته الله، فمن حصل الله له فعلى أي شيء يحزن؟ ومن فاته الله فبأي شيء يفرح (5). وإذا كان الله معك، فمن تخاف؟ وإذا كان عليك، فمن ترجو؟ (6)
واعلم بأن معية الله (من أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده، ولكن لهذه النعمة أقوال وأعمال، هما السبب الذي تنال به، والله سبحانه سميع لتلك الأقوال، عليم بتلك الأفعال، وهو عليم بمن يصلح لهذه النعمة، ويشكرها، ويعرف قدرها، ويحب المنعم عليه، فتصلح عنده هذه النعمة، ويصلح بها كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام: 53]، فإذا فاتت العبد نعمة من نعم ربه، فليقرأ على نفسه: أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (7).
لمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون (8). الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي– ص: 84
_________
(1) ((التعليقات الزكية على العقيدة الواسطية)) (1/ 242).
(2) رواه أبو داود (1582) مختصرا والبيهقي (4/ 96) والطبراني في المعجم الصغير (555) قال الألباني في ((صحيح أبي داود)) (1580): صحيح.
(3) ((الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني)) (3/ 1360).
(4) ((الداء والدواء)) (ص: 288).
(5) ((طريق الهجرتين)) (ص: 280).
(6) ((الدرر السنية)) (2/ 168).
(7) ((زاد المعاد)) (3/ 17).
(8) ((طريق الهجرتين)) (ص: 507).

ثالثا: الآثار الإيمانية لصفة الضحك
1 - إن المؤمن يقابل صفة الضحك بالقبول، والرضى والتسليم، فيستنير بها قلبه، ويتسع لها صدره، ويمتلئ بها سروراً ومحبة، ويعلم أنها تعريف من تعريفات الله تعالى، تعرف بها إليه على لسان رسوله، فأنزلها من قلبه منزلة الغذاء، أعظم ما كان إليه فاقة، ومنزلة الشفاء، أشد ما كان إليه حاجة؛ فاشتد بها فرحه، وعظم بها غناه، وقويت بها معرفته، واطمأنت إليها نفسه، وسكن إليها قلبه (1).
2 - إننا إذا علمنا أن الله عز وجل يضحك؛ فإننا نرجو منه كل خير. ولهذا قال أبو رزين العقيلي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أويضحك ربنا؟ قال: ((نعم)). قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً (2).
إذا علمنا ذلك؛ انفتح لنا الأمل في كل خير. وتفاءلنا أعظم تفاؤل، واستبشرنا خيراً. الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي– ص: 312
_________
(1) انظر: ((الكافية الشافية)) (ص: 32 - 33).
(2) رواه ابن ماجه (181) وقال الألباني في ((صحيح ابن ماجه)) (1/ 78): صحيح.

رابعا: الآثار الإيمانية لصفة وجه الله تعالى
أ- قصد وجه الله بصالح الأعمال:
قال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف: 28] أي: يقصدون وجه الله بالرضا، أي رضا وجهه سبحانه، وقال سبحانه: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الإنسان: 9]. وقال تعالى: وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل: 19 - 21]. فجعل غاية أعمال الأبرار والمقربين والمحبين إرادة وجهه (1). أي: يقصدون بأعمالهم وجه الله، بدخولهم الجنة ورؤيته فيها.
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا شيء له)) فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا شيء له)) ثم قال: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه)) (2).
وعن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة)) (3).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من جرعة أعظم أجراً عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله)) (4).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) (5) -يعني: ريحها-.
وعن عتبان بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ... فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) (6).
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ... إنك لن تخلف، فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله تعالى، إلا ازددت به خيراً، ودرجة ورفعة)) (7).
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: أسندت النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدري فقال: ((من قال: لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة)) (8).
ومتى أنفق العبد ليريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه، فهذا لم يرد وجه الله، وإنما يقبل ما كان عطاؤه لله، وقصده ابتغاء وجه الله.
_________
(1) ((تهذيب المدارج)) (ص: 819).
(2) رواه النسائي (3140) وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 40): إسناده جيد وقال ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 81): إسناده جيد.
(3) رواه البخاري (450) ومسلم (533).
(4) رواه ابن ماجه (4329) والإمام أحمد13/ 286 قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 386) رواته محتج بهم في الصحيح، وقال الألباني في ((صحيح ابن ماجه)) (3396): صحيح.
(5) رواه أبو داود (3664) وابن ماجه (252) وسكت عنه أبو داود [وقد قال في رسالته لأهل مكة كل ما سكت عنه فهو صالح]. وقال محمد المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (1/ 165): رجاله رجال الصحيحين.
(6) رواه البخاري (4501) ومسلم (33).
(7) رواه البخاري (4409) ومسلم (1628).
(8) رواه الإمام أحمد 5/ 391 وابن أبي شيبة كما في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (6125/ 1) والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (651) قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 108) إسناده لا بأس به. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 327): رجاله موثقون.

فلهذا ينبغي للعبد، أن يقصد وجه الله تعالى، ويخلص العمل لله، في كل وقت، وفي كل جزء من أجزاء الخير، ليحصل له بذلك الأجر العظيم، وليتعود الإخلاص، فيكون من المخلصين، وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أم لا، لأن النية حصلت، واقترن بها، ما يمكن من العمل (1).
ب- الاستعاذة بوجهه سبحانه:
عن جابر رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ [الأنعام: 65] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعوذ بوجهك)). قال: أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال: ((أعوذ بوجهك)). قال: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام: 65]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا أهون أو هذا أيسر)) (2).
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قال: ((أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)) قال: ((فإذا قلت ذلك، قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم)) (3).
قال ابن القيم رحمه الله: فتأمل كيف فرق في الاستعاذة بين استعاذته بالذات وبين استعاذته بالوجه الكريم، وهذا صريح في إبطال قول من قال: إنه الذات نفسها (4).
ج- إجابة من سألك بوجه الله:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ملعون من سأل بوجه الله، ومعلون من سئل بوجه الله ثم منع سائله، ما لم يسأل هجرا)) (5).
قوله: (هجرا) الهجر: الكلام الباطل (6).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من استعاذ بالله؛ فأعيذوه، ومن سألكم بوجه الله فأعطوه)) (7).
قال العلامة الألباني رحمه الله: ووجوب الإعطاء إنما هو إذا كان المسؤول قادراً على الإعطاء، ولا يلحقه ضرر به أو بأهله، وإلا فلا يجب عليه، والله أعلم (8).
_________
(1) ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 254).
(2) رواه البخاري (4628).
(3) رواه أبو داود (466) وسكت عنه [وقد قال في رسالته لأهل مكة كل ما سكت عنه فهو صالح] وقال النووي في ((الأذكار)) (46): حسن. وقال الألباني في ((صحيح أبي داود)) (466): صحيح.
(4) ((مختصر الصواعق)) (3/ 1010).
(5) رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (22/ 377) من حديث أبي عبيد مولى رفاعة بن رافع قال ابن منده في ((الرد على الجهمية)) (98) لا يثبت من جهة الرواة. وقال ابن عبد البر في الاستغناء (2/ 1304): أبو عبيد ليست له صحبة [وفيه] أبو معقل قال أبو زرعة: لا يسمى.
(6) ((المجموع)) (5/ 310)، للإمام النووي رحمه الله.
(7) رواه أبو داود (5108) والإمام أحمد1/ 249 سكت عنه أبو داود [وقد قال في رسالته لأهل مكة كل ما سكت عنه فهو صالح] وقال الألباني في ((صحيح أبي داود)) (5108): حسن صحيح.
(8) ((السلسلة الصحيحة)) (1/ 513).

فلو سألك سائل فقال: أسألك بوجه الله أن تعطيني كذا وكذا، أعطه، إلا إذا سألك شيئاً محرماً، فلا تعطه، مثلاً أن يسألك يقول لك: أسألك بوجه الله أن تخبرني ماذا تصنع مع أهلك مثلا، هذا لا يجوز أن تخبره، بل وجهه وانصحه وقل: هذا تدخل فيما لا يعنيك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) (1). وكذلك لو سأل محرماً ولو سألك بوجه الله لا تعطه، لو قال: أسألك بوجه الله أن تعطيني كذا وكذا ليشتري به دخاناً، فلا تعطه، لأنه سألك ليستعين به على شيء محرم، فالمهم أن من سألك بوجه الله فأعطه ما لم يكن على شيء محرم. وكذلك ما لم يكن عليك ضرر، فإن كان عليك ضرر فلا تعطه (2)، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) (3).
د- الطمع في رؤية وجه الله:
عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ... وأسألك لذة النظر إلى وجهك)) (4).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)) (5).
ومن أعظم نعيم الجنة: التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه.
وهل فوق نعيم قرة العين برؤية الله، الذي لا شيء أجل منه، ولا أكمل ولا أجمل، قرة عين البتة؟!
وهذا –والله- هو العلم الذي شمر إليه المحبون، واللواء الذي أمه العارفون، وهو روح مسمى (الجنة) وحياتها، وبه طابت الجنة، وعليه قامت. الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي– ص: 330
_________
(1) رواه الترمذي (2317)، وابن ماجه (3967). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5911).
(2) انظر: ((شرح رياض الصالحين)) (4/ 365)، للعلامة ابن عثيمين رحمه الله.
(3) رواه ابن ماجه (1909)، وأحمد (5/ 326) (22830)، والبيهقي (6/ 156) (12224). من حديث عبادة بن الصامت. قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (3/ 48): هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع. والحديث صححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). والحديث مشهور روي من طرق عن عبد الله بن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله، وعائشة بنت أبي بكر الصديق، وثعلبة بن أبي مالك القرظي، وأبي لبابة رضي الله عنهم جميعاً.
(4) رواه النسائي (1305) وأشار ابن خزيمة في مقدمة كتاب التوحيد (1/ 29) أنه صح وثبت بالإسناد الثابت الصحيح. وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1304).
(5) رواه البخاري (4878)، ومسلم (180).

تمهيد:
شغل مبحث (الأسماء والصفات) حيزاً كبيراً من التراث العقدي لأهل القبلة، وتعددت مدارسه، وتشعبت اتجاهاته. ولم يكن الأمر كذلك في صدر الإسلام إبان عهد النبوة، وعهد الخلفاء الراشدين، ولكن الاحتكاك بثقافات الأمم المغلوبة والمجاورة، وحركة الترجمة التي نشطت في عهد الخليفة العباسي المأمون، والاختلافات السياسية، وغيرها من الأسباب أفرزت توجهات عقدية متباينة، لحقت أخص جوانب العقيدة الإسلامية، إلا وهو الإيمان بأسماء الله وصفاته ...
قال المقريزي – رحمه الله - في كلامه على افتراق الناس في نصوص الصفات: (فصار للمسلمين في ذلك خمسة أقوال: أحدها: اعتقاد ما يفهم مثله من اللغة. وثانيها: السكوت عنها مطلقاً، وثالثها: السكوت عنها بعد نفي إرادة الظاهر، ورابعها: حملها على المجاز، وخامسها: حملها على الاشتراك).
وقال الشيخ أحمد بن إبراهيم الواسطي الشافعي: (وكنت متحيراً في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك: من تأويل الصفات وتحريفها، أو إمرارها، أو الوقوف فيها، أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (وجماع الأمر: أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة: قسمان يقولان: تجري على ظواهرها، وقسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها، وقسمان: يسكتون. أما الأولون فقسمان:
أحدهما: من يجريها على ظاهرها، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين. فهؤلاء (المشبهة)، ومذهبهم باطل، أنكره السلف، وإليهم يتوجه الرد بالحق.
الثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله، كما يجري ظاهر اسم العليم والقدير، والرب والإله، والموجود والذات ونحو ذلك؛ على ظاهرها اللائق بجلال الله؛ فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إما جوهر محدث، أو عرض قائم به. فالعلم، والقدرة، والكلام، والمشيئة، والرحمة، والرضا، والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض؛ والوجه، واليد، والعين، في حقه أجسام، فإذا كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات بأن له علماً وقدرة، وكلاماً ومشيئة وإن لم يكن ذلك عرضاً؛ يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين، جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليست أجساماً، يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين.
وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها – أعني الذين يقولون: ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله تعالى قط، وأن الله لا صفة له ثبوتية؛ بل صفاته إما سلبية, وإما إضافية, وإما مركبة منهما، أو يثبتون بعض الصفات (وهي الصفات السبعة, أو الثمانية, أو الخمسة عشر) أو يثبتون الأحوال دون الصفات، ويقرون من الصفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث، على ما قد عرف من مذاهب المتكلمين – فهؤلاء قسمان: قسم يتأولونها ويعينون المراد، مثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو المكانة والقدر، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه .. إلى غير ذلك من تأويلات المتكلمين. وقسم يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه.
وأما القسمان الواقفان: فقوم يقولون: يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللائق بجلال الله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله ونحو ذلك. وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم. وقوم يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن، وقراءة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات.
فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها).
ومن خلال المقارنة بين هذه النصوص نجد تطابقاً في تحديد الاتجاهات وإن كان الأخير منها أتم في القسمة، حيث فصل ما أجمله غيره. والذي يترشح منها ما يلي:

1 - اتجاه (التمثيل): وهو ما عناه المقريزي بقوله: (ما يفهم مثله من اللغة)، وصرح به شيخ الإسلام بقوله: (من يجريها على ظاهرها، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء: المشبهة).
2 - اتجاه (النفي والتعطيل والتحريف): وهو القسم الرابع عند المقريزي، أي (حملها على المجاز)، وما أشار إليه الواسطي بقوله: (تأويل الصفات وتحريفها) وهو القسم الثالث عند شيخ الإسلام الذين (يتأولونها ويعينون المراد) ممن ينفون نصوص الصفات عن ظاهرها نفياً كلياً أو جزئياً.
3 - اتجاه التوقف والسكوت: وهو القسم الثاني عند المقريزي: (السكوت عنها مطلقاً)، وما عبر عنه الواسطي بقوله: (أو الوقوف فيها). وهو الذي جعله شيخ الإسلام قسمين ووصفه مرة بالتوقف ومرة بالسكوت.
4 - اتجاه التفويض: وهو القسم الثالث عند المقريزي حيث قال: (السكوت عنها بعد نفي إرادة الظاهر) ووصفه الواسطي (بالإمرار)، وأوضحه شيخ الإسلام بقوله: (وقسم يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه).
5 - اتجاه الإثبات: ولعله ما أراده المقريزي في القسم الخامس من (حملها على الاشتراك)، ونص عليه الواسطي بقوله: (إثباتها بلا تأويل, ولا تشبيه, ولا تمثيل)، وأوضحه جلياً شيخ الإسلام بقوله: (من يجريها على ظاهرها اللائق بالله، كما يجري ظاهر اسم العليم والقدير، والرب والإله، والموجود والذات ونحو ذلك، على ظاهرها اللائق بجلال الله .. الخ)، مما يفسر كلام المقريزي في معنى الاشتراك في المعنى الكلي دون الكنه والحقيقة.
هذا مجمل الاتجاهات السائدة لدى أهل القبلة حيال نصوص الصفات .. مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي - بتصرف -74

المطلب الأول: تعريف التمثيل
التمثيل: ذكر مماثل للشيء، وبينه وبين التكييف عموم وخصوص مطلق، لأن كل ممثل مكيف، وليس كل مكيف ممثلا، لأن التكييف ذكر كيفية غير مقرونة بمماثل، مثل أن تقول: لي قلم كيفيته كذا وكذا فإن قرنت بمماثل، صار تمثيلاً، مثل أن أقول: هذا القلم مثل هذا القلم، لأني ذكرت شيئاً مماثلا لشيء وعرفت هذا القلم بذكر مماثله شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 102

المطلب الثاني: عقيدة أهل السنة هي إثبات الصفات دون مماثلة
أهل السنة يتبرءون من تمثيل الله عز وجل بخلقه، لا في ذاته ولا في صفاته وأهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل الصفات بدون مماثلة، يقولون: إن الله عز وجل له حياة وليست مثل حياتنا، له علم وليس مثل علمنا، له بصر، ليس مثل بصرنا، له وجه وليس مثل وجوهنا له يد وليست مثل أيدينا وهكذا جميع الصفات، يقولون: إن الله عز وجل لا يماثل خلقه فيما وصف به نفسه أبداً شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 102

المطلب الثالث: الأدلة على انتفاء التمثيل في باب الصفات
• 1 - : الأدلة السمعية.
• 2 - : الأدلة العقلية.
• 3 - الأدلة الفطرية.

1 - : الأدلة السمعية
تنقسم إلى قسمين: خبر، وطلب
- فمن الخبر قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء [الشورى: 11]، فالآية فيها نفي صريح للتمثيل.
وقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم: 65]، فإن هذا وإن كان إنشاء، لكنه بمعنى الخبر، لأنه استفهام بمعنى النفي.
وقوله: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4]، فهذه كلها تدل على نفي المماثلة، وهي كلها خبرية.
وأما الطلب، فقال الله تعالى: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً [البقرة: 22] أي: نظراء مماثلين وقال فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَال [النحل: 74].
فمن مثل الله بخلقه، فقد كذب الخبر وعصى الأمر ولهذا أطلق بعض السلف القول بالتكفير لمن مثل الله بخلقه، فقال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري رحمه الله: من شبه الله بخلقه، فقد كفر، لأنه جمع بين التكذيب بالخبر وعصيان الطلب.

2 - : الأدلة العقلية
من وجوه:
أولاً: أن نقول لا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق بأي حال من الأحوال لو لم يكن بينهما من التباين إلا أصل الوجود، لكان كافياً، وذلك أن وجود الخالق واجب، فهو أزلي أبدي، ووجود المخلوق ممكن مسبوق بعدم ويلحقه فناء، فما كانا كذلك لا يمكن أن يقال: إنهما متماثلان.
ثانياً: أنا نجد التباين العظيم بين الخالق والمخلوق في صفاته وفي أفعاله، في صفاته يسمع عز وجل كل صوت مهما خفي ومهما بعد، لو كان في قعار البحار، لسمعه عز وجل.
وأنزل الله قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: 1]، تقول عائشة: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي الحجرة، وإنه ليخفى علي بعض حديثها) (1)، والله تعالى سمعها من على عرشه وبينه وبينها ما لا يعلم مداه إلا الله عز وجل، ولا يمكن أن يقول قائل: إن سمع الله مثل سمعنا.
ثالثاً: نقول: نحن نعلم أن الله تعالى مباين للخلق بذاته: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُه [الزمر: 67]، ولا يمكن لأحد من الخلق أن يكون هكذا، فإذا كان مبايناً للخلق في ذاته، فالصفات تابعة للذات، فيكون أيضاً مبايناً للخلق في صفاته عز وجل، ولا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق
رابعاً: نقول: إننا نشاهد في المخلوقات أشياء تتفق في الأسماء وتختلف في المسميات، يختلف الناس في صفاتهم: هذا قوي البصر وهذا ضعيف، وهذا قوي السمع وهذا ضعيف، هذا قوي البدن وهذا ضعيف وهذا ذكر وهذا أنثى وهكذا التباين في المخلوقات التي من جنس واحد، فما بالك بالمخلوقات المختلفة الأجناس؟ فالتباين بينها أظهر ولهذا، لا يمكن لأحد أن يقول: إن لي يداً كيد الجمل، أو لي يداً كيد الذرة، أو لي يداً كيد الهر، فعندنا الآن إنسان وجمل وذرة وهر، كل واحد له يد مختلفة عن الثاني، مع أنها متفقة في الاسم فنقول: إذا جاز التفاوت بين المسميات في المخلوقات مع اتفاق مع فجوازه بين الخالق والمخلوق ليس جائزاً فقط بل هو واجب؛ فعندنا أربعة وجوه عقلية كلها تدل على أن الخالق لا يمكن أن يماثل المخلوق بأي حال من الأحوال
_________
(1) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم مختصرا (7385)، والنسائي (6/ 168)، وابن ماجه (188)، وأحمد (6/ 46) (24241). وقال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1/ 163) والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. وقال ابن تيمية في ((تلبيس الجهمية)) (1/ 280): إسناده ثابت.

