أخبار الإنترنت
recent

الشرك 3

الوجه الثاني: التوسل إلى الله تعالى بجاه فلان, أو حقه, أو حرمته وما أشبه
أما التوسل إلى الله تعالى: بجاه أو بحرمة المتوسل به .. فهذا عمل لم يشرعه الله ولم يبلغه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أمر به، ولا حض عليه، ولم يصل إلينا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم.
وإننا نوجه سؤالاً للذين يستحلون هذا النوع من التوسل فنقول:
إن هذا الذي تسألون الله بجاهه أو بحرمته عنده، كيف تكون له هذا الجاه والحرمة، وتلك المنزلة الطيبة عنده سبحانه؟ أليس هذا كله، من طاعته لربه وتنفيذه لأوامره، وتركه لنواهيه، وفعله الخيرات، وجهاده في سبيل الله, ونشره الدعوة بين الناس، وصبره على الأذى في سبيلها ... ؟ أليس كذلك ... ؟ ولولا أن يفعل هذا ... ما كان له ذلك الجاه ولا الحرمة ولا تلك المنزلة العالية. فإذا كان الأمر كذلك ... فهل لكم من أعماله تلك أي سهم أو نصيب ... ؟ ستقولون: لا ... إن عمله له وليس لأحد أي نصيب منه، فأقول: هذا هو القول الحق بارك الله فيكم, فما دمتم تعلمون أن كل هذه المكانة والحرمة متأتية له من سعيه، ومتأكدون أن سعيه له، وليس لكم فيه من حق ... فكيف إذاً تتوسلون إلى الله بجاه لا تملكونه، وحرمة ليس لكم فيها أية علاقة، ومكانة اختصه الله بها وليس لكم منها مثقال ذرة ... ؟ والله سبحانه وتعالى قرر في كتاب العزيز: وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى [النجم: 39 - 40].
إذاً فالذي ليس من سعيكم ليس لكم فيه من نصيب ... فتوسلكم بجاهه, أو بحرمته, أو منزلته مخالف لما قال سبحانه من الآية المتقدمة، وليس لكم أن تفعلوا ذلك.
وبناء على ما تقدم، فإن كل توسل إلى الله بما لم يشرع ... غير مقبول ومردود .. لأنه ليس مطابقاً لما أمر الله وشرع. هذا عدا عن أن مخالفة أمر الله يترتب عليها عقاب, لأن مخالفة أمر الله ذنب، ولكل ذنب عقاب.
فما رأيكم بعمل تعملونه ... وتظنون أنه قربى إلى الله وفي الواقع ليس هو قربى ... بل ذنب يستحق أن تتوبوا منه أو تعاقبوا عليه ... فلا أنتم منه تتوبون أو تستغفرون، ولا أنتم عنه راجعون، فتكررون الذنب ولا تستغفرون, ويتراكم ولا تشعرون, وتحسبون أنكم بعملكم هذا تحسنون صنعاً ... !!!
فأطعتم الشيطان ... ! وعصيتم الرحمن!!! ولكن بعد أن وضح الحق ... هل أنتم منتهون؟
وإذا كان هناك رجال صالحون، قبضهم الله إليه، ومضوا إلى ما عملوا من خير وصلاح ... فهم – إن شاء الله – في بحبوحة من رحمة الله ومغفرته، ورحاب فسيحة من رضاه وعفوه وكرمه، فليس لأحد أن يتوسل إلى الله بصلاحهم ... لأن صلاحهم من سعيهم، لا من سعي المتوسلين بهم.
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله:
(ليس لأحد أن يدل على الله بصلاح سلفه، فإنه ليس صلاحهم من عمله الذي يستحق به الجزاء، كأهل الغار الثلاثة، فأنهم لم يتوسلوا إلى الله بصلاح سلفهم، وإنما توسلوا إلى الله بأعمالهم) اهـ.
ولماذا لا تعملون صالحاً كما عملوا .. وتتوسلون بأعمالكم الصالحة كما توسلوا .. فتكتب لكم في صحائفكم، وتتقربون بها إلى الله وتتوسلون، كما فعل السلف الصالح ممن سبقكم ... أما سمعتم الشاعر يقول:
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوماً على الآباء نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني، ونفعل مثلما فعلوا
وقال شارح العقيدة الطحاوية رحمه الله:
(ولا مناسبة بين ذلك –أي صلاح المتوسل به- وبين استجابة الدعاء، فكأن المتوسل يقول: لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعاي! وأي مناسبة في هذا ... وأي ملازمة؟ وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء وقد قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ [الأعراف: 55].
وهذا ... ونحوه من الأدعية المبتدعة. ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين، ولا عن الأئمة رضي الله عنهم أجمعين، وإنما يوجد مثل هذا .. في الحروز والهياكل – أي التمائم – التي يكتب بها الجهال والطرقية, والدعاء من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على السنة والإتباع، لا على الهوى والابتداع).

