أخبار الإنترنت
recent

الإيمان بالقدر

الإيمان بالقدر
- القدر: هو علم الله تعالى بكل شيء، وكتابته له، وتقديره له، ومشيئته له.
والقدر سر الله في خلقه .. لم يطَّلع عليه مَلَك مقرَّب .. ولا نبي مرسل.
- حكم الإيمان بالقدر:
الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، لا يتم الإيمان إلا به.
وهو التصديق الجازم بأن كل ما يجري في هذا الكون، وكل ما يقع من الخير والشر، وكل ما يحصل من الأحوال، فهو بقضاء الله وقدره.
1 - قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: 49 - 50].
2 - وَعَنْ عُمَر بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الإِسْلامُ أنْ تَشْهَدَ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البَيْتَ، إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا» قال: صَدَقْتَ. قال فَعَجِبْنَا لَهُ. يَسْألُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قال: فَأخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ. قال: «أنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَاليَوْمِ الاخِرِ. وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» قال: صَدَقْتَ. قال فَأخْبِرْنِي عَنِ الإحْسَانِ. قال: «أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ

يَرَاكَ». أخرجه مسلم (1).
- الفرق بين القضاء والقدر:
القضاء والقدر لفظان يطلق كل واحد منهما على الآخر.
وإذا اجتمعا في جملة فلكل واحد منهما معنى.
فالقدر: ما قدَّره الله تعالى في الأزل أن يكون في خلقه.
والقضاء: ما قضى به سبحانه في خلقه من وجود وعدم، وحياة وموت، وتغيير وتبديل.
وعلى هذا يكون التقدير سابقاً.
- وقت كتابة المقادير:
أول ما خلق الله بعد خلق الريح والماء والعرش القلم.
ولما خلق الله القلم أمره أن يكتب جميع المقادير في العالم العلوي، والعالم السفلي .. من المخلوقات .. والحركات .. والسكنات .. والكلمات .. والخطوات .. والآجال .. والأرزاق .. والأحوال .. وكل ما سيجري في هذا الكون العظيم من النعم والمصائب .. والخير والشر.
ثم رفع القلم، وجفت الصحف بما هو كائن إلى يوم القيامة.
1 - قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزُّمَر: 62].
2 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى المَاء». أخرجه مسلم (2).
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (8).
(2) أخرجه مسلم برقم (2653).

3 - وَعَنْ عُبَادَة بْن الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لاِبْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: رَب وَمَاذا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذا فَلَيْسَ مِنِّي». أخرجه أبو داود والترمذي (1).
- عموم القضاء والقدر:
الله تبارك وتعالى له الخلق والأمر كله، وكل شيء يجري في الكون فهو بمشيئة الله وعلمه.
فالقدر خيره وشره .. وحلوه ومره .. وظاهره وباطنه .. وكبيره وصغيره .. وكثيره وقليله .. وأوله وآخره .. وأعلاه وأسفله .. وساكنه ومتحركه.
كل ذلك من الله عز وجل، قضاء قضاه الله على عباده، وقَدَر قَدَّره عليهم، وكُلّهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قدره عليهم، ولا خروج لأحد من الخلق عنه، فما شاء الله كائن لا محالة، وما لم يشأ لا يكون أبداً.
1 - قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49].
2 - وقال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
3 - وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ، زَوْجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: اللهمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: فَقَالَ
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (4700) , وهذا لفظه، وأخرجه الترمذي برقم (3319).

النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئاً قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئاً عَنْ حِلِّهِ وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّار، ِ أَوْ عَذَابٍ فِي القَبْرِ كَانَ خَيْراً وَأَفْضَلَ». أخرجه مسلم (1).
- حقيقة الإيمان بالقدر:
يجب أن يؤمن العبد أن جميع المخلوقات والأشياء والأحوال مخلوقة بقدر من الله، فلا يمكن أن يقع في ملك الله شيء إلا بإذنه وعلمه ومشيئته، فكل صغيرة وكبيرة في هذا الكون مخلوقة بقدر، مدبرة بحكمة.
فلا شيء جزاف .. ولا شيء عبث .. ولا شيء مصادفة .. ولا شيء ارتجال.
قَدَر يحدد وجوده .. وقَدَر يحدد وظيفته .. وقَدَر يحدد صفته .. وقَدَر يحدد مقداره .. وقَدَر يحدد عمره .. وقَدَر يحدد زمانه .. وقَدَر يحدد مكانه .. وقَدَر يحدد منفعته .. وقَدَر يحدد مضرته .. وقَدَر يحدد أثره.
1 - قال الله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)} [القمر: 52 - 53].
2 - وقال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} [الفرقان: 1 - 2].
- مراتب الإيمان بالقدر:
الإيمان بالقدر له أربع مراتب:
الأولى: الإيمان بأن الله تعالى عالم بكل شيء جملة وتفصيلاً، سواء كان مما
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (2663).

يتعلق بفعله سبحانه كالخلق، أو مما يتعلق بفعل الإنسان كأقواله وأفعاله، أو مما يتعلق بأحوال الحيوان والنبات والجماد، أو مما يتعلق بأحوال العالم العلوي والسفلي.
فالله عليم بكل شيء، كما قال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12].
الثانية: الإيمان بأن الله تعالى كتب مقادير كل شيء في اللوح المحفوظ من المخلوقات والأحوال، والأرزاق والآجال، والنعم والمصائب.
كتب حجمه ومقداره .. وكميته وكيفيته .. ومكانه وزمانه .. ومنفعته ومضرته.
فلا يتغير ولا يتبدل ولا يزيد ولا ينقص إلا بأمره سبحانه.
1 - قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 70].
2 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى المَاء». أخرجه مسلم (1).
الثالثة: الإيمان بأن جميع الكائنات لا تكون إلا بمشيئة الله وإرادته، فكل شيء واقع بمشيئة الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
سواء كان مما يتعلق بفعل الله كالخلق والتدبير، والإحياء والإماتة، أو مما يتعلق بفعل المخلوق كالأقوال والأفعال.
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (2653).

1 - قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)} [القصص: 68].
2 - وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: 112].
3 - وقال الله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 27 - 29].
الرابعة: الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء.
خلق سبحانه جميع الكائنات بذواتها وصفاتها، وأقوالها وأفعالها، وحركاتها وسكناتها، لا خالق غيره، ولا رب سواه.
1 - قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزُّمَر: 62].
2 - وقال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49].
3 - وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96].
- الأوامر الكونية والشرعية:
أوامر الله عز وجل نوعان:
أوامر كونية .. وأوامر شرعية.
وأوامر الله الكونية ثلاثة أنواع:
الأول: أمر الخلق: وهو أمر متوجه من الله إلى جميع المخلوقات بالخلق
والإيجاد.
1 - قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ

بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: 49 - 50].
2 - وقال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزُّمَر: 62].
الثاني: أمر البقاء: وهو أمر متوجه من الله إلى جميع المخلوقات بالبقاء.
1 - قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)} [الروم: 25].
2 - وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41].
الثالث: أوامر التدبير والتصريف:
وهي أوامر متوجهة من الله إلى جميع المخلوقات بالحركة والسكون، والنفع والضر، والتدبير والتصريف.
1 - قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [آل عمران: 26 - 27].
2 - وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)} [غافر: 68].
فهذه الأوامر الكونية القدرية بيد الله وحده لا شريك له.
وفي كل ثانية يصدر وينزل من الله مليارات الأوامر على الكون ومن فيه:
أوامر الخلق .. وأوامر البقاء .. وأوامر التدبير والتصريف.

قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
أما الأوامر الشرعية: فهي موجهة من الله إلى الثقلين الإنس والجن، وهي الدين.
وأوامر الله الشرعية خمسة أنواع:
أوامر التوحيد والإيمان .. وأوامر العبادات .. وأوامر المعاملات .. وأوامر المعاشرات .. وأوامر الأخلاق.
وبامتثال أوامر الله الشرعية يسعد الإنسان في الدنيا والآخرة.
وبترك الأوامر الشرعية يشقى الإنسان في الدنيا والآخرة.
وبمقدار معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله تكون قوة امتثال أوامره الشرعية، وأسعد الناس بذلك الأنبياء وأتباعهم، وبامتثال أوامر الله الشرعية تُفتح لنا بركات السماء والأرض في الدنيا، ويدخلنا الله الجنة في الآخرة.
1 - قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58].
2 - وقال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
3 - وقال الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} [طه: 123 - 126].

4 - وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].
- فقه أوامر الله عز وجل:
أوامر الله عز وجل نوعان:
1 - أوامر شرعية: قد يطيع العبد ربه فيها، وقد يعصيه، بإذن الله، ومنها كما قال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)} [الإسراء: 23].
2 - أوامر كونية لا بد من وقوعها وهي نوعان:
1 - أمر رباني مباشر لازم الوقوع، ولا يمكن للإنسان مخالفته كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].
2 - أوامر ربانية كونية، وهي السنن الكونية التي تتكون من أسباب ونتائج، فإذا حصل هذا السبب ظهرت نتيجته.
ومن السنن الكونية التي تَتْبعها نتائجها:
1 - قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)} [الأنفال: 53].
2 - وقال الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)} [الإسراء: 16].
وهذه السنن الكونية يمكن لإبليس وأتباعه تزيينها، وإغراء بني آدم بها، لتكون سبباً لهلاك بعض الناس، وقد شرع الله لنا الدعاء والاستغفار للنجاة من ذلك.