3 - الأدلة الفطرية
ربما نقول أيضا هناك دليل فطري، وذلك لأن الإنسان بفطرته بدون أن يلقن يعرف الفرق بين الخالق والمخلوق ولولا هذه الفطرة؛ ما ذهب يدعو الخالق فتبين الآن أن التمثيل منتفٍ سمعاً وعقلاً وفطرة شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 103

المطلب الرابع: شبهات والرد عليها
فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا بأحاديث تشتبه علينا؛ هل هي تمثيل أو غير تمثيل؟ ونحن نضعها بين أيديكم:
1 - قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته)) (1)؛ فقال: (كما) والكاف للتشبيه، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن من قاعدتنا أن نؤمن بما قال الرسول كما نؤمن بما قال الله؛ فأجيبوا عن هذا الحديث؟
نقول نجيب عن هذا الحديث وعن غيره بجوابين: الجواب الأول مجمل والثاني مفصل
فالأول المجمل: أنه لا يمكن أن يقع تعارض بين كلام الله وكلام رسوله الذي صح عنه أبداً؛ لأن الكل حق، والحق لا يتعارض والكل من عند الله، وما عند الله تعالى لا يتناقض وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82]؛ فإن وقع ما يوهم التعارض في فهمك؛ فاعلم أن هذا ليس بحسب النص، ولكن باعتبار ما عندك؛ فأنت إذا وقع التعارض عندك في نصوص الكتاب والسنة؛ فإما لقلة العلم، وإما لقصور الفهم، وإما للتقصير في البحث والتدبر، ولو بحثت وتدبرت؛ لوجدت أن التعارض الذي توهمته لا أصل له، وإما لسوء القصد والنية؛ بحيث تستعرض ما ظاهره التعارض لطلب التعارض، فتحرم التوفيق؛ كأهل الزيغ الذين يتبعون المتشابه
ويتفرع على هذا الجواب المجمل أنه يجب عليك عند الاشتباه أن ترد المشتبه إلى المحكم؛ لأن هذه الطريق طريق الراسخين في العلم؛ قال الله تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران:7]، ويحملون المتشابه على المحكم حتى يبقى النص كله محكماً وأما الجواب المفصل؛ فإنا نجيب عن كل نص بعينه فنقول:
إن قول النبي صلى الله عليه وسلم ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته))؛ ليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي، ولكنه تشبيه للرؤية بالرؤية؛ (سترون كما ترون)؛ الكاف في (كما ترون) داخلة على مصدر مؤول؛ لأن (ما) مصدرية، وتقدير الكلام: كرؤيتكم القمر ليلة البدر وحينئذ يكون التشبيه للرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي، والمراد أنكم ترونه رؤية واضحة كما ترون القمر ليلة البدر ولهذا أعقبه بقوله: "لا" تضامون في رؤيته" أو: " لا تضارون في رؤيته" فزال الإشكال الآن
2 - قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إن الله خلق آدم على صورته)) (2) والصورة مماثلة للأخرى، ولا يعقل صورة إلا مماثلة للأخرى، ولهذا أكتب لك رسالة، ثم تدخلها الآلة الفوتوغرافية، وتخرج الرسالة، فيقال: هذه صورة هذه، ولا فرق بين الحروف والكلمات؛ فالصورة مطابقة للصورة، والقائل: " إن الله خلق آدم على صورته": الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم وأصدق وأنصح وأفصح الخلق
والجواب المجمل أن نقول: لا يمكن أن يناقض هذا الحديث قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فإن يسر الله لك الجمع؛ فاجمع، وإن لم يتيسر؛ فقل: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7]، وعقيدتنا أن الله لا مثيل له؛ بهذا تسلم أمام الله عز وجل
_________
(1) رواه البخاري (554)، ومسلم (633). من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري (6227) بدون (إن)، ومسلم (2612). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

هذا كلام الله، وهذا كلام رسوله، والكل حق، ولا يمكن أن يكذب بعضه بعضاً؛ لأنه كله خبر وليس حكماً كي ينسخ؛ فأقول: هذا نفي للمماثلة، وهذا إثبات للصورة؛ فقل: إن الله ليس كمثله شيء، وإن الله خلق آدم على صورته؛ فهذا كلام الله، وهذا كلام رسوله والكل حق نؤمن به، ونقول: كل من عند ربنا ونسكت وهذا هو غاية ما نستطيع
وأما الجواب المفصل؛ فنقول: إن الذي قال ((إن الله خلق آدم على صورته)) رسول الذي قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: الآية11] والرسول لا يمكن أن ينطق بما يكذب المرسل والذي قال ((خلق آدم على صورته)): هو الذي قال ((إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر)) (1) فهل أنت تعتقد أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة على صورة القمر من كل وجه أو تعتقد أنهم على صورة البشر لكن في الوضاءة والحسن والجمال واستدارة الوجه وما أشبه ذلك على صورة القمر، لا من كل وجه؟! فإن قلت بالأول؛ فمقتضاه أنهم دخلوا وليس لهم أعين وليس لهم آناف وليس لهم أفواه! وإن شئنا قلنا: دخلوا وهم أحجار! وإن قلت بالثاني؛ زال الإشكال، وتبين أنه لا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلاً له من كل وجه
فإن أبى فهمك، وتقاصر عن هذا وقال: أنا لا أفهم إلا أنه مماثل قلنا: هناك جواب آخر، وهو أن الإضافة هنا من باب إضافة المخلوق إلى خالقه؛ فقوله:" على صورته"؛ مثل قوله عز وجل في آدم: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: من الآية29]، ولا يمكن أن الله عز وجل أعطى آدم جزءاً من روحه، بل المراد الروح التي خلقها الله عز وجل، لكن إضافتها إلى الله بخصوصها من باب التشريف؛ كما نقول: عباد الله؛ يشمل الكافر والمسلم والمؤمن والشهيد والصديق والنبي لكننا لو قلنا: محمد عبد الله؛ هذه إضافة خاصة ليست كالعبودية السابقة فقوله: ((خلق آدم على صورته))؛ يعني: صورة من الصور التي خلقها الله وصورها؛ كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [الأعراف: الآية11]، والمصور آدم إذاً؛ فآدم عل صورة الله؛ يعني: أن الله هو الذي صوره على هذه الصورة التي تعد أحسن صورة في المخلوقات، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]؛ فإضافة الله الصورة إليه من باب التشريف؛ كأنه عز وجل اعتنى بهذه الصورة ومن أجل ذلك؛ لا تضرب الوجه؛ فتعيبه حساً، ولا تقبحه فتقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك؛ فتعيبه معنىً؛ فمن أجل أنه الصورة التي صورها الله وأضافها إلى نفسه تشريفاً وتكريماً؛ لا تقبحها بعيب حسي ولا بعيب معنوي
ثم هل يعتبر هذا الجواب تحريفاً أم له نظير؟
نقول: له نظير، كما في: بيت الله، وناقة الله، وعبد الله؛ لأن هذه الصورة (أي: صورة آدم) منفصلة بائنة من الله وكل شيء أضافه الله إلى نفسه وهو منفصل بائن عنه؛ فهو من المخلوقات؛ فحينئذ يزول الإشكال
ولكن إذا قال قائل: أيما أسلم المعنى الأول أو الثاني؟ قلنا: المعنى الأول أسلم، ما دمنا نجد أن لظاهر اللفظ مساغاً في اللغة العربية وإمكاناً في العقل؛ فالواجب حمل الكلام عليه ونحن وجدنا أن الصورة لا يلزم منها مماثلة الصورة الأخرى، وحينئذ يكون الأسلم أن نحمله على ظاهره
فإذا قلت: ما هي الصورة التي تكون لله ويكون آدم عليها؟
_________
(1) رواه البخاري (3246)، ومسلم (2834). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قلنا: إن الله عز وجل له وجه وله عين وله يد وله رجل عز وجل، لكن لا يلزم من أن تكون هذه الأشياء مماثلة للإنسان؛ فهناك شيء من الشبه لكنه ليس على سبيل المماثلة؛ كما أن الزمرة الأولى من أهل الجنة فيها شبه من القمر لكن بدون مماثلة، وبهذا يصدق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة؛ من أن جميع صفات الله سبحانه وتعالى ليست مماثلة لصفات المخلوقين؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل
نسمع كثيراً من الكتب التي نقرأها يقولون: تشبيه؛ يعبرون بالتشبيه وهم يقصدون التمثيل؛ فأيما أولى: أنعبر بالتشبيه، أو نعبر بالتمثيل؟ نقول بالتمثيل أولى
أولاً: لأن القرآن عبر به: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً [البقرة: الآية22] وما أشبه ذلك، وكل ما عبر به القرآن؛ فهو أولى من غيره؛ لأننا لا نجد أفصح من القرآن ولا أدل على المعنى المراد من القرآن، والله أعلم بما يريده من كلامه، فتكون موافقة القرآن هي الصواب، فنعبر بنفي التمثيل وهكذا في كل مكان؛ فإن موافقة النص في اللفظ أولى من ذكر لفظ مرادف أو مقارب
ثانياً: أن التشبيه عند بعد الناس يعني إثبات الصفات ولهذا يسمون أهل السنة: مشبهة؛ فإذا قلنا: من غير تشبيه وهذا الرجل لا يفهم من التشبيه إلا إثبات الصفات؛ صار كأننا نقول له: من غير إثبات صفات! فصار معنى التشبيه يوهم معنى فاسداً فلهذا كان العدول عنه أولى
ثالثاً: أن نفي التشبيه على الإطلاق غير صحيح؛ لأن ما من شيئين من الأعيان أو من الصفات إلا وبينهما اشتراك من بعض الوجوه، والاشتراك نوع تشابه، فلو نفيت التشبيه مطلقاً؛ لكنت نفيت كل ما يشترك فيه الخالق والمخلوق في شيء ما مثلاً: الوجود؛ يشترك في أصله الخالق والمخلوق، هذا نوع اشتراك نوع تشابه، لكن فرق بين الوجودين؛ وجود الخالق واجب ووجود المخلوق ممكن وكذلك السمع؛ فيه اشتراك؛ الإنسان له سمع، والخالق له سمع، لكن بينهما فرق، لكن أصل وجود السمع مشترك فإذا قلنا: من غير تشبيه ونفينا مطلق التشبيه؛ صار في هذا إشكال
وبهذا عرفنا أن التعبير بالتمثيل أولى من ثلاثة أوجه
3 - وفي قوله: َليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير [الشورى:11] رد صريح على الممثلة الذين يثبتون أن الله سبحانه وتعالى له مثيل وحجة هؤلاء يقولون: إن القرآن عربي، هذا كان عربياً؛ فقد خاطبنا الله تعالى بما نفهم، ولا يمكن أن يخاطبنا بما لا نفهم، وقد خاطبنا الله تعالى، فقال: إن له وجهاً وإن له عيناً، وإن له يدين وما أشبه ذلك ونحن لا نعقل بمقتضى اللغة العربية من هذه الأشياء إلا مثل ما نشاهد، وعلى هذا؛ فيجب أن يكون مدلول هذه الكلمات مماثلاً لمدلولها بالنسبة للمخلوقات: يد ويد، وعين وعين، ووجه ووجه وهكذا؛ فنحن إنما قلنا بذلك لأن لدينا دليلاً لا شك أن هذه الحجة واهية يوهيها ما سبق من باين أن الله ليس له مثيل ونقول: إن الله خاطبنا بما خاطبنا به من صفاته، لكننا نعلم علم اليقين أن الصفة بحسب الموصوف ودليل هذا في الشاهد؛ فإنه يقال للجمل يد وللذرة يد، ولا أحد يفهم من اليد التي أضفناها إلى الجمل أنها مثل اليد التي أضفناها إلى الذرة! هذا وهو في المخلوقات؛ فكيف إذا كان ذلك من أوصاف الخالق؟! فإن التباين يكون أظهر وأجلى وعلى هذا؛ فيكون قول هؤلاء الممثلة مردوداً بالعقل كما أنه مردود بالسمع قال الله تعالى وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فأثبت لنفسه سبحانه وتعالى السمع والبصر؛ لبيان كماله، ونقص الأصنام التي تُعبد من دونه؛ فالأصنام التي تعبد من دون الله تعالى لا يسمعون، ولو سمعوا؛ ما استجابوا، ولا يبصرون؛ كما قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:20 - 21]؛ فهم ليس لهم سمع ولا عقل ولا بصر ولو فرض أن لهم ذلك؛ ما استجابوا: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5] فأهل السنة والجماعة يؤمنون بانتفاء المماثلة عن الله؛ لأنها عيب ويثبتون له السمع والبصر؛ لقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 105

المطلب الخامس: معنى قول أهل السنة: (من غير تكييف ولا تمثيل)
هذه العبارة فيها تمييز لعقيدة أهل السنة عن عقيدة المشبهة.
(فالتكييف) هو: جعل الشيء على حقيقة معينة من غير أن يقيدها بمماثل (1).
مثال ذلك: قول الهشامية عن الله: (طوله كعرضه) (2).
أو قولهم: (طوله طول سبعة أشبار بشبر نفسه).
وعلى هذا التعريف يكون هناك فرق بين التكييف والتمثيل.
فالتكييف: ليس فيه تقيد بمماثل.
وأما التمثيل: فهو اعتقاد أنها مثل صفات المخلوقين.
ولعل الصواب أن التكييف أعم من التمثيل.
فكل تمثيل تكييف؛ لأن من مثل صفات الخالق بصفات المخلوقين فقد كيف تلك الصفة أي جعل لها حقيقة معينة مشاهدة.
وليس كل تكييف تمثيلاً؛ لأن من التكييف ما ليس فيه تمثيل صفات المخلوقين، كقولهم: طوله كعرضه.
ومعنى قول أهل السنة: (من غير تكييف) أي من غير كيف يعقله البشر، وليس المراد من قولهم: (من غير تكييف) أنهم ينفون الكيف مطلقاً؛ فإن كل شيء لابد أن يكون على كيفية ما، ولكن المراد أنهم ينفون علمهم بالكيف؛ إذ لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه (3).
فمن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفاته عز وجل؛ لأنه تعالى أخبرنا عن الصفات ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تعمقنا في أمر الكيفية قفواً لما ليس لنا به علم، وقولاً بما لا يمكننا الإحاطة به.
وقد أخذ العلماء من قول الإمام مالك: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) قاعدة ساروا عليها في هذا الباب.
(ولا تمثيل):
المثيل لغة: هو الند والنظير.
والتمثيل: هو الاعتقاد في صفات الخالق أنها مثل صفات المخلوقين.
وهو قول الممثل: له يد كيدي, وسمع كسمعي، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
والتمثيل والتشبيه هنا بمعنى واحد، وإن كان هناك فرق بينهما في أصل اللغة (4).
فالمماثلة: هي مساواة الشيء لغيره من كل وجه.
والمشابهة: هي مساواة الشيء لغيره في أكثر الوجوه.
ولكن التعبير هنا بنفي (التمثيل) أولى لموافقة لفظ القرآن.
في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورى: 11].
وقوله تعالى: فَلَا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ [النحل: 74].
وقد وقع في التمثيل والتكييف (المشبهة) الذين بالغوا في إثبات الصفات إلى درجة تشبيه الخالق بالمخلوق.
وقد وقع في التمثيل كل من:
1 - الكرامية: أتباع محمد بن كرام السجستاني.
وهم طوائف يبلغ عددهم اثنتي عشرة فرقة، وأصولها ستة هي:
1 - العابدية. 2 - النونية. 3 - الزرينية.
4 - الإسحاقية. 5 - الواحدية. 6 - الهيصمية.
2 - الهشامية الرافضية الإمامية.
وهم أصحاب: هشام بن الحكم الرافضي.
وأحياناً تنسب إلى: هشام بن سالم الجواليقي، وكلاهما من الإمامية المشبهة، والجدير بالذكر أن الرافضة الإمامية كان ينتشر فيهم التشبيه وهذا في أوائلهم (5).
وأما الرافضة الإمامية في الوقت الراهن فعلى عقيدة المعتزلة في مسائل الصفات، وكذلك (الزيدية) من الشيعة. معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 64
_________
(1) ((القواعد المثلى)) (ص: 27).
(2) ((مقالات الإسلاميين)) (ص: 31).
(3) ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص: 21).
(4) ((القواعد المثلى)) (ص: 27).
(5) ((شرح الأصفهانية)) (ص: 65).

المطلب السادس: الفرق بين التمثيل والتكييف
الفرق بينهما من وجهين:
الأول: أن التمثيل ذكر الصفة مقيدة بمماثل؛ فتقول يد فلان مثل يد فلان، والتكييف ذكر الصفة غير مقيدة بمماثل؛ مثل أن تقول: كيفية يد فلان كذا وكذا
وعلى هذا نقول: كل ممثل مكيف، ولا عكس
الثاني: أن الكيفية لا تكون إلا في الصفة والهيئة، والتمثيل يكون في ذلك كما في قوله تعالى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُن [الطلاق: 12]؛ أي: في العدد
بل يؤمنون بأن الله سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] أي: يقر أهل السنة والجماعة بذلك إقراراً وتصديقاً بأن الله ليس كمثله شيء؛ كما قال عن نفسه: َليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير [الشورى:11]؛ فهنا نفى المماثلة، ثم أثبت السمع والبصر فنفى العيب، ثم أثبت الكمال؛ لأن نفي العيب قبل إثبات الكمال أحسن، ولهذا يقال التخلية قبل التحلية فنفي العيوب يبدأ به أولاً ثم يذكر إثبات الكمال
وكلمة (شيء) نكرة في سياق النفي، فتعم كل شيء، ليس شيء مثله أبداً عز وجل أي مخلوق وإن عظم؛ فليس مماثلاً لله عز وجل؛ لأن مماثلة الناقص نقص، بل إن طلب المفاضلة بين الناقص والكامل تجعله ناقصاً؛ كما قيل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
فهنا لو قلنا: إن لله مثيلاً؛ لزم من ذلك تنقص الله عز وجل؛ فلهذا نقول: نفى الله عن نفسه مماثلة المخلوقين؛ لأن مماثلة المخلوقين نقص وعيب؛ لأن المخلوق ناقص وتمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصا، بل ذكر المفاضلة بينهما يجعله ناقصاً؛ إلا إذا كان في مقام التحدي؛ كما في قوله تعالى: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل: 59]، وقوله: قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ [البقرة: 140] شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 112

المسألة الأولى: تعريف التعطيل لغةً
التعطيل لغة مأخوذ من مادة (عطل):
قال ابن فارس: (عطل) العين والطاء واللام أصل صحيح واحد يدل على خلو وفراغ؛ تقول عطلت الدار، ودار معطلة. ومتى تركت الإبل بلا راع فقد عطلت، وكذلك البئر إذا لم تورد ولم يستق منها.
قال الله تبارك وتعالى: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ [الحج: 45] وقال تعالى: وَإِذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ [التَّكوير: 4]، وكل شيء خلا من حافظ فقد عطل، من ذلك تعطيل الثغور وما أشبهها، ومن هذا الباب العَطَل وهو العُطُول، يقال امرأة عاطل، إذا كانت لا حلي لها، والجمع عواطل، وقوس عُطُلٌ: لا وتر عليها، وخيل أعطال: لا قلائد لها (1).
وقال الخليل بن أحمد: (امرأة عاطل بغير هاء: لا حلي عليها وقوس عُطُل: لا وتر عليها، والأعطال من الخيل التي لا أرسان عليها، وإذا ترك الثغر بلا حام يحميه فقد عطل، والمواشي إذا أهملت بلا راع فقد عطلت، وكذلك الرعية إذا لم يكن لها وال يسوسها فهم معطلون، وقد عطلوا: أي أهملوا، وبئر معطلة لا يستقى منها ولا ينتفع بمائها، وتعطيل الحدود ألا تقام على من وجبت عليه، وعطلت الغلات والمزارع إذا لم تعمر ولم تحرث، وسمعت العرب تقول فلان ذو عطلة إذا لم تكن له صنعة يمارسها، ودلو عَطِلّة إذا تَقَطع وذَمُها فتعطلت من الاستقاء بها) (2).
وقال ابن سيده: (التعطيل: التَّفريغ، وعطّل الدار: أخلاها، وكل ما ترك ضياعاً مُعَطَّلٌ ومُعْطَل) (3).
فمن خلال هذه النقول عن بعض كبار أئمة اللغة يتضح لك أن مدار كلمة التعطيل في اللغة على الخلو والفراغ والترك، وهذا ما فسر به بعض السلف قوله تعالى: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: (التي تركت) (4).
وقال قتادة: (أعطلها أهلها، وتركوها) (5).
وكذا قوله تعالى: وَإِذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ قال أبي بن كعب: (إذا أهملها أهلها) (6)، وقال مجاهد: (سيبت وتركت) (7).
وهذه المعاني اللغوية للتعطيل هي المستعملة في الاصطلاح. مقالة التعطيل والجعد بن درهم لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 16
_________
(1) ((معجم مقاييس اللغة)) (4/ 351).
(2) ((تهذيب اللغة)) (2/ 165).
(3) ((المحكم)) (1/ 338، 339).
(4) ((تفسير الطبري)) (17/ 180).
(5) ((تفسير الطبري)) (17/ 180).
(6) ((تفسير الطبري)) (30/ 66).
(7) ((تفسير الطبري)) (30/ 66).