الوجه الثالث: الإقسام على الله جل وعلا بالمتوسل به
الأصل في القسم أو الحلف، أن يكون بالله تعالى، لأنه عبادة، ومعلوم أن العبادة لا يجوز أن تصرف إلا لله عز وجل، ولذا فإنه لا يجوز القسم أو الحلف بغيره سبحانه. وقد ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)) (1) وفي لفظ: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححوه (2). فإذا فهم هذا ... فيتعين أنه لا يجوز الحلف بمخلوق على مخلوق، فكيف يجوز الحلف بالمخلوق على الخالق .. !؟ كأن يقول مثلاً: اللهم إني أقسمت عليك بفلان أو أسألك بحق فلان أن تقضي حاجتي ...
قد يتأثر المخلوق إذا أقسمت عليه بعظيم أو مكرم لديه ... فيتحول عن عزمه الذي كان عازماً على فعله ... إلى مرادك الذي أقسمت عليه بأن يلتزم به ... أما الله سبحانه، فلا أحد يستطيع أن يحول مراده أو يؤثر عليه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً: وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون: 88]. أي هو السيد العظيم الذي لا أعظم منه أحد الذي له الخلق والأمر، ولا معقب لحكمه، الذي لا يمانع ولا يخالف، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. فمن كان هذا شأنه، كيف تقسم عليه بمخلوق؟ ألا إن شأن الله أعظم من ذلك، وإن الله تعالى جده وتقدست أسماؤه، وجلت صفاته، هو الذي يقسم به على مخلوقاته، لا أن يقسم عليه بمخلوقاته.
ألا ترى معي يا أخي المسلم، أن الإقسام على الله بمخلوقاته ليس شركاً فحسب .. بل هو تقرب إلى الله بالشرك به ... !!! والمفروض بالتقرب ... أن يكون بشيء يرضي المتقرب منه ... ولا يفكر عاقل بأن يتقرب إلى أحد بما يكره. وإن هؤلاء الذين يقسمون على الله بمخلوقاته يتقربون إلى ربهم بذلك .. والله سبحانه لا يرضيه أن يشرك به عباده ... فضلاً عن أن يتقربوا إليه بهذا الشرك وما أدري إذا كان هؤلاء يدرون ما يفعلون أو لا يدرون ... !!!؟
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ثم نسأل: إذا كان الحلف عبادة ... هل المحلوف به أعظم، أم المحلوف عليه أعظم ... ؟ سيقولون بل المحلوف به أعظم ... فإذا كان المحلوف به أعظم فعندما نحلف على الله بأحد خلقه ... من يكون هنا المحلوف عليه ... ؟!!! سيقولون: المحلوف به هو المخلوق والمحلوف عليه هو الله الخالق. فنقول: أرأيتم كيف جعلتم المخلوق أعظم عندكم من الخالق ... ؟!!! نعوذ بالله من الشرك والكفر وسوء المنقلب في الدنيا والآخرة.
_________
(1) رواه البخاري (6646).
(2) رواه أبو داود (3251) والترمذي (1535) وأحمد (2/ 125) (6073) وابن حبان (10/ 199) والحاكم (4/ 330) من حديث عبد الله بن عمر, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي هذا حديث حسن, وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي, وصححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 459) وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).

أرأيت يا أخي المسلم كيف يستولي الشيطان على هؤلاء فيريهم الحق باطلاً والباطل حقاً ... ؟ أرأيت يا أخي إلى أية هاوية يريد الشيطان أن يرديهم فيها.؟ ترى هل شعروا بهمز الشيطان ونفخة ونفثه يسري في كيانهم كما يسري السم في الجسد ... ؟ وهل سيظلون هكذا طائعين منقادين كالأنعام إلى جهنم وبئس المصير ... أسيظلون هكذا ... أم يفلتون من حبال عدوهم ويهربون إلى ربهم تائبين منيبين إليه، يذرفون دموع الندم ويرجون من الله رحمة ومغفرة ... والله إن فعلوا ... لوجدوا الله تواباً رحيماً. فبادروا يا رعاكم الله إلى كنف التواب الرحيم، تلقوا عفوه وكرمه ورضوانه رغم ما أسلفتم من الذنوب والآثام قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزُّمر: 53]. وإن الكريم سبحانه لا يغفر ذنوبكم فحسب بل يبدلها حسنات، وهذا جزاء التائبين المستغفرين المؤمنين العاملين. اسمعوا قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 70]. وقد أنحى العلماء باللائمة على من يقسم بالمخلوق، وأقاموا النكير عليه, وحذروا منه أشد التحذير، لما فيه من المساس بالألوهية والعياذ بالله تعالى.
قال شارح العقيدة الطحاوية:
(وإن الإقسام على الله بحق فلان، فذلك محذور، لأن الإقسام بالمخلوق لا يجوز فكيف على الخالق؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) (1) ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم: يكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام، والمشعر الحرام، ونحو ذلك. حتى كره أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما، أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك ولم يكرهه أبو يوسف رحمه الله لما بلغه الأثر فيه (2) , كما أن القول بجاه فلان عندك, أو نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك. ومراده أن فلاناً عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة فأجب دعاءنا. وهذا أيضاً محذور فإنه لو كان هذا، هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه بعد موته. وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم، وهم يؤمنون على دعائه، كما في الاستسقاء وغيره. فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر رضي الله عنه – لما خرجوا يستسقون -: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا. معناه: بدعائه الله لنا، وشفاعته عنده، وليس المراد أنا نقسم عليك به, أو نسألك بجاهه عندك, إذ لو كان ذلك مراداً، لكان جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس). اهـ
ويروى ... أن داود عليه السلام قال: ((اللهم إني أسألك بحق آبائي عليك, فأوحى إليه: وما حق آبائك علي؟)) (3).
وقال أبو الحسن القدوري في شرح كتاب الكرخي:
_________
(1) رواه أبو داود (3251)، والترمذي (1535) واللفظ له، وأحمد (2/ 125) (6072). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حديث حسن. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (735) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وأحمد شاكر في ((المسند)) (8/ 222). وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.
(2) قال الزيلعي في ((نصب الراية)) (4/ 273) هو حديث مرفوع موضوع.
(3) قيل إنه ضعيف وقد رويناه بصيغة التمريض للدلالة على ضعفه، وذكرناه اسئناسا للمناسبة مع بيان ضعفه.

(قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: (لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: أسألك بمعاقد العز من عرشك. وأن يقول: بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام) قال أبو الحسن: أما المسألة بغير الله، فمنكرة لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق له على خلقه). وفي قوله له: (المسألة بخلقه لا تجوز: لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، فلا يجوز، يعني: وفاقاً).
وقال ابن بلدجي في شرح المختار: (ويكره أن يدعو الله إلا به. ولا يقول: أسألك بملائكتك أو أنبيائك، أو نحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على خالقه).
وقال نعمان خير الدين الحنفي في (جلا العينين) وذكر العلائي في شرح التنوير عن التتارخانية: أن أبا حنيفة قال: (لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به). وجميع متون الحنفية أن قول الداعي المتوسل بحق الأنبياء والأولياء وبحق البيت الحرام، مكروه كراهة تحريم، وهي كالحرام في العقوبة بالنار اهـ. التوصل إلى حقيقة التوسل المشروع والممنوع لمحمد نسيب الرفاعي - بتصرف – ص: 186
وللتوسل غير المشروع (البدعي) صور متعددة، ومنها:
1 - التوسل إلى الله بدعاء الموتى أو الغائبين، والاستغاثة بهم ونحو ذلك، فهذا شرك أكبر مخرج عن ملة الإسلام مناف للتوحيد.
2 - التوسل إلى الله بفعل الطاعات عند قبور الموتى ومشاهدهم، والبناء عليهم، وسترها، والدعاء عندها، فهذا شرك أصغر مناف لكمال التوحيد الواجب.
3 - التوسل إلى الله بمنزلة الصالحين، ومكانتهم عند الله؛ وهو محرم لأن عملهم ينفعهم هم، كما قال تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)). (1).
ومكانتهم تنفعهم هم، والله لا يقاس على خلقه، فإن رضاه عن عبد لا يحتاج فيه إلى الوسائط، وغضبه عليه لا تنفع فيه الوسائط، وإنما يكون ذلك في حق المخلوق لما في قبول الوسائط من منافع تعود إليهم؛ لكونهم شركاء لبعضهم في المنافع والأمور، ولذا فإن الصحابة عدلوا عن التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته إلى العباس ليدعو لهم, ولو كان ذلك جائزاً بعد موته لكان التوسل به أولى، وعدولهم دليل على أن المستقر عندهم عدم جوازه مع أن مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يبلغها أحد، وإنما أتي من أجاز التوسل بالمكانة والمنزلة عند الله من حيث قاس الله على الخلق.
وأما حديث الأعمى الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم اللهم إني أتوسل بك يا محمد إلى ربك.
فإن ذلك طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو له؛ ولذا قال له الرسول صلى الله عليه وسلم قل: ((اللهم شفعه في)) وهذا على فرض صحته وإلا فإن هذا الحديث منقطع السند.
وأما ((توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم)) فهو حديث موضوع.
ذكر ذلك ابن الجوزي, وابن تيمية, والشوكاني وغيرهم من أهل العلم، وبذا يعلم حرمة الدعاء بقول بعضهم أسألك بجاه فلان.
4 - التوسل بذوات الصالحين كقول بعضهم (أسألك بمحمد) وهذا اللفظ بدعي محرم، وهو محتمل لمعان كلها فاسدة غير مشروعة وهي:
أ- أن يقصد التوسل بالمكانة والمنزلة.
ب- أن يريد الإقسام به على الله, والحلف بغير الله محرم وهو من الشرك الأصغر.
ج- أن يريد أن يكون واسطة بين الله وعبده في جلب منفعة أو دفع ضر، وهذا شرك المشركين، وهو شرك أكبر مخرج عن ملة الإسلام. قال تعالى عن المشركين: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى.
_________
(1) رواه مسلم (1631).

د- أن يقصد التبرك بذكر هذا اللفظ وهو أيضاً محرم لاحتماله المقاصد المتقدمة من جهة، ولكونه ليس مأخوذاً به شرعاً فيفعل، بل إن الصحابة لم يفعلوه، وهكذا من بعدهم من التابعين وتابعيهم, مما يدل على أنه بدعة محدثة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (1). وقال: ((وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)). المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم بن محمد البريكان– ص: 165
ومما يدل على بدعيته أيضا أن الأدعية الواردة في القرآن الكريم وهي كثيرة، لا نجد في شيء منها التوسل بالجاه أو الحرمة أو الحق أو المكانة لشيء من المخلوقات، وهاك بعض الأدعية الكريمة على سبيل المثال: يقول ربنا جل شأنه معلماً إيانا ما ندعو به ومرشداً: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 286] ويقول: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201] ويقول: فَقَالُواْ عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85 - 86] ويقول: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ، إلى قوله رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم: 35 - 41] ويقول على لسان موسى عليه السلام: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه: 25 - 28] ويقول سبحانه: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان: 65] , إلى آخر ما هنالك من الأدعية القرآنية الكريمة، وبعضها مما يعلمنا الله تعالى أن ندعو به ابتداء، وبعضها مما يحكيه سبحانه عن بعض أنبيائه ورسله، أو بعض عباده وأوليائه، وواضح أنه ليس في شيء منها ذاك التوسل المبتدع الذي يدندن حوله المتعصبون، ويخاصم فيه المخالفون.
وإذا انتقلنا إلى السنة الشريفة لنطلع منها على أدعية النبي صلى الله عليه وسلم التي ارتضاها الله تعالى له، وعلمه إياها، وأرشدنا إلى فضلها وحسنها، نراها مطابقة لما في أدعية القرآن السالفة من حيث خلوها من التوسل المبتدع المشار إليه، وهاك بعض تلك الأدعية النبوية المختارة:
_________
(1) رواه البخاري (2697) , ومسلم (1718).