والدعاء لجوء إلى الله الذي خلق السنن الكونية كلها، فهو القادر على إبطال مفعولها، وتغيير نتائجها في أي وقت، كما أبطل الله مفعول النار فلم تحرق إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 68 - 69].
- فقه الفتن:
الفتن نوعان:
فتن الشبهات .. وفتن الشهوات.
ففتنة الشبهات تُدفع بالحق واليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته، ومعرفة دينه وشرعه، فالحق يدفع الشبهات كلها.
وفتنة الشهوات تُدفع بالصبر الذي يكف عن الشهوات، ولهذا جعل الله سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين، كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24].
- حكمة الابتلاء:
الله عز وجل حكيم عليم.
ابتلى عباده بما يُصلح أحوالهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة.
فابتلاهم بالشهوات والأوامر، لينظر من يمتثل أوامر ربه ممن يتبع شهوات نفسه.
وابتلاهم بالنعم ليعلم الشاكر من الكافر، ومن يستعين بها على طاعة الله ممن يستعين بها على معصية الله.

وابتلاهم بالمصائب ليعلم الصابر من الجازع، وليعلم من يتوجه إليه عند المصيبة ممن يتوجه إلى غيره.
وابتلاهم بالحلال والحرام ليعلم من يخافه بالغيب فيقف عند حدود الله ممن لا يبالي بذلك.
ومن رحمة الله بعباده المؤمنين أنْ نَغَّصَ عليهم الدنيا، وكَدَّرها عليهم؛ لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا بها، ليرغبوا في دار النعيم المقيم عند ربهم في الجنة.
فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان.
فَمَنَعهم ليعطيهم .. وابتلاهم ليعافيهم .. وأماتهم ليحييهم.
1 - قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157].
2 - وقال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 35].
3 - وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا
وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)} [يونس: 7 - 8].
- أنواع القضاء والقدر:
اختيار الرب لعباده نوعان:

الأول: اختيار ديني شرعي:
والواجب على العبد في هذا أن لا يختار غير ما اختاره الله له من الدين الكامل.
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36].
الثاني: اختيار كوني قدري وهو نوعان:
1 - ما لا يَسْخطه الرب كالمصائب التي يبتلي الله بها عباده، فهذه لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يرفعها عنه، بل عليه أن يدفع قَدَر المرض بقدر الدواء، وقَدَر الجوع بقدر الأكل.
2 - ما لا يحبه الله ولا يرضاه بل يسخطه كقدر المعاصي والذنوب التي يقع فيها بعض الناس.
فهذه العبد مأمور بسخطها، ومنهي عن الرضا بها، ويجب على من فعلها التوبة منها.
قال الله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)} [الزُّمَر: 7].
- فقه القضاء والقدر:
كل ما قدره الله عز وجل من أحوال العباد وعواقبهم فإنما قدره الحكيم العليم بأسباب، فقد جعل الله لكل شيء سبباً.
فالله يعلم أن هذا يولد له بالوطء .. وهذا يشبع بالأكل .. وهذا يموت بالقتل.

ويعلم سبحانه أن هذا يدخل الجنة بالإيمان .. فإن لم يكن معه إيمان دخل النار.
ومن قال من الناس أنا لا أتزوج ولا آكل ولا أعمل اتكالاً على القدر فهو مخطئ؛ لأن الله أمر بفعل الأسباب التي تكون هذه الأمور بها.
فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات ومالكها، يفعل بها، وبدونها، وبضدها.
فلا بد للعبد من العلم بأمرين:
أحدهما: أن يعلم أن الله وحده تفرد بالخلق والأمر، والهداية والإضلال.
الثاني: أن يعلم أن ذلك كله وقع منه سبحانه على وجه الحكمة والعدل، لا بالاتفاق، ولا بمحض المشيئة المجردة عن وضع الأشياء في مواضعها.
فهو سبحانه الحكيم العليم الذي هدى من عَلِم أنه يزكو على الهدى، ويقبله، ويشكر ربه عليه، ويثمر عنده.
فالله عز وجل أعلم حيث يجعل رسالته وهدايته أصلاً وميراثاً.
لم يطرد عن بابه ولم يبعد عن جنابه من يليق به الهدى والتقريب والإكرام من الخلق من الملائكة، والأنبياء، والمؤمنين.
بل طرد من لا يليق به إلا الطرد والإبعاد من الشياطين والكفار والفجار.
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53].
فعلى العبد أن يحمد الله على نعمة الهداية، ويفعل ما أمره الله به، ويجتنب ما نهاه عنه، مستعيناً بالله، متوكلاً عليه.

فإذا وقع قدر الله عليه بغير فعله فعليه أن يصبر عليه، وأكمل منه أن يرضى به، وأكمل منه أن يشكر ربه عليه.
وإن وقع قدر الله عليه بفعله وهو طاعة أو نعمة حمد الله عليه، وإن كان معصية استغفر الله وتاب منه.
1 - قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30].
2 - وقال الله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)} [التوبة: 51].
- حكم الرضا بالقدر:
ما قضاه الله وقدره ثلاثة أقسام:
1 - الطاعات والنعم: فهذه يجب الرضا بها، ويشكر الله عليها.
2 - المصائب والنقم: فهذه يجب الصبر عليها، ويستحب الرضا بها.
3 - الكفر والفسوق والعصيان: فهذه لا يؤمر العبد بالرضا بها، بل يؤمر ببغضها وسخطها، فإن الله لا يحبها ولا يرضاها.
والله عز وجل وإن خلق ما لا يحبه كالشياطين، والمعاصي، فإنه يفضي إلى ما يحبه من الجهاد، والتوبة، والاستغفار.
فنحن نرضى بما خلق الله، أما نفس الفعل المذموم وفاعله فلا نرضى به، ولا نحبه.
فالأمر الواحد يُحب من وجه .. ويُبغض من وجه .. كالدواء الكريه .. فهو مكروه لكنه يفضي إلى محبوب.

والطريق إلى الله أن نرضيه بفعل ما يحبه ويرضاه، ليس أن نرضى بكل ما يحدث ويكون، ولسنا مأمورين أن نرضى بكل ما قضاه وقدره، ولكننا مأمورون أن نرضى بما أمرنا الله ورسوله أن نرضى به من الإيمان والطاعات وغيرهما.
1 - قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58].
2 - وقال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} [الحُجُرات: 7 - 8].
- وجه الرضا بالقدر:
قضاء الله خيراً وشراً له وجهان:
الأول: تعلقه بالرب، ونسبته إليه.
فمن هذا الوجه يرضى به العبد، فقضاء الله كله خير وعدل وحكمة.
الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه، فهذا نوعان:
منه ما يرضى به كالإيمان والطاعات .. ومنه ما لا يرضى به كالكفر والمعاصي.
والله يحب الإيمان والطاعات، ويأمر بها، ويثيب عليها.
ويكره الكفر والمعاصي، وينهى عنها، ويعاقب عليها.
1 - قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)} [القصص: 68].

2 - وقال الله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)} [الأعراف: 28 - 29].
- حكم فعل الأسباب:
ما قدَّره الله للعبد من خير أو شر قَدَّره مربوطاً بأسبابه.
فللخير أسبابه وهي الإيمان والطاعات.
وللشر أسبابه وهي الكفر والمعاصي.
والإنسان يعمل بمحض الإرادة التي قدرها الله له، والاختيار الذي منحه الله إياه.
ولا يصل العبد إلى ما كتب الله عليه، وما قدره له، من سعادة أو شقاء، إلا بواسطة تلك الأسباب التي يفعلها باختياره الذي منحه الله إياه.
فلدخول الجنة أسباب .. ولدخول النار أسباب .. فيجب أن نفعل الأسباب .. لكن لا نتوكل إلا على الله الذي خلقها.
1 - قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} [آل عمران: 132].
2 - وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ، إِلاَّ وَقَدْ كَتَبَ اللهُ مَكَانَهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلاَّ وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً» قَالَ: فَقَالَ رَجَلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَلاَ نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ؟ فَقَالَ: «مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ

فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ» فَقَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ» ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}. متفق عليه (1).
- دَوْر الأسباب:
فعل الأسباب المشروعة ليس كافياً في حصول المطلوب.
فالولد لا يحصل بمجرد الوطء؛ بل لا بد من تمام الشروط، وانتفاء الموانع، وأن يشأ الله خلقه، وكل ذلك بقضاء الله وقدره، وكذلك أمر الآخرة، فليس بمجرد العمل يدخل الإنسان الجنة.
بل العمل سبب، وليس العمل عوضاً وثمناً كافياً في دخول الجنة.
بل لا بد من عفو الله وفضله ورحمته، فكل نعمة منه فضل، وكل عقوبة منه عدل.
1 - قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزُّمَر: 62].
2 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَداً مِنْكُمْ عَمَلُهُ الجَنَّةَ» قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «وَلاَ أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَة». متفق عليه (2).
- أفعال العباد مخلوقة:
الله عز وجل خلق الإنسان، وخلق صفاته، وخلق أفعاله، وعلم ذلك، وكتبه
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4945) , ومسلم برقم (2674)، واللفظ له.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6463) , ومسلم برقم (2816)، واللفظ له.

