أخبار الإنترنت
recent

تمهيد

الفصل الأول: فطرية المعرفة بوجود الله
وجود الله تعالى أمر فطري، مغروز في النفس البشرية؛ فعندما خلق الله تعالى آدم عليه السلام أخذ منه، ومن ذريته، الشهادة على أنه ربهم ومعبودهم الحق فقال سبحانه وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف: 172 - 173].
وقد كانت دعوة الأنبياء جميعاً تنبثق من هذا الأصل الفطري العظيم؛ وهو الإيمان بالله تعالى؛ والدعوة لتوحيده في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته، فما أثر عن أمة من الأمم إنكارها لوجود الله تعالى، إلا ما نسب إلى فرعون، والدهرية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728): (وأشهر من عرف تجاهله، وتظاهره بإنكار الصانع فرعون، وقد كان مستيقناً به في الباطن؛ كما قال له موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء: 102]، وقال تعالى عنه وعن قومه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14]) (1).
ونص شيخ الإسلام في موضع آخر على أن فرعون كان معترفاً بالله في الباطن، فقال: (وفرعون لم يقل هذا لعدم معرفته في الباطن بالخالق، ولكن أظهر خلاف ما في نفسه؛ كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14].
وأما الدهرية فهم لم ينكروا وجود الله تعالى؛ كما قال الشهرستاني (ت 548): (أما تعطيل العالم عن الصانع العليم، القادر الحكيم، فلست أراها مقالة، ولا عرفت عليها صاحب مقالة، إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية أنهم قالوا: كان العالم في الأزل أجزاء مبثوثة، تتحرك على غير استقامة، فاصطكت اتفافاً؛ فحصل العالم بشكله الذي تراه عليه، ولست أرى صاحب هذه المقالة ممن ينكر وجود الصانع؛ بل هو يعترف بالصانع، لكنه يحيل سبب وجود العالم على البحث والاتفاق؛ احترازاً عن التعليل) (2).
ومما يجب العلم به أن هذا المصطلح – أي (وجود الله تعالى) أو (إثبات الصانع)، أو (إثبات واجب الوجود)، وغيرها – هي مصطلحات مبتدعة، برزت في الوسط الإسلامي، مع ظهور فرق الابتداع، واختلاط المسلمين بأهل الشك والريب، من أهل البلاد المفتوحة، فما كانت البيئة الإسلامية تعرف مثل هذه المصطلحات المحدثة.
ولعل مثل هذه المقالات روجها زنادقة البلاد المفتوحة؛ حقداً وحسداً على هذا الدين وأهله، عندما هالهم سرعة انتشاره وتقبله من أهل تلك البلاد، فعكف هؤلاء الزنادقة وغيرهم من القادة الدينيين على تأليف المقالات المنحرفة وزرع الشبه والريب بين المسلمين الجدد.
_________
(1) ابن تيمية ((ردء تعارض العقل والنقل)) (8/ 38) ت د. محمد رشاد سالم – ط1 - 1401 - جامعة الإمام محمد بن سعود، وانظر .. أبي العز الحنفي، ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 17) ت الألباني ط الأزهر.
(2) الشهرستاني ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) (ص: 123 - 124) ت- الفرد جيوم – لندن 1934.