المسألة الثانية: تعريف التعطيل شرعاً
يختلف تعريف التعطيل باختلاف صوره فهناك:
1 - التعطيل المحض أو الكلي: وهو إنكار الخالق, وإنكار كلامه ودينه، وإنكار عبادته وشرائعه.
قال ابن القيم: (وأهل التعطيل المحض عطلوا الشرائع, وعطلوا المصنوع عن الصانع, وعطلوا الصانع عن صفات كماله، وعطلوا العالم عن الحق الذي خلق له وبه، فعطلوه عن مبدئه ومعاده وعن فاعله وغايته) (1).
وأهل هذا التعطيل هم الملاحدة الدهرية الطبائعية الذين ينكرون ما سوى هذا الوجود الذي يشاهده الناس ويحسونه، وهو وجود الأفلاك وما فيها (2)، وقالوا: (إن العالم دائم لم يزل ولا يزال، ولا يتغير ولا يضمحل، وإن الأشياء ليس لها أول البتة) (3).
2 - أما تعطيل الأسماء والصفات: فهو نفي الصفات الإلهية عن الله وإنكار قيامها بذاته أو إنكار بعضها (4).
أو: نفي الأسماء والصفات أو بعضها.
فتوحيد الأسماء والصفات له ضدان هما:
1 - التعطيل. 2 - التمثيل.
فمن نفى صفات الرب عز وجل وعطلها؛ فقد كذب تعطيله توحيده، ومن شبهه بخلقه ومثله بهم؛ فقد كذب تشبيهه وتمثيله توحيده (5).
والتعطيل في هذا الباب على قسمين:
القسم الأول: التعطيل المحض التام أو الكلي، وهو الذي عليه الجهمية والفلاسفة من إنكار جميع الأسماء والصفات.
والقسم الثاني: التعطيل الجزئي، وهو نوعان:
النوع الأول: إثبات الأسماء ونفي الصفات وهو الذي عليه المعتزلة ومن وافقهم.
النوع الثاني: نفي بعض الصفات دون بعض وهو الذي عليه الكلابية والأشاعرة والماتريدية.
والتعطيل هنا في هذا الباب يدخل فيه تعطيل الباري سبحانه وتعالى عن أسمائه وصفاته.
ويدخل فيه أيضاً تعطيل نصوص الأسماء والصفات الذي هو إنكار حقائقها وما دلت عليه وما تضمنته من المعاني.
3 - تعطيل النبوات: وهو إنكار النبوات، كما هو حال البراهمة القائلين بحدوث العالم المثبتين للصانع ولكنهم ينكرون النبوات أصلاً. فالخلاف مع الخارجين عن الملة على ثلاثة أضرب:
1 - الخلاف مع المنكرين للصانع والقائلين بقدم العالم.
2 - وخلاف مع القائلين بحدوث العالم المثبتين للصانع المنكرين للنبوات أصلاً كالبراهمة.
3 - خلاف مع القائلين ببعض النبوات المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم (6).
قال ابن حزم: (ذهبت البراهمة وهم قبيلة بالهند فيهم أشراف الهند وهم يقولون بالتوحيد على نحو قولنا إلا أنهم أنكروا النبوات) (7). مقالة التعطيل والجعد بن درهم لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 17
_________
(1) ((إغاثة اللهفان)) (2/ 268).
(2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 168).
(3) ((إغاثة اللهفان)) (2/ 256).
(4) ((الكواشف الجلية عن معاني الواسطية)) (ص: 87).
(5) ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص: 36).
(6) ((نقض تأسيس الجهمية)) (1/ 140).
(7) ((الفصل)) (1/ 69).

المطلب الثاني: عقيدة أهل السنة والجماعة بريئة من التعطيل
فأهل السنة والجماعة لا يعطلون أي اسم من أسماء الله، أو أي صفة من صفات الله ولا يجحدونها، بل يقرون بها إقراراً كاملاً
فإن قلت: ما الفرق بين التعطيل والتحريف؟
قلنا: التحريف في الدليل والتعطيل في المدلول، فمثلاً:
إذا قال قائل: معنى قوله تعالى بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان [المائدة: 64]، أي بل قوتاه هذا محرف للدليل، ومعطل للمراد الصحيح، لأن المراد اليد الحقيقية، فقد عطل المعنى المراد، وأثبت معنى غير المراد وإذا قال: بل يداه مبسوطتان، لا أدري! أفوض الأمر إلى الله، لا أثبت اليد الحقيقية، ولا اليد المحرف إليها اللفظ نقول: هذا معطل، وليس بمحرف، لأنه لم يغير معنى اللفظ، ولم يفسره بغير مراده، لكن عطل معناه الذي يراد به، وهو إثبات اليد لله عز وجل
أهل السنة والجماعة يتبرءون من الطريقتين: الطريقة الأولى: التي هي تحريف اللفظ بتعطيل معناه الحقيقي المراد إلى معنى غير مراد والطريقة الثانية: وهي طريقة أهل التفويض، فهم لا يفوضون المعنى كما يقول المفوضة بل يقولون: نحن نقول: بَلْ يَدَاهُ، أي: يداه الحقيقيتان مَبْسُوطَتَان، وهما غير القوة والنعمة
فعقيدة أهل السنة والجماعة بريئة من التحريف ومن التعطيل شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 91

المطلب الثالث: أنواع التعطيل في توحيد الله
ينقسم التعطيل في باب التوحيد إلى ثلاثة أقسام هي:
1 - التعطيل في جانب الربوبية.
2 - التعطيل في جانب الألوهية.
3 - التعطيل في جانب الأسماء والصفات.
فالتوحيد كما هو معلوم ضده الشرك، والشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل, وكل معطل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وصفاته ولكنه عطل حق التوحيد، وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل (1).
أما القسم الأول: فهو تعطيل جانب الربوبية:
والمقصود به: إنكار وجود الخالق سبحانه وتعالى، ومن صور هذا القسم وأمثلته:
1 - شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته، وإنه لم يكن معدوماً أصلاً بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها يسمونها بالعقول والنفوس (2).
2 - شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون ما ثم خالق ومخلوق، ولا هاهنا شيئان، بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه (3).
3 - شرك فرعون إذ قال: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ [الشعراء: 23] وقال تعالى مخبراً عنه أنه قال لهامان: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر: 37].
القسم الثاني: التعطيل في جانب الألوهية:
قال ابن القيم في تعريفه هو: تعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد. ومن صوره: ما يفعله بعض غلاة المتصوفة من إسقاط العبادات عنهم وعن أتباعهم، وزعمهم أن الكمال في فناء العبد عن حظوظه – أي الفناء في توحيد الربوبية – حيث يعلنون أن العارف الذي يشهد هذا المقام (لا يستحسن حسنة, ولا يستقبح سيئة) ويجعلون هذا غاية العرفان (4).
القسم الثالث: التعطيل في جانب الأسماء والصفات:
وهو: نفي أسماء الله وصفاته أو بعضها. ومن صوره: ما يعتقده غلاة الجهمية والقرامطة الذين لم يثبتوا لله أسماً ولا صفة، فعطلوا أسماء الرب تعالى, وأوصافه, وأفعاله، بل جعلوا المخلوق أكمل منه إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها (5). مقالة التعطيل والجعد بن درهم لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 21
_________
(1) ((الجواب الكافي)) (ص: 153).
(2) ((الجواب الكافي)) (ص: 153).
(3) ((الجواب الكافي)) (ص: 153).
(4) ((التصوف وابن تيمية)) للدكتور مصطفى حلمي (ص: 390).
(5) ((الجواب الكافي)) (ص: 153).

المسألة الأولى: درجات التعطيل في باب الأسماء والصفات عموماً
من سبر أقوال أهل التعطيل يجدها من حيث العموم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: نفي جميع الأسماء والصفات
وهذا قول الجهمية أتباع جهم بن صفوان (1)، والفلاسفة، سواء كانوا أصحاب فلسفة محضة كالفارابي (2)، أو فلسفة باطنية إسماعيلية قرمطية كابن سينا (3)، أو فلسفة صوفية اتحادية كابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والتحقيق أن التجهم المحض وهو نفي الأسماء والصفات، كما يحكي عن جهم والغالية من الملاحدة ونحوهم من نفي أسماء الله الحسنى، كفر بين مخالف لما علم بالاضطرار من دين الرسول) (4).
القسم الثاني: نفي الصفات دون الأسماء
وهذا قول المعتزلة، ووافقهم عليه ابن حزم الظاهري (5)، والزيدية، والرافضة الإمامية، والإباضية. فالمعتزلة يجمعون على تسمية الله بالاسم ونفي الصفة عنه.
يقول ابن المرتضى المعتزلي: (فقد أجمعت المعتزلة على أن للعالم محدثاً, قديماً, قادراً, عالماً, حياً, لا لمعان ... ) (6).
القسم الثالث: إثبات الأسماء وبعض الصفات ونفي البعض الآخر
وهذا قول الكلابية, والأشاعرة, والماتريدية.
فالكلابية وقدماء الأشاعرة: يثبتون الأسماء والصفات ما عدا صفات الأفعال الاختيارية (7) (أي التي تتعلق بمشيئته واختياره) , فهم إما يؤولونها أو يثبتونها على اعتبار أنها أزلية, وذلك خوفاً منهم على حد زعمهم من حلول الحوادث بذات الله (8) , أو يجعلونها من صفات الفعل المنفصلة عن الله التي لا تقوم به (9).
وأما الأشاعرة المتأخرون ومعهم الماتريدية فهم يثبتون الأسماء وسبعاً من الصفات هي: (الحياة، العلم، القدرة، السمع، البصر، الإرادة، الكلام) ويزيد بعض الماتريدية صفة ثامنة هي (التكوين) (10)، وينفون باقي الصفات, ويؤولون النصوص الواردة فيها, ويحرفون معانيها. مقالة التعطيل والجعد بن درهم لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 21
المعطلة أربع طوائف
الطائفة الأولى: الأشاعرة ومن تبعهم
قالوا: نثبت له الأسماء حقيقة، ونثبت له صفات معينة دل عليها العقل وننكر الباقي، نثبت له سبع صفات فقط والباقي ننكره تحريفاً لا تكذيباً، لأنهم لو أنكروه تكذيباً، كفروا، لكن ينكرونه تحريفاً وهو ما يدعون أنه "تأويل"
الصفات السبع هي مجموعة في قوله:
له الحياة والكلامُ والبصر ... سمع إرادةُ وعلم واقتدر
فهذه الصفات نثبتها لأن العقل دل عليها وبقية الصفات ما دل عليها العقل، فنثبت ما دل عليه العقل، وننكر ما لم يدل عليه العقل وهؤلاء هم الأشاعرة، آمنوا بالبعض، وأنكروا البعض
الطائفة الثانية: المعتزلة ومن تبعهم
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 135، 5/ 355، 13/ 131)، ((درء تعارف العقل والنقل)) (3/ 367).
(2) ((منهاج السنة)) (2/ 523، 524).
(3) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص: 76).
(4) ((النبوات)) (ص: 198).
(5) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 249، 250).
(6) كتاب ((باب ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل)) (ص: 6). وانظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 151) و ((مقالات الإسلاميين)) (ص: 164، 165)، ((مجموع الفتاوى)) (5/ 355).
(7) ((مجموع الفتاوى)) (13/ 131).
(8) ((موقف ابن تيمية من الأشاعرة)) (2/ 506).
(9) ((موقف ابن تيمية من الأشاعرة)) (2/ 544).
(10) انظر: ((تحفة المريد)) (ص: 63)، و ((إشارات المرام)) (ص: 107 - 114)، و ((كتاب الماتريدية دراسة وتقويم)) (ص: 239)، و ((كتاب الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات)) (2/ 430)، و ((منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله)) (ص: 401).

قالوا: يثبت له الأسماء دون الصفات، وهؤلاء هم المعتزلة أثبتوا أسماء الله، قالوا: إن الله سميع بصير قدير عليم حكيم لكن قدير بلا قدرة، سميع بلا سمع بصير بلا بصر، عليم بلا علم، حكيم بلا حكمة
الطائفة الثالثة: غلاة الجهمية والقرامطة والباطنية ومن تبعهم
قالوا: لا يجوز أبداً أن نصف الله لا بوجود ولا بعدم، لأنه إن وصف بالوجود، أشبه الموجودات، وإن وصف بالعدم، أشبه المعدومات، وعليه يجب نفي الوجود والعدم عنه، وما ذهبوا إليه، فهو تشبيه للخالق بالممتنعات والمستحيلات، لأن تقابل العدم والوجود تقابل نقيضين، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وكل عقول بني آدم تنكر هذا الشيء ولا تقبله، فانظر كيف فروا من شيء فوقعوا في أشر منه!
الطائفة الرابعة: غلاة الغلاة من الفلاسفة والقرامطة والباطنية
قالوا: نصفه بالنفي ولا نصفه بالإثبات، يعني: أنهم يجوِّزون أن تسلب عن الله سبحانه وتعالى الصفات لكن لا تثبت، يعني: لا نقول: هو حي، وإنما نقول ليس بميت ولا نقول عليم، بل نقول: ليس بجاهل وهكذا قالوا: لو أثبت له شيئاً شبهته بالموجودات، لأنه على زعمهم كل الأشياء الموجودة متشابهة، فأنت لا تثبت له شيئاً، وأما النفي، فهو عدم، مع أن الموجود في الكتاب والسنة في صفات الله من الإثبات أكثر من النفي بكثير قيل لهم: إن الله قال عن نفسه: (سميع بصير) قالوا: هذا من باب الإضافات، بمعنى: نُسب إليه السمع لا لأنه متصف به، ولكن لأن له مخلوقا يسمع، فهو من باب الإضافات، فـ (سميع)، يعني: ليس له سمع، لكن له مسموع وجاءت طائفة ثانية، قالوا: هذه الأوصاف لمخلوقاته، وليست له، أما هو، فلا يثبت له صفة فهذه أقسام التعطيل في الأسماء والصفات شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 31

المسألة الثانية: درجات التعطيل في باب الأسماء الحسنى
القول الأول: من يقول إن الله لا يسمى بشيء
وهذا قول الجهمية أتباع جهم بن صفوان، والغالية من الملاحدة كالقرامطة الباطنية والفلاسفة.
وهؤلاء المعطلة لهم في تعطيلهم لأسماء الله أربعة مسالك هي:
المسلك الأول: الاقتصار على نفي الإثبات فقالوا: لا يسمى بإثبات.
المسلك الثاني: أنه لا يسمى بإثبات ولا نفي.
المسلك الثالث: السكوت عن الأمرين الإثبات والنفي.
المسلك الرابع: تصويب جميع الأقوال بالرغم من تناقضها.
فهذا الصنف من المعطلة اتفقوا على إنكار الأسماء جميعها، ولكن تنوعت مسالكهم في الإنكار.
1 - فأصحاب المسلك الأول: اقتصروا على قولهم: بأنه ليس له اسم كالحي والعليم ونحو ذلك. وشبهتهم في ذلك:
أ- أنه إذا كان له اسم من هذه الأسماء لزم أن يكون متصفاً بمعنى الاسم كالحياة والعلم.
فإن صدق المشتق – أي الاسم كالعليم – مستلزم لصدق المشتق منه – أي الصفة كالعلم – وذلك محال عندهم.
ب- ولأنه إذا سمي بهذه الأسماء فهي مما يسمى به غيره؛ والله منزه عن مشابهة الغير (1).
فهؤلاء المعطلة المحضة – نفاة الأسماء – يسمون من سمى الله بأسمائه الحسنى مشبهاً؛ فيقولون: (إذا قلنا حي عليم فقد شبهناه بغيره من الأحياء العالمين, وكذلك إذا قلنا هو سميع بصير فقد شبهناه بالإنسان السميع البصير، وإذا قلنا رؤوف رحيم فقد شبهناه بالنبي الرؤوف الرحيم، بل قالوا إذا قلنا موجود فقد شبهناه بسائر الموجودات لاشتراكهما في مسمى الوجود) (2).
وهذا المسلك ينسب لجهم بن صفوان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (جهم كان ينكر أسماء الله تعالى فلا يسميه شيئاً لا حياً ولا غير ذلك إلا على سبيل المجاز) (3) هو قول الباطنية من الفلاسفة والقرامطة, فهم يقولون لا نسميه حياً, ولا عالماً, ولا قادراً, ولا متكلماً, إلا مجازاً بمعنى السلب والإضافة: أي هو ليس بجاهل ولا عاجز (4). وهذا كذلك قول ابن سينا وأمثاله (5).
2 - وأما أصحاب المسلك الثاني: فقد زادوا في الغلو فقالوا: (لا يسمى بإثبات ولا نفي، ولا يقال موجود ولا لا موجود, ولا حي ولا لا حي؛ لأن في الإثبات تشبيهاً بالموجودات، وفي النفي تشبيهاً له بالمعدومات.
وكل ذلك تشبيه. وهذا المسلك ينسب لغلاة المعطلة من القرامطة الباطنية والمتفلسفة (6).
3 - وأما أصحاب المسلك الثالث فيقولون: نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، فلا ننفي النقيضين، بل نسكت عن هذا وهذا، فنمتنع عن كل من المتناقضين، لا نحكم بهذا ولا بهذا، فلا نقول ليس بموجود ولا معدوم، ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم.
ومن الناس من يحكي هذا عن الحلاج، وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط والكفر البسيط، الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله, ومعرفته, وحبه, وذكره, وعبادته, ودعائه (7).
وأصحاب هذا المسلك: هم المتجاهلة اللاأدرية.
وأصحاب المسلك الثاني: هم المتجاهلة الواقفة الذين يقولون لا نثبت ولا ننفي.
وأصحاب المسلك الأول: هم المكذبة النفاة.
_________
(1) انظر ((مجموع الفتاوى)) (6/ 35، 3/ 100)، و ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 367)، وكتاب ((الصفدية)) (1/ 88 - 89، 96 - 97).
(2) ((منهاج السنة)) (2/ 523، 534).
(3) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 311).
(4) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 355).
(5) ((الصفدية)) (1/ 299 - 300).
(6) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 35، 3/ 100)، ((شرح الأصفهانية)) (ص: 76 - 80).
(7) كتاب ((الصفدية)) (6/ 96 - 98)، ((شرح الأصفهانية)) (ص: 84).

والملاحظ أن كل فريق من هؤلاء يهدم ما بناه ما قبله, فلما اقتصر أصحاب المسلك الأول على النفي وامتنعوا عن الإثبات بحجة أن في الإثبات تشبيهاً له بالموجودات جاء أصحاب المسلك الثاني فزادوا في الغلو, وزعموا أن في النفي كذلك تشبيهاً له بالجمادات, فمنعوا النفي أيضاً, ثم جاء أصحاب المسلك الثالث فاتهموا أصحاب المسلك الثاني بأنهم شبهوه بالممتنعات, لأن قولهم يقوم على نفي النقيضين وهذا ممتنع.
4 - وهناك مسلك رابع: وهو مسلك أصحاب وحدة الوجود الذين يعطون أسماءه سبحانه لكل شيء في الوجود، إذ كان وجود الأشياء عندهم هو عين وجوده ما ثمت فرق إلا بالإطلاق والتقييد (1).
وهذا منتهى قول طوائف المعطلة (2) وغاية ما عندهم في الإثبات قولهم هو: (وجود مطلق) أي: وجود خيالي في الذهن، أو وجود مقيد بالأمور السلبية (3).
القول الثاني: أن الله يسمى باسمين فقط هما: (الخالق) و (القادر): وهذا القول منسوب للجهم بن صفوان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كان الجهم وأمثاله يقولون: إن الله ليس بشيء، وروى عنه أنه قال: لا يسمى باسم يسمى به الخلق، فلم يسمه إلا (بالخالق) و (القادر) لأنه كان جبرياً يرى أن العبد لا قدرة له) (4).
وقال رحمه الله: (ولهذا نقلوا عن جهم أنه لا يسمى الله بشيء، ونقلوا عنه أنه لا يسميه باسم من الأسماء التي يسمى بها الخلق: كالحي، والعالم, والسميع، والبصير، بل يسميه قادراً خالفاً، لأن العبد عنده ليس بقادر، إذ كان هو رأس الجهمية الجبرية) (5).
القول الثالث: إثبات الأسماء مجردة عن الصفات
وهذا قول المعتزلة ووافقهم ابن حزم الظاهري. وتبع المعتزلة على ذلك الزيدية، والرافضة الإمامية، وبعض الخوارج. فالمعتزلة يجمعون على تسمية الله بالاسم ونفي الصفة عنه. يقول ابن المرتضى المعتزلي: (فقد أجمعت المعتزلة على أن للعالم محدثاً قديماً، قادراً، عالماً، حياً لا لمعان) (6).
وابن حزم وافق المعتزلة في ذلك فهو يرى: (أن الأسماء الحسنى كالحي، والعليم، والقدير، بمنزلة أسماء الأعلام التي لا تدل على حياة ولا علم، ولا قدرة، وقال: لا فرق بين الحي وبين العليم في المعنى أصلاً) (7).
والمعتزلة لهم في نفيهم لتضمن الأسماء للصفات مسلكان:
المسلك الأول: من جعل الأسماء كالأعلام المحضة المترادفة التي لم توضع لمسماها باعتبار معنى قائم به. فهم بذلك ينظرون إلى هذه الأسماء على أنها أعلام محضة لا تدل على صفة.
و (المحضة) الخاصة الخالية من الدلالة على شيء آخر، فهم يقولون: إن العليم والخبير والسميع ونحو ذلك أعلام لله ليست دالة على أوصاف، وهي بالنسبة إلى دلالتها على ذات واحدة هي مترادفة وذلك مثل تسميتك ذاتاً واحدة (يزيد, وعمرو, ومحمد, وعلي) فهذه الأسماء مترادفة, وهي أعلام خالصة لا تدل على صفة لهذه الذات المسماة بها (8).
_________
(1) ((شرح القصيدة النونية)) للهراس (2/ 126).
(2) ((الصفدية)) (1/ 98، 99).
(3) ((الصفدية)) (1/ 116، 117).
(4) ((منهاج السنة)) (2/ 526 - 527)، ((الأنساب)) للسمعاني (2/ 133).
(5) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 187)، ((مجموع الفتاوى)) (8/ 460).
(6) كتاب ((ذكر المعتزلة)) (ص: 6)، ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 151)، ((مقالات الإسلاميين)) (ص: 164 - 165).
(7) ((شرح الأصفهانية)) (ص: 76)، ((الفصل)) (2/ 161)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 249 - 250).
(8) ((التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية)) (1/ 46).