فمنها دعاء الاستخارة المشهور الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه أصحابه إذا هموا بأمر كما كان يعلمهم القرآن، وهو: ((اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، وعاجله وآجله، فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، وعاجله وآجله، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به)) (1).
ومنها: ((اللهم أصلح لي ديني، الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر)) (2) و: ((اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي ... )) (3) و: ((اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى)) (4) و: ((اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك)) (5) و: ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمد نعوذ بك من النار)) (6). ومثل هذه الأدعية في السنة كثير، ولا نجد فيها دعاء واحداً ثابتاً فيه شيء من التوسل المبتدع الذي يستعمله المخالفون.
ومن الغريب حقاً أنك ترى هؤلاء يعرضون عن أنواع التوسل المشروعة السابقة.
فلا يكادون يستعملون شيئاً منها في دعائهم أو تعليمهم الناس مع ثبوتها في الكتاب والسنة وإجماع الأمة عليها، وتراهم بدلاً من ذلك يعمدون إلى أدعية اخترعوها، وتوسلات ابتدعوها لم يشرعها الله عز وجل، ولم يستعملها رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عن سلف هذه الأمة من أصحاب القرون الثلاثة الفاضلة، وأقل ما يقال فيها: إنها مختلف فيها، فما أجدرهم بقوله تبارك وتعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ َ خَيْرٌ [البقرة:61].
ولعل هذا أحد الشواهد العملية التي تؤكد صدق التابعي الجليل حسان بن عطية المحاربي رحمه الله حيث قال: (ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سننهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة) (7).
هذا ولم ننفرد نحن بإنكار تلك التوسلات المبتدعة، بل سبقنا إلى إنكارها كبار الأئمة والعلماء، وتقرر ذلك في بعض المذاهب المتبعة، ألا وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، فقد جاء في (الدر المختار) (2/ 630) – وهو من أشهر كتب الحنفية – ما نصه:
_________
(1) [3735])) رواه البخاري (1162).
(2) [3736])) رواه مسلم (2720).
(3) رواه النسائي (3/ 55) وأحمد (4/ 264) وابن حبان (5/ 304) والحاكم (1/ 705) وأبو يعلى (3/ 195) من حديث عمار بن ياسر, قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 177): رجاله ثقات إلا أن عطاء بن السائب اختلط, وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1301).
(4) [3738])) رواه مسلم (2721).
(5) [3739])) رواه الترمذي (3502) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 107) من حديث عبد الله بن عمر, قال الترمذي هذا حديث حسن غريب, وقال الشوكاني في ((تحفة الذاكرين)) (482): غاية رتبة هذا الحديث أن يكون حسنا, وحسنه الألباني في ((صحيح الترمذي)).
(6) [3740])) رواه الطبراني (1/ 195) والحاكم (3/ 721) من حديث أسامة بن عمير, والحديث سكت عليه الحاكم والذهبي, وقال ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/ 373): حسن وله شاهد, وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1304).
(7) [3741])) رواه الدارمي (1/ 58) , واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 93).