ومما يوضح هذا التعليل أن بلاد فارس والعراق وغيرها قد تعرضت إلى هجمات فكرية عنيفة من الصابئة ودهاقنة الفرق يعاونهم اليهود والنصارى، والسمنية الهنود، الذين كانوا يطوفون في البلاد الإسلامية ويزرعون الشبه والشكوك، ولا شك أن هذه الجماعات قد نشأت ونظمت نفسها، وبدأت عملها في القرن الأول الهجري.
ومن أمثلة ذلك ما روي أن مجموعة من الملاحدة سألوا (1): (ما الدلالة على وجود الصانع، فقال لهم: دعوني فخاطري مشغول بأمر غريب، قالوا: ما هو؟ قال: بلغني أن في دجلة سفينة عظيمة مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة؛ وهي ذاهبة وراجعة من غير أحد يحركها ولا يقوم عليها، فقالوا له: أمجنون أنت؟ قال وما ذاك؟ قالوا: أهذا يصدقه عاقل؟ فقال: فكيف صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف العجيبة وهذا الفلك الدوار السيار يجري وتحدث هذه الحوادث بغير محدث وتتحرك هذه المتحركات بغير محرم؟ فرجعوا على أنفسهم بالملام) (2).
ومنها أيضاً أولئك السمنية الهنود الذين جادلوا الجهم بن صفوان (ت 128هـ) في الإله المعبود فتحير الجهم، ولم يدر ما يجيب وتوقف عن الصلاة أربعين يوماً حتى يتبين له ما يعبد بزعمه، ثم أحدثت هذه المجادلة الانحراف الكبير في عقلية الجهم؛ مما حدا به إلى نفي الصفات، وفتح باباً كبيراً من أبواب الشر في عقيدة الأمة (3).
فهذه الموجات الإلحادية التي غزت العالم الإسلامي في مراحل تكونه الأولى كانت من أهم الأسباب التي فتحت باب الجدل في وجود الله تعالى، وفي أسمائه وصفاته، على تلك الطريقة المبتدعة المذمومة، التي خالفت ما جاء به الكتاب والسنة من تقرير هذه المسائل بالطريقة السهلة الميسرة المقبولة.
وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية على أن أصول هذه المقالات المبتدعة هم الجهمية وغيرهم من فرق الابتداع، فقال: (إذا كانت معرفته والإقرار به ثابتاً في كل فطرة، فكيف ينكر ذلك كثير من النظار؛ نظار المسلمين وغيرهم، وهم يدعون أنهم يقيمون الأدلة العقلية على المطالب الإلهية، فيقال لهم ... أول من عرف في الإسلام بإنكار هذه المعرفة – هم أهل الكلام؛ الذين اتفق السلف على ذمهم، من الجهمية، والقدرية، وهم عند سلف الأمة من أضل الطوائف، وأجهلهم، ولكن انتشر كثير من أصولهم في المتأخرين؛ الذين يوافقون السلف على كثير مما خالفهم سلفهم الجهمية، فصار بعض الناس يظن أن هذا قول صدر في الأصل عن علماء مسلمين، وليس كذلك إنما صدر أولاً عمن ذمه أئمة الدين، وعلماء المسلمين) (4).
وتبعا لهذا الانحراف ... في تقرير وجود الله تعالى عند الجهمية، والمبتدعة اتسع انحراف المتكلمين من المعتزلة وغيرهم، فاشترطوا النظر والاستدلال، والشك لحصول العلم بالصانع بزعمهم، وقد فند شيخ الإسلام هذا الزعم الباطل، فقال: (ليس هذا قول أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا قاله أحد من الأنبياء والمرسلين، ولا هو قول المتكلمين، ولا غالبهم، بل هذا قول محدث في الإسلام، ابتدعه متكلمو المعتزلة، ونحوهم من المتكلمين الذين اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمهم، وقد نازعهم في ذلك طوائف من المتكلمين من المرجئة، والشيعة، وغيرهم، وقالوا: بل الإقرار بالصانع فطري ضروري بديهي، لا يجب أن يتوقف على النظر والاستدلال ... بل قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن معرفة الله، والإقرار به لا يقف على هذه الطرق التي يذكرها أهل النظر) (5). العقيدة الإسلامية لعطا الله بخيت المعايطة – ص: 13
_________
(1) نسب شارح الطحاوية هذه الحادثة لأبي حنيفة رحمه الله وأن الملاحدة سألوه هو (ص: 23) في حين نسبها ابن تيمية إلى بعض أهل العلم. ((درء تعارض)) (3/ 126).
(2) ابن تيمية ((درء التعارض)) (3/ 127).
(3) ((عقائد السلف)) الإمام أحمد بن حنبل ((الرد على الزنادقة)) (ص: 65) ت – النشار وطالبي ط منشأة المعارف الإسكندرية – 1971م.
(4) ابن تيمية ((مجموع الفتاوى)) (16/ 431) – جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصي النجدي – رحمه الله، وولده محمد.
(5) ابن تيمية ((نقض تأسيس الجهمية)) (5/ 473) – بتصرف – ت عبد الرحمن بن محمد العاصي وولده، وانظر ((مجموع الفتاوى)) (6/ 350) ونسبة هذه الطرق إلى المبتدعة والجهمية.

الفصل الثاني: وصف الله تعالى بالوجود
وجود الله معلوم من الدين بالضرورة، وهو صفة لله بإجماع المسلمين، بل صفة لله عند جميع العقلاء، حتى المشركين، لا ينازع في ذلك إلا مُلْحِد دهري، ولا يلزم من إثبات الوجود صفة لله أن يكون له موجِد لأن الوجود نوعان:
الأول: وجود ذاتي:
وهو ما كان وجوده ثابتاً له في نفسه، لا مكسوباً له من غيره، وهذا هو وجود الله سبحانه وصفاته؛ فإنَّ وجوده لم يسبقه عدم، ولا يلحقه عدم، هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3]
الثاني: وجود حادث:
وهو ما كان حادثاً بعد عدم، فهذا الذي لابد له من موجد يوجده وخالق يحدثه، وهو الله سبحانه، قال تعالى: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الزمر:62 - 63]، وقال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور: 35 - 36] .... فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء – 3/ 190