والمسلك الثاني: من يقول منهم إن كل علم منها مستقل، فالله يسمى عليماً وقديراً، وليست هذه الأسماء مترادفة، ولكن ليس معنى ذلك أن هناك حياة أو قدرة (1)؛ ولذلك يقولون عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر.
القول الرابع: إثبات الأسماء الحسنى مع إثبات معاني البعض وتحريف معاني البعض الآخر.
وهذا قول الكلابية, والأشاعرة, والماتريدية.
فهؤلاء وإن كانوا يوافقون أهل السنة والجماعة في إثبات ألفاظ الأسماء الحسنى لكنهم يخالفونهم في إثبات بعض معاني تلك الأسماء.
فمن المعلوم أن كل اسم من أسماء الله متضمن لصفة. وللكلابية والأشاعرة والماتريدية قول في الصفات يخالف قول أهل السنة والجماعة. فالكلابية وقدماء الأشاعرة ينفون صفات الأفعال الاختيارية, وبالتالي لا يثبتون الصفات التي تضمنتها الأسماء إذا كانت من هذا القبيل كالخالق والرزاق ونحوها، ... وأما المتأخرون من الأشاعرة ومعهم الماتريدية، فإنهم لا يثبتون من الصفات سوى سبع صفات هي: (العلم، القدرة، الحياة، السمع، البصر، الإرادة، الكلام) ويزيد بعض الماتريدية صفة ثامنة هي (التكوين). فالاسم عندهم إن دل على ما أثبتوه من الصفات؛ أثبتوا ما دل عليه من المعنى، وإن كان دالاً على خلاف ما أثبتوه صرفوه عن حقيقته وحرفوا معناه.
ومعلوم أنه لم يرد في باب الأسماء من تلك الصفات التي ذكروها إلا خمسة فقط وهي: (العليم) , و (القدير) , و (الحي) , و (السميع) , و (البصير) , فهذه الخمسة يثبتون معانيها وإن كان هناك من يرجع صفتي (السمع) و (البصر) إلى (العلم) , ولكن جمهورهم على خلاف ذلك (2).
وأما بقية الأسماء التي لا تتفق مع ما أثبتوه من الصفات، فإنهم لا يثبتون ما دلت عليه من المعاني، بل يحرفونها كتحريفهم لمعنى (الرحمة) في اسمه (الرحمن) إلى إرادة الثواب أو إرادة (الإنعام) , و (الود) في (الودود) بـ (إرادة إيصال الخير) (3). مقالة التعطيل والجعد بن درهم لمحمد بن خليفة التميمي - بتصرف– ص: 26
_________
(1) ((التحفة المهدية)) (1/ 46).
(2) ((لباب العقول)) للمكلاني (ص: 213 - 214)، ((شرح الأصفهانية)) (ص: 445)، ((المسايرة)) لابن الهمام (ص: 67)، ((الماتريدية دراسة وتقويم)) (ص: 264)، ((الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات)) (2/ 413)، ((منهج أهل السنة ومنهج الأشاعرة في التوحيد)) (ص: 409).
(3) ((شرح الأسماء الحسنى)) للرازي (ص: 287).

المسألة الثالثة: درجات التعطيل في باب صفات الله تعالى
القول الأول: نفاة جميع الصفات
وهذا قول الغلاة من المعطلة، ومنهم الجهمية أتباع جهم, والفلاسفة سواء كانوا أهل فلسفة محضة كالفارابي, أو فلسفة باطنية رافضية إسماعيلية كابن سينا وإخوان الصفا, أو فلسفة صوفية اتحادية كابن عربي وابن سبعين. وهذا القول بنفي الصفات هو قول المعتزلة ومن تبعهم كالزيدية, والرافضة الإمامية, والخوارج الإباضية, وكذلك هو قول النجارية, والضرارية.
فهؤلاء جميعاً لا يثبتون الصفات لله تعالى، وقد تنوعت أساليب تعطيلهم وطرق إنكارهم لها، ويمكن تصنيفهم إلى صنفين:
1 - غلاة المعطلة. 2 - المعتزلة ومن وافقهم.
1 - فغلاة المعطلة يمنعون الإثبات بأي حال من الأحوال ولهم في النفي درجات:
الدرجة الأولى: درجة المكذبة النفاة
وهي التي عليها الجهمية وطائفة من الفلاسفة (1) , وهو كذلك قول ابن سينا وأمثاله (2).
فهم يصفون الله بالصفات السلبية على وجه التفصيل, ولا يثبتون له إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل, وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان (3) , فهؤلاء وصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات, وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات (4).
الدرجة الثانية: المتجاهلة الواقفة
الذين يقولون لا نثبت ولا ننفي، وهذه الدرجة تنسب لغلاة المعطلة من القرامطة الباطنية المتفلسفة (5).
فهؤلاء هم غلاة الغلاة (6) لأنهم يسلبون عنه النقيضين فيقولون: لا موجود، ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات, فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول؛ وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فوقعوا في شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات؛ إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات (7).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فالقرامطة الذين قالوا لا يوصف بأنه حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، بل قالوا لا يوصف بالإيجاب ولا بالسلب، فلا يقال حي عالم, ولا ليس بحي عالم، ولا يقال هو عليم قدير، ولا يقال ليس بقدير عليم، ولا يقال هو متكلم مريد، ولا يقال ليس بمتكلم مريد، قالوا لأن في الإثبات تشبيهاً بما تثبت له هذه الصفات، وفي النفي تشبيه له بما ينفى عنه هذه الصفات) (8).
الدرجة الثالثة: المتجاهلة اللأدرية
الذين يقولون: نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت، فلا ننفي النقيضين، بل نسكت عن هذا وهذا، فنمتنع عن كل من المتناقضين لا نحكم بهذا ولا بهذا، فلا نقول: ليس بموجود ولا معدوم، ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم.
ومن الناس من يحكي نحو هذا عن الحلاج، وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط والكفر البسيط، الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله, ومعرفته, وحبه, وذكره, وعبادته, ودعائه (9).
الدرجة الرابعة: أهل وحدة الوجود
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 7 - 8).
(2) ((الصفدية)) (1/ 299، 300).
(3) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 7)، ((شرح الأصفهانية)) (ص: 51 - 52).
(4) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 8).
(5) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص: 76).
(6) ((مجمع الفتاوى)) (3/ 100).
(7) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 7 - 8).
(8) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص: 76).
(9) ((الصفدية)) (1/ 96، 98).

الذين لا يميزون الخالق بصفات تميزه عن المخلوق، ويقولون بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق. فعلى سبيل المثال هم يقولون بأن الله هو المتكلم بكل ما يوجد من الكلام، وفي ذلك يقول ابن عربي:
ألا كل قول في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه
يعم به أسماع كل مكون ... فمنه إليه بدؤه وختامه (1)
فيزعمون أنه هو المتكلم على لسان كل قائل. ولا فرق عندهم بين قول فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النَّازعات: 24] ومَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38] وبين القول الذي يسمعه موسى إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: 14]. بل يقولون: (إنه الناطق في كل شيء؛ فلا يتكلم إلا هو، ولا يسمع إلا هو، حتى قول مسيلمة الكذاب، والدجال، وفرعون يصرحون بأن أقوالهم هي قوله) (2).
وهذا قول أصحاب وحدة الوجود كابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض والعفيف التلمساني.
وأصل مذهبهم: أن كل واحد من وجود الحق، وثبوت الخلق يساوي الآخر ويفتقر إليه، وفي هذا يقول ابن عربي:
فيعبدني وأعبده ... ويحمدني وأحمده (3)
ويقول: إن الحق يتصف بجميع صفات العبد المحدثات، وإن المحدث يتصف بجميع صفات الرب، وإنهما شيء واحد إذ لا فرق في الحقيقة بين الوجود والثبوت (4) فهو الموصوف عندهم بجميع صفات النقص والذم, والكفر, والفواحش, والكذب, والجهل، كما هو الموصوف عندهم بصفات المجد, والكمال، فهو العالم والجاهل، والبصير والأعمى، والمؤمن والكافر، والناكح والمنكوح، والصحيح والمريض، والداعي والمجيب، والمتكلم والمستمع، وهو عندهم هوية العالم ليس له حقيقة مباينة للعالم، وقد يقولون لا هو العالم ولا غيره، وقد يقولون: هو العالم أيضاً وهو غيره، وأمثال هذه المقالات التي يجمع فيها في المعنى بين النقيضين مع سلب النقيضين (5).
وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي العام والإثبات العام؛ فعندهم أن ذاته لا يمكن أن ترى بحال, وليس له اسم, ولا صفة, ولا نعت، إذ هو الوجود المطلق الذي لا يتعين، وهو من هذه الجهة لا يرى ولا اسم له.
ويقولون: إنه يظهر في الصور كلها، وهذا عندهم هو الوجود الاسمي لا الذاتي، ومن هذه الجهة فهو يرى في كل شيء، ويتجلى في كل موجود، لكنه لا يمكن أن ترى نفسه، بل تارة يقولون كما يقول ابن عربي: ترى الأشياء فيه، وتارة يقولون يرى هو في الأشياء, وهو تجليه في الصور، وتارة يقولون كما يقول ابن سبعين:
(عين ما ترى ذات لا ترى ... وذات لا ترى عين ما ترى)
وهم مضطربون لأن ما جعلوه هو الذات عدم محض، إذ المطلق لا وجود له في الخارج مطلقاً بلا ريب، لم يبق إلا ما سموه مظاهر ومجالي، فيكون الخالق عين المخلوقات لا سواها، وهم معترفون بالحيرة والتناقض مع ما هم فيه من التعطيل والجحود (6).
وفي هذا يقول ابن عربي:
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيداً ... وإن قلت بالتشبيه كنت محدداً
وإن قلت بالأمرين كنت مسدداً ض ... وكنت إماماً في المعارف سيداً
فمن قال بالإشفاع كان مشركاً ... ومن قال بالإفراد كان موحداً
فإياك والتشبيه إن كنت ثانياً ... وإياك والتنزيه إن كنت مفرداً
فما أنت هو بل أنت هو وتراه ... في عين الأمور مسرحاً ومقيداً) (7)
@ مقالة التعطيل والجعد بن درهم لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 33
_________
(1) ((الفتوحات المكية)) (4/ 141) ط: دار صادر، بيروت.
(2) ((بغية المرتاد)) (ص: 349).
(3) ((فصوص الحكم)) (1/ 83).
(4) ((بغية المرتاد)) (ص: 397، 398).
(5) ((بغية المرتاد)) (ص: 408).
(6) ((بغية المرتاد)) (ص: 473).
(7) ((بغية المرتاد)) (ص: 527).

المطلب الخامس: جمع المعطلة بين التعطيل والتمثيل
أما تمثيل المعطلة: فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات.
فهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم.
وتعطيل المعطلة: في نفيهم لما يستحقه الله تعالى من الأسماء والصفات اللائقة به سبحانه.
وبذلك جمعوا بين التعطيل والتمثيل: مثلوا أولاً، وعطلوا آخرا.
وامتاز أهل التعطيل عن أهل التمثيل بنفيهم المعاني الصحيحة للصفات.
مثال لجمع المعطلة بين التعطيل والتمثيل:
نصوص الاستواء: كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5].
فإن المعطل يقول: لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش, أو أصغر, أو مساوياً، وكل ذلك من المحال، ونحو ذلك من الكلام.
فهذا المعطل لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان، وهذا اللازم الذي جاء به المعطل تابع لهذا المفهوم.
وكان الواجب عليه أن يثبت لله استواء يليق بجلاله ويختص به، فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي هي من لوازم المخلوقات، ويجب نفيها في حق الله.
فأهل التعطيل وقعوا في أربعة محاذير:
الأول: كونهم مثلوا ما فهموه من النصوص بصفات المخلوقين، وظنوا أن مدلول النصوص هو التمثيل.
الثاني: أنهم عطلوا النصوص عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله.
الثالث: أنهم بنفي تلك الصفات صاروا معطلين لما يستحقه الرب من صفات الكمال.
الرابع: أنهم وصفوا الرب بنقيض تلك الصفات، من صفات الأموات والجمادات والمعدومات (1). معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 66
_________
(1) ((الرسالة التدمرية)) (ص: 79 - 80).

المطلب السادس: خطورة مقالة التعطيل
ظهرت مقالة التعطيل التي هي مقالة (الجهمية) في أواخر عصر التابعين من أوائل المائة الثانية (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه المسألة: (هذه مسألة كبيرة عظيمة القدر اضطرب فيها خلائق من الأولين والآخرين, من أوائل المائة الثانية من الهجرة النبوية، فأما المائة الأولى فلم يكن بين المسلمين اضطراب في هذا. وإنما نشأ ذلك في أوائل المائة الثانية؛ لما ظهر (الجعد بن درهم) وصاحبه (الجهم بن صفوان) ومن تبعهما من المعتزلة وغيرهم على إنكار الصفات) (2).
وقد جاءت هذه المقالة من حيث الترتيب بعد مقالات الخوارج، والشيعة, والقدرية, والمعتزلة, والمرجئة، فقد كانت تلك المقالات أسبق في الظهور منها. لكن مقالة التعطيل تعد أغلظ تلك البدع، والسبب في ذلك:
أولاً: أن أصحاب هذه المقالة كانوا أول من عارض الوحي بالرأي, ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من يعارض النصوص بالعقليات، فإن الخوارج والشيعة حدثوا في آخر خلافة علي رضي الله عنه، والمرجئة والقدرية حدثوا في أواخر عصر الصحابة، وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص, ويستدلون بها على قولهم، ولا يدعون أنهم عندهم عقليات تعارض النصوص (3).
قال ابن القيم رحمه الله: (مضى الرعيل الأول في ضوء ذلك النور – أي نور الوحي – لم تطفئه عواصف الأهواء، ولم تلتبس به ظلم الآراء، وأوصوا من بعدهم أن لا يفارقوا النور الذي اقتبسوه منهم، وأن لا يخرجوا عن طريقهم، فلما كان في أواخر عصرهم حدثت الشيعة، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، فبعدوا عن النور الذي كان عليه أوائل الأئمة، ومع هذا لم يفارقوه بالكلية، بل كانوا للنصوص معظمين، وبها مستدلين، ولها على العقول والآراء مقدمين، ولم يدع أحد منهم أن عنده عقليات تعارض النصوص، وإنما أتوا من سوء الفهم فيها, والاستبداد بما ظهر لهم منها، دون من قبلهم، ورأوا أنهم إن اقتفوا أثرهم كانوا مقلدين لهم.
فصاح بهم من أدركهم من الصحابة وكبار التابعين من كل قطر، ورموهم بالعظائم، وتبرؤا منهم، وحذروا من سبيلهم أشد التحذير, وكانوا لا يرون السلام عليهم, ولا مجالستهم، وكلامهم فيهم معروف في كتب السنة، وهو أكثر من أن يذكر هاهنا.
فلما كثرت الجهمية في أواخر عصر التابعين كانوا هم أول من عارض الوحي بالرأي) (4).
ثانياً: أن بدعة هؤلاء كانت في أعظم مسائل الإيمان، ألا وهي الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، بل أعظم مسائل الدين، وهذا ما لم يسبقهم إليه أحد من أهل المقالات إلا القدرية؛ روى عبد الله بن الإمام أحمد بسنده عن أبي المعتمر سليمان ابن طرخان التيمي قال: (ليس قوم أشد نقضاً للإسلام من الجهمية والقدرية، وأما الجهمية فقد بارزوا الله تعالى؛ وأما القدرية فقد قالوا في الله عز وجل) (5).
ودخل رأس من رؤوس الزنادقة يقال له (شمعلة) على المهدي فقال: دلني على أصحابك. فقال: أصحابي أكثر من ذلك. فقال: دلني عليهم. فقال: صنفان ممن ينتحل القبلة: الجهمية والقدرية. الجهمي إذا غلا قال: ليس ثم شيء وأشار إلى السماء. والقدري إذا غلا قال: هما اثنان، خالق خير, وخالق شر؛ فضرب عنقه وصلبه (6).
وقال عبد الله بن المبارك: (ليس تعبد الجهمية شيئاً) (7).
وقد مضى عصر الصحابة وعقيدة الإيمان بأسماء الله وصفاته محفوظة مصونة؛ إلى أن ابتدع الجعد مقالته في أواخر عصر التابعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام – أعني أن الله ليس على العرش حقيقة، وأن معنى استوى استولى ونحو ذلك – هو الجعد بن درهم) (8). مقالة التعطيل والجعد بن درهم لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 33
_________
(1) ((منهاج السنة)) (1/ 309)، ((مجموع الفتاوى)) (13/ 177).
(2) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 33).
(3) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 244).
(4) ((الصواعق المرسلة)) (3/ 1069 - 1070).
(5) ((السنة)) لعبد الله بن الإمام أحمد (1/ 104، 105) رقم (8).
(6) كتاب ((خلق أفعال العباد)) (ص: 11)، ((توضيح المقاصد وتصحيح القواعد)) (1/ 48).
(7) ((السنة)) لعبد الله بن الإمام أحمد (1/ 109) رقم (17).
(8) ((الفتوى الحموية)) (ص: 47).

المطلب الأول: تعريف التحريف
قال في الصحاح: (حرف كل شيء: طرفه وشفيره وحده .. وتحريف الكلام عن مواضعه: تغييره). وقال في (المفردات): (وتحريف الشيء إمالته، كتحريف القلم، وتحريف الكلام: أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين. قال عز وجل:
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [المائدة: 13]. ومِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [المائدة: 41]. وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 75].
فالتحريف في أصل الوضع يعني التغيير والإمالة. والتحريف في النصوص تغييرها لفظاً أو معنى والميل بها عن وجهها وحقيقتها.
والتحريف أعم من التعطيل، إذ هو تعطيل وزيادة. فالمحرف نفى المعنى الصحيح للنص أولاً، ثم استبدله بمعنى آخر ثانياً، فصار كل محرف معطلاً ولا عكس. ولذا جعل أهل السنة والجماعة التحريف قسيماً للتعطيل في جانب النفي, كما جعلوا التكييف قسيماً للتمثيل في جانب الإثبات، (فيصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل) (1). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 115
_________
(1) انظر: ((أقاويل الثقات)) لمرعي الكرمي (ص: 64).