(عن أبي حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، والدعاء المأذون فيه، المأمور به.
ما استفيد من قوله تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180]).
ونحوه في (الفتاوى الهندية) (5/ 280). وقال القُدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى بـ (شرح الكرخي) في (باب الكراهة): (قال بشر بن الوليد حدثنا أبو يوسف قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك، وهو قول أبي يوسف، قال أبو يوسف: معقد العز من عرشه هو الله، فلا أكره هذا، وأكره أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام، قال القُدوري: المسألة بخلقه لا تجوز لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا تجوز وفاقاً). نقله شيخ الإسلام في (القاعدة الجليلة) وقال الزبيدي في (شرح الإحياء) (2/ 285): (كره أبو حنيفة وصاحباه أن يقول الرجل: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، أو بحق البيت الحرام والمشعر الحرام، ونحو ذلك، إذ ليس لأحد على الله حق، وكذلك كره أبو حنيفة ومحمد أن يقول الداعي: ((اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك)) (1)، وأجازه أبو يوسف لما بلغه الأثر فيه).
أقول: لكن الأثر المشار إليه باطل لا يصح، رواه ابن الجوزي في (الموضوعات) وقال: (هذا حديث موضوع بلا شك)، وأقره الحافظ الزيلعي في (نصب الراية) (2) فلا يحتج به، وإن كان قول القائل: (أسألك بمعاقد العز من عرشك) يعود إلى التوسل بصفة من صفات الله عز وجل، فهو توسل مشروع بأدلة أخرى كما سبق، تغني عن هذا الحديث الموضوع. قال ابن الأثير رحمه الله: (أسألك بمعاقد العز من عرشك، أي بالخصال التي استحق بها العرش العز، أو بمواضع انعقادها منه، وحقيقة معناه: بعز عرشك، وأصحاب أبي حنيفة يكرهون هذا اللفظ من الدعاء).
فعلى الوجه الأول من هذا الشرح، وهو الخصال التي استحق بها العرش العز، يكون توسلاً بصفة من صفات الله تعالى فيكون جائزاً، وأما على الوجه الثاني الذي هو مواضع انعقاد العز من العرش، فهو توسل بمخلوق فيكون غير جائز، وعلى كلٍ فالحديث لا يستحق زيادة في البحث والتأويل لعدم ثبوته، فنكتفي بما سبق. التوسل أنواعه وأحكامه لمحمد ناصر الدين الألباني – ص 34
- والذي قاله أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء - من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق، لا بحق الأنبياء ولا غير ذلك - يتضمن شيئين:
- أحدهما: الإقسام على الله سبحانه وتعالى به، وهذا منهيٌّ عنه عند جماهير العلماء كما تقدم، كما ينهى أن يقسم على الله بالكعبة والمشاعر باتفاق العلماء.
- والثاني: السؤال به، فهذا يجوزه طائفة من الناس، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف، وهو موجود في دعاء كثير من الناس، لكنَّ ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله ضعيفٌ بل موضوع، وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة، إلا حديث الأعمى الذي علَّمه أن يقول: ((أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة)) (3) .. قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية– ص114
_________
(1) [3742])) والحديث رواه الطبراني (25/ 12) والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (1/ 324) من حديث قيلة بنت مخرمة رضي الله عنها, قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 83): إسناده حسن, وروى البيهقي في ((كتاب الدعوات الكبير)) (1/ 424) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحوه, قال ابن الجوزي في ((الموضوعات)) (2/ 464): موضوع بلا شك, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 328): (فيه) عامر بن خداش هذا هو النيسابوري قال شيخنا الحافظ أبو الحسن كان صاحب مناكير وقد تفرد به عن عمر بن هارون البلخي وهو متروك متهم, وقال السخاوي في ((القول البديع)) (329): سنده واه بمرة, وقال الشوكاني في ((تحفة الذاكرين)) (233): موضوع, وقال الألباني في ((ضعيف الترغيب)) (418): موضوع.
(2) [3743])) انظر ((نصب الراية)) (4/ 338).
(3) [3744])) رواه الترمذي (3578) وابن ماجه (1385) وأحمد (4/ 138) (17279) والطبراني (9/ 30) وابن خزيمة في ((صحيحه)) (2/ 225) وعبد بن حميد (1/ 147) من حديث عثمان بن حنيف, قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وقال الشوكاني في ((تحفة الذاكرين)) (230): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

ثانيا: شبهات حول التوسل وردها
الشبهة الأولى: حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما:
يحتجون على جواز التوسل بجاه الأشخاص وحرمتهم وحقهم بحديث أنس رضي الله عنه قال: ((أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قَحَطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون)) (1).
فيفهمون من هذا الحديث أن توسل عمر رضي الله عنه إنما كان بجاه العباس رضي الله عنه، ومكانته عند الله سبحانه، وأن توسله كأنه مجرد ذكر منه للعباس في دعائه، وطلب منه لله أن يسقيهم من أجله، وقد أقره الصحابة على ذلك، فأفاد بزعمهم ما يدعون.
وأما سبب عدول عمر رضي الله عنه عن التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم - بزعمهم – وتوسله بدلاً منه بالعباس رضي الله عنه، فإنما كان لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل ليس غير.
وفهمهم هذا خاطئ، وتفسيرهم هذا مردود من وجوه كثيرة أهمها:
1 – إن القواعد المهمة في الشريعة الإسلامية أن النصوص الشرعية يفسر بعضها بعضاً، ولا يفهم شيء منها في موضوع ما بمعزل عن بقية النصوص الواردة فيه. وبناء على ذلك فحديث توسل عمر السابق إنما يفهم على ضوء ما ثبت من الروايات والأحاديث الواردة في التوسل بعد جمعها وتحقيقها، ونحن والمخالفون متفقون على أن في كلام عمر: ((كنا نتوسل إليك بنبينا .. وإنا نتوسل إليك بعم نبينا)) شيئاً محذوفاً، لا بد له من تقدير، وهذا التقدير إما أن يكون: (كنا نتوسل بـ (جاه) نبينا، وإنا نتوسل إليك بـ (جاه) عم نبينا) على رأيهم هم، أو يكون: (كنا نتوسل إليك بـ (دعاء) نبينا، وإنا نتوسل إليك بـ (دعاء) عم نبينا) على رأينا نحن.
ولا بد من الأخذ بواحد من هذين التقديرين ليفهم الكلام بوضوح وجلاء.
ولنعرف أي التقديرين صواب لا بد من اللجوء إلى السنة، لتبين لنا طريقة توسل الصحابة الكرام بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ترى هل كانوا إذا أجدبوا وقحَطوا قبع كل منهم في داره، أو مكان آخر، أو اجتمعوا دون أن يكون معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعوا ربهم قائلين: (اللهم بنبيك محمد، وحرمته عندك، ومكانته لديك اسقنا الغيث). مثلاً أم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ذاته فعلاً، ويطلبون منه أن يدعو الله تعالى لهم، فيحقق صلى الله عليه وسلم طلْبتهم، ويدعو ربه سبحانه، ويتضرع إليه حتى يسقوا؟
أما الأمر الأول فلا وجود له إطلاقاً في السنة النبوية الشريفة، وفي عمل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ولا يستطيع أحد من الخلفيين أو الطُّرُقيين أن يأتي بدليل يثبت أن طريقة توسلهم كانت بأن يذكروا في أدعيتهم اسم النبي صلى الله عليه وسلم، ويطلبوا من الله بحقه وقدره عنده ما يريدون. بل الذي نجده بكثرة، وتطفح به كتب السنة هو الأمر الثاني، إذ تبين أن طريقة توسل الأصحاب الكرام بالنبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت إذا رغبوا في قضاء حاجة، أو كشف نازلة أن يذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم، ويطلبوا منه مباشرة أن يدعو لهم ربه، أي أنهم كانوا يتوسلون إلى الله تعالى بدعاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليس غير.
ويرشد إلى ذلك قوله تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا [النساء:64].
_________
(1) [3745])) رواه البخاري (1010).