الفصل الثالث: معرفة الله
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
معرفة الله قسمان:
1 – معرفة وجود ومعاني، وهذا هو المطلوب منا.
2 – ومعرفة كنه وحقيقة، وهذا غير مطلوب منا لأنه مستحيل.
يعني: لو قال قائل: تعرف الله مثلا: تعرف حقيقة ذاته وحقيقة صفاته؟ لكان الجواب: لا، لا نعلم ذلك وليس مطلوب منا والوصول إلى ذلك مستحيل، فالمطلوب إذن معرفة الذات بالوجود ومعرفة الصفات بالمعاني، أما معرفة الكنه والحقيقة فهذا مما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فصار قول المؤلف في معرفة الله لا بد فيه من هذا التسديد، قوله: (أول واجب على العبيد): أول واجب على الإنسان أن يعرف الله، وقالوا: المراد أول واجب لذاته، وأما أول واجب لغيره فهو النظر والتدبر الموصل إلى معرفة الله، فالعلماء قالوا: أول ما يجب على الإنسان أن ينظر فإذا نظر وصل إلى غاية وهي المعرفة فيكون النظر أول واجب لغيره، والمعرفة أول واجب لذاته، وقال بعض أهل العلم: إن النظر لا يجب لا لغيره ولا لذاته، لأن معرفة الله عز وجل معلومة بالفطرة، والإنسان مجبول عليها ولا يجهل الله عز وجل إلا من اجتالته الشياطين ولو رجع الإنسان إلى فطرته لعرف الله دون أن ينظر أو يفكر، قالوا: ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة)) (1) وقوله سبحانه في الحديث القدسي: ((إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين)) (2) فصار الصارف عن مقتضى الفطرة حادث وارد على فطرة سليمة، فأول ما يولد الإنسان يولد على الفطرة ولو ترك ونفسه في أرض برية ما عبد غير الله، ولو عاش في بيئة مسلمة ما عبد غير الله، وحينئذ تكون عبادته لله، إذا عاش في بيئة مسلمة يكون المقوم لها شيئين: وهما الفطرة والبيئة، لكن إذا عاش في بيئة كافرة فإنه حينئذ يحدث عليه هذا المانع لفطرته من الاستقامة، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) (3)، إذن معرفة الله عز وجل لا تحتاج إلى نظر في الأصل، ولهذا عوام المسلمين الآن هل هم فكروا ونظروا في الآيات الكونية والآيات الشرعية حتى عرفوا الله أم عرفوه بمقتضى الفطرة؟ ولا شك أن للبيئة تأثيراً، ما نظروا بل إن بعض الناس – والعياذ بالله – إذا نظر وأمعن ودقق وتعمق وتنطع ربما يهلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون)) (4)،
_________
(1) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه مسلم (2865). من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) مسلم (2670). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ..

فالصحيح: إذن ما قاله المؤلف أن: أول واجب: معرفة الله، أما النظر: فلا نقول: إنه واجب، نعم لو فرض أن الإنسان احتاج إلى النظر فحينئذ يجب عليه النظر لو كان إيمانه فيه شيء من الضعف يحتاج إلى التقوية فحينئذ لا بد أن ينظر، ولهذا قال تعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:185] وقال: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون: 68] وقال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص: 29] فإذا وجد الإنسان في إيمانه ضعفاً حينئذٍ يجب أن ينظر، لكن لا ينظر هذا الناظر من زاوية الجدل والمعارضات والإيرادات، لأنه إن نظر من هذه الزاوية يكون مآله الضياع والهلاك يورد عليه الشيطان من الإيرادات ما يجعله يقف حيران، ولكن ينظر من زاوية الوصول إلى الحقيقة، فمثلاً: نظر إلى الشمس هذا المخلوق الكبير الوهاج لا يقول من الذي خلقه؟ خلقه الله عز وجل، فيقول: من الذي خلق الله؟ لا، يقول خلقه الله ويسكت، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمرنا أن ننتهي إذا قال لنا الشيطان من خلق الله؟ لنقطع التسلسل، الحاصل: أن النظر لا يحتاج إليه الإنسان إلا للضرورة كالدواء لضعف الإيمان وإلا فمعرفة الله مركوزة بالفطر، وقول المؤلف: (معرفة الإله بالتسديد): أي بالصواب، لكن ما هو الطريق إلى معرفة الله عز وجل؟ الطريق: قلنا بالفطرة قبل كل شيء، فالإنسان مفطور على معرفة ربه تعالى وأن له خالق، وإن كان لا يهتدي إلى معرفة صفات الخالق على التفصيل ولكن يعرف أن له خالقاً كامل من كل وجه، ومن الطرق التي توصل إلى معرفة الله: العقل، الأمور العقلية فإن العقل يهتدي إلى معرفة الله بالنظر إلى ذاته – هذا إذا كان القلب سليما ً من الشبهات – فينظر إلى ما بالناس من نعمة فيستدل به على وجود المنعم، لأنه لولا وجود المنعم ما وجدت النعم وعلى رحمته فلولاه ما وجدت ينظر إلى إمهال الله عز وجل للعاصين فيستدل به على حلم الله وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ [فاطر: 45] لأن أكثر الناس على الكفر، فلو أراد الله أن يؤاخذه – أن يؤاخذهم على أعمالهم – ما ترك على ظهرها من دابة، ننظر في السماوات والأرض فنستدل به على عظم الله فإن عظم المخلوق يدل على عظم الخالق،، وهكذا، نعرف الله تعالى بإجابة الدعاء، فنعرف بهذا وجود الله وقدرته ورحمته وصدقه عز وجل، ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] أخذ الله للكافرين بالنكبات والهزائم تدل على أن الله شديد العقاب، وأنه من المجرمين منتقم، ونصر الله لأوليائه تدل على أن الله ينصر من شاء شرح العقيدة السفارينية لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص128
كما أنه يجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة أن يفحص عن منافع جميع الموجودات، وأما دلالة الاختراع فيدخل فيها وجود الحيوان ووجود النبات ووجود السموات، وهذه الطريقة تنبني على أصلين موجودين بالقوة في جميع فطر الناس:

أحدهما: أن هذه الموجودات مخترعة، وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ الآية [الحج: 73]؛ فإنا نرى أجساماً جمادية ثم تحدث فيها الحياة، فنعلم قطعاً أن هاهنا موجداً للحياة, ومنعماً بها وهو الله تبارك وتعالى، وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر أنها مأمورة بالعناية بما هاهنا ومسخرة لنا، والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة.
وأما الأصل الثاني: فهو أن كل مخترع فله مخترع, فيتضح من هذين الأصلين أن للموجود فاعلاً مخترعاً له، وفي هذا الجنس دلائل كثيرة على عدد المخترعات.
وكذلك كان واجباً على من أراد معرفة الله تعالى حق معرفته أن يعرف جواهر الأشياء ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات، لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع، ولهذا أشار تعالى وتقدس بقوله: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ [الأعراف: 185] وكذلك أيضاً من تتبع معنى الحكمة في موجود أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق الغاية المقصودة به كان وقوفه على دليل العناية أتم. فهذان الدليلان هما دليل الشرع.
وأما أن الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع سبحانه في الكتاب العزيز هي مختصرة في هذين الجنسين من الدلالة, فهذا بين لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز في هذا المعنى، إذا تصفحت وجدت على ثلاث أنواع:
إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية.
وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع.
وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعاً.
فأما الآيات التي تتضمن دلالة العناية فمثل قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا – إلى قوله - وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [النبأ: 16] ومثل قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا – إلى قوله - أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:61] ومثل قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24] ومثل هذا في القرآن كثير.
وأما الآيات التي تضمنت دلالة الاختراع فقط فمثل قوله تعالى: فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ [الطارق:6] ومثل قوله تعالى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ الآية [الغاشية:17]، ومثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ الآية [الحج: 73] ومن هذا قوله حكاية عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ [الأنعام: 79] إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى.

فأما الآيات التي تجمع الدلالتين فهي كثيرة أيضاً، بل هي الأكثر مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ – إلى قوله تعالى - فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21 - 22] فإن قوله: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] تنبيه على دلالة الاختراع، وقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء تنبيه على دلالة العناية، ومثل قوله تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس: 33] وقوله: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]. وأكثر الآيات الواردة في هذا المعنى يوجد فيها النوعان من الدلالة.
فهذه الدلالة هي الصراط المستقيم الذي دعا الله تعالى الناس منه إلى معرفة وجوده، ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى، وإلى هذه الفطرة الأولى المغروزة في طباع البشر الإشارة بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ – إلى قوله تعالى - قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف: 172] ولهذا قد يجب على من كان وكده طاعة الله في الإيمان به, وامتثال ما جاء به رسله أن يسلك هذه الطريقة حتى يكون من العلماء الذين يشهدون لله بالربوبية، مع شهادته لنفسه، وشهادة ملائكته له، كما قال تبارك وتعالى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ودلالة الموجودات من هاتين الجهتين هو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44].
فقد بان من هذا أن الأدلة على وجود الصانع تعالى منحصرة في هذين الجنسين: دلالة العناية، ودلالة الاختراع. وأن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما طريقة الخواص، وأعني بالخواص العلماء، وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل: أعني أن الجمهور يقتصرون في معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس، وأما العلماء فيزيدون إلى ما يذكرون من هذه الأشياء بالحس ما يدركون بالبرهان، أعني من العناية والاختراع، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الذي أدرك العلماء من معرفة منافع أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب ألف منفعة. وإذا كان هذا هكذا فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والطبيعية، وهي التي جاءت بها الرسل ونزلت بها الكتب. والعلماء ليسوا يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط؛ بل ومن قبل التعمق في معرفة الشيء الواحد نفسه؛ فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات مثالهم في النظر إلى المصنوعات التي ليس عندهم علم بصنعتها؛ فإنهم إنما يعرفون من أمرها أنها مصنوعات فقط، وأن لها صانعاً موجوداً، ومثال العلماء في ذلك مثال من نظر إلى المصنوعات التي عنده علم ببعض صنعتها وبوجه الحكمة فيها، ولاشك أن من حاله من العلماء بالمصنوعات هذه الحال فهو أعلم بالصانع من جهة ما هو صانع من الذي لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط. وأما مثال الدهرية في هذا الذين جحدوا الصانع سبحانه وتعالى فمثال من أحس مصنوعات فلم يعترف أنها مصنوعات، بل نسب ما رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته. بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية – 1/ 172