المطلب الثاني: أنوع التحريف
التحريف نوعان النوع الأول: تحريف اللفظ:
وتعريفه: هو العدول باللفظ عن جهته إلى غيرها، وله أربع صور:
1 - الزيادة في اللفظ.
2 - النقصان في اللفظ.
3 - تغيير حركة إعرابية.
4 - تغيير حركة غير إعرابية.
ومن أمثلة تحريف اللفظ:
المثال الأول: تحريف إعراب قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] من الرفع إلى النصب، وقال: وَكَلَّمَ الله أي موسى كلم الله، ولم يكلمه الله، ولما حرفها بعض الجهمية هذا التحريف قال له بعض أهل التوحيد: فكيف تصنع بقوله: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف: 143] فبهت المحرف.
مثال آخر: إن بعض المعطلة سأل بعض أئمة العربية: هل يمكن أن يقرأ العرش بالرفع في قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] وقصد بهذا التحريف أن يكون الاستواء صفة للمخلوق لا للخالق (1).
النوع الثاني: تحريف المعنى:
وتعريفه: هو صرف اللفظ عن معناه الصحيح إلى غيره مع بقاء صورة اللفظ (2). أو نقول: تعريفه: هو العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته، وإعطاء اللفظ معنى لفظ آخر بقدر ما مشترك بينهما.
وهذا النوع هو الذي جال فيه أهل الكلام من المعطلة وصالوا, وتوسعوا وسموه تأويلاً، وهو اصطلاح فاسد حادث لم يعهد به استعمال في اللغة (3).
ومن أمثلة تحريف المعنى:
كقول المعطلة في معنى استوى: استولى في قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5].
وفي معنى اليد في قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64] النعمة والقدرة.
وفي معنى المجيء في قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22] وجاء أمر ربك.
وقد ذكر الله التحريف وذمه حيث ذكره، وهو مأخوذ في الأصل عن اليهود، فهم الراسخون فيه، وهم شيوخ المحرفين وسلفهم، فإنهم حرفوا كثيراً من ألفاظ التوراة, وما غلبوا عن تحريف لفظه حرفوا معناه؛ ولهذا وصفوا بالتحريف في القرآن دون غيرهم من الأمم.
وقد درج على آثارهم الرافضة؛ فهم أشبه بهم من القذة بالقذة، وكذلك الجهمية؛ فإنهم سلكوا في تحريف النصوص مسالك إخوانهم في اليهود (4).
وأصحاب تحريف الألفاظ شر من أصحاب تحريف المعنى من وجه.
وأصحاب تحريف المعنى شر من أصحاب تحريف اللفظ من وجه.
فأصحاب تحريف اللفظ عدلوا باللفظ والمعنى جميعاً عما هما عليه, فأفسدوا اللفظ والمعنى، بينما أصحاب تحريف المعنى أفسدوا المعنى وتركوا اللفظ على حاله فكانوا خيراً من أولئك من هذا الوجه.
فأصحاب تحريف اللفظ لما أرادوا المعنى الباطل حرفوا له لفظاً يصلح له لئلا يتنافر اللفظ والمعنى، بحيث إذا أطلق ذلك اللفظ المحرف فهم منه المعنى المحرف، فإنهم رأوا أن العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته مع بقاء اللفظ على حاله مما لا سبيل إليه، فبدأوا بتحريف اللفظ ليستقيم لهم حكمهم على المعنى الذي قصدوا (5).
وأما كون أصحاب تحريف المعنى شراً من أصحاب تحريف اللفظ من وجه؛ فلأن تحريف المعنى هو الأكثر استعمالاً عند أصحاب التحريف؛ ولأنه أسهل رواجاً وسوقاً عند الجهلة والعوام من الناس، فيفتتن به من ليس لديه زاد من العلم الصحيح المعتمد على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة. معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 59
_________
(1) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 218).
(2) ((الصواعق المنزلة)) (1/ 201).
(3) ((مختصر الصواعق)) (2/ 147).
(4) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 215 - 216).
(5) ((مختصر الصواعق)) (2/ 147، 148).

المطلب الثالث: الفرق بين التحريف والتأويل
لما كان الإيمان بخبر الله ورسوله أصل هذا الدين، لم يسع أحداً من أهل البدع المنتسبين إلى الملة رد ألفاظ النصوص الثابتة المتواترة من كتاب وسنة مما يخالف أصل بدعتهم، لكنهم سلكوا مسلكاً آخر وهو رد معانيها الثابتة الصحيحة التي فهمها سلف هذه الأمة عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واستبدالها بمعان محدثة ابتكروها لتوافق بدعتهم. وهذه حقيقة التحريف. إلا أنهم تلطيفاً لبشاعة مسلكهم هذا سموه بغير اسمه، وزعموا أنه (تأويل) لا (تحريف)، حتى شاع هذا المصطلح وذاع في المتأخرين، وعد من طريقة أهل السنة والجماعة، ووصف ب (العلم) و (الحكمة) حتى قيل: (طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم).
لكن التواضع على الخطأ لا يقلب الباطل حقاً، ولا يغير حقائق الأشياء لا سيما ما كان صادراً عن معصوم. قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: (الأقوال نوعان:
- أقوال ثابتة عن الأنبياء فهي معصومة؛ يجب أن يكون معناها حقاً، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، والبحث عنها إنما هو عما أرادته الأنبياء، فمن كان مقصوده معرفة مرادهم من الوجه الذي يعرف مرادهم فقد سلك طريق الهدى، ومن قصد أن يجعل ما قالوه تبعاً له؛ فإن وافقه قبله وإلا رده وتكلف له من التحريف ما يسميه تأويلاً، مع أنه يعلم بالضرورة أن كثيراً من ذلك أو أكثره لم ترده الأنبياء، فهو محرف للكلم عن مواضعه، لا طالب لمعرفة التأويل الذي يعرفه الراسخون في العلم.
- النوع الثاني: ما ليس منقولاً عن الأنبياء، فمن سواهم، ليس معصوماً، فلا يقبل كلامه ولا يرد إلا بعد تصور مراده، ومعرفة صلاحه من فساده). (1).
وعليه، فلا يسلم لهم تسمية (تحريفهم) (تأويلاً) بإطلاق. وسبب ذلك (أن لفظ التأويل قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في ثلاثة معان:
أحدهما: وهو اصطلاح كثير من المتأخرين المتكلمين في الفقه وأصوله أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به. وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وترك تأويلها، وهل هذا محمود أم مذموم، وحق أو باطل؟
الثاني: أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح مفسري القرآن، كما يقول ابن جرير وأمثاله من المصنفين في التفسير: (واختلف علماء التأويل) (2).
الثالث: من معاني التأويل: هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، كما قال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف: 53]، فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله تعالى به فيه، مما يكون من القيامة, والحساب, والجزاء, والجنة, والنار، ونحو ذلك، كما قال في قصة يوسف لما سجد أبواه وإخوته: وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ [يوسف: 100]. فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا) (3).
فلما كان لفظ (التأويل) تتنازعه هذه المعاني، وإنما أراد مدعوه المعنى الأول منها فقط، كما أن ذلك المعنى قد يكون صحيحاً وقد يكون فاسداً بحسب صحة الدليل الصارف أو فساده لم يجز أن يسمى صنيعهم ذلك تأويلاً، وقد قام على شبهة فاسدة، فإطلاق القول يوقع في الوهم.
ولهذا فإن السلف – رحمهم الله – لم يمنعوا التأويل مطلقاً، وإنما منعوا التحريف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان ذلك: ( .. كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم – من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه – تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله، كما قال أحمد في كتابه الذي صنفه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله. وإنما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه، وإن كان لا يشتبه على غيرهم وذمهم على أنهم تأولوه على غير تأويله، ولم ينف مطلق لفظ (التأويل) كما تقدم من أن لفظ التأويل يراد به التفسير المبين لمراد الله به؛ فذلك لا يعاب بل يحمد، ويراد بالتأويل الحقيقة التي استأثر الله بعلمها، فذاك لا يعلمه إلا هو. .
وأما التأويل المذموم والباطل: فهو تأويل أهل التحريف والبدع، الذين يتأولونه على غير تأويله، ويدعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله، بغير دليل يوجب ذلك) (4). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 116
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 191).
(2) انظر: ((تفسير الطبري)) (1/ 237)، و ((تفسير الماوردي)) (1/ 101) بلفظ: ((اختلف أهل التأويل))، و ((تفسير القرطبي)) (1/ 278)، و ((تفسير ابن عادل)) (ص: 127).
(3) ((التدمرية)) (89 - 97) , وانظر الصواعق المرسلة 1/ 175 - 180
(4) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 66 - 67).

المطلب الرابع: أهل التحريف أصل شبهتهم والرد عليهم
يتذرع بالتحريف كل معطل تجبهه صراحة النصوص في الإثبات، سواء كان من أهل التعطيل الكلي كالجهمية والمعتزلة، أو كان من أهل التعطيل الجزئي كالمتكلمين من الأشاعرة, والماتريدية, والكلابية، وغيرهم من نظار المثبتة.
وقد نبه شيخ الإسلام رحمه الله إلى اتفاق منابع التأويل، وأن ما يتأوله أصحاب التعطيل الجزئي إنما تلقفوه عمن سبقهم من أصحاب التعطيل المحض، فقال: (وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات، وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه: (تأسيس التقديس)، ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء، مثل أبي علي الجبائي، وعبد الجبار بن أحمد الهمذاني، وأبي الحسن البصري، وأبي الوفاء بن عقيل، وأبي حامد الغزالي وغيرهم – هي بعينها تأويلات بشر المريسي التي ذكرها في كتابه، وإن كان يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضاً. ولهم كلام حسن في أشياء) (1).
ومن هذا النص يتبين أن من وقع في التأويل المذموم على ضربين:
1 - من اتخذه منهجاً ثابتاً، وقاعدة مطردة يعامل بها النصوص، كبشر المريسي، والنفاة نفياً مطلقاً.
2 - من اضطرب قوله في ذلك ولم يسر على قاعدة مطردة، بل وقع له تأويل، ورد تأويل، وهو حال كثير من (الصفاتية) من الأشاعرة وغيرهم.
ولكنهم يتفقون – كل فيما رده - في تبرير تأويلاتهم بعلة عليلة تحمل علامات بطلانها في ثناياها (فيقولون: إن النصوص الواردة في الصفات لم يقصد بها الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعتقد الناس الباطل، ولكن قصد بها معاني، ولم يبين لهم تلك المعاني، ولا دلهم عليها، ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص عن مدلولها. ومقصوده امتحانهم، وتكليفهم، وإتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله، ومقتضاه، ويعرف الحق من غير جهته، وهذا قول المتكلمة، والجهمية، والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء من ذلك).
والجواب عن هذه الشبهة من وجوه كثيرة أبرزها:
1 - أن هذا المسلك قائم على أن أسماء الله وصفاته مجاز لا حقيقة، (ولو كانت أسماء الله وصفاته مجازاً يصح نفيها عند الإطلاق لكان يجوز أن الله ليس بحي، ولا عليم، ولا قدير، ولا سميع، ولا بصير، ولا يحبهم، ولا يحبونه، ولا استوى على العرش، ونحو ذلك. ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاق النفي على ما أثبته الله تعالى من الأسماء الحسنى والصفات. بل هذا جحد للخالق وتمثيل له بالمعدومات. وهم مقرون أن علامة المجاز صحة نفيه عند الإطلاق.
2 - أن المعاني التي ادعاها أهل التأويل المذموم معان مجازية باعترافهم وليست هي المعاني التي دلت عليها ظواهر الألفاظ، (فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلال الله سبحانه، وحقيقتها المفهومة منها: إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز ينافي الحقيقة، لا بد فيه من أربعة أشياء:
أحدها: أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي؛ لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاء باللسان العربي، ولا يجوز أن يراد بشيء منه خلاف لسان العرب، أو خلاف الألسنة كلها، فلابد أن يكون ذلك المعنى المجازي ما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى سنح له وإن لم يكن له أصل في اللغة.
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 23).

الثاني: أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء، ثم إن ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة فلا بد له من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف. وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة فلا بد من دليل مرجح للحمل على المجاز.
الثالث: أنه لابد من أن يسلم ذلك الدليل – الصارف – عن معارض؛ وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مراده امتنع تركها، ثم إن كان هذا الدليل نصا قاطعا لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهرا فلا بد من الترجيح.
الرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلام وأراد به خلاف ظاهره وضد حقيقته فلابد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته، وأنه أراد مجازه، سواء عينه أولم يعينه، لا سيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الاعتقاد، والعلم، دون عمل الجوارح، فإنه – سبحانه وتعالى – جعل القرآن نوراً وهدى وبياناً للناس وشفاء لما في الصدور، وأرسل الرسل ليبين للناس ما نزل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. ثم هذا الرسول الأمي العربي بعث بأفصح اللغات، وأبين الألسنة والعبارات، ثم الأمة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علماً، وأنصحهم للأمة، وأبينهم للسنة، فلا يجوز أن يتكلم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره، إلا وقد نصب دليلاً يمنع من حمله على ظاهره؛ إما أن يكون عقلياً ظاهراً، مثل قوله: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل: 23].، فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد أوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها، وكذلك: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 102]. يعلم المستمع أن الخالق لا يدخل في هذا العموم. أو سمعياً ظاهراً، مثل الدلالات في الكتاب والسنة التي تصرف بعض الظواهر. ولا يجوز أن يحيلهم على دليل خفي لا يستنبطه إلا أفراد الناس، سواء كان سمعياً أو عقلياً؛ لأنه إذا تكلم بالكلام الذي يفهم منه معنى وأعاده مرات كثيرة؛ وخاطب به الخلق كلهم وفيهم الذكي والبليد، والفقيه وغير الفقيه، وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب ويعقلوه، ويتفكروا فيه، ويعتقدوا موجبه، ثم أوجب أن لا يعتقدوا بهذا الخطاب شيئاً من ظاهره، كان هذا تدليساً وتلبيساً، وكان نقيض البيان وضد الهدى، وهو بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالهدى والبيان. فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهره أقوى بدرجات كثيرة من دلالة ذلك الدليل الخفي على أن الظاهر غير مراد؟! أم كيف إذا كان ذلك الخفي شبهة ليس لها حقيقة؟!) (1).
3 - أن مسلكهم هذا في تحريف نصوص الصفات، يوقعهم في التناقض والاضطراب والتفريق بين المتماثلات، وذلك أن هؤلاء المتكلمين مقرون بنصوص الغيب الأخرى من الإيمان باليوم الآخر وأنها حق على حقيقتها، بخلاف الملاحدة الباطنية الذين طردوا القول في الأمرين؛ نصوص الصفات ونصوص المعاد، وأنهما مجاز وتخييل لا تراد حقيقته، وإنما قصد به انتفاع العامة بحملهم على الطاعة والسلوك القويم خوفاً من تخييلات لا حقيقة لها. فصاروا هدفاً لهؤلاء الملاحدة من جهة النفي, ولأهل السنة من جهة الإثبات بسبب اضطراب طريقتهم وتناقضها.
_________
(1) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (6/ 360 - 362). وانظر: ((الوظائف الواجبة عل المتأول الذي لا يقبل منه تأويله إلا بها - في الصواعق المرسلة)) (1/ 288 - 295).

قال شيخ الإسلام رحمه الله في تصوير حال هؤلاء المحرفين: (أنهم تظاهروا بنصر السنة في مواضع كثيرة وهم - في الحقيقة – لا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا؛ لكن أولئك الملاحدة ألزموهم في النصوص – نصوص المعاد – نظير ما ادعوه في نصوص الصفات، فقالوا لهم: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بمعاد الأبدان، وقد علمنا فساد الشبهة المانعة.
وأهل السنة يقولون لهم: ونحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بإثبات الصفات. ونصوص الصفات في الكتب الإلهية: أكثر وأعظم من نصوص المعاد. ويقولون لهم: معلوم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد، وقد أنكروه على الرسول، وناظروه عليه؛ بخلاف الصفات فإنه لم ينكر شيئاً منها أحد من العرب.
فعلم إن إقرار العقول بالصفات، أعظم من إقرارها بالمعاد، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات، فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به، وما أخبر به من المعاد هو على ما أخبر به؟!) (1).
وكما أن هذا التناقض لازم لكل محرف سواء كان تحريفه كلياً أو جزئياً، فإن أصحاب التحريف الجزئي من المتكلمين كالكلابية والأشاعرة يلزمهم لازم أخص وهو أن: (القول في بعض الصفات كالقول في بعض. فإن كان المخاطب ممن يقر بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهيته، فيجعل ذلك مجازاً، ويفسره إما بالإرادة، وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات. قيل له: لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل، وإن قلت: له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل لك: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به، وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به) (2). وحسبك بالتناقض والاضطراب دليلاً على فساد المنهج (3). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 119
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 33).
(2) ((التدمرية, ابن تيمية)) (31 - 32).
(3) يراجع في إبطال مذهب أهل التأويل كتاب: ((الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)) فقد توسع مؤلفه رحمه الله في سرد أوجه بطلانه بما لم يجتمع في غيره.

المبحث الرابع: التفويض في نصوص الصفات
• المطلب الأول: أركان التفويض.
• المطلب الثاني: أنواع التفويض.
• المطلب الثالث: دعوى أن التفويض هو الطريق الأسلم.
• المطلب الرابع: شبهات المفوضة.

المطلب الأول: أركان التفويض
التفويض ينبني على ركنين:
الأول: اعتقاد أن ظواهر نصوص الصفات السمعية يقتضي التشبيه، حيث لا يعقل لها معنى معلوم إلا ما هو معهود في الأذهان من صفات المخلوقين. وبالتالي فإنه يتعين نفيه ومنعه. وهذه مقدمة مشتركة بين مذهب التفويض والتأويل.
الثاني: أن المعاني المرادة من هذه النصوص مجهولة للخلق، لا سبيل للعلم بها، بل هي مما استأثر الله بعلمه، ولا يمكن تعيين المراد بها لعدم ورود النص التوقيفي بذلك. وهنا يفترق مذهب التفويض مع مذهب التأويل الذي يجوز الاجتهاد في تعيين معان مجازية للصفات السمعية.
فصارت نتيجة مذهب التفويض هي الجهل المطبق بمعاني النصوص، ولذا سماهم أهل السنة (أهل التجهيل)، فقال ابن القيم في أقسام الناس في نصوص الوحي: (والصنف الثالث: أصحاب التجهيل: الذين قالوا: نصوص الصفات ألفاظ لا تعقل معانيها، ولا ندري ما أراد الله ورسوله منها. ولكن نقرأها ألفاظاً لا معاني لها، ونعلم أن لها تأويلاً لا يعلمه إلا الله. وهي عندنا بمنزلة كهيعص [مريم: 1] حم عسق [الشورى: 1 - 2] المص [الأعراف: 1]. فلو ورد علينا منها ما ورد لم نعتقد فيه تمثيلاً ولا تشبيهاً، ولم نعرف معناه. وننكر على من تأوله، ونكل علمه إلى الله) (1)، وسماهم مرة: (اللاأدرية) (الذين يقولون: لا ندري معاني هذه الألفاظ، ولا ما أريد منها، ولا ما دلت عليه، وهؤلاء ينسبون طريقتهم إلى السلف) (2). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي - ص 155
_________
(1) ((الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)) (2/ 422).
(2) ((الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)) (3/ 920).

المطلب الثاني: أنواع التفويض
نبه شيخ الإسلام رحمه الله إلى لونين من التفويض فقال: (وهؤلاء أهل التضليل والتجهيل الذين حقيقة قولهم: إن الأنبياء وأتباع الأنبياء جاهلون ضالون، لا يعرفون ما أراد الله بما وصف به نفسه من الآيات وأقوال الأنبياء.
ثم هؤلاء منهم من يقول: المراد بها خلاف مدلولها الظاهر والمفهوم. ولا يعرف أحد من الأنبياء, والملائكة, والصحابة, والعلماء ما أراد الله بها، كما لا يعلمون وقت الساعة.
ومنهم من يقول: بل تجري على ظاهرها، وتحمل على ظاهرها، ومع هذا فلا يعلم تأويلها إلا الله. فيتناقضون حيث أثبتوا لها تأويلاً يخالف ظاهرها، وقالوا – مع هذا – إنها تحمل على ظاهرها. وهذا ما أنكره ابن عقيل على شيخه القاضي أبي يعلى في كتاب (ذم التأويل)) (1).
وكلا اللونين تفويض للعلم بالمعنى، والفرق بينهما أن الأولين يعتقدون بأن ظواهر النصوص مقتضية للتشبيه، فيبادرون بنفيها، ويحيلون على معنى مجهول لا يعلمه إلا الله. والآخرين يعتقدون بأن الظواهر لا تقتضي التشبيه، ويحكمون بوجوب إجرائها على ظواهرها، لكن دون أن يبينوا المعنى الواجب فهمه من تلك الظواهر، بل يحيلون إلى معنى مجهول لا يعلمه إلا الله. وهذا وجه تناقضهم.
ويفسر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقوع هذين الاتجاهين من التفويض لبعض الأفاضل فيقول في ذكر أنواع النفاة: (ونوع ثالث: سمعوا الأحاديث والآثار، وعظموا مذهب السلف، وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث، لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها، وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض. وهذا حال أبي بكر بن فورك، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل وأمثالهم.
ولهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل، كما فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار.
وتارة يفوضون معانيها، ويقولون: تجري على ظواهرها، كما فعله القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك. وتارة يختلف اجتهادهم، فيرجحون هذا تارة وهذا تارة كحال ابن عقيل وأمثاله) (2) ...
نسبة التفويض إلى السلف:
من الأخطاء الفاحشة في تاريخ العقيدة الإسلامية نسبة القول بالتفويض إلى مذهب السلف الصالح، وتوارث هذه الفكرة الخاطئة جيلاً بعد جيل، إلى وقتنا الحاضر حتى صارت لدى كثير من الناس من المسلمات التي لا يتطرق إليها الجدل والمقدمات التي ترتب عليها النتائج. مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 156
_________
(1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 15 - 16).
(2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 34 - 35).