قبل وقوعه.
فإذا فعل العبد خيراً أو شراً انكشف لنا ما علمه الله وخلقه وكتبه وقدره.
وعِلْم الله بفعل العبد عِلْم إحاطة، فالله قد أحاط بكل شيء علماً، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
1 - قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96].
2 - وقال الله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)} [يونس: 61].
3 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ بنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ
ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا». متفق عليه (1).
- حكم الاحتجاج بالقدر:
ما قضاه الله وقدره بالنسبة للإنسان نوعان:
الأول: ما قضاه الله وقدره من صفات وأحوال خارج إرادة الإنسان، سواء كانت فيه كلونه وحجمه، وطوله وقصره، وحسنه وقبحه، وحياته وموته.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3208) , ومسلم برقم (2643)، واللفظ له.

أو وقعت عليه بغير اختيار كالمصائب والأمراض، ونقص الأموال والأنفس والثمرات، وغيرها من المصائب التي قدرها الله بحكمة، فتارة تكون عقوبة للعبد .. وتارة تكون امتحاناً له .. وتارة تكون لرفعة درجاته.
وهذه الصفات التي فيه، والأحوال التي تقع عليه دون إرادة منه، لا يُسأل عنها الإنسان، ولا يحاسب عليها.
فيجب على العبد الإيمان أن ذلك كله بقضاء الله وقدره، فيرضى ويسلم.
ويجب عليه في المصائب الصبر والتسليم لله، فما من حادثة في الكون إلا وللعليم الخبير فيها حكمة ممن أزمة الأمور كلها بيده وحده.
1 - قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 22 - 23].
2 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْماً فَقَالَ: «يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ الله وَإِذا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى
أَنْ يَنْفَعُوكَ بشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ». أخرجه أحمد والترمذي (1).
3 - وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَسُبُّ ابْنُ آدَمَ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ». متفق عليه (2).
_________
(1) صحيح/ أخرجه أحمد برقم (2669) , وأخرجه الترمذي برقم (2516)، وهذا لفظه.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4826) , ومسلم برقم (2246).

الثاني: ما قضاه الله وقدره من الأفعال التي يقدر عليها الإنسان، ويفعلها العبد بما وهبه الله له من العقل والقدرة والاختيار كالإيمان والطاعات .. والكفر والمعاصي .. والإحسان والإساءة .. فهذه وأمثالها يحاسب عليها الإنسان، وبحسبها يكون الثواب والعقاب؛ لأن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبيَّن الحق من الباطل، ورغَّب في الإيمان والطاعات، وحذر من الكفر والمعاصي، وزود الإنسان بالعقل، وأعطاه القدرة على الاختيار، فيسلك ما شاء بمحض اختياره.
وأي الطريقين اختار فهو داخل تحت مشيئة الله وقدرته، إذ لا يقع في ملك الله شيء بدون إذنه ومشيئته وعلمه.
1 - قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فُصِّلَت: 46].
2 - وقال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} [الكهف: 29].
3 - وقال الله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 27 - 29].
- متى يجوز الاحتجاج بالقدر؟
للعبد مع القدر حالتان:
الأولى: يجوز للإنسان أن يحتج بالقدر على المصائب لا على المعائب، فإذا مرض الإنسان، أو ابتلي بمصائب بغير اختياره، فله أن يحتج بقدر الله فيقول: قدّر الله وما شاء فعل.

وعليه أن يصبر، ويرضى إن استطاع، لينال ثواب الصابرين.
قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157].
الثانية: لا يجوز أن يحتج الإنسان بالقدر على المعاصي والمعائب، وترك الواجبات، أو يفعل المحرمات ويقول: هذا ما قدر الله.
لأن الله أمر بفعل الطاعات، واجتناب المعاصي، وأمر بالعمل، ونهى عن الاتكال على القدر.
ولو كان القدر حجة لأحد لم يعذب الله المكذبين للرسل كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، ولم يأمر بإقامة الحدود على المعتدين، ولم يشرع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ومن رأى القدر حجة لأهل المعاصي يرفع الذم والعقاب عنهم، فعليه ألا يذم أحداً، ولا يعاقبه إذا سرقه أو اعتدى عليه، ولا يفرق بين من فعل معه
خيراً أو شراً، وهذا باطل يخالف العقل والشرع.
1 - قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} [الأنعام: 148].
2 - وقال الله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)} [الأعراف: 28].

- حكم دفع القدر بالقدر:
يشرع دفع القدر بالقدر فيما يلي:
1 - دفع القدر الذي انعقدت أسبابه ولَمَّا يقع بأسباب أخرى من القدر تقابله كدفع العدو بقتاله .. ودفع الحر والبرد بضدهما.
2 - دفع القدر الذي قد وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله كدفع قدر المرض بالتداوي .. ودفع قدر الذنب بقدر التوبة .. ودفع قدر الإساءة بالإحسان وهكذا.
3 - كل ما يجري في هذا الكون كائن بقضاء الله وقدره.
وقد أمرنا الله عز وجل أن نزيل الشر بالخير .. ونزيل الكفر بالإيمان .. والباطل بالحق .. والبدعة بالسنة .. والمعصية بالطاعة.
فلا نقف مع القدر، بل ندفع قدر الله بقدر الله، ونفر من قدر الله إلى قدر الله كما أمر، فندفع ما قدره الله من الشر بما قدره من الخير وأمر به، كدفع شر
الكفار والفجار بإعداد القوة ورباط الخيل، وكالدعاء والصدقة يدفعان البلاء وهكذا.
فندفع قدر الله المكروه .. بقدر الله المحبوب له .. حسب أمر الله.
1 - قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110].
2 - وقال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
3 - وقال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ

السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114].
- فعل الخير والشر:
فعل الخير والشر من العبد لا ينافي نسبتهما إلى الله خلقاً وإيجاداً، فالله خالق كل شيء، ومن ذلك خَلْق الإنسان وأفعاله.
ولكن ليست مشيئة الله عز وجل دليلاً على محبته ورضاه، فالكفر والمعاصي والفساد كله كائن بمشيئة الله، ولكن الله لا يحب ذلك، ولا يرضاه، ولا يأمر به، بل يبغضه وينهى عنه، وكون الشيء مبغوضاً مكروهاً لا يخرجه عن مشيئة الله المتضمنة لخلق لكل شيء.
فلكل شيء خلقه الله حكمة مقصودة، واقعة على أساس تدبيره لملكه وخلقه.
وأفضل الناس وأسعدهم الذين يحبون ما يحبه الله ورسوله، ويفعلونه، ويأمرون به، ويبغضون ما يبغضه الله ورسوله، ويجتنبونه، وينهون عنه.
وليس عندهم حب ولا بغض لغير ذلك.
1 - قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزُّمَر: 62].
2 - وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فُصِّلَت: 30 - 32].
- الفرق بين المشيئة والمحبة:
مشيئة الله عز وجل ومحبته بينهما فرق.

فقد يشاء الله ما لا يحبه .. ويحب ما لا يشاء كونه.
فالأول: كمشيئة الله لخلق إبليس وجنوده، ومشيئة الله العامة لجميع ما في الكون مع بغضه لبعضه.
والثاني: كمحبته سبحانه إيمان الكفار، وطاعات الفجار، وعدل الظالمين، ولو شاء الله لذلك لحصل كله، والله عز وجل لم يأمر عباده بالرضا بكل ما خلقه وشاءه، بل أمرهم بالرضا بكل ما أمر الله ورسوله به.
فالرضا بالقضاء الديني الشرعي واجب، وهو أساس الإسلام.
والرضا بالقضاء الكوني القدري الموافق لمحبة العبد كالعافية والغنى أمر لازم بمقتضى الطبيعة.
والرضا بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته مما لا يلائمه، ولا يدخل تحت اختياره، كالمرض والفقر، والحر والبرد، وأذى الخلق له، كل ذلك مستحب.
والرضا بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله ويسخطه وينهى عنه، كل ذلك محرم يعاقب عليه؛ لأن الله لا يحبه ولا يرضاه، ولم يأمر به، كأنواع الظلم والفسوق والعصيان.
والله حكيم عليم يشاء أمراً وهو لا يحبه ولا يرضاه، بل يكرهه ويسخطه؛ لأنه يفضي إلى ما هو أحب إليه من غيره.
كما خلق إبليس الذي هو سبب كل فساد ومعصية، ومع هذا فهو وسيلة إلى محابٍّ كثيرة للرب ترتبت على خلقه، وجودها أحب إليه من عدمها.
كظهور قدرة الله في خلق المتضادات، وظهور العبوديات المتنوعة كعبودية الجهاد، وعبودية التوبة والاستغفار وغيرها.

وسر المسألة:
أن الرضا بالله يستلزم الرضا بأسمائه وصفاته، وأفعاله وأحكامه، ولا يستلزم الرضا بمفعولاته كلها.
بل حقيقة العبودية أن يوافق العبد ربه في رضاه وسخطه، فيرضى بما يرضى به ربه، ويسخط ما سخط ربه منها.
قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].
- أقسام الإرادة:
أفعال العباد أربعة أقسام:
الأول: ما تعلقت به الإرادة الكونية، والإرادة الشرعية، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة .. فالله أرادها إرادة كون فوقعت .. وأرادها إرادة دين
وشرع فأحبها ورضيها وأمر بها.
الثاني: ما تعلقت به الإرادة الشرعية فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، فأطاع ذلك الأمر المؤمنون، وعصى ذلك الأمر الكافرون.
فهذه يحبها الله ويرضاها، لكنها قد يقع مرادها، وقد لا يقع.
الثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدره الله وشاءه من الحوادث والأحوال التي لم يأمر بها ولم يحبها كالمعاصي، فلولا مشيئة الله وإرادته لم تكن؛ لأن الله خالق كل شيء، ومن ذلك العباد وأفعالهم.
الرابع: ما لم تتعلق به الإرادة الكونية والشرعية.
فهذا ما لم يكن من أنواع المباحات والمعاصي.