تمهيد
تنوعت عبارات علماء أهل السنة في التعبير عن أنواع التوحيد، ولكنها مع ذلك التنوع متفقة في المضمون، ولعل السبب في ذلك هو أن تلك التقسيمات مأخوذ من استقراء النصوص, ولم ينص عليها باللفظ مباشرة، ولذلك فمن العلماء (1) من قسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، هي:
1 - توحيد الربوبية ...
2 - توحيد الأسماء والصفات ...
3 - توحيد الألوهية ...
ومن المتأخرين من زاد قسماً رابعاً على الأقسام الثلاثة السابقة وسماه:
4 - توحيد الأتباع أو توحيد الحاكمية (أي التحاكم إلى الكتاب والسنة)، ولكن يلاحظ على من ذكر هذا القسم أن هذا القسم في الحقيقة داخل ضمن توحيد الألوهية؛ لأن العبادة لا تقبل شرعاً إلا بشرطين هما:
1 - الإخلاص.
2 - الإتباع.
كما قال تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110].
ومن العلماء من قسم التوحيد إلى قسمين، وهذا هو الأغلب في كلام أهل العلم المتقدمين لأنهم يجمعون بين توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وذلك بالنظر إلى أنهما يشكلان بمجموعهما جانب العلم بالله ومعرفته عز وجل، فجمعوا بينهما لذلك، بينما توحيد الألوهية يشكل جانب العمل لله.
وتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام راجع إلى اعتبار متعلق التوحيد، وتقسيمه إلى قسمين راجع إلى اعتبار ما يجب على الموحد.
فمن العلماء من يقول: التوحيد قسمان (2):
القسم الأول: توحيد المعرفة والإثبات:
ويريد به توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وسمي بتوحيد المعرفة؛ لأن معرفة الله عز وجل إنما تكون بمعرفة أسمائه, وصفاته, وأفعاله.
والإثبات: أي إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات والأفعال.
القسم الثاني: توحيد القصد والطلب:
ويراد به الألوهية، وسمي بتوحيد القصد والطلب, لأن العبد يتوجه بقلبه ولسانه وجوارحه بالعبادة لله وحده رغبة ورهبة، ويقصد بذلك وجه الله, وابتغاء مرضاته.
ومن العلماء من يقسم التوحيد إلى قسمين هما (3):
القسم الأول: التوحيد العلمي الخبري:
والمقصود به توحيد الربوبية, وتوحيد الأسماء والصفات.
وسمي بالتوحيد العلمي: لأنه يعتني بجانب معرفة الله، فالعلمي أي (العلم بالله).
والخبري: لأنه يتوقف على الخبر أي: (الكتاب والسنة).
القسم الثاني: التوحيد الإرادي الطلبي:
والمقصود به توحيد الألوهية، وسمي بالتوحيد الإرادي لأن العبد له في العبادات إرادة، فهو إما أن يقوم بتلك العبادة أو لا يقوم بها، وسمي بالطلبي؛ لأن العبد يطلب بتلك العبادات وجه الله ويقصده عز وجل بذلك.
ومن العلماء من يقسم التوحيد إلى قسمين فيقول (4):
القسم الأول: التوحيد القولي:
والمراد به توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وسمي بالقولي لأنه في مقابل توحيد الألوهية الذي يشكل الجانب العلمي من التوحيد، وأما هذا الجانب فهو مختص بالجانب القولي العلمي.
القسم الثاني: التوحيد العملي:
والمراد به توحيد الألوهية، وسمي بالعملي؛ لأنه يشمل كلاً من عمل القلب, وعمل اللسان, وعمل الجوارح التي تشكل بمجموعها جانب العمل من التوحيد، فالتوحيد له جانبان: جانب تصديقي علمي، وجانب انقيادي عملي.
ومن العلماء من يقسم التوحيد إلى قسمين فيقول:
القسم الأول: توحيد السيادة:
ويُعنَى بذلك توحيد الربوبية, وتوحيد الأسماء والصفات، وسمي بذلك لأن تفرد الله بأفعاله وأسمائه وصفاته يوجب له السيادة المطلقة, والتصرف التام في هذا الكون خلقاً, ورزقاً, وإحياء, وإماتة, وتصرفاً وتدبيراً، سبحانه وتعالى. فمن واجب الموحد أن يفرد الله بذلك.
والقسم الثاني: توحيد العبادة:
المراد به توحيد الألوهية، وتسميته بذلك واضحة لا تحتاج إلى مزيد تفصيل. معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات لمحمد بن خليفة التميمي –بتصرف- ص: 37
_________
(1) انظر: ((طريق الهجرتين)) (ص:30)، و ((شرح الطحاوية)) (ص:76)، و ((لوامع الأنوار)) للسفاريني (1/ 128)، و ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 17 - 19).
(2) ممن ذكر ذلك ابن القيم في كتابه ((مدارج السالكين)) (3/ 449).
(3) ممن ذكر ذلك ابن القيم في كتابه ((مدارج السالكين)) (3/ 450)، وابن تيمية في ((الصفدية)) (2/ 228).
(4) ممن ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية: انظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 367).