المطلب الثالث: دعوى أن التفويض هو الطريق الأسلم
درج المفوضة والمتكلمة من الأشاعرة على وصف مذهب التفويض بـ (السلامة) مبررين بذلك – حسب فهمهم الخاطئ – اختيار السلف لهذا السبيل لكونهم أقرب إلى الورع والاحتياط في الدين. وانساق كثير من الناس وراء هذا التبرير الذي يظهر منه – بادئ الرأي – إجلال السلف، وإضفاء مسحة الورع عليهم بتعظيمهم لجانب الرب، وعدم الخوض في هذه المزالق.
وصار بعض من ينتحل السلف ومذهبهم يلوح بهذه اللافتة (السلامة) للترويج لمذهب التجهيل. ولما كانت (السلامة) كلمة مقابلة لكلمة (الهلاك) أو حتى كلمة (المخاطرة) فقد استمالت النفوس والقلوب طلباً للحذر من الوقيعة في مقام دحض مزلة.
فاجتمع في دعوى التفويض المزعومة أمران حبيبان إلى النفوس:
- نسبته إلى السلف ...
- تضمنه للسلامة المنافية للخطر والهلكة.
ولذلك قيل: (مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم).
وقد تتابع المتأخرون على ترديد هذه المقالة بلفظها أو مضمونها ...
- قول بدر الدين بن جماعة: ت 727هـ: (وقد رجح قوم من الأكابر الأعلام قول السلف لأنه أسلم، وقوم منهم قول أهل التأويل للحاجة إليه) (1).
- وقال سعد الدين التفتازاني (ت793هـ) بعد ذكر نصوص الصفات: (إنها ظنيات سمعية في معارضة قطعيات عقلية، فيقطع بأنها ليست على ظواهرها، ويفوض العلم بمعانيها إلى الله – تعالى -، مع اعتقاد حقيقتها، جرياً على الطريق الأسلم الموافق للوقف على (إلا الله) في قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ، أو تأول تأويلات مناسبة موافقة لما دلت عليه الأدلة العقلية على ما ذكر في كتب التفسير، وشروح الحديث سلوكاً للطريق الأحكم, الموافق للعطف في (إلا الله، والراسخون في العلم)) (2).
- قول أحمد الدردير (ت 1201هـ: (وأجاب أئمتنا، سلفهم، بأن الله تعالى منزه عن صفات الحوادث، مع تفويض معاني هذه النصوص إليه تعالى إيثاراً للطريق الأسلم: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ، وخلفهم، بتعيين محامل صحيحة إبطالاً لمذهب الضالين، وإرشاداً للقاصدين .. نظراً إلى الطريق الأحكم، وذهاباً إلى أن الوقف في الآية: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. ومن ثم قيل: إن طريق السلف أسلم، وطريق الخلف أعلم) (3).
ومثل هذا في كتب المتأخرين كثير. وسبب ذلك كما يبين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة، التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين؛ فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى – وهي التي يسمونها طريقة السلف – وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف – وهي التي يسمونها طريقة الخلف – فصار هذا الباطل مركباً من فساد العقل والكفر بالسمع .. الخ) (4).
نقض شبهتهم:
بعد هذا العرض والاستذكار لدعوى المفوضة، والمسوغين للتفويض بأن التفويض أسلم، ننقض هذه الدعوى بما يلي:
أولاً: أن هذه (السلامة) المزعومة سلامة في مقابلة (العلم) و (الحكمة). فنصيب السلف: (السلامة) دون (العلم) و (الحكمة)، ونصيب الخلف (العلم) و (الحكمة) دون (السلامة)، وتلك قسمة ضيزى، وتحكم بلا دليل. فهذه الأمور الثلاثة متلازمة، لا يتصور انفكاكها. فإقرارهم بأن السلف لا يتميزون بالعلم والحكمة لعدم تعيينهم المراد من النصوص يتسلزم نفي السلامة عن طريقتهم. والأمر خلاف ذلك، بل على النقيض تماماً.
_________
(1) ((إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل)) (ص: 93).
(2) ((شرح المقاصد)) (4/ 50).
(3) ((شرح الخريدة البهية)) (ص: 42 - 43).
(4) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 9 - 10).

قال شيخنا محمد بن صالح العثيمين في بيان بطلان هذا الزعم: ( .. إن كون طريقة السلف أسلم من لوازم كونها أعلم وأحكم، إذ لا سلامة إلا بالعلم والحكمة. العلم بأسباب السلامة، والحكمة في سلوك تلك الأسباب، وبهذا يتبين أن طريق السلف (أسلم, وأعلم, وأحكم) (1).
والسلامة التي يمكن إثباتها في مذهب أهل التفويض هي السلامة من التحريف الذي تقوله المتكلمون على الله بغير علم، بصرف معاني النصوص إلى استعمالات مجازية. ولا ريب أن هذا لون من السلامة، لكن قابله الوقوع في هلكة التجهيل، بتفريغ تلك النصوص من أي معنى يفهمه السامع، فكانوا كما قيل:
المستجير بعمرو حال كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
ثانياً: أن هذه (السلامة) المدعاة، المبنية على الجهل، لن تصل بأصحابها إلى شاطئ الأمان، وبر الطمأنينة إلا من ابتلي بالإعراض والصدود ولم يشتغل قلبه بمعالي الأمور. أما النفوس الزكية، والقلوب الحية فلا يمكن أن تحال على مجهولات, وطلاسم, ومعميات ثم تركن إليها. (لأنه لا يمكن لأي قلب فيه حياة ووعي وطلب للعلم ونهمة في العبادة إلا أن يكون أكبر همه هو البحث في الإيمان بالله تعالى، ومعرفته بأسمائه وصفاته، وتحقيق ذلك علماً واعتقاداً) (2). وبالتالي يظل معتنق التفويض يعيش في حيرة, واضطراب, وتناقض، وحسبه بذلك بعداً عن السلامة المزعومة. مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي -بتصرف – ص 439
_________
(1) ((فتح رب البرية بتلخيص الحموية)) (ص: 19).
(2) ((تلخيص الحموية)) (ص: 8).

المسألة الأولى: المراد بالمحكم والمتشابه
اختلفت عبارات المفسرين في تعريف المحكم والمتشابه من الآيات، حتى قال الإمام الخطابي رحمه الله عن آية آل عمران: (هذه الآية مشكلة جداً وأقاويل المتأولين فيها مختلفة) (1). ونكتفي بعرض ما أورده إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله مختصراً عند ذكر هذه الآية: (فأما المحكمات فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جعلن أدلة عليه، من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعبر، وما أشبه ذلك.
ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات بأنهن هن أم الكتاب، يعني بذلك أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين, والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم، وإنما سماهن أم الكتاب لأنهن معظم الكتاب، وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه.
وأما قوله (متشابهات) فإن معناه متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعنى، كما قال جل ثناؤه: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً [البقرة: 25]، يعني في المنظر، مختلفاً في المطعم.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، وما المحكم من آي الكتاب؟ وما المتشابه منه؟
- فقال بعضهم: المحكمات من آي القرآن: المعمول بهن وهن الناسخات، أو المثبتات الأحكام. والمتشابهات من آية: المتروك العمل بهن، المنسوخات.
- وقال آخرون: المحكمات من آي الكتاب: ما أحكم الله فيه بيان حلاله وحرامه، والمتشابه منها: ما أشبه بعضه بعضاً في المعاني, وإن اختلفت ألفاظه.
- وقال آخرون: المحكمات من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد، والمتشابه منه: ما احتمل من التأويل أوجهاً.
- وقال آخرون: معنى المحكم: ما أحكم الله فيه من آي القرآن، وقصص الأنبياء ورسلهم الذين أرسلوا إليهم، ففصله بيان ذلك لمحمد وأمته. والمتشابه: هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور، فقصة باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وقصة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني.
وقال آخرون: بل المحكم من آي القرآن: ما عرف العلماء تأويله، وفهموا معناه وتفسيره، والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريم ووقت طلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء الدنيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلمه أحد .. ) (2).
فهذه خمسة أقوال مأثورة عن السلف في بيان المحكم والمتشابه. فصار الكلام في الإحكام والتشابه يدور حول خمسة متعلقات:
1 - النسخ.
2 - الحلال والحرام.
3 - احتمال المعاني.
4 - القصص والأخبار.
5 - حقائق المعاني الغيبية.
وقبل أن نبين وجه الإحكام والتشابه في هذه الأمور، نتعرف على معنى (الإحكام)، و (التشابه) من حيث هما، ومن حيث استعمالهما في القرآن الكريم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( .. إن الله وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه متشابه. وفي موضع آخر جعل منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه. فينبغي أن يعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه. قال تعالى: الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود: 1]، فأخبر أنه أحكم آياته كلها. وقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ [الزمر: 23]، فأخبر أنه كله متشابه.
_________
(1) ((أعلام الحديث)) (3/ 1824).
(2) ((جامع البيان عن تأويل آي القرآن)) (3/ 170 - 175).

والحكم هو الفصل بين الشيئين، والحاكم يفصل بين الخصمين، والحكمة فصل بين المشتبهات علماً وعملاً، إذا ميز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والنافع والضار. وذلك يتضمن فعل النافع وترك الضار، فيقال: حكمت السفيه، وأحكمته إذا أخذت على يديه، وحكمت الدابة وأحكمتها إذا جعلت لها حكمة، وهو ما أحاط الحنك من اللجام، وإحكام الشيء إتقانه. فإحكام الكلام: إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره.
والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان، فقد سماه الله حكيماً بقوله: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [يونس: 1].
وأما التشابه الذي يعمه فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82]، وهو الاختلاف المذكور في قوله: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: 8 - 9] فالتشابه هنا هو تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدق بعضه بعضاً.
وهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام، بل هو مصدق له. فإن الكلام المحكم المتقن يصدق بعضه بعضه، لا يناقض بعضه بعضاً. بخلاف الإحكام الخاص، فإنه ضد التشابه الخاص. فالتشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو أو هو مثله، وليس كذلك.
والإحكام هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر. وهذا التشابه إنما يكون لقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما.
ثم من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما، فيكون مشتبهاً عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا تمييز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية. بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض. ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلم العلماء أنه ليس هو مثله، وإن كان مشبهاً له من بعض الوجوه) (1).
فتبين من هذا العرض أن (الإحكام) و (التشابه) المتعلقان بالقرآن أربعة أنواع:
1 - الإحكام العام: بمعنى الإتقان في أخباره وأحكامه.
2 - التشابه العام: وهو تماثله وتناسبه وتصديق بعضه بعضاً.
3 - التشابه الخاص: وهو مشابهة الشيء لغيره من وجه، ومخالفته له من وجه آخر.
4 - الإحكام الخاص: الفصل بين الشيئين المشتبهين من وجه، المختلفين من وجه آخر.
فالأول والثاني متفقان، والثالث والرابع متضادان. مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 298
_________
(1) ((التدمرية)) (ص: 102 - 106) باختصار.

والمحكم الذي اتضح معناه وتبين، والمتشابه هو الذي يخفى معناه، فلا يعلمه الناس، وهذا إذا جمع بين المحكم والمتشابه، وأما إذا ذكر المحكم مفرداً دون المتشابه، فمعناه المتقن الذي ليس فيه خلل: لا كذب في أخباره، ولا جور في أحكامه، قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً [الأنعام: 115]، وقد ذكر الله الإحكام في القرآن دون المتشابه، وذلك مثل قوله تعالى: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [يونس: 1]، وقال تعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود: 1] وإذا ذكر المتشابه دون المحكم صار المعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في جودته وكماله، ويصدق بعضه بعضاً ولا يتناقض، قال تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ [الزمر: 23]، والتشابه نوعان: تشابه نسبي، وتشابه مطلق والفرق بينهما: أن المطلق يخفى على كل أحد، والنسبي يخفى على أحد دون أحد، وبناء على هذا التقسيم ينبني الوقف في قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران: 7] فعلى الوقوف على (إلا الله) يكون المراد بالمتشابه المطلق، وعلى الوصل (إلا الله والراسخون في العلم) يكون المراد بالمتشابه المتشابه النسبي، وللسلف في ذلك قولان: القول الأول: الوقف على (إلا الله)، وعليه أكثر السلف، وعلى هذا، فالمراد بالمتشابه المتشابه المطلق الذي لا يعلمه إلا الله، وذلك مثل كيفية وحقائق صفات الله، وحقائق ما أخبر الله به من نعيم الجنة وعذاب النار، قال الله تعالى في نعيم الجنة: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17]، أي: لا تعلم حقائق ذلك، ولذلك قال ابن عباس: (ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء) (1) والقول الثاني: الوصل، فيقرأ: إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]، وعلى هذا، فالمراد بالمتشابه المتشابه النسبي، وهذا يعلمه الراسخون في العلم ويكون عند غيرهم متشابهاً، ولهذا يروى عن ابن عباس أنه قال: (أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله) ولم يقل هذا مدحاً لنفسه أو ثناء عليها، ولكن ليعلم الناس أنه ليس في كتاب الله شيء لا يعرف معناه، فالقرآن معانيه بينة، لكن بعض القرآن يشتبه على ناس دون آخرين حتى العلماء الراسخون في العلم يختلفون في معنى القرآن، وهذا يدل على أنه خفي على بعضهم، والصواب بلا شك مع أحدهم إذا كان اختلافهم اختلاف تضاد لا تنوع، أما إذا كانت الآية تحتمل المعنيين جميعاً بلا منافاة ولا مرجح لأحدهما، فإنها تحمل عليهما جميعاً وبعض أهل العلم يظنون أن في القرآن ما لا يمكن الوصول إلى معناه، فيكون من المتشابه المطلق، ويحملون آيات الصفات على ذلك، وهذا من الخطأ العظيم، إذ ليس من المعقول أن يقول الله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص: 29]، ثم تستثني الصفات وهي أعظم وأشرف موضوعاً وأكثر من آيات الإحكام، ولو قلنا بهذا القول، لكان مقتضاه أن أشرف ما في القرآن موضوعاً يكون خفياً، ويكون معنى قوله تعالى: لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ، أي: آيات الإحكام فقط، وهذا غير معقول، بل جميع القرآن يفهم معناه، إذا لا يمكن أن تكون هذه الأمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخرها لا تفهم معنى القرآن، وعلى رأيهم يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وجميع الصحابة يقرؤون آيات الصفات وهم لا يفهمون معناها، بل هي عندهم بمنزلة الحروف الهجائية أ، ب، ت والصواب أنه ليس في القرآن شيء متشابه على جميع الناس من حيث المعنى، ولكن الخطأ في الفهم فقد يقصر الفهم عن إدراك المعنى أو يفهمه على معنى خطأ، وأما بالنسبة للحقائق، فما أخبر الله به من أمر الغيب، فمتشابه على جميع الناس القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 2/ 368
_________
(1) رواه الطبري في تفسيره (1/ 392)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 66)، وأبو نعيم في ((صفة الجنة)) (119)، وابن حزم في ((الفصل)) (2/ 86)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (4/ 77)، والبيهقي في ((البعث والنشور)) (322). قال ابن حزم: هذا سند غاية في الصحة. وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 408): رواه البيهقي موقوفاً بإسناد جيد. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (5410): صحيح.

المسألة الثانية: أقوال السلف في المحكم والمتشابه
بيان أقوال السلف المأثورة كما حكاها ابن جرير الطبري رحمه الله بعد تحرير المراد بـ (المحكم) و (المتشابه).
أولاً – تعلقهما بالنسخ:
المنسوخ أمران:
(أ) إلقاء الشيطان المشار إليه في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحج: 52].
(ب) النص الشرعي المتقدم، المرفوع حكمه بنص شرعي متأخر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( .. ولهذا قال طائفة من المفسرين المتقدمين: المحكم هو الناسخ، والمتشابه المنسوخ. أرادوا والله أعلم قوله: فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، والنسخ هنا: رفع ما ألقاه الشيطان، لا رفع ما شرعه الله، وقد أشرت إلى وجه ذلك فيما بعد وهو أن الله جعل المحكم مقابل المتشابه تارة، ومقابل المنسوخ أخرى، والمنسوخ يدخل فيه في اصطلاح السلف كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح، كتخصيص العام، وتقييد المطلق. فإن هذا متشابه لأنه يحتمل معنيين، ويدخل في المجمل، فإنه متشابه، وإحكامه رفع ما يتوهم فيه من المعنى الذي ليس بمراد، وكذلك ما رفع حكمه، فإن في ذلك جميعه نسخاً لما يلقيه الشيطان في معاني القرآن. ولهذا كانوا يقولون: هل عرفت الناسخ من المنسوخ؟ فإذا عرف الناسخ عرف المحكم. وعلى هذا فيصح أن يقال: المحكم والمنسوخ، كما يقال: المحكم والمتشابه) (1).
فهذا وجه النسخ بالإحكام والتشابه، فالنسخ لما يلقي الشيطان هو (الإحكام العام) الذي بمعنى الإتقان، المقتضي لنفي ما ليس منه عنه. والنسخ بتخصيص, أو تقييد, أو تفصيل لعام, أو مطلق, أو مجمل هو (الإحكام الخاص) المقتضي للفصل بين الشيئين المشتبهين من وجه، المختلفين من وجه آخر.
ثانياً – تعلقهما بالحلال والحرام، وبالأخبار والقصص والأمثال:
الإحكام متعلق بالأمر والنهي، لأنه فعل أو ترك ليس إلا. والتشابه متعلق بالأخبار, والوعد, والوعيد, والقصص, لأنه اعتقاد يتصور فيه الزيغ والانحراف. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ولهذا في الآثار: (العمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه)، لأن المقصود في الخبر الإيمان، وذلك لأن المخبر به من الوعد والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه، بخلاف الأمر والنهي، ولهذا قال بعض العلماء: المتشابه: الأمثال, والوعد والوعيد, والمحكم الأمر والنهي، فإنه متميز غير مشتبه بغيره، فإنه أمور نفعلها قد علمناها بالوقوع، وأمور نتركها لا بد أن نتصورها) (2).
وعبارة ابن جرير رحمه الله في حكاية القول الرابع تدل على هذا المعنى، فإنه قال: (المحكم: ما أحكم الله فيه من آي القرآن، وقصص الأمم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم، ففصله بيان ذلك لمحمد وأمته) (3)، فهذا الفصل الذي بينه الله لمحمد وأمته هو (الإحكام الخاص) المزيل لـ (التشابه الخاص) الواقع في قصص الأمم ورسلهم. ثم قال: (والمتشابه: هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور، فقصة باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وقصة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني) (4)، وذكر أثراً طويلاً عن ابن زيد رحمه الله قال في آخره: (من يرد الله به البلاء والضلالة يقول: ما شأن هذا لا يكون هكذا، وما شأن هذا لا يكون هكذا؟) (5).
_________
(1) ((الإكليل في المتشابه والتأويل)) (ص: 5).
(2) ((الإكليل في المتشابه والتأويل)) (ص: 13).
(3) ((جامع البيان)) (3/ 174).
(4) ((جامع البيان)) (3/ 174).
(5) ((جامع البيان)) (3/ 174).