ومن أمثلة ذلك ما مر معنا في حديث أنس السابق الذي ذكر فيه مجيء الأعرابي إلى المسجد يوم الجمعة حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، وعرضه له ضنك حالهم، وجدب أرضهم، وهلاك ماشيتهم، وطلبه منه أن يدعو الله سبحانه لينقذهم مما هم فيه، فاستجاب له صلى الله عليه وسلم، وهو الذي وصفه ربه بقوله: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]، فدعا صلى الله عليه وسلم لهم ربه، واستجاب سبحانه دعاء نبيه، ورحم عباده ونشر رحمته، وأحيا بلدهم الميت.
ومن ذلك أيضاً مجيء الأعرابي السابق نفسه أو غيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الجمعة الثانية، وشكواه له انقطاع الطرقات وتهدم البنيان، وهلاك المواشي، وطلبه منه أن يدعو لهم ربه، ليمسك عنهم الأمطار، وفعل صلى الله عليه وسلم فاستجاب له ربه جل شأنه أيضاً.
ومن ذلك ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت: ((شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه. قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله، ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم ... )) الحديث، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم دعا الله سبحانه، وصلى بالناس، فأغاثهم الله تعالى حتى سالت السيول، وانطلقوا إلى بيوتهم مسرعين، فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: ((أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله)) (1).
فهذه الأحاديث وأمثالها مما وقع زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن أصحابه الكرام رضوان الله عليهم تُبين بما لا يقبل الجدال أو المماراة أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بالصالحين الذي كان عليه السلف الصالح هو مجيء المتوسل إلى المتوسل به، وعرضه حاله له، وطلبه منه أن يدعو له الله سبحانه، ليحقق طلبه، فيستجيب هذا له، ويستجيب من ثم الله سبحانه وتعالى.
2 – وهذا الذي بيناه من معنى الوسيلة هو المعهود في حياة الناس واستعمالهم، فإنه إذا كانت لإنسان حاجة ما عند مدير أو رئيس أو موظف مثلاً، فإنه يبحث عمن يعرفه ثم يذهب إليه ويكلمه، ويعرض له حاجته فيفعل، وينقل هذا الوسيط رغبته إلى الشخص المسؤول، فيقضيها له غالباً. فهذا هو التوسل المعروف عند العرب منذ القديم، وما يزال، فإذا قال أحدهم: إني توسلت إلى فلان، فإنما يعني أنه ذهب إلى الثاني وكلمه في حاجته، ليحدث بها الأول، ويطلب منه قضاءها، ولا يفهم أحد من ذلك أنه ذهب إلى الأول وقال له: بحق فلان (الوسيط) عندك، ومنزلته لديك اقض لي حاجتي.
وهكذا فالتوسل إلى الله عز وجل بالرجل الصالح ليس معناه التوسل بذاته وبجاهه وبحقه، بل هو التوسل بدعائه وتضرعه واستغاثته به سبحانه وتعالى، وهذا هو بالتالي معنى قول عمر رضي الله عنه: ((اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا)) (2) , أي: كنا إذا قل المطر مثلاً نذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونطلب منه أن يدعو لنا الله جل شأنه.
_________
(1) [3746])) رواه أبو داود (1173) والحاكم (1/ 476) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (3/ 349) قال أبو داود وهذا حديث غريب إسناده جيد, وقال النووي في ((الأذكار)) (230): إسناده صحيح, وصححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/ 151) وقال ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (143): إسناده جيد, وحسنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).
(2) [3747])) رواه البخاري (1010).