المبحث الأول: توحيد الربوبية
معناه الاعتقاد الجازم بأن الله وحده رب كل شيء ومليكه، لا شريك له، وهو الخالق وحده وهو مدبر العالم والمتصرف فيه، وأنه خالق العباد ورازقهم ومحييهم ومميتهم، والإيمان بقضاء الله وقدره وبوحدانيته في ذاته، وخلاصته هو: توحيد الله تعالى بأفعاله.
وقد قامت الأدلة الشرعية على وجوب الإيمان بربوبيته سبحانه وتعالى، كما في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 1].
وقوله: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54].
وقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29].
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58].
وهذا النوع من التوحيد لم يخالف فيه كفار قريش، وأكثر أصحاب الملل والديانات؛ فكلهم يعتقدون أن خالق العالم هو الله وحده، قال الله تبارك وتعالى عنهم: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25].
وقال: قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [المؤمنون: 84 - 90].
وذلك لأن قلوب العباد مفطورة على الإقرار بربوبيته سبحانه وتعالى ولذا فلا يصبح معتقده موحداً؛ حتى يلتزم بالنوع الثاني من أنواع التوحيد، توحيد الألوهية الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص55

المبحث الثاني: توحيد الألوهية
هو إفراد الله تعالى بأفعال العباد، ويسمى توحيد العبادة، ومعناه الاعتقاد الجازم بأن الله - سبحانه وتعالى - هو: الإله الحق ولا إله غيره، وكل معبود سواه باطل، وإفراده تعالى بالعبادة والخضوع والطاعة المطلقة، وأن لا يشرك به أحد كائناً من كان، ولا يصرف شيء من العبادة لغيره؛ كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والدعاء، والاستعانة، والنذر، والذبح، والتوكل، والخوف والرجاء، والحب، وغيرها من أنواع العبادة الظاهرة والباطنة، وأن يعبد الله بالحب والخوف والرجاء جميعا، وعبادته ببعضها دون بعض ضلال.
قال الله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]
وقال: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117].
وتوحيد الألوهية هو ما دعت إليه جميع الرسل، وإنكاره هو الذي أورد الأمم السابقة موارد الهلاك.
وهو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها ولأجله أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وسلت سيوف الجهاد، وفرق بين المؤمنين والكافرين، وبين أهل الجنة وأهل النار.
وهو معنى قوله تعالى: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]. الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص56

المبحث الثالث: توحيد الأسماء والصفات
معناه الاعتقاد الجازم بأن الله عز وجل له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو متصف بجميع صفات الكمال، ومنزه عن جميع صفات النقص، متفرد بذلك عن جميع الكائنات.
وأهل السنة والجماعة: يعرفون ربهم بصفاته الواردة في القرآن والسنة، ويصفون ربهم بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسمائه وآياته، ويثبتون لله ما أثبته لنفسه من غير تمثيل، ولا تكييف ولا تعطيل، ولا تحريف، وقاعدتهم في كل ذلك قول الله تبارك وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11].
وقوله: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180].
وأهل السنة والجماعة: لا يحددون كيفية صفات الله جل وعلا لأنه تبارك وتعالى لم يخبر عن الكيفية، ولأنه لا أحد أعلم من الله سبحانه بنفسه، قال تعالى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ [البقرة: 140]
وقال تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل: 74]
ولا أحد أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي قال الله تبارك وتعالى في حقه: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3 - 4] الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص60
وسيأتي الكلام عن كل قسم على حدة في موضعه من الموسوعة إن شاء الله تعالى.