فهذا هو (التشابه الخاص) الذي يعتري بعض الناس فيتبعونه.
ثالثاً – تعلقهما باحتمال النص للمعاني:
فالمحكم ما كان نصاً فاصلاً في معناه، لا يحتمل غيره، والمتشابه ما تجاذبته التأويلات المختلفة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وتارة يكون الإحكام في التأويل والمعنى، وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها حتى لا تشتبه بغيرها. وفي مقابلة المحكمات: الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه بغيرها. وفي مقابلة المحكمات: الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا فتكون محتملة للمعنيين) (1)
فهذه الاحتمالات للمعاني المتنافرة هي الموجبة للتشابه الخاص. وتمييز الحقيقة من غيرها هو الإحكام الخاص.
رابعاً – تعلقهما بحقائق المعاني الغيبية:
وهذا بيت القصيد ... فقد قال أصحاب هذا القول - فيما حكاه الطبري رحمه الله -: (المحكم من آي القرآن: ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره. والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه) (2)، وهذا تمييز دقيق، وتفريق واضح بين الإحكام والتشابه في الأمور الغيبية. فتعلق الإحكام بها يكون من جهة التفسير بالمعنى اللغوي من حيث أصل الوضع. والتشابه يتعلق بها من حيث الحقائق والكيفيات التي هي عليها في نفس الأمر. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته, وقدره, وصفته إلا الله، فإن الله يقول: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17]، ويقول: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)) (3). وقال ابن عباس: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء) (4)، فإن الله قد أخبر أن في الجنة خمراً, ولبناً, وماء, وحريرا, ً وفضة وغير ذلك، ونحن نعلم قطعاً أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه، بل بينهما تباين عظيم مع التشابه كما في قوله: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً [البقرة: 25] على أحد القولين أنه يشبه ما في الدنيا وليس مثله. فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق، كما أشبهت الحقائق الحقائق من بعض الوجوه. فنحن نعلمها إذ خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما، ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه) (5).
_________
(1) ((الإكليل في المتشابه والتأويل)) (ص: 7).
(2) ((جامع البيان)) (3/ 174).
(3) رواه البخاري (3244)، ومسلم (2824). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) رواه الطبري في تفسيره (1/ 392)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 66)، وأبو نعيم في ((صفة الجنة)) (119)، وابن حزم في ((الفصل)) (2/ 86)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (4/ 77)، والبيهقي في ((البعث والنشور)) (322). قال ابن حزم: هذا سند غاية في الصحة. وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 408): رواه البيهقي موقوفاً بإسناد جيد. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (5410): صحيح.
(5) ((الإكليل في المتشابه والتأويل)) ص (10 - 11).

وبهذا البيان الجلي يتبين متعلق الإحكام ومتعلق التشابه في نصوص الصفات أيضاً. فإن الإحكام فيها راجع إلى معرفة معانيها، وفهم مرادها، وثمرة ذلك التدبر والتفكر المحقق للعبودية الخالصة للرب سبحانه اعتقاداً وعملاً. والتشابه فيها راجع إلى استحالة إدراك كيفياتها وهيئاتها على ما هي عليه في الواقع. ولهذا جمع الله بين الأمرين في قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]. فالسمع من حيث القدر المشترك في الأذهان: إدراك الأصوات، والبصر: إدراك المرئيات. لكنهما في حق الباري سبحانه وتعالى على صفة لا تبلغها الأوهام ولا تدركها العقول. فالإحكام تناول هاتين الصفتين من حيث التفسير والمعنى العام، والتشابه تناولهما من حيث الكيفية والكنه.
وبذلك يتبين خطأ المقدمة الأولى التي بنى عليها أهل التفويض مذهبهم؛ من أن المتشابه لا يوقف على معناه بلغة العرب، وأن آيات الصفات من ذلك المتشابه (1). وقد عقب ابن جرير رحمه الله بعد ذكر الأقوال في معنى المحكم والمتشابه بقوله: (وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم فإنما أنزله عليه بياناً له ولأمته وهدى للعالمين، وغير جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليهم، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه حاجة, ثم لا يكون بهم إلى علم تأويله سبيل. فإذا كان ذلك كذلك، فكل ما فيه لخلقه إليه الحاجة، وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى، وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة، وذلك كقول الله عز وجل: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام: 158]، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه عباده أنها إذا جاءت لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك هي طلوع الشمس من مغربها، فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك هو العلم منهم بوقت نفع التوبة بصفته، بغير تحديده بعد بالسنين والشهور والأيام، فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب، وأوضحه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مفسراً، والذي لا حاجة لهم إلى علمه منه وهو العلم بمقدار المدة التي بين نزول هذه الآية، ووقت حدوث تلك الآية فإن ذلك لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا. وذلك هو العلم الذي استأثر الله جل ثناؤه به دون خلقه، فحجبه عنهم، وذلك وما أشبهه هو المعنى الذي طلبت اليهود معرفته في مدة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته (2) من قبل قوله: الم، المص، الر، المر، ونحو ذلك من الحروف المقطعة المتشابهات التي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله.
فإذا كان المتشابه هو ما وصفنا، فكل ما عداه فمحكم، لأنه لن يخلو من أن يكون محكماً بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد، وقد استغنى بسماعه عن بيان مبينه، أو يكون محكماً وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرف في معان كثيرة، فالدلالة على المعنى المراد منه إما من بيان الله تعالى ذكره عنه، أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته، ولن يذهب علم ذلك عن علماء الأمة لما قد بينَّا) (3). وقد تضمن هذا النقل الطويل حقائق هامة:
1 - جميع ما أنزل الله تعالى بيان للأمة وهدى للعالمين – دون استثناء -.
2 - امتناع تضمنه ما لا حاجة للأمة إليه.
_________
(1) ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (2/ 13)، و ((مناهل العرفان)) للزرقاني (2/ 205).
(2) ((جامع البيان)) (1/ 92 - 93).
(3) ((جامع البيان)) (3/ 175).

3 - امتناع تضمنه ما للأمة به حاجة، ثم لا يتمكنون من علمه.
4 - إمكان تضمنه لما للأمة به حاجة وإن كان لها غنى عن بعض معانيه.
5 - المتشابه الذي استأثر الله به هو الأمور الغيبية كالعلم بالمقدار, والوقت, والكيف ونحوه.
6 - المحكم نوعان: ما له معنى واحد، سماعه بيانه. وما يحتمل عدة معان لكن تعيين المعنى المراد متحقق ببيان الله أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم.
7 - امتناع جهل علماء الأمة ببيان الله وبيان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد تضمنت هذه الحقائق القضاء المبرم على أصل مذهب التفويض ولوازمه، والحمد لله.
ومن الجدير بالذكر، أن شيخ المفسرين، الطبري رحمه الله لم يشر من قريب ولا من بعيد، مع كثرة سياقاته للآثار، أن أحداً قال: إن من المتشابه أسماء الله وصفاته. وغاية ما في الأمر أن المتشابه هو ما يتعلق بأمور الآخرة, وفناء الدنيا ليس غير، وأن اتباع المتشابه هو محاولة اليهود معرفة مدته صلى الله عليه وسلم، ومدة أمته، وفناء الدنيا .. الخ من الحروف المقطعة (1). أما أمر صفات الله تعالى فلم يكن وارداً لديه أصلاً، وإنما أقحمت في المتشابه لدى المتأخرين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فصل – وأما إدخال أسماء الله وصفاته، أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله، كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم. فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولون ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم، فالكلام على هذا من وجهين:
الأول: من قال: إن هذا من المتشابه، وأنه لا يفهم معناه، فنقول: أما الدليل على بطلان ذلك فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره، أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا: إن الله ينزل كلاماً لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة. قالوا في أحاديث الصفات: (تمر كما جاءت). ونهوا عن تأويلات الجهمية، وردوها وأبطلوها التي مضمونها تعطيل النصوص على ما دلت عليه. ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية منها، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك.
الوجه الثاني: أنه إذا قيل: هذه من المتشابه، أو كان فيها ما هو من المتشابه، كما نقل عن بعض الأئمة أنه سمى بعض ما استدل به الجهمية متشابها، فيقال: الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلا الله، إما المتشابه, وإما الكتاب كله، ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه، كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة، وهذا الوجه قوي إن ثبت حديث ابن إسحاق في وفد نجران أنهم احتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنا) و (نحن) ونحو ذلك، ويؤيده أيضاً أنه قد ثبت في القرآن متشابهاً وهو ما يحتمل معنيين، وفي مسائل الصفات ما هو من هذا الباب كما أن ذلك في مسائل المعاد أولى. فإن نفي التشابه بين الله وبين خلقه أعظم من نفي التشابه بين موعود الجنة وموجود الدنيا) (2).
فأبطل الشيخ – رحمه الله – إدخال أسماء الله وصفاته في المتشابه، أو اعتقاد أنه هو المتشابه بأمرين:
الأول: براءة السلف قاطبة من هذا الاعتقاد، بل الثابت المنقول عنهم هو إثبات المعاني.
_________
(1) ((جامع البيان)) (3/ 180).
(2) ((الإكليل في المتشابه والتأويل)) (ص: 25 - 26, 36 - 37).

الثاني: أن التشابه الذي يطلقه بعض السلف على بعض ما يستدل به الجهمية إنما هو تشابه المعاني الذي لا يختص بباب الصفات, والعلم بالمعنى المراد ممكن بل متحقق، والمنفي العلم بتأويله لا العلم بمعناه.
والخلاصة أن إطلاق القول بأن معاني أسماء الله وصفاته من المتشابه، أو هي المتشابه، باطل، لم يصدر عن أحد من السلف. لكن قد يقع تشابه نسبي إضافي خاص لبعض الناس في هذا الباب فيزول بالإحكام الخاص الذي يعلمه الراسخون في العلم. أما حقائق هذه المعاني وكيفياتها، فلا ريب أنه مما استأثر الله بعلمه، وحجب إدراك كنهه عن خلقه، فلا سبيل لأحد إلى العلم به. مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 302
(ذكر ما ورد عن علماء السلف في المتشابه) قال في الدر المنثور: أخرج الحاكم ـ وصححه ـ عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، فنزل القرآن من سبعة أحرف: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم ومتشابه، وأمثال فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا) (1) قال: وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7] الآية قال: طلب القوم التأويل، فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة، وطلبوا ما تشابه منه فهلكوا بين ذلك وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ [آل عمران:7] قال: منهن قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] إلى ثلاث آيات، ومنهن: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء:23] إلى آخر الآيات (2) وأخرج ابن جرير من طريق أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم: (المحكمات الناسخات التي يعمل بهن، والمتشابهات المنسوخات) (3) وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن إسحق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية هن أم الكتاب فقال أبو فاختة: هن فواتح السور منها يستخرج القرآن: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:2] منها استخرجت البقرة والم اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [آل عمران:1 - 2] منها استخرجت آل عمران وقال يحيى: هن اللاتي فيهن الفرائض، والأمر والنهي والحلال والحرام والحدود وعماد الدين (4) وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: المحكمات فيهن حجة الرب وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس فيها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه وأخر متشابهات في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله بهن العباد كما ابتلاهم بالحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق (5) وأخرج ابن أبي حاتم مقاتل بن حيان إنما قال: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ لأنه ليس من أهل دين لا يرضى بهن: وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ يعني فيما بلغنا الم والمص والمر (6)
_________
(1) رواه الحاكم (1/ 739)، (2/ 317). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. والحديث حسنه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (587).
(2) رواه الطبري في تفسيره (6/ 174)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 592).
(3) رواه الطبري في تفسيره (6/ 175).
(4) رواه الطبري في تفسيره (6/ 183)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 593).
(5) رواه الطبري في تفسيره (6/ 177).
(6) رواه ابن أبي حاتم (2/ 593 - 594).

قلت: وليس في هذه الآثار ونحوها ما يشعر بأن أسماء الله تعالى وصفاته من المتشابه، وما قال النفاة من أنها من المتشابه دعوى بلا برهان قوله: ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30] روى ابن جرير عن قتادة: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ذكر لنا ((أن نبي الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حين صالح قريشاً كتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال مشركو قريش: لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك لقد ظلمناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله دعنا نقاتلهم فقال: لا اكتبوا كما يريدون: إني محمد بن عبد الله فلما كتب الكاتب بسم الله الرحمن الرحيم قالت قريش: أما الرحمن فلا نعرفه وكان أهل الجاهلية يكتبون: باسمك اللهم فقال أصحابه: دعنا نقاتلهم قال: لا ولكن اكتبوا كما يريدون)) (1) وروى أيضاً عن مجاهد قال: ((قوله: كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ [الرعد:30] قال: هذا ما كاتب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً في الحديبية، كتب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا: لا تكتب الرحمن، لا ندري ما الرحمن؟ لا نكتب إلا باسمك اللهم قال تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ الآية)) (2) وروى أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ساجداً: يا رحمن يا رحيم فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو مثنى مثنى فأنزل الله: قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110] الآية)) (3) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - ص406
_________
(1) رواه الطبري في تفسيره (16/ 445). والحديث أصله في الصحيحين رواه البخاري (2731، 2732) من حديث المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم رضي الله عنهما، ورواه مسلم مختصراً (1784) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2) رواه الطبري في تفسيره (16/ 446).
(3) رواه الطبري في تفسيره (17/ 580).

المسألة الثالثة: التأويل والظاهر
• أولاً: معاني التأويل.
• ثانياً: بيان موضع الوقف في آية آل عمران.

أولاً: معاني التأويل
قال في الصحاح في مادة (أول): (التأويل: تفسير ما يؤول إليه الشيء, وقد أولته وتأولته تأولاً بمعنى. ومنه قول الأعشى:
على أنها كانت تأول حبها ... تأول ربعي السقاب فأصحبا
قال أبو عبيدة: يعني تأول حبها، أي تفسيره ومرجعه، أي أنه كان صغيراً في قلبه فلم يزل ينبت حتى أصحب فصار قديماً كهذا السقب الصغير، لم يزل يشب حتى صار كبيراً مثل أمه، وصار له ابن يصحبه .. ). وقال الراغب في مفردات القرآن: (أول: التأويل من الأول أي الرجوع إلى الأصل. ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه، وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علماً كان أو فعلاً، ففي العلم نحو: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وفي الفعل كقول الشاعر:
[وللنوى قبل يوم البين تأويل]
وقوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف: 53] أي بيانه الذي هو غايته المقصودة منه، وقوله تعالى: ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]، قيل أحسن معنى وترجمة، وقيل أحسن ثواباً في الآخرة. .) (1). وكذا قال إمام المفسرين الطبري رحمه الله -: (وأما معنى التأويل في كلام العرب: فإنه التفسير, والمرجع, والمصير) (2). وهذان المعنيان للتأويل: بمعنى تفسير الكلام وبيانه، أو ما يؤول إليه الأمر ويرجع ويصير، هما المعنيان المستعملان في لغة العرب، والثاني في لغة القرآن خاصة، حتى استحدث له المتأخرون معنى اصطلاحياً بحتاً لا يستند على استعمال أصلي، فأوجب ذلك خلطاً وتشويشاً وسوء فهم لمقاصد النصوص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن لفظ التأويل، قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في ثلاثة معان:
أحدها: وهو اصطلاح كثير من المتأخرين المتكلمين في الفقه وأصوله: أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به؛ وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وترك تأويلها، وهل هذا محمود أو مذموم، وحق أو باطل؟
والثاني: أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح مفسري القرآن، كما يقول ابن جرير وأمثاله من المصنفين في التفسير: واختلف علماء التأويل. ومجاهد, إمام المفسرين - قال الثوري: (إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به) (3). وعلى تفسيره يعتمد الشافعي, وأحمد بن حنبل, والبخاري وغيرهم - فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه، فالمراد به: معرفة تفسيره.
الثالث: من معاني التأويل، هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، كما قال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف: 53]. فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد: هو ما أخبر الله تعالى به فيه، مما يكون من القيامة والحساب, والجزاء, والجنة والنار ونحو ذلك، كما قال في قصة يوسف لما سجد أبواه وإخوته: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ [يوسف: 100]، فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا.
_________
(1) ((مفردات القرآن)) (ص: 31).
(2) ((جامع البيان)) (3/ 184).
(3) ((جامع البيان عن تأويل آي القرآن)) (1/ 40).

فالتأويل الثاني: هو تفسير الكلام، وهو الكلام الذي يفسر به اللفظ حتى يفهم معناه، أو تعرف علته أو دليله. وهذا التأويل الثالث: هو عين ما هو موجود في الخارج، ومنه قول عائشة - رضي الله عنها: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن)) (1) تعني قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر: 3]. وقول سفيان بن عيينة: (السنة هي تأويل الأمر والنهي)، فإن نفس الفعل المأمور به هو تأويل الأمر به، ونفس الموجود المخبر عنه هو تأويل الخبر، والكلام: خبر وأمر. ولهذا يقول أبو عبيد وغيره: الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة، كما ذكروا ذلك في تفسير اشتمال الصماء (2) , لأن الفقهاء يعلمون نفس ما أمر به ونفس ما نهى عنه، لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يعلم أتباع (أبقراط) و (سيبويه) ونحوهما من مقاصدهم ما لا يعلم بمجرد اللغة. ولكن تأويل الأمر والنهي لا بد من معرفته بخلاف تأويل الخبر).
وقد تضمن هذا السياق تقرير الحقائق التالية:
1 - بيان معاني التأويل المستعملة وهي:
(أ) صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح لدليل يقترن به، وهو اصطلاح المتأخرين.
(ب) التفسير، وهو اصطلاح المفسرين.
(ج) الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، وهو عين ما يوجد في الخارج، وهو المعنى المراد في النصوص الشرعية.
2 - تأويل كل كلام بحسبه:
(أ) تأويل الخبر: عين المخبر به إذا وقع.
(ب) تأويل الأمر، نفس الفعل المأمور به.
3 - التأويل المتعلق بالأمر والنهي لا بد من معرفته وإدراك حقيقته لأنه مناط التكليف، بخلاف تأويل الخبر فلا سبيل إلى إدراك حقيقته إلا بوقوعه وتحققه.
وبعد هذا التأصيل يصل شيخ الإسلام رحمه الله إلى علاقة التأويل بصفات الرب - تعالى -، فيتابع قائلاً: (وإذا عرف ذلك، فتأويل ما أخبر الله به عن نفسه المقدسة الغنية بما لها من حقائق الأسماء والصفات هو حقيقة نفسه المقدسة المتصفة بمالها من حقائق الصفات. وتأويل ما أخبر الله به من الوعد والوعيد هو نفسه ما يكون من الوعد والوعيد) (3). فإذا كان التأويل - بمعنى الحقيقة - متعلقاً بذات الباري جل وعلا، فلا سبيل لأحد إلى العلم به سواه سبحانه. وإذا كان التأويل متعلقاً بأمر مستقبلي كالوعد والوعيد، فالعلم به حاصل بتحقق وقوعه لمن شاء الله أن يعلمه.
أما التأويل - بمعنى التفسير وفهم المعنى ومقصود الخطاب - فهو ممكن في كل ما أخبر الله به مما يتعلق بذاته المقدسة أو الأمور الغيبية أو غير ذلك. قال شيخ الإسلام رحمه الله مبيناً حدود هذا الإمكان: ( .. ولهذا ما يجيء في الحديث: نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه، لأن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة، تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر أن في الجنَّة لحماً, ولبناً, وعسلاً, وماء وخمراً ونحو ذلك، وهذا يشبه ما في الدنيا لفظاً ومعنى، ولكن ليس هو مثله، ولا حقيقته كحقيقته. والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، ومع العلم بالفارق المميز، وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد) (4). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي - ص 313
_________
(1) رواه البخاري (817)، ومسلم (484).
(2) ((غريب الحديث)) (2/ 117 - 118).
(3) ((الرسالة التدمرية)) (ص: 96).
(4) ((الرسالة التدمرية)) (ص: 96 - 97).