1 - قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].
2 - وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)} [النساء: 27].
- أنواع كلمات الرب:
كلمات الله نوعان:
كلمات كَوَّن الله بها الكون .. وكلمات شرعية أمر بها العباد.
1 - فكلمات الله الكونية هي التي يُكَوِّن بها الكون، المتضمنة لخلقه وتدبيره، وهذه هي الكلمات التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر.
فلا يمكن لأحد أن يخرج عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خُط له في اللوح المسطور.
1 - قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].
2 - وَعَنْ عُبَادَة بْن الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: رَب وَمَاذا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ». أخرجه أبو داود والترمذي (1).
2 - وكلمات الله الشرعية هي المتضمنة لأمره ونهيه كالكتب الإلهية كالتوراة، والإنجيل، والقرآن.
فهذه يؤمن بها البعض، ويكفر البعض، فالمؤمنون أطاعوا أمره ونهيه،
_________
(1) صحيح/ أخرجه أبو داود برقم (4700) , وهذا لفظه، وأخرجه الترمذي برقم (3319).

والكفار عصوا أمره ونهيه، أما الكلمات الكونية فلا يمكن لأحد مخالفتها.
1 - قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)} [التوبة: 6].
2 - وقال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)} [النساء: 54 - 55].
3 - وقال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} [الأنعام: 115].
- سبب القدر:
القدر الإلهي كله حق وعدل ورحمة.
ففي كل حادثة سببان:
الأول: سبب ظاهري يحكم الناس على وفقه، وكثيراً ما يظلمون.
الثاني: سبب حقيقي يجري القدر الإلهي على وفقه، وهو الحق.
فمن سجن مظلوماً من غير جناية، فالقدر الإلهي قضى بسجنه لجناية له خفية، أو تربية له، ليعدِّل من خلال ظلم البشر له سلوكه.
قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216].
- حكمة أقدار الله:
ما يفعله الله ويقضيه ويقدره على خلقه كله مصالح وحكم:

فما يفعله الله عز وجل من المعروف والإحسان دال على رحمته.
وما يفعله من البطش والانتقام دال على غضبه.
وما يفعله من اللطف والإكرام دال على محبته.
وما يفعله من الإهانة والخذلان دال على بغضه ومقته.
والخلق والتصريف والتدبير في ملكه العظيم دال على كمال علمه وقدرته، وعظمته وعزته، ورحمته وكرمه.
وما يفعله بمخلوقاته من الحياة بعد الموت، والكمال بعد النقص، والنقص بعد الكمال دال على وقوع المعاد.
1 - قال الله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)}
[الحج: 5 - 7].
2 - وقال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12].
- أقسام القدر:
القدر قدران:
أحدهما: قدر مطلق مثبت، وهو ما في أم الكتاب، فهذا لا يتغير ولا يتبدل، ولا يعلمه إلا الله وحده.
الثاني: قدر معلق أو مقيد، وهو ما في صحف الملائكة، فهذا الذي يقع فيه المحو والإثبات.

قال الله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد: 39].
- أحوال العبد مع القدر:
العبد له في المقدور حالان:
حال قبل القدر .. وحال بعد القدر.
فعليه قبل حصول المقدور أن يستعين بالله، ويتوكل عليه، ويفعل ما أمره الله به، ويسأله ويدعوه، ويرغب إليه مفتقراً في طلب الخير، وترك الشر.
وإذا وقع المقدور بغير فعله:
فإن كان نعمة حمد الله عليها .. وإن كان مصيبة صبر عليها، وإن رضي بها، وشكر الله عليها فهو الأفضل.
وإن وقع المقدور بفعله:
فإن كان خيراً حمد الله عليه، وإن كان ذنباً استغفر الله منه، وعلى المؤمن أن يفعل ما أمره الله به، فإذا انكشف ستر الغيب عن تدبير لله غير تدبيره، فليتقبل قضاء الله بالرضا والتسليم والطمأنينة؛ لأنه الأصل الذي كان مجهولاً له، فكشف الله عنه الستار: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} [البقرة: 232].
- العدل والإحسان:
أفعال الله عز وجل دائرة بين العدل والإحسان.
فلا يمكن أن يظلم أحداً مثقال ذرة.
فهو سبحانه إما أن يعامل عباده بالعدل .. وإما أن يعاملهم بالإحسان.

فالمسيء يعامله بالعدل ولا يظلمه كما قال سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: 160].
والمحسن يعامله بالفضل والإحسان ولا ينقصه كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40].
- عدل الله وفضله:
كل ما في الكون من رحمة ونفع، ونعمة ومصلحة، فهو من فضله تعالى.
وكل ما في الوجود من غير ذلك فهو من عدله سبحانه.
فكل نعمة منه فضل .. وكل نقمة منه عدل .. وكل ثواب منه فضل .. وكل عقاب منه عدل .. وكل عطاء منه فضل .. وكل حرمان منه عدل .. وكل هداية
منه فضل .. وكل ضلال منه عدل.
فهو سبحانه الحكيم العليم، الرحيم الكريم.
يده اليمنى فيها الإحسان إلى الخلق .. ويده الأخرى فيها العدل والميزان الذي يرفع به ويخفض.
فخفضه ورفعه من عدله، وإحسانه إلى خلقه من فضله.
1 - قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90].
2 - وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)} [يونس: 60].

3 - وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ يَمِينَ اللهِ مَلأى لا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أرَأيْتُمْ مَا أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ، وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَبِيَدِهِ الأخْرَى الفَيْضُ، أوِ القَبْضُ يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ». متفق عليه (1).
- الهداية والإضلال:
الله عز وجل له الخلق والأمر كله في الكون كله.
يفعل ما يشاء .. ويحكم ما يريد .. ويهدي من يشاء .. ويضل من يشاء .. الملك ملكه، والخلق خلقه، لا يُسأل عما يفعل، وهو الحكيم العليم الذي يضع الشيء في موضعه.
فيعطي الخير والهدى من يشكره، ويعلم أنه أهل له، ويمنعه من ليس له بأهل، ويعلم أنه يكفره.
ومن رحمته سبحانه بعباده:
أن أرسل إليهم الرسل .. وأنزل عليهم الكتب .. وأوضح السبل .. وأزاح العلل .. وأعطى الإنسان ما يعرف به ما ينفعه وما يضره فزوّده بالسمع، والبصر، والعقل.
ثم بعد ذلك يأتي دور الإنسان:
1 - فمن آثر الهداية، ورغب فيها، وتحرك لطلبها، وعمل بأسبابها، وجاهد في سبيل تحصيلها، هداه الله إليها، وأعانه على تحصيلها وتكميلها ونشرها، وهذا فضل الله ورحمته.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7419) , واللفظ له، ومسلم برقم (993).

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
2 - ومن آثر الضلالة، ورغب فيها، وطلبها، وعمل بأسبابها، تمت له، وولاه الله ما تولى، ولم يجد من الله صارفاً عنها، وهذا عدل الله.
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115].
- طرق الحصول على الهداية:
الإنسان يحصل على الهداية بأمور:
أحدها: الدعاء المستمر بطلب الهداية:
قال الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6 - 7].
الثاني: المجاهدة في طلب الهداية:
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
الثالث: الاعتصام بالله في كل حال:
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} [آل عمران: 101].
الرابع: الإنابة إلى الله:
قال الله تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى: 13].

الخامس: العلم والعمل بالدين:
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزُّمَر: 17 - 18].
السادس: اتباع ما يحبه الله ويرضاه:
قال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15 - 16].
السابع: اجتناب سبل الضلالة والغواية:
1 - قال الله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)} [آل عمران: 86].
2 - وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)} [غافر: 28].
3 - وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)} [المنافقون: 6].
- الطاعات والمعاصي:
الطاعات يحبها الله .. والمعاصي تحبها النفس .. والإيمان بحر الطاعات .. والكفر بحر المعاصي .. والطاعات من أسباب دخول الجنة .. والمعاصي سبب دخول النار.
والطاعة تولد المنفعة، وتثمر الأخلاق الحسنة.
والمعصية تولد المضرة، وتثمر الأخلاق السيئة.