المبحث الرابع: مشروعية هذا التقسيم
قال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في (أضواء البيان) (1): (وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: توحيده في ربوبيته.
الثاني: توحيده جل وعلا في عبوديته.
النوع الثالث: توحيده جل وعلا في أسمائه وصفاته).
وقال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: (هذا التقسيم الاستقرائي لدى متقدمي علماء السلف أشار إليه ابن منده وابن جرير الطبري وغيرهما وقرره شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وقرره الزبيدي في تاج العروس، وشيخنا الشنقيطي في (أضواء البيان) وآخرين رحم الله الجميع، وهو استقراء تام لنصوص الشرع، وهو مطرد لدى أهل كل فن، كما في استقراء النحاة كلام العرب إلى اسم وفعل وحرف، والعرب لم تفه بهذا، ولم يعتب على النحاة في ذلك عاتب، وهكذا من أنواع الاستقراء (2).
وهذا التقسيم موجود مع بداية التصنيف والتدوين لمسائل العقيدة ومن الأدلة على ذلك بعض النصوص الواردة عن السلف في بيان ذلك:
النص الأول: للإمام أبي عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري حيث قال في كتابه (الإبانة) ما نصه: ( ... وذلك أن أصل الإيمان بالله الذي يجب على الخلق اعتقاده في إثبات الإيمان به ثلاثة أشياء:
أحدها: أن يعتقد العبد ربانيته ليكون بذلك مباينا لمذاهب أهل التعطيل الذين لا يثبتون صانعا.
والثاني: أن يعتقد وحدانيته ليكون مباينا بذلك مذاهب أهل الشرك الذين أقروا بالصانع وأشركوا معه في العبادة غيره.
والثالث: أن يعتقده موصوفا بالصفات التي لا يجوز إلا أن يكون موصوفا بها من العلم والقدرة والحكمة وسائر ما وصف به نفسه في كتابه .. (3)) وكلامه هذا صريح في أن أصل الإيمان بالله وتوحيده مبني على هذه الأمور الثلاثة فسمى الأول اعتقاد الربانية والثاني اعتقاد الوحدانية والثالث اعتقاد اتصافه بالصفات العلى اللازمة لكمال الله سبحانه وتعالى.
والنص الثاني: للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده رحمه الله حيث فصل وبوب في كتابه القيم: (كتاب التوحيد) في الأقسام الثلاثة للتوحيد فمن تبويباته:
1 - ذكر ما وصف الله عز وجل به نفسه ودل على وحدانيته عز وجل وأنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
2 - ذكر معرفة بدأ الخلق.
3 - ذكر معرفة أسماء الله عز وجل الحسنة التي تسمى بها وأظهرها لعباده للمعرفة والدعاء والذكر - وأبواب أخرى كثيرة فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى الكتاب المذكور.
ولذلك وصف الكتاب ومباحثه محققه الدكتور علي الفقيهي بقوله:
(قسم المؤلف التوحيد إلى أربعة أقسام حيث جعل أسماء الله الحسنى قسما مستقلا ثم أتبعها بالصفات، وأقسام التوحيد الذي ذكرها هي:
الوحدانية في الربوبية.
توحيد الألوهية وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله.
توحيد أسماء الله الحسنى.
الصفات) (4) (5).
وقد سبق هذين الإمامين إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة رحمه الله في تصنيف كتاب مستقل في توحيد المعرفة والإثبات وسماه كتاب (التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل).
_________
(1) ((أضواء البيان)) للعلامة محمد الأمين الشنقيطي (3/ 410)
(2) ((التحذير من مختصرات الصابوني في التفسير)) للعلامة بكر أبو زيد (133 حاشية رقم 2 ضمن الردود ط 1/ 1414 دار العاصمة - الرياض).
(3) ((الإبانة)) (2/ 172 - 173).
(4) ((التوحيد ابن مندة)) (1/ 33) تحقيق علي بن ناصر الفقيهي ط الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.
(5) انظر في ذلك: ((القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد))، عبد الرزاق البدر، دار ابن عفان.

وسبق الجميع الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في تصنيف كتاب التوحيد في الرد على الجهمية ضمن كتابه الجامع الصحيح المعروف بصحيح الإمام البخاري.
ومما يدل على أن لفظ التوحيد واعتبار أقسامه أمر متعاهد عليه عند السلف قديما افتتاح الإمام الطحاوي عقيدته بقوله: نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له .. ولا شيء مثله ولا شيء يعجزه ولا إله غيره .. ثم قال: (له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق) (1). قواعد في بيان حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لعادل الشيخاني-ص 97
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا التقسيم ومشروعيته فأجاب بما يلي:
الحمد لله، فهذا التقسيم مأخوذ من الاستقراء والتأمل لأن العلماء لما استقرؤوا ما جاءت به النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ظهر لهم هذا، وزاد بعضهم نوعا رابعا هو توحيد المتابعة، وهذا كله بالاستقراء
فلا شك أن من تدبر القرآن الكريم وجد فيه آيات تأمر بإخلاص العبادة لله وحده، وهذا هو توحيد الألوهية، ووجد آيات تدل على أن الله هو الخلاق وأنه الرزاق وأنه مدبر الأمور، وهذا هو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون ولم يدخلهم في الإسلام، كما يجد آيات أخرى تدل على أن له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأنه لا شبيه له ولا كفو له، وهذا هو توحيد الأسماء والصفات الذي أنكره المبتدعة من الجهمية والمعتزلة والمشبهة، ومن سلك سبيلهم.
ويجد آيات تدل على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ورفض ما خالف شرعه، وهذا هو توحيد المتابعة، فهذا التقسيم قد علم بالاستقراء وتتبع الآيات ودراسة السنة، ومن ذلك:
قول الله سبحانه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 4]
وقوله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21]
وقوله جل وتعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163]
وقوله سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 56 - 57]
وقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54]
وقال سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]
وقال عز وجل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 1 - 4]
وقال جل شأنه: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران: 31].
وقال سبحانه: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور: 54] والآيات الدالة على ما ذكر من التقسيم كثيرة.
_________
(1) ((العقيدة الطحاوية بشرح ابن أبي العز)) (92) تحقيق أحمد شاكر ط دون/1413هـ.