ثانياً: بيان موضع الوقف في آية آل عمران
للسلف في موضع الوقف في هذه الآية مذهبان:
الأول: مذهب الجمهور (1) وهو الوقف على قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ.
الثاني مذهب كثير من السلف وهو الوقف عند قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.
قال الطبري رحمه الله: (واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، وهل الراسخون معطوف على اسم الله، بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه، أو هو مستأنف ذكرهم بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون آمنا بالمتشابه، وصدقنا أن علم ذلك لا يعلمه إلا الله؟
فقال بعضهم: معنى ذلك: وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفرداً بعلمه. وأما الراسخون في العلم فإنهم ابتدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون: آمنا بالمتشابه والمحكم، وأن جميع ذلك من عند الله) (2)، ثم ساق بأسانيده هذا القول عن عائشة، وابن عباس، رضي الله عنهم، وعروة، وأبي نهيك الأسدي، وعمر بن عبد العزيز، ومالك رحمهم الله- (3)، ثم قال: (وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، وهم مع علمهم بذلك ورسوخهم في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) (4). ثم ساق الروايات عمن ذكر ذلك وهم: ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد، والربيع، ومحمد بن جعفر بن الزبير رحمهم الله (5).
فهذان قولان محفوظان عن السلف، ظاهرهما التعارض، فالأول يقضي باختصاص الرب سبحانه بعلم التأويل، والثاني يفيد اشتراك الراسخين في العلم بعلم التأويل. ولا ريب أن لكل قراءة محملاً صحيحاً لا يعارض المحمل الآخر. وسر هذا الاختلاف راجع إلى تحديد المراد بـ (بالتأويل). فمن أراد به الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، التي هي عين الموجود في الخارج، أخذ بقراءة الوقف على (إلا الله) , حيث إن إدراك الكيفيات وكنه المغيبات من خصائص علمه سبحانه.
ومن قصد بالتأويل (التفسير) وبيان معنى الكلام، ودلالته اللغوية، أثبت للراسخين في العلم علماً بذلك التأويل ووصل الآية. وبذلك يزول الإشكال، ويتوافق الكلام. ومن لم يميز بين المعنيين، ويحمل كل قراءة على المعنى المناسب لها، وقع في الاشتباه واللبس، وخلط بين الحق والباطل، وفسر (التأويل) بمعنى غير صحيح أدى به إلى تلفيق مذهب أصاب فيه من وجه, وأخطأ من وجه آخر.
وقابل هذين المعنيين الصحيحين معنيان باطلان:
الأول: مذهب أهل التحريف (التأويل المذموم)، فقد تضمن مذهبهم حقاً وباطلاً. فأما الحق فجزمهم بأن النصوص دالة على معان مقصودة مطلوبة، وأن من العيب والعجز والقبح اعتقاد أن الله يخاطب عباده بكلام غير مفهوم وغير مقدور على فهمه أصلاً. وأما الباطل فاعتقادهم أن التأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يخالف ذلك الظاهر. فوقعوا في التحريف. وصاروا يحتجون بمذهب مجاهد وغيره من السلف الذين أرادوا بالتأويل: التفسير، وينتسبون إليهم، ويتذرعون بقراءة (الوصل) لإثبات باطلهم.
الثاني: مذهب أهل التفويض (التجهيل)، وقد تضمن مذهبهم حقاً وباطلاً. فأما الحق فنكيرهم على أهل التحريف الذين يقولون على الله بغير علم، ويبتكرون المعاني المجازية بغير دليل ولا برهان. وأما الباطل فلتعميمهم نفي التأويل على المعنى اللغوي كما هو على الحقيقة. وصاروا يحتجون بمذهب جمهور السلف الذين أرادوا بالتأويل: الحقيقة التي يؤول إليها الشيء، أو التي عليها الشيء في الخارج، وينتسبون إليهم، ويتذرعون بقراءة (الوقف) لإثبات باطلهم.
_________
(1) انظر ((مجموع الفتاوى)) (5/ 35, 17/ 358).
(2) ((جامع البيان)) (3/ 182).
(3) انظر ((جامع البيان)) (3/ 182 - 183).
(4) ((جامع البيان)) (3/ 183).
(5) ((جامع البيان)) (3/ 183).

قال شيخ الإسلام رحمه الله موازناً بين الفريقين: (والغالب على كلا الطائفتين الخطأ، أولئك يقصرون في فهم القرآن بمنزلة من قيل فيه: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [البقرة: 78]، وهؤلاء معتدون بمنزلة الذين يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [المائدة: 13].
ومثار الفتنة بين الطائفتين ومحار عقولهم: أن مدعي التأويل أخطأوا في زعمهم أن العلماء يعلمون التأويل، وفي دعواهم أن التأويل هو تأويلهم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه، فإن الأولين لعلمهم بالقرآن والسنن وصحة عقولهم، وعلمهم بكلام السلف، وكلام العرب علموا يقينا أن التأويل الذي يدعيه هؤلاء ليس هو معنى القرآن، فإنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وصاروا مراتب، ما بين قرامطة وباطنية، يتأولون الأخبار والأوامر، وما بين صابئة فلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن الله وعن اليوم الآخر، حتى عن أكثر أحوال الأنبياء، وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر، وفي آيات القدر ويتأولون آيات الصفات، وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر. وآخرون من أصناف الأمة، وإن كان تغلب عليهم السنة فقد يتأولون أيضاً مواضع يكون تأويلهم من تحريف الكلم عن مواضعه.
والذين ادعوا العلم بالتأويل، مثل طائفة من السلف وأهل السنة وأكثر أهل الكلام والبدع رأوا أيضاً أن النصوص دلت على معرفة معاني القرآن، ورأوا عجزاً وعيباً وقبيحاً أن يخاطب الله عباده بكلام يقرأونه ويتلونه وهم لا يفهمونه، وهم مصيبون فيما استدلوا به من سمع وعقل، لكن أخطأوا في معنى التأويل الذي نفاه الله، وفي التأويل الذي أثبتوه، وتسلق بذلك مبتدعهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه.
وصار الأولون أقرب إلى السكوت والسلامة بنوع من الجهل، وصار الآخرون أكثر كلاماً وجدالاً، ولكن بفرية على الله، وقول عليه ما لا يعلمونه، وإلحاد في أسمائه وآياته فهذا هذا. ومنشأ الشبهة الاشتراك في لفظ التأويل) (1).
وهذا النص تحليل دقيق لهذين المذهبين وغوص عميق على سر ضلالهما، وتقويم منصف لما تضمنه كل مذهب من حق وباطل.
وشيخ الإسلام رحمه الله يصحح القولين الأولين في معنى التأويل في مواضع كثيرة من كتبه، كقوله في توجيه كلام الإمام أحمد في رده على الجهمية: (إنها احتجت بثلاث آيات من المتشابه .. ) (2)، ثم ذكرها, وفسرها, وبين معناها، فقال رحمه الله: (قد يجاب بجوابين:
أحدهما: أن يكون في الآية قراءاتان: قراءة من يقف على قوله: إِلاَّ اللهُ، وقراءة من يقف عند قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وكلتا القراءتين حق. ويراد بالأولى المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله. ويراد بالثانية المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره، وهو تأويله. ومثل هذا يقع في القرآن .. )، ثم ذكر أمثلة.
_________
(1) ((الإكليل في المتشابه والتأويل)) (ص: 17 - 19).
(2) انظر ((الرد على الجهمية والزنادقة)) (ص: 20).

وذكر الوجه الثاني: إلى أن قال (1): (والمقصود هنا: أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلاماً لا معنى له، ولا يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع الأمة لا يعلمون معناه، كما يقول ذلك من يقول من المتأخرين. وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ، سواء كان مع هذا: تأويل القرآن لا يعلمه الراسخون، أو كان للتأويل معنيان: يعلمون أحدهما، ولا يعلمون الآخر. وإذا دار الأمر بين القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يعلم معنى المتشابه من القرآن وبين أن يقال: الراسخون في العلم يعلمون، كان هذا الإثبات خيراً من ذلك النفي، فإن معنى الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف على أن جميع القرآن مما يمكن علمه وفهمه وتدبره. وهذا مما يجب القطع به، وليس معناه قاطع على أن الراسخين في العلم لا يعلمون تفسير المتشابه، فإن السلف قد قال كثير منهم أنهم يعلمون تأويله، منهم مجاهد - مع جلالة قدره -، والربيع بن أنس، ومحمد بن جعفر بن الزبير، ونقلوا ذلك عن ابن عباس، وأنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله (2)) (3).
ولما كان ابن قتيبة – رحمه الله – يرى تبعاً للمذكورين آنفاً أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل – بمعنى التفسير – نابذه المفوضة وخطؤوه, مستدلين بالنصوص المنقولة عن بعض السلف الذين يرون أن الراسخين في العلم لا يعلمون التأويل – بمعنى الحقيقة والكيفية -. وقد نصره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله نصراً مؤزراً فقال في الثناء عليه: (وابن قتيبة هو من المنتسبين إلى أحمد وإسحاق والمنتصرين لمذاهب السنة المشهورة، وله في ذلك مصنفات متعددة. قال فيه صاحب (كتاب التحديث بمناقب أهل الحديث): وهو أحد أعلام الأئمة، والعلماء والفضلاء، أجودهم تصنيفاً، وأحسنهم ترصيفاً، له زهاء ثلاثمائة مصنف، وكان يميل إلى مذهب أحمد وإسحاق. وكان معاصراً لإبراهيم الحربي، ومحمد بن نصر المروزي، وكان أهل المغرب يعظمونه، ويقولون: من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالزندقة. ويقولون: كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه فلا خير فيه، قلت: ويقال: هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة. فإنه خطيب السنة كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة) (4).
ومن أشهر من رد على ابن قتيبة رحمه الله - في إثبات علم الراسخين بمعاني المتشابه إمام اللغة: أبو بكر بن الأنباري رحمه الله وقد ذب عنه شيخ الإسلام ابن تيمية وبين تناقض اللغويين المانعين لإثبات العلم بالمتشابه، وقال عن ابن الأنباري: (وليس هو أعلم بمعاني القرآن والحديث، وأتبع للسنة من ابن قتيبة، ولا أفقه في ذلك. وإن كان ابن الأنباري من أحفظ الناس للغة؛ لكن باب فقه النصوص غير باب حفظ ألفاظ اللغة) (5). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي -319
وقد يبقى إشكالان في الآية وهما:
الأول: إعراب الآية يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ على قراءة الوصل.
الثاني: احتمال الآية الواحدة لمعنيين متباينين.
أما الإشكال الأول: وهو إعراب الآية فإن قوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم يقولون أو أنها معطوفة بمحذوف كما في قوله: وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ [التوبة: 92] أي وقلت (6).
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 381).
(2) رواه ابن جرير, ((جامع البيان)) (3/ 183).
(3) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 390).
(4) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 391 - 392).
(5) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 411).
(6) انظر: ((شرح الرضي على الكافية)) لابن الحاجب (1/ 326).

أما الإشكال الثاني: فيرتفع ببيان أن لهذا نظائر في القرآن بحسب اختلاف القراءة بالنفي أو الإثبات فيختلف المعنى تبعاً لذلك، وكل قراءة لها معنى صحيح (1).
فمن ذلك قول الله تعالى: وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم: 46] ففي لتزول قراءتان: الأولى: بفتح اللام الأولى ورفع الثانية (لَتزولُ)، والقراءة الثانية بكسر اللام الأولى ونصب الثانية (لِتزولَ) (2).
فعلى القراءة الأولى تكون (إِنْ) مخففة من الثقيلة، والهاء مقدرة، أي: وإنه كان مكرهم، واللام في (لَتَزُولُ) لام الابتداء، فالمعنى: إن مكرهم يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال، فهذا مثل ضرب لبيان أنهم يريدون إزالة هذا الدين، ولكن بين الله في كتابه أنهم لا يستطيعون ذلك.
وعلى القراءة الثانية تكون (إِنْ) نافية، واللام – لام الجحود – مؤكدة لهذا النفي، والجملة على هذا تكون حالاً من الضمير في (مكروا) أي والحال أن مكرهم لم يكن لتزول منه الجبال (3).
فاتضح من هذا أن كلا القراءتين لها معنى وهو صحيح بحسبها. فلهذا يقال: إنه لا يستغرب إذا وجد ذلك في آية آل عمران، فالوقف صحيح باعتبار، وكذلك الوصل – والله أعلم -. وعلى قراءة الوقف لا يجوز أن يدعى أن نصوص الصفات لا يمكن تفسيرها وفهم معانيها، وذلك للآتي:
1 - إن السلف تواتر عنهم تفسير كل القرآن بما في ذلك آيات الصفات، كما قال مجاهد: (عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث مرات أوقفه عند كل آية) (4).
2 - ولأنه قد تبين على قراءة الوقف أن التأويل المراد به: الحقائق العينية للمخبر عنه – فلا يمكن العلم بالكيفية – جمعاً بينها وبين قراءة الوصل الدالة على معرفة المعنى فقط دون الكيفية، وقد أثر الأمران عن ابن عباس رضي الله عنهما ومتى ما أمكن الجمع فالمصير إليه أولى من الترجيح.
3 - إنه قد جاء الأمر يتدبر القرآن كله وفهم معانيه، وهذا شمل نصوص الصفات قطعاً.
4 - وأنه لو سلم أن في القرآن ما لا يمكن معرفة معناه، فلا يسلم ذلك في نصوص الصفات إذ يلزم من القول بذلك تعطيل الخالق سبحانه وتعالى من صفاته (5). منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 2/ 463
_________
(1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (17/ 382 - 383).
(2) الأولى قرأ بها الكسائي، والثانية قرأ بها الباقون، انظر: ((إتحاف فضلاء البشر)) (2/ 171).
(3) انظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/ 58)، و ((فتح القدير)) للشوكاني (3/ 166).
(4) رواه الطبري في تفسيره (1/ 90).
(5) انظر: ((معرفة المحكم والمتشابه وأثرها في التفسير)) (ص: 102). رسالة ماجستير بالجامعة الإسلامية، للباحث: حامد عبد الله العلي.

المطلب الأول: حقيقة التوقف
يلجأ بعض الناس بسبب القصور في العلم أو البصيرة أو بسبب الورع إلى (التوقف) في الأمور المشتبهات عليه، ويعرفون باسم (الواقفة) و (الواقفية). وهو مسلك معروف في الأصول والفروع، ولهذا يطلق هذا اللقب على فرق عدة اختارت التوقف بين أمرين متعارضين لم يسعفها فيه الجمع ولا الترجيح.
ولئن ساغ هذا المسلك في بعض المسائل الفرعية بعد استفراغ الجهد في البحث وتحري الصواب، فإنه غير سائغ في أمر الاعتقاد الذي بينه الله غاية البيان، لما ينطوي عليه من الشك, والتردد, وعدم الجزم المنافي لليقين، الذي هو عمدة الاعتقاد. مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 133

المطلب الثاني: أنواع التوقف
جعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، التوقف على ضربين:
(فقوم يقولون: يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللائق بجلال الله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله ونحو ذلك. وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم.
وقوم يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات) (1).
والفرق بين القولين أن توقف الطائفة الأولى قائم على الحكم بجواز الأمرين: الإثبات، والنفي لكن دون ميل إلى أحدهما. وتوقف الطائفة الثانية قائم على عدم الحكم بشيء أبداً. فتوقف الأولى من جهة الإيجاب وتوقف الثانية من جهة السلب. وكلاهما توقف.
ولعل ممن يندرج في القول الأول: (قول الواقفة، الذين يجوزون إثبات صفات زائدة، لكن يقولون: لم يقم عندنا دليل على نفي ذلك ولا إثباته. وهذه طريقة محققي من لم يثبت الصفات الخبرية، وهذا اختيار الرازي والآمدي وغيرهما) (2).
كما يدخل في النوع الثاني ما حكاه شيخ الإسلام عن بعض الملاحدة: (نحن لا ننفي النقيضين، بل نسكت عن إضافة واحد منهما إليه، فلا نقول هو موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل) (3). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي- بتصرف – ص 134
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 117).
(2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 383).
(3) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 106).

المطلب الثالث: أصل شبهتهم والرد عليها
مدار شبهة الواقفة – سواء ممن يجوزون النفي أو الإثبات، أو من يسكتون عنهما معاً – راجع إلى اعتقادهم أن ليس في النصوص ما يقطع بأحد الأمرين، ومن ثم ساغ لهم أن يرتضوا الشك والحيرة في هذا الأمر الجلل، بل ربما استحسنوا ذلك وطلبوه، بل قد نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (زدني فيك تحيراً)، وهو كذب باتفاق أهل العلم بحديثه صلى الله عليه وسلم (1).
الرد عليهم:
ليس المراد في هذا المقام بيان صحة مذهب الإثبات وبطلان مذهب النفي، بل المقصود بيان فساد مذهب (التوقف) بنوعيه. ويمكن إجمال الرد عليهم في الأمور التالية:
1 - أن مسلك (التوقف) مخالف لما أنزل الله القرآن من أجله، وهو التدبر والذكرى، كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [ص: 29]. ومن جوز الأمرين، أو أعرض، لم يشتغل بأجل مقاصد القرآن.
2 - أن هذا المسلك مخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان من اعتقاد الإثبات مع التنزيه، ولم يحفظ عن أحد من السلف التوقف في هذه المسألة.
3 - (إن كان الذي يحب الله منا أن لا نثبت ولا ننفي، بل نبقى في الجهل البسيط، وفي ظلمات بعضها فوق بعض، لا نعرف الحق من الباطل، ولا الهدى من الضلال، ولا الصدق من الكذب؛ بل نقف بين المثبتة والنفاة موقف الشاكين للحيارى مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [النساء: 143]، لا مصدقين ولا مكذبين: لزم من ذلك أن يكون الله يحب منا عدم العلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم العلم بما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الصفات التامات، وعدم العلم بالحق من الباطل، ويحب منا الحيرة والشك.
ومن المعلوم أن الله لا يحب الجهل، ولا الشك، ولا الحيرة، ولا الضلال، وإنما يحب الدين والعلم واليقين. وقد ذم الحيرة بقوله تعالى: قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنعام: 72].
وقد أمرنا الله تعالى أن نقول: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [الفاتحة: 6 - 7].
وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك, إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) (2). فهو صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يهديه لما اختلف فيه من الحق، فكيف يكون محبوب الله عدم الهدى في مسائل الخلاف؟ وقد قال الله تعالى له: وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114]) (3).
فـ (الوقوف في ذلك جهل وعي، مع أن الرب – سبحانه – وصف لنا نفسه بهذه الصفات؛ لنعرفه بها، فوقوفنا عن إثباتها ونفيها عدول عن المقصود منه في تعريفنا إياه. فما وصف لنا نفسه إلا لنثبت ما وصف به نفسه، ولا نقف في ذلك) (4).
وبهذا يتبين فساد مسلك (الواقفة) وأنه مبني على الجهل, والشك, والحيرة، وأنهم أبعد الناس عن (اليقين) و (الجزم) الذي هو الأصل في الاعتقادات. مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 135
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 179).
(2) رواه مسلم (770). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 178 - 179).
(4) ((النصيحة في صفات الرب جل وعلا)) (21 - 22).

المطلب الأول: تعريف الشرك لغةً
جاء في (معجم مقاييس اللغة) لابن فارس: (مادة الشرك المكونة من حرف الشين والراء والكاف أصلان:
أحدهما: يدل على مقارنة وخلاف انفراد.
والآخر: يدل على امتداد واستقامة) (1).
أما الأول: فهو الشرك، بالتخفيف أي بإسكان الراء، أغلب في الاستعمال، يكون مصدرا واسما، تقول: شاركته في الأمر وشركته فيه أشركه شركاً، بكسر الأول وسكون الثاني، ويأتي: شركة، بفتح الأول وكسر الثاني فيها. ويقال: أشركته: أي جعلته شريكاً (2).
فهذه اشتقاقات لفظ الشرك في اللغة على الأصل الأول.
ويطلق حينئذ على المعاني الآتية:
1 - المحافظة، والمصاحبة، والمشاركة.
قال ابن منظور: (الشَّركة والشَّرِكة سواء؛ مخالطة الشريكين، يقال: اشتركنا بمعنى تشاركنا، وقد اشترك الرجلان وتشاركا، وشارك أحدهما الآخر والشريك: المشارك، والشرك كالشريك، والجمع أشراك وشركاء) (3).
قال ابن فارس: (الشركة هو أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما، ويقال: شاركت فلاناً في الشيء، إذا صرت شريكه، وأشركت فلاناً، إذا جعلته شريكاً لك)، قال تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه: 32]،. .......... قال الراغب: (الشركة والمشاركة: خلط الملكين، وقيل: هو أن يوجد شيء لاثنين فصاعداً عيناً كان ذلك الشيء أو معنى، كمشاركة الإنسان والفرس في الحيوانية) (4).
2 - ويطلق أيضاً على النصيب والحظ والحصة.
قال الأزهري: (يقال: شريك وأشراك، كما قالوا: يتيم وأيتام، ونصير وأنصار، والأشراك أيضاً جمع الشرك وهو النصيب، كما قال: قسم وأقسام) (5)، وقد ذكر هذا المعنى كل من الزبيدي (6) وابن منظور (7)، ومنه الحديث: ((من أعتق شركاً له في عبد)) (8) أي حصة ونصيباً (9).
3 - ويطلق أيضاً على التسوية: قال ابن منظور: (يقال: طريق مشترك: أي يستوي فيه الناس، واسم مشترك: تستوي فيه معاني كثيرة) (10).
4 - ويطلق على الكفر أيضاً، قال الزبيدي: (والشرك أيضاً: الكفر) (11).
وأما الأصل الثاني: وهو الذي يدل على الامتداد والاستقامة، فأيضاً يطلق على معان:
1 - الشِرَاك ككتاب، سير النعل على ظهر القدم، يقال: أشركت نعلي وشركتها تشريكاً: إذا جعلت لها الشراك (12).
T.H.E

T.H.E

الأستاذ /طارق العقيلي. يتم التشغيل بواسطة Blogger.