فالشمس والقمر، والنبات والحيوان، والبر والبحر، أطاعت ربها، فخرج منها منافع كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى.
والأنبياء لما أطاعوا الله خرج منهم من الخير ما لا يحصيه إلا الله تعالى.
وإبليس لما عصى ربه وأبى واستكبر، خرج بسببه من الشرور والفساد في الأرض ما لا يحصيه إلا الله تعالى.
وهكذا الإنسان:
إذا آمن بربه وأطاعه، خرج منه من الخير والمنافع له ولغيره ما لا يحصيه إلا الله تبارك وتعالى.
وإذا عصى ربه، خرج منه من الشر والمضار له ولغيره ما لا يحصيه إلا الله
تعالى.
1 - قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)} [النساء: 13].
2 - وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14].
- آثار الطاعات والمعاصي:
جعل الله عز وجل للطاعات والحسنات والطيبات آثاراً طيبة محبوبة، لذتها فوق لذة المعصية بأضعاف مضاعفة.
وجعل سبحانه للمعاصي والسيئات والخبائث آثاراً وآلاماً مكروهة مؤلمة، تورث الحسرة والندم والألم، وتُرْبي على لذة تناولها أو فعلها بأضعاف

مضاعفة.
وما حصل لعبد حال مكروهة قط إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر.
والطاعات نافعة جداً للقلوب، كالأغذية الطيبة نافعة للأجساد.
والذنوب مضرة جداً للقلوب، كالسموم مضرة بالأجساد.
والله عز وجل خلق الإنسان على الفطرة حسناً جميلاً سليماً.
فإن تاب إلى الله وأناب، أعاد الله إليه حسنه وجماله وعافيته، وبلغ كماله في الجنة.
فلكل طاعة آثار محمودة على النفس، وعلى الأمة، وفي العالم العلوي، وفي العالم السفلي، وفي الدنيا، وفي الآخرة.
ولكل معصية آثار مذمومة كذلك تماماً.
1 - قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28].
2 - وقال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13،14].
3 - وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].
- فقه الحسنات والسيئات:
تنقسم الحسنات إلى قسمين:
1 - حسنة سببها الإيمان والعمل الصالح، وهي طاعة الله ورسوله.
2 - حسنة سببها الإنعام الإلهي على الإنسان بمال، أو صحة، أو نصر، أو عزة.

وتنقسم السيئات إلى قسمين:
1 - سيئة سببها الشرك والمعاصي، وهي ما يصدر من الإنسان من شرك ومعصية.
2 - سيئة سببها الابتلاء، أو الانتقام الإلهي كنقص الأموال، والأنفس، والثمرات، والمرض والهزيمة ونحو ذلك.
وبيان مَنْ فَعَل هذه الحسنات والسيئات كما يلي:
1 - الحسنة بمعنى الطاعة لا تنسب إلا إلى الله وحده.
فهو الذي شرعها للعبد .. وعلمه إياها .. وحبب إليه فعلها .. وأعانه عليها .. وأثابه إذا عملها.
2 - والسيئة بمعنى معصية الله ورسوله.
هذه إذا فعلها العبد بإرادته واختياره، مُؤْثِراً المعصية على الطاعة، فهذه السيئة تنسب للعبد فاعلها، ولا تنسب إلى الله؛ لأن الله لم يشرعها، ولم يأمر بها.
بل حرمها وتوعد عليها، وحذر منها.
قال الله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} [النساء: 79].
3 - الحسنة بمعنى النعمة: كالمال والولد، والجاه والنصر، والصحة والعزة.
والسيئة بمعنى الابتلاء والانتقام: كالنقص في المال، والأنفس، والثمرات، والمرض، والهزيمة ونحو ذلك.
هاتان الحسنة والسيئة بهذا المعنى من عند الله.
لأنه سبحانه يبلو عباده ابتلاءً، وانتقاماً، ورفعة، تربية لعباده، فهو الرب

الحكيم الخبير، العليم بما يصلح به أحوال عباده.
1 - قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 35].
2 - وقال الله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} [النساء: 78].
3 - وقال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157].
- دفع عقوبة السيئات:
إذا عمل المؤمن سيئة فعقوبتها تندفع عنه بما يلي:
إما أن يتوب فيتوب الله عليه .. أو يستغفر فيغفر الله له .. أو يعمل حسنات تمحوها.
أو يدعو له إخوانه المؤمنون ويستغفرون له .. أو يهدوا له من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به.
أو يبتليه الله في الدنيا بمصائب تكفر عنه .. أو يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه .. أو يبتليه في عرصات القيامة بما يكفر عنه.
أو يشفع فيه نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -.
أو يرحمه أرحم الراحمين، والله غفور رحيم.
1 - قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} [محمد: 19].
2 - وقال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114].
- ثمرات الإيمان بالقدر:
الإيمان بالقضاء والقدر مصدر الراحة والطمأنينة لكل مسلم، وهو أمر لازم لكل عبد في كل وقت ليسعد في دنياه وأخراه.
فيعلم أن ربه الملك العظيم له الخلق والأمر كله.
يخلق ويرزق .. ويعطي ويمنع .. ويعز ويذل .. ويكرم ويهين .. ويحيي ويميت .. ويهدي ويضل.
ويعلم أن ربه عليم بكل شيء، لا يعزب عنه مثقال ذرة من ملكه العظيم.
ويعلم أن كل شيء بقدر الله، فلا يعجب بنفسه عند حصول مراده، ولا يقلق عند فوات محبوب، أو حصول مكروه؛ لأنه يعلم أن ذلك كله بقدر الله، وهو كائن لا محالة، وهو خير بلا ريب.
1 - قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 22 - 23].
2 - وَعَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَجَباً لأَمْرِ المُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ». أخرجه مسلم (1).
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (2999).

- ثمرات أركان الإيمان:
أركان الإيمان الستة لها ثمرات عظيمة نافعة:
1 - فالإيمان بالله عز وجل يثمر محبة الله وتعظيمه، وحمده وشكره، وخوفه ورجاءه، وعبادته وطاعته، والتوكل عليه، والاستعانة به، والإنابة إليه، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
2 - والإيمان بالملائكة يثمر محبتهم، وتعظيم من خلقهم، والاستحياء منهم، والاعتبار بطاعتهم، والتشبه بهم، والاستكثار من الطاعات، والحذر من المعاصي.
3 - والإيمان بالكتب يثمر معرفة عظمة الله، وعظمة كلامه، ومعرفة حسن
شرائعه، وكمال عناية الله بخلقه، ومحبته لهم، حيث أنزل لهم كتباً ونوراً يهتدون به.
4 - والإيمان بالرسل يثمر معرفة كمال رحمة الله وعنايته بخلقه، ومحبته وشكره، حيث أرسل إليهم الرسل يدعونهم إلى الله، ويبينون للناس ما نزل إليهم، وماذا يريد الله من الناس في الدنيا، وماذا سيعطيهم في الآخرة.
5 - والإيمان باليوم الآخر يثمر معرفة جلال الله وعظمته، وعظمة خزائنه، والرغبة في الطاعات، والخوف من الله، ووجل القلب مما أمامه من أهوال يوم القيامة.
6 - والإيمان بالقدر يثمر طمأنينة النفس، وسكونها، ورضاها بما قدر الله، والتسليم لمن بيده الملك، وأزمة الأمور كلها بيده.
وذلك كله يثمر عبادة الله وحده لا شريك له، واجتناب عبادة ما سواه، والتوكل عليه وحده، وعدم الالتفات إلى ما سواه.

ويثمر طاعة الله ورسوله، وتقديم طاعة الله ورسوله على طاعة كل أحد.
1 - قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [البقرة: 285].
2 - وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)} [النساء: 13].
- وبهذا تمت بفضل الله أركان الإيمان الستة، وهي:
الإيمان بالله .. وملائكته .. وكتبه .. ورسله .. واليوم الآخر .. والقدر خيره وشره.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم كمال الإيمان، وصدق العبودية، وحسن العمل.

5 - الإحسان
- مراتب الدين:
مراتب الدين ثلاث:
الإسلام .. والإيمان .. والإحسان.
وكل مرتبة لها أركان، والإحسان أعلاها.
فالإسلام يمثل أعمال الجوارح .. والإيمان يمثل أعمال القلوب .. والإحسان إتقان تلك الأعمال، وحسن أدائها، مع كمال التوجه بها إلى الله.
وقد مضى الكلام في الإسلام والإيمان بحمد الله، وبقي الكلام في الإحسان.
- الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
- منزلة الإحسان:
الإحسان هو فعل الشيء الحسن في النفس أو الغير.
وكلما كان الإنسان أكثر إحساناً إلى نفسه وإلى غيره كان أقرب إلى رحمة الله، وكان ربه قريباً منه برحمته كما قال سبحانه: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56].
واختص أهل الإحسان برحمة الله؛ لأنها إحسان من الله، والإحسان إنما يكون لأهل الإحسان من خلقه؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فكما أحسنوا بأعمالهم، أحسن الله إليهم برحمته كما قال سبحانه: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60].

وأحسن الناس وأسعدهم وأفضلهم هو المؤمن الذي استسلم لربه، واتبع شرعه كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} [النساء: 125].
وقد وعد الله كل من أحسن عبادة الله، وأحسن إلى عباد الله بالثواب الجزيل كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)} [المرسلات: 41 - 44].
وأعظم الإحسان الصادر من العبد:
هو الإيمان بالله، وتوحيده، وطاعته، والإنابة إليه، واتباع شرعه، وأن تعبد الله كأنك تراه، وبذلك تحصل للعبد معية الله عز وجل.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128].
- إحسان الرب:
إحسان الرب إلى الخلق لا يحيط به أحد من الخلق.
وأعظم إحسان الرب إلى عباده:
خلقهم في أحسن تقويم .. وتسخير ما في السماوات والأرض لهم .. وإمدادهم بالأرزاق والنعم على مر الدهور.
وأعظم من ذلك كله:
إنزال الكتب عليهم .. وإرسال الرسل إليهم .. وهدايتهم إلى التوحيد والإيمان .. وإثابتهم على الطاعات بالأجور المضاعفة .. ثم الخلود في جنات النعيم.

قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)} [غافر: 61].
- إحسان العبد:
إحسان العبد له ثلاث حالات:
الأولى: إحسان إلى النفس بحملها على طاعة الله ورسوله.
الثانية: إحسان في عبادة الله، بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
الثالثة: إحسان إلى عباد الله تعالى، وذلك بإيصال جميع أنواع الخير لهم.
ومن أعظم الإحسان إلى الخلق دعوتهم إلى الله، وتعليمهم ما ينفعهم في دينهم، وما يكون سبباً لسعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة من العلم بالله وأسمائه وصفاته، ودينه وشرعه، وتحذيرهم سبل الشر والهلكات.
وأعظم الناس إحساناً إلى الخلق هم الأنبياء وأتباعهم الذين يحملون الخير للبشرية كما قال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164].
- فقه الإحسان:
اليقين هو ظهور الشيء للقلب بحيث تصير نسبته إليه كنسبة المرئي إلى العين، فلا يبقى معه شك ولا ريب أصلاً.
وهذا نهاية الإيمان، وهو مقام الإحسان.
فاليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وهو روح أعمال القلوب، التي هي روح أعمال الجوارح.

ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نوراً وإشراقاً، ومحبة لله، ورحمة لخلقه، وانتفى عنه كل شك وريب.
وكلما زاد اليقين في القلب امتلأ بمحبة الله .. والأنس به .. والإنابة إليه .. والرضا به .. والتوكل عليه .. والخوف منه .. والشكر له .. والرضا به .. والاستعانة به .. وعدم الالتفات إلى غيره .. واليقين لا يسكن قلباً فيه سكون لغير الله أبداً.
1 - قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)} [يونس: 26].
2 - وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)} [لقمان: 22].
3 - وقال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24].
- درجات الإحسان:
الإحسان في العبادة درجتان:
الأولى: أن يعبد الإنسان ربه بقلب حاضر كأنه يراه عبادة طلب وشوق، ورغبة ومحبة، وهذه أعلى المرتبتين.
الثانية: إذا لم يعبد ربه كأنه يراه، فليعبده كأنه هو الذي يراه، عبادة خائف منه، هارب من عقابه.
والناس متفاوتون في هذه الرتب.
فالحب لله يولِّد الشوق والطلب .. والتعظيم يولِّد الخوف والهرب .. وفي هذا

وهذا كمال العبودية لله .. وكمال الحب لله .. وكمال التعظيم له .. وهذا هو الإحسان في عبادة الله جل جلاله.
1 - قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} [النساء: 125].
2 - وَعَنْ عُمَر بْن الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الإِسْلامُ أنْ تَشْهَدَ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البَيْتَ، إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا» قال: صَدَقْتَ. قال فَعَجِبْنَا لَهُ. يَسْألُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قال: فَأخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ. قال: «أنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَاليَوْمِ الاخِرِ. وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» قال: صَدَقْتَ. قال فَأخْبِرْنِي عَنِ الإحْسَانِ. قال: «أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». أخرجه مسلم (1).
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (8).

6 - العبادة
- معنى العبادة:
الذي يستحق العبادة هو الله وحده لا شريك له.
والعبادة تطلق على شيئين:
الأول: التعبد: وهو التذلل لله عز وجل بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، محبة له وتعظيماً.
الثاني: المتعبَّد به: وهو كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة كالدعاء والذكر، والمحبة والخوف، والصلاة ونحو ذلك.
فالصلاة مثلاً عبادة .. وفعلها تعبُّد لله .. والزكاة عبادة .. وأداؤها تعبُّد لله .. وهكذا.
فنعبد الله وحده بما شرع .. مع كمال التعظيم له .. وكمال الحب له، وكمال الذل له.
- حكمة خلق الجن والإنس:
خلق الله عز وجل الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له، ولم يخلقهم عبثاً أو سدىً، ولم يوجدهم ليأكلوا ويشربوا، ويلهوا ويلعبوا .. ويمرحوا ويضحكوا.
إنما خلقهم لعبادته وطاعته، والعمل بشرعه، واجتناب عبادة ما سواه.
1 - قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58].

2 - وقال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115].
- حقيقة الإنسان:
الله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم.
وجعله مركباً من ثلاثة أشياء:
جسداً مادياً .. ونفساً حيوانياً .. وروحاً ملكياً ..
فالجسد مَرْكب النفس والروح، وفي نفس الإنسان بحار الشهوات، وفي روح الإنسان بحار الطاعات، والجسد للغالب منهما.
والجسد علبة الإنسان، والروح حقيقة الإنسان.
فالجسد إذا كان فارغاً من الروح فلا قيمة له، ولا عمل له.
ولذلك يدفن في التراب الذي خلقه الله منه.
وإذا كانت فيه الروح صار له قيمة، وله وظيفة، وله عمل، ولذلك يكون ملكاً وأميراً، وزوجاً، وأماً وأباً، وتاجراً وطبيباً.
فإذا خرج صاحب الجسد صار الجسد لا قيمة له، ولذلك يتعفن في الحال، فيعاد إلى التراب الذي خلقه الله منه، ثم يقوم للحساب والجزاء ..
1 - قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70].
2 - وقال الله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)} [طه: 55].

- أمهات العلوم:
أمهات العلوم ثلاث:
معرفة النفس .. ومعرفة الرب .. ومعرفة الدين.
فمعرفة النفس تكون عن طريق الذي خلقها وصورها.
ومعرفة الرب بآياته ومخلوقاته، والنظر في ملكوت السماوات والأرض.
ومعرفة الدين تكون بواسطة الرسل الذين بعثهم الله إلى عباده، فإذا عرف الإنسان نفسه بالعجز عرف ربه بالقدرة .. وإذا عرف نفسه بالفقر عرف ربه بالغنى .. وإذا عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالعلم .. وهكذا.
إذا عرف ربه بالعدل عرف نفسه بالظلم .. وإذا عرف ربه بالقوة عرف نفسه بالضعف .. وإذا عرف ربه بالعزة عرف نفسه بالذلة.
فلله صفات الكمال المطلق، وللعبد صفات النقص المطلق.
وإذا عرف الإنسان ربه بالجلال والجمال والكمال آمن به وأطاعه واتبع شرعه، وتقرب إليه بما يحب.
1 - قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} [محمد: 19].
2 - وقال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البيِّنة: 5].
- مكانة الإنسان:
لقد أكرم الله بني آدم، وعظَّم حرمة المسلم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه، وذِكْر الله بما لا ينبغي؛ حفظاً لنفسه، وأوجب الحد بقذفه، والقطع بسرقته،

وأباح له المحرم عند الضرورة، وأنزل إليه الكتب، وأرسل إليه الرسل، وأطعمه من جوع، وسقاه من عطش، ورزقه وهداه، وزوده بالسمع والبصر والعقل.
إن رباً هذه صفاته، وهذا إحسانه، لحقيق أن تعظَّم شعائره، وتوقر أوامره.
أيحسن مع هذا الإكرام أن يرى الرب عبده عاصياً لأمره، معرضاً عن دينه، مطيعاً لعدوه.
بينما هو بحضرة الحق والملائكة سجود له، تترامى به الأحوال والجهالات، فيوجد ساجداً لصنم من حجر، أو شجر، أو مخلوق.
لا يليق بهذا الإنسان الكريم على ربه أن يُرى إلا عابداً لله في الدنيا، مجاوراً له في دار الجزاء، وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير موضعها.
1 - قال الله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} [المائدة: 76].
2 - وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة: 21 - 22].
- منزلة العبد عند الخلق:
العبد كلما كان أذل لله، وأعظم افتقاراً إليه، كان أقرب إليه، وأعزّ له، وأعظم لقدره.
والرب أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه، فكلما سألته زاد قدرك

ومحبتك عنده.
والخلق أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم، وأعظم ما يكون العبد قدراً عند الخلق إذا لم يحتج إليهم.
فإنْ أحسن إليهم مع الاستغناء عنهم كان أعظم ما يكون عندهم.
ومتى احتاج إليهم ولو في شربة ماء نقص عندهم بقدر حاجته إليهم.
وهذا من حكمة الله ورحمته؛ ليظل العبد دائماً واقفاً بباب مولاه العزيز الكريم، ولا يذل نفسه لمخلوق مثله أو دونه.
1 - قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186].
2 - وقال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
- الغاية من الخلق والأمر:
المقصود من إظهار الخلق والأمر في العالم العلوي، والعالم السفلي، أن يعرف الناس ربهم بأسمائه وصفاته وأفعاله، وإذا عرفوه عبدوه وحده لا شريك له بما شرعه لهم من الدين، وهو القسط الذي أرسل الله به رسله إلى خلقه.
1 - قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12].
2 - وقال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].

- حاجة الأمة للدين:
أعظم حاجات البشر معرفة الدين الحق، والعمل به.
ولا بقاء ولا سعادة لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسل موجودة فيهم.
فإذا درست آثار الرسل من الأرض، وزالت بالكلية، دمر الله وأنهى العالم العلوي والسفلي، وأقام القيامة، وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسل والهدى الذي جاؤا به كحاجتهم إلى الشمس، أو الهواء، أو الماء، أو الطعام؛ بل هي أعظم من ذلك وأشد حاجة من كل ما يخطر بالبال.
فالرسل رحمة من الله لعباده .. جعلهم الله وسائط بينه وبين خلقه في أمره ونهيه .. وسفراء في دينه وشرعه.
1 - قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164].
2 - وقال الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحُجُرات: 17].
- أصل العبادة:
الله عز وجل غني كريم، وله ملك السماوات والأرض، وهو الغني الذي لا يحتاج إلى أحد، القادر الذي لا يستعين بأحد، الخالق الذي خلق كل شيء، المالك الذي يملك كل شيء.
أمرنا الله بشكره لا لحاجته إليه، ولكن لننال به المزيد من فضله.
وأمرنا بذكره سبحانه ليذكرنا بفضله وإحسانه فنسأله.