ومن الأحاديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه المتفق على صحته: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا)) (1)
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار)) (2).
وقوله لجبريل عليه السلام لما سأله عن الإسلام قال: ((أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة ... )) الحديث (3).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصا الله)) (4).
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل يا رسول الله ومن يأبى؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)) (5) والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإله هو المعبود المطاع فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع.
وقال: فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها وتخضع له وتذل له وتخافه وترجوه وتنيب إليه في شدائدها وتدعوه في مهماتها وتتوكل عليه في مصالحها وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، ولهذا كانت لا إله إلا الله أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله.
نسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا من حكام ومحكومين للفقه في دينه والثبات عليه والنصح لله ولعباده، والحذر مما يخالف ذلك، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لعبد العزيز بن عبد الله بن باز - 6/ 215
_________
(1) رواه البخاري (2856)، ومسلم (30). من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري (4497). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري (50)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) رواه البخاري (2957)، ومسلم (1835). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) رواه البخاري (7280). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

المبحث الخامس: العلاقة بين هذه الأقسام للتوحيد
هذه الأقسام تشكل بمجموعها جانب الإيمان بالله الذي نسميه التوحيد, فلا يكمل لأحد توحيده إلا باجتماع أنواع التوحيد الثلاثة, فهي متكافلة متلازمة, يكمل بعضها بعضاً، ولا يمكن الاستغناء ببعضها عن الآخر، فلا ينفع توحيد الربوبية بدون توحيد الألوهية، وكذلك لا يصح ولا يقوم توحيد الألوهية بدون توحيد الربوبية، وكذلك توحيد الله في ربوبيته وألوهيته لا يستقيم بدون توحيد الله في أسمائه وصفاته، فالخلل والانحراف في أي نوع منها هو خلل في التوحيد كله. (فمعرفة الله لا تكون بدون عبادته، والعبادة لا تكون بدون معرفة الله، فهما متلازمان) (1).
وقد أوضح بعض أهل العلم هذه العلاقة بقوله: (هي علاقة تلازم وتضمن وشمول).
فتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية.
وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية.
وتوحيد الأسماء والصفات شامل للنوعين معاً.
بيان ذلك: أن من أقر بتوحيد الربوبية وعلم أن الله سبحانه هو الرب وحده لا شريك له في ربوبيته لزمه من ذلك الإقرار أن يفرد الله بالعبادة وحده سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يصلح أن يعبد إلا من كان رباً خالقاً مالكاً مدبراً، وما دام كله لله وحده وجب أن يكون هو المعبود وحده.
ولهذا جرت سنة القرآن الكريم على سوق آيات الربوبية مقرونة بآيات الدعوة إلى توحيد الألوهية، ومن أمثلة ذلك:
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21].
وأما توحيد الألوهية فهو متضمن لتوحيد الربوبية؛ لأن من عبد الله ولم يشرك به شيئاً فهذا يدل ضمناً على أنه قد اعتقد بأن الله هو ربه ومالكه الذي لا رب غيره.
وهذا أمر يشاهده الموحد من نفسه، فكونه قد أفرد الله بالعبادة ولم يصرف شيئاً منها لغير الله، ما هو إلا لإقراره بتوحيد الربوبية, وأنه لا رب, ولا مالك, ولا متصرف إلا الله وحده.
وأما توحيد الأسماء والصفات فهو شامل للنوعين معاً، وذلك لأنه يقوم على إفراد الله تعالى بكل ما له من الأسماء الحسنى, والصفات العلى التي لا تنبغي إلا له سبحانه وتعالى، والتي من جملتها: الرب – الخالق – الرازق – الملك، وهذا هو توحيد الربوبية.
ومن جملتها: الله – الغفور – الرحيم – التواب، وهذا هو توحيد الألوهية (2).
فائدة: القرآن كله دعوة للتوحيد.
قال ابن القيم رحمه الله: (كل سورة في القرآن هي متضمنة للتوحيد، بل نقول قولاً كلياً: إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه.
فإن القرآن:
1 - إما خبر عن الله وأسمائه, وصفاته, وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري.
2 - وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع كل ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي.
3 - وإما أمر ونهي، وإلزام بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوق التوحيد ومكملاته.
4 - وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده.
5 - وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو خبر عمن خرج عن حكم توحيده.
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم) (3). معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 40
_________
(1) ((تحذير أهل الإيمان)) (1/ 140) (ضمن مجموعة الرسائل المنيرية).
(2) انظر: ((الكواشف الجلية عن معاني الواسطية)) للشيخ عبد العزيز السلمان (ص: 421 - 422).
(3) ((مدارج السالكين)) (3/ 449 - 450).
T.H.E

T.H.E

الأستاذ /طارق العقيلي. يتم التشغيل بواسطة Blogger.