3 – ويؤكد هذا ويوضحه تمام قول عمر رضي الله عنه: ((وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا))، أي إننا بعد وفاة نبينا جئنا بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وطلبنا منه أن يدعو لنا ربنا سبحانه ليغيثنا.
تُرى لماذا عدل عمر رضي الله عنه عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس رضي الله عنه، مع العلم أن العباس مهما كان شأنه ومقامه فإنه لا يذكر أمام شأن النبي صلى الله عليه وسلم ومقامه؟
أما الجواب برأينا فهو: لأن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم غير ممكن بعد وفاته، فأنى لهم أن يذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم ويشرحوا له حالهم، ويطلبوا منه أن يدعو لهم، ويؤمنوا على دعائه، وهو قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، وأضحى في حال يختلف عن حال الدنيا وظروفها مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فأنى لهم أن يحظوا بدعائه صلى الله عليه وسلم وشفاعته فيهم، وبينهم وبينه كما قال الله عز شأنه:
وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].
ولذلك لجأ عمر رضي الله عنه، وهو العربي الأصيل الذي صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولازمه في أكثر أحواله، وعرفه حق المعرفة، وفهم دينه حق الفهم، ووافقه القرآن في مواضع عدة، لجأ إلى توسل ممكن فاختار العباس رضي الله عنه، لقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية، ولصلاحه ودينه وتقواه من ناحية أخرى، وطلب منه أن يدعو لهم بالغيث والسقيا. وما كان لعمر ولا لغير عمر أن يدع التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويلجأ إلى التوسل بالعباس أو غيره لو كان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ممكناً، وما كان من المعقول أن يقر الصحابة رضوان الله عليهم عمر على ذلك أبداً، لأن الانصراف عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بغيره ما هو إلا كالانصراف عن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة إلى الاقتداء بغيره، سواء بسواء، ذلك أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يعرفون قدر نبيهم صلى الله عليه وسلم ومكانته وفضله معرفة لا يدانيهم فيها أحد، كما نرى ذلك واضحاً في الحديث الذي رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر، فقال: أتصلي بالناس، فأقيم؟ قال: فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس التصفيق التفت، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه، فحمد الله عز وجل على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ثم انصرف، فقال: يا أبا بكر: ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ قال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم)). (1).
_________
(1) [3748])) رواه البخاري (684). ومسلم (421).

فأنت ترى أن الصحابة رضي الله عنهم لم يستسيغوا الاستمرار على الاقتداء بأبي بكر رضي الله عنه في صلاته عندما حضر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن أبا بكر رضي الله عنه لم تطاوعه نفسه على الثبات في مكانه مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، لماذا؟ كل ذلك لتعظيمهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، وتأدبهم معه، ومعرفتهم حقه وفضله، فإذا كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لم يرتضوا الاقتداء بغير النبي صلى الله عليه وسلم عندما أمكن ذلك، مع أنهم كانوا بدءوا الصلاة في غيابه صلى الله عليه وسلم عنهم، فكيف يتركون التوسل به صلى الله عليه وسلم أيضاً بعد وفاته، لو كان ذلك ممكناً، ويلجئون إلى التوسل بغيره؟ وكما لم يقبل أبو بكر أن يؤم المسلمين فمن البديهي أن لا يقبل العباس أيضاً أن يتوسل الناس به، ويدعوا التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لو كان ذلك ممكناً.
(تنبيه): وهذا يدل من ناحية أخرى على سخافة تفكير من يزعم أنه صلى الله عليه وسلم في قبره حي كحياتنا، لأنه لو كان ذلك كذلك لما كان ثمة وجه مقبول لانصرافهم عن الصلاة وراءه صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة وراء غيره ممن لا يدانيه أبداً في منزلته وفضله. ولا يعترض أحد على ما قررته بأنه قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا في قبري حي طري، من سلم علي سلمت عليه)) (1). وأنه يستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم حي مثل حياتنا، فإذا توسل به سمعنا واستجاب لنا، فيحصل مقصودنا، وتتحقق رغبتنا، وأنه لا فرق في ذلك بين حاله صلى الله عليه وسلم في حياته، وبين حاله بعد وفاته أقول:
لا يعترض أحد بما سبق لأنه مردود من وجهين:
_________
(1) [3749])) لم يرد حديث بهذا اللفظ ولكن معناه قد ورد في عدة أحاديث صحيحة منها ما ذكر في المتن, ومنها حديث رواه أبو يعلى في ((المسند)) (2/ 173) من حديث عبد الرحمن بن عوف, ولفظه: (( ..... إني لما رأيتني دخلت النخل لقيت جبريل فقال إني أبشرك أن الله يقول: من سلم عليك سلمت عليه ومن صلى عليك صليت عليه)) , قال الذهبي في ((المهذب)) (2/ 796): إسناده جيد لكنه معلول, وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (4/ 277): صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

الأول حديثي: وخلاصته أن الحديث المذكور لا أصل له بهذا اللفظ، كما أن لفظة (طري) لا وجود لها في شيء من كتب السنة إطلاقاً، ولكن معناه قد ورد في عدة أحاديث صحيحة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي)) قالوا: يا رسول الله! وكيف تعرض صلاتنا عليك، وقد أرمتَ (قال: يقولون: بَليتَ)، قال: ((إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء)) (1) ومنها قوله صلى الله عليه وسلم ((الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون)) (2) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((مررت ليلة أسري بي على موسى قائماً يصلي في قبره)) (3) وقوله: ((إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام)) (4).
الجواب الثاني فقهي: وفحواه أن حياته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مخالفة لحياته قبل الوفاة، ذلك أن الحياة البرزخية غيب من الغيوب، ولا يدري كنهها إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن من الثابت والمعلوم أنها تختلف عن الحياة الدنيوية، ولا تخضع لقوانينها، فالإنسان في الدنيا يأكل ويشرب، ويتنفس ويتزوج، ويتحرك ويتبرز، ويمرض ويتكلم، ولا أحد يستطيع أن يثبت أن أحداً بعد الموت حتى الأنبياء عليهم السلام، وفي مقدمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تعرض له هذه الأمور بعد موته.
_________
(1) [3750])) رواه أبو داود (1047) وابن ماجه (1636) والنسائي (3/ 91) وأحمد (4/ 8) (16207) والحاكم (1/ 413) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال النووي في ((الخلاصة)) (1/ 441): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).
(2) [3751])) رواه أبو يعلى (6/ 147) من حديث أنس بن مالك, قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 214): رجال أبي يعلى ثقات, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 561): فيه يحيى بن أبي كثير وهو من رجال الصحيح عن المستلم بن سعيد، وقد وثقه أحمد وابن حبان عن الحجاج الأسود وهو ابن أبي زياد البصري وقد وثقه أحمد وابن معين عن ثابت عنه، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2790).
(3) [3752])) رواه مسلم (2375) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(4) [3753])) رواه النسائي (3/ 43) وابن حبان (3/ 195) والطبراني (10/ 220) والحاكم (2/ 456) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي, وقال ابن القيم في ((جلاء الأفهام)) (120): إسناده صحيح, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 27): رجاله رجال الصحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)).