وأمرنا بسؤاله ليعطينا، بل أعطانا أجلّ العطايا بلا سؤال.
وأمرنا بالتوكل عليه والاستعانة به وحده حتى لا يذلنا لأحد سواه.
وأرسل إلينا الرسل، وأنزل علينا الكتب، ليسعدنا في الدنيا والآخرة.
ولكن أكثر الناس لا يعرف ربه، ومن ثم لا يشكره، ولا يطيع أمره، لأنه لا يعرفه، ولا يعرف فضله وإحسانه.
والإنسان بدون الإيمان ظلوم كفار، إنْ أنعم الله عليه بالعافية والمال والجاه استعان بنعمه على معاصيه، وإن سلبه ذلك ظل ساخطاً على ربه، شاكياً له على خلقه.
لا يصلح له على عافية ولا على بلاء .. العافية تلقيه في مساخطه .. والبلاء يدفعه إلى كفرانه، وشكايته على خلقه.
والله دعاه إلى بابه فما وقف عليه، وأرسل إليه رسوله يدعوه إلى ما يسعده في دنياه وأخراه فعصاه، وحذره من عدوه الشيطان فأطاعه، ودعاه إلى دار كرامته فاشتغل عنها بدنياه.
ومع هذا لم يؤيسه من رحمته، بل قال متى جئتني قبلتك، ومتى استغفرتني غفرت لك، رحمتي سبقت غضبي، وعفوي سبق عقوبتي.
1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15].
2 - وقال الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 152].
3 - وقال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ

عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60].
4 - وقال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزُّمَر: 53].
- حق الله على العباد:
حق الله على أهل السماوات والأرض أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً.
بأن يطاع فلا يُعصى .. ويُذكر فلا يُنسى .. ويُشكر فلا يُكفر.
فهو سبحانه أحق من عُبد، وأجود من سُئل، وأرحم من ملك، وأكرم من أعطى، وأعدل من حكم، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وهو الغفور الرحيم.
فمَنْ مِنْ أهل الأرض لم يصدر منه خلاف ما خُلق له.
إما عجزاً .. وإما جهلاً .. وإما تفريطاً .. وإما غلواً .. وإما إعراضاً.
لهذا فلو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم؛ لأنهم ملكه، وهم عبيده، والمالك يتصرف في ملكه بما شاء.
ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم.
1 - قال الله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)} [النمل: 91].
2 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ، قال: فَقَالَ «يَا مُعَاذُ! تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ؟» قال قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قال: «فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أنْ يَعْبُدُوا اللهَ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَحَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أنْ لا يُعَذِّبَ

مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً» قال قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أفَلا أبَشِّرُ النَّاسَ؟ قال: «لا تُبَشِّرْهُمْ، فَيَتَّكِلُوا». متفق عليه (1).
- طريق العبودية:
الدين يقوم على أصلين عظيمين:
عبادة الله وحده لا شريك له .. وعبادته سبحانه بما شرعه رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وعبادة الله عز وجل مبنية على أصلين عظيمين:
حب كامل لله عز وجل .. وذل تام له.
وهذان الأصلان مبنيان على أصلين عظيمين:
الأول: مشاهدة منة الله، وفضله، وإحسانه، ورحمته التي توجب محبة العبد له.
الثاني: مطالعة عيب النفس، وتقصيرها، وغفلتها، وعجزها، وفقرها، وسوء عملها الذي يورث الذل التام لله عز وجل.
وأقرب باب يدخل منه العبد إلى ربه باب الافتقار إلى ربه.
فلا يرى نفسه إلا مفلساً .. ولا يرى ربه إلا ملكاً غنياً .. قادراً رحيماً .. فلا يرى لنفسه حالاً ولا مقاماً .. ولا سبباً يتعلق به .. ولا وسيلة يمنّ بها.
بل يشهد ضرورته كاملة إلى ربه عز وجل، وأنه إن تخلى عنه خسر وهلك.
1 - قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53].
2 - وقال الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 18].
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2856) , ومسلم برقم (30)، واللفظ له.

3 - وقال الله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)} [النمل: 73].
- العبادة المقبولة:
العبادة حق الله على خلقه، وفائدتها تعود عليهم.
فمن عبد الله وحده بما شرع فهو مؤمن، وعبادته مقبولة.
ومن عبد الله وحده بغير ما شرع فهو مبتدع، وعبادته مردودة.
ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو مشرك، وعبادته مردودة.
ومن عبد غير الله فهو كافر، وعبادته مردودة.
ومن عبد الله في الظاهر، وكفر به في الباطن، فهو منافق، وعبادته مردودة.
1 - قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110].
2 - قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} [الزُّمَر: 65 - 66].
3 - قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145].
4 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ». متفق عليه (1).
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2697) , ومسلم برقم (1718)، واللفظ له.

- أصول العبادة:
أصول العبادة التي أمر الله عباده بها هي:
1 - أن تكون العبادة خالصة لله عز وجل.
قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البيِّنة: 5].
2 - أن يشرعها الله عز وجل.
قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} [الجاثية: 18 - 19].
3 - أن يكون القدوة في العبادة والمبين لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} [الحشر: 7].
4 - أن تكون العبادة قائمة على محبة الله، وتعظيمه، والذل له، وخوفه ورجائه.
قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90].
5 - أن العبادة محددة بمواقيت ومقادير لا يجوز تعديها.
1 - قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)} [النساء: 103].
2 - وقال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197].
6 - أن يقوم بالعبادة من البلوغ إلى الوفاة.

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحِجر: 97 - 99].
- أحوال العباد في العبادات:
العبادات المأمور بها شرعاً لها ثلاثة أحوال:
1 - حال السابق: وهو من أتى فيها بالواجب والمستحب.
2 - حال المقتصد: وهو من أتى فيها بالواجب فقط.
3 - حال الظالم لنفسه: وهو مَنْ نقص من الواجب فيها.
والنقص من الواجب نوعان:
1 - نوع يبطل العبادة كنقص ركن من أركان الطهارة، أو الصلاة ونحوهما.
2 - ونوع لا يبطل العبادة، ولكن ينقصها، كنقص واجبات الصلاة، أو الحج، إذا تركها سهواً.
والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين:
الأول: العلم بما أنزل الله .. والثاني: القدرة على العمل به.
فأما العاجز عن العلم كالمجنون، والعاجز عن العمل كالمخرِّف فلا أمر عليه ولا نهي.
1 - قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)} [فاطر: 32 - 33].
2 - وقال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15].

3 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثلاَثٍ، عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ». أخرجه أبو داود والنسائي (1).
- أقسام الناس في الدنيا:
البشر في الدنيا أربعة أقسام:
1 - قسم خلقهم الله لعبادته وجنته، وهم الأنبياء والرسل وأتباعهم، وهؤلاء أفضل الخلق.
2 - وقسم خلقهم الله لعبادته وناره، وهم المراؤن بأعمالهم كالمنافقين.
3 - وقسم خلقهم الله لجنته لا لعبادته كمن مات وهو طفل.
4 - وقسم خلقهم الله لمعصيته وناره كإبليس وفرعون ونحوهما ممن مات كافراً.
- كمال العبودية:
1 - تكمل العبودية لله بأربعة أمور:
الأول: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
الثاني: أعمال القلوب كالمحبة والخوف والرجاء واليقين والتوكل ونحوها.
الثالث: أعمال الجوارح بامتثال أوامر الله حسب سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الرابع: حسن الخلق: مع الخالق بلزوم العبادة والطاعة، ومع المخلوق بالنصح له، والإحسان إليه.
وأشرف أهل الأرض عبوديةً الأنبياء والرسل؛ لكمال معرفتهم بالله وما يجب له.
_________
(1) صحيح، أخرجه أبو داود برقم (4398) , وأخرجه النسائي برقم (3432)، وهذا لفظه.

2 - وكل عبد يتقلب بين ثلاثة أمور:
نعم من الله تترادف عليه، فواجبه فيها الحمد والشكر.
وذنوب اقترفها، فواجبه فيها الاستغفار والتوبة.
ومصائب يبتليه الله بها، فواجبه فيها الصبر.
ومن قام بواجب هذه الثلاث فقد أكمل العبودية، وله السعادة في الدنيا والآخرة.
3 - ولله على كل عبد عبوديتان:
عبودية في السراء .. وعبودية في الضراء .. وعبودية فيما يحب .. وعبودية فيما يكره.
وأكثر الناس يعطون العبودية فيما يحبون، والشأن إعطاء العبودية في المكاره.
فالوضوء بالماء البارد في الصيف عبودية، والوضوء بالماء البارد في شدة البرد عبودية .. والصبر عن المعاصي عبودية، والصبر على الجوع عبودية، ولكن فرق بين العبوديتين.
فمن كان قائماً لله بالعبوديتين في حال السراء والضراء، وحال المحبوب والمكروه، فهو من عباد الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وليس لعدوه سلطان عليه.
4 - والله عز وجل يريد من الإنسان تكميل محبوباته وهي أوامره سبحانه، والنفس تريد من الإنسان تكميل محبوباتها وهي الشهوات.
والله يريد منا العمل للآخرة، والنفس تريد العمل للدنيا.

وكمال العبودية بحمل النفس على الإيمان والأعمال الصالحة.
وتكميل ما يحب الرب في الدنيا، ليكمل للإنسان ما يحب في الآخرة.
1 - قال الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2 - 3].
2 - وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فُصِّلَت: 30 - 32].
- أنواع العبادات:
العبادات أنواع:
1 - منها ما يتعلق بالمكان والزمان كالحج.
2 - ومنها ما يتعلق بالمكان دون الزمان كالعمرة.
3 - ومنها ما يتعلق بالزمان دون المكان كالصيام.
4 - وغالبها لا يتعلق بزمان ولا مكان كالنوافل المطلقة والصدقة، والذكر والدعاء، وتلاوة القرآن ونحو ذلك.
- صفة أداء العبادات:
الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فيجب الاعتدال في أداء العبادات، وعدم الإفراط والتفريط.
فالنفوس لها إقبال وإدبار، ونشاط وكسل، وإقدام وإحجام، ورغبات وشهوات.
فلله حقوق، وللنفس حقوق، وللغير حقوق، فيعطي كل ذي حق حقه، وتؤخذ

النفوس إذا نشطت، وتراح إذا كلّت.
1 - قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)} [البقرة: 185].
2 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ». أخرجه البخاري (1).
3 - وَعَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللهُ عَنه قالَ: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، يَسْألُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأخَّرَ، قال أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَداً، وَقَالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أتَزَوَّجُ أبَداً، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أمَا وَاللهِ إِنِّي لأخْشَاكُمْ للهِ وَأتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أصُومُ وَأفْطِرُ، وأُصَلِّي وَأرْقُدُ، وَأتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». متفق عليه (2).
4 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعِنْدِي امْرَأةٌ، فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ؟». فَقُلْتُ: امْرَأةٌ، لا تَنَامُ، تُصَلِّي. قال: «عَلَيْكُمْ مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللهِ! لا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا». وَكَانَ أحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ. متفق عليه (3).
_________
(1) أخرجه البخاري برقم (39).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5063) , واللفظ له، ومسلم برقم (1401).
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (43) , ومسلم برقم (785)، واللفظ له.

- أقسام العبودية:
العبودية نوعان:
1 - العبودية العامة: وهي عبودية أهل السماوات والأرض كلهم .. مؤمنهم وكافرهم .. بَرّهم وفاجرهم، وهي عبودية القهر والمُلْك التي لا يخرج عنها أحد.
قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 93 - 95].
2 - العبودية الخاصة: وهي عبودية الطاعة والمحبة واتباع الأمر، وهي خاصة بالمؤمنين.
قال الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزُّمَر: 17 - 18].
- أهل العبودية:
أهل العبودية المأمورين بالعبادة هم الإنس والجن.
فجميع ذرية آدم مأمورون بالعبادة، وهي واجبة عليهم.
والجن مأمورون منهيون كالإنس، لكن ما أمروا به ليس مساوياً للإنس في الحد.
لكنهم مشاركون للإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي، والإيمان والتوحيد، والتحليل والتحريم.
مؤمنهم في الجنة وكافرهم في النار.
والرسل من رجال الإنس، والجن ليس فيهم إلا نذر.

ومحمد - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى كافة الثقلين الإنس والجن.
وآدم أبو البشر، وإبليس أبو الجن، وفي هؤلاء وهؤلاء المؤمن والكافر .. والمطيع والعاصي، والسعيد والشقي.
1 - قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58].
2 - وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].
3 - وقال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} [الأحقاف: 29].
4 - وقال الله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن: 14 - 15].
- فقه العبادة:
الله عز وجل خالق كل شيء.
خَلْقه للطاعات نعمة ورحمة .. وخَلْقه للمعاصي له فيها حكمة ورحمة، وهي مع هذا عدل منه، فإن الله لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
وظلم الناس لأنفسهم نوعان:
الأول: عدم عملهم بالطاعات، فهذا ليس مضافاً إليهم.
الثاني: عملهم بالسيئات، خلقه الله عقوبة لهم على ترك الطاعات التي خلقهم لها، وأمرهم بها.
فكل نعمة منه فضل .. وكل نقمة منه عدل.

وكل ما يذكره الله في القرآن من خَلْق الكفر والمعاصي فهو جزاء على ترك تلك الطاعات كما قال سبحانه: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)} [الأنعام: 125].
ولا بد لكل عبد من حركة وإرادة، فلما لم يتحركوا بما أمروا به من الطاعات، حُركوا بالسيئات عدلاً من الله، حيث وضع ذلك في موضعه اللائق به، القابل له، وهو القلب الذي لا يكون إلا عاملاً إما بالحسنات وإما بالسيئات.
فالعبد أحدث المعصية، والله أحدث جزاءها عقوبة منه.
كما قال سبحانه: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)} [الزُّخرُف: 55 - 56].
- منازل العبودية:
عبادة الله عز وجل تقوم على أصلين:
عبودية القلوب .. وعبودية الجوارح .. وكل منهما درجات.
فعبودية القلوب:
منها مهابة الجبار جل جلاله أفضل من المحبة؛ لأن المهابة نشأت عن معرفة جلال الرب وعظمته وكبريائه.
ثم يليها محبة الله عز وجل الناشئة عن معرفة إنعام الرب وإفضاله، وبره وإحسانه.
ثم التوكل عليه سبحانه؛ لأن منشأه ملاحظة توحد الرب جل جلاله بالخلق والتدبير والتصريف.

ثم الخوف والرجاء؛ لأنهما نشآ عن ملاحظة الخير والشر، والثواب والعقاب، وتعلقهما بهما.
وقد شرفا من جهة معرفة قدرة الله عليهما، إذ لا يرجى من يعجز عن الخير، ولا يُخاف من لا يقدر على الضير.
قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزُّمَر: 67].
- فقه العبودية:
كل مخلوق فقير إلى الله في جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره.
والله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم.
يعطيهم في الدنيا أعظم شيء وهو الإيمان به، ويعطيهم في الآخرة أعظم شيء وهو النظر إليه عز وجل.
وليس في الوجود ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به إلا الله سبحانه.
وحاجة القلوب إلى الإيمان أعظم من حاجة الأجساد للطعام.
ذلك أن الإيمان بالله وعبادته ومحبته هو غذاء القلوب، وزاد الإنسان وقُوْته، وصلاحه وقوامه.
فليست عبادة الله تكليف ومشقة لأجل الاختبار فقط، ولا لأجل التعويض بالأجرة فقط.
وإنما المقصود الأول والأهم إرادة وجه الله عز وجل، والتوجه إليه وحده؛ لأنه الإله الحق الذي تألهه القلوب، وتطمئن إليه.

فجميع أوامر الله عز وجل قرة العيون، وسرور القلوب، ولذة الأرواح.
والمخلوق كله ليس بيده شيء، وليس عنده لنفسه ولا لغيره نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، بل ذلك كله بيد الذي خلقه.
وتعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه، ومن أحب غير الله حباً تاماً فلا بد أن يسأمه أو يفارقه.
ومن أحب شيئاً لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه، ويكون سبباً لعذابه في الدنيا والآخرة، والضرر حاصل له إن وَجد أو فَقد.
فإن وجد حصل له من الألم أكثر من اللذة، وإن فقد تعذب بالفراق وتألم.
والخلق كلهم لن ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، ولن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك.
ولن ينفعوك أو يضرك إلا بإذن الله فلا تعلق بهم رجاءك، والعابد حقاً من جمع في عبادته بين المشهدين:
الأمر الشرعي .. والأمر الكوني، وعلى هذين المشهدين مدار الدين.
فإن العبد إذا شهد عبوديته لربه، لم يكن مستبغضاً لأمر سيده، لا يغيب بعبادته عن معبوده، ولا يغيب بمعبوده عن عبادته.
بل يكون له عينان مبصرتان، ينظر بأحدهما إلى معبوده كأنه يراه، وينظر بالأخرى إلى أمر سيده، فيوقعه على الوجه الشرعي الذي يحبه مولاه ويرضاه.
وتلك عبادة الرسل، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم التعبد بها.
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ

إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} [النساء: 125].
- أكمل الناس عبادة:
أكمل الناس عبادة الأنبياء والرسل؛ لأنهم أكملهم معرفة بالله من غيرهم، وأعلمهم به وبأسمائه وصفاته وأفعاله.
ثم زادهم الله فضلاً بإرسالهم إلى الناس، فصار لهم فضل الرسالة، وفضل العبودية الخاصة.
ثم يليهم الصديقون الذين كمل تصديقهم لله ورسوله، واستقاموا على أمره.
ثم الشهداء الذين شهدوا للدين أنه الحق، وبذلوا أنفسهم في سبيله، ثم الصالحون الذين طابت أعمالهم، وحسنت أخلاقهم، وصلحت سرائرهم وعلانيتهم.
1 - قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69 - 70].
2 - وقال الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)} [الأنبياء: 73].
- العوائق التي تعوق القلب عن سيره إلى الله:
الذي يعوق القلب عن سيره إلى الله ثلاثة:
الشرك .. والبدعة .. والمعصية.
فيزول الشرك بتحقيق التوحيد .. وتزول البدعة بتحقيق السنة .. وتزول المعصية بتحقيق التوبة.

قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110].
T.H.E

T.H.E

الأستاذ /طارق العقيلي. يتم التشغيل بواسطة Blogger.