ومما يؤكد هذا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في مسائل كثيرة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ولم يخطر في بال أحد منهم الذهاب إليه صلى الله عليه وسلم في قبره، ومشاورته في ذلك، وسؤاله عن الصواب فيها، لماذا؟ إنّ الأمر واضح جداً، وهو أنهم كلهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم انقطع عن الحياة الدنيا، ولم تعد تنطبق عليه أحوالها ونواميسها. فرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حي، أكمل حياة يحياها إنسان في البرزخ، ولكنها حياة لا تشبه حياة الدنيا، ولعل مما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) (1) وعلى كل حال فإن حقيقتها لا يدريها إلا الله سبحانه وتعالى، ولذلك فلا يجوز قياس الحياة البرزخية أو الحياة الأخروية على الحياة الدنيوية، كما لا يجوز أن تعطى واحدة منهما أحكام الأخرى، بل لكل منها شكل خاص وحكم معين، ولا تتشابه إلا في الاسم، أما الحقيقة فلا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى.
ونعود بعد هذا التنبيه إلى ما كنا فيه من الرد على المخالفين في حديث توسل عمر بالعباس، فنقول: إن تعليلهم لعدول عمر رضي الله عنه عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس رضي الله عنه بأنه لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل هو تعليل مضحك وعجيب. إذ كيف يمكن أن يخطر في بال عمر رضي الله عنه، أو في بال غيره من الصحابة الكرام رضي الله عنهم تلك الحذلقة الفقهية المتأخرة، وهو يرى الناس في حالة شديدة من الضنك والكرب، والشقاء والبؤس، يكادون يموتون جوعاً وعطشاً لشح الماء وهلاك الماشية، وخلو الأرض من الزرع والخضرة حتى سمي ذاك العام بعام الرمادة، كيف يَرِد في خاطره تلك الفلسفة الفقهية في هذا الظرف العصيب، فيدع الأخذ بالوسيلة الكبرى في دعائه، وهي التوسل بالنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، لو كان ذلك جائزاً ويأخذ بالوسيلة الصغرى، التي لا تقارن بالأولى، وهي التوسل بالعباس، لماذا؟ لا لشيء إلا ليبين للناس أنه يجوز لهم التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل!!
إن الشاهد والمعلوم أن الإنسان إذ حلّت به شدة يلجأ إلى أقوى وسيلة عنده في دفعها، ويدَع الوسائل الأخرى لأوقات الرخاء، وهذا كان يفهمه الجاهليون المشركون أنفسهم، إذ كانوا يَدعون أصنامهم في أوقات اليسر، ويتركونها ويدْعون الله تعالى وحده في أوقات العسر، كما قال تبارك وتعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 265].
فنعلم من هذا أن الإنسان بفطرته يستنجد بالقوة العظمى، والوسيلة الكبرى حين الشدائد والفواق، وقد يلجأ إلى الوسائل الصغرى حين الأمن واليسر، وقد يخطر في باله حينذاك أن يبين ذلك الحكم الفقهي الذي افترضوه، وهو جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل. وأمر آخر نقوله جواباً على شبهة أولئك، وهو: هب أن عمر رضي الله عنه خطر في باله أن يبين ذلك الحكم الفقهي المزعوم، ترى فهل خطر ذلك في بال معاوية والضحاك بن قيس حين توسلا بالتابعي الجليل: يزيد بن الأسود الجُرَشي أيضاً؟ لا شك أن هذا ضرب من التمحل والتكلف لا يحسدون عليه.
_________
(1) [3754])) رواه أبو داود (2041) وأحمد (2/ 527) (10827) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (5/ 245) من حديث أبي هريرة, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/ 299): إسناده جيد, وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 409): سنده جيد, وحسنه ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (5/ 31) ووافقه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).

4 – إننا نلاحظ في حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما أمراً جديراً بالانتباه، وهو قوله: (إن عمر بن الخطاب كان إذا قَحطوا، استسقى بالعباس بن عبدالمطلب، ففي هذا إشارة إلى تكرار استسقاء عمر بدعاء العباس رضي الله عنهما، ففيه حجة بالغة على الذين يتأولون فعل عمر ذلك أنه إنما ترك التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بعمه رضي الله عنه، لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل، فإننا نقول: لو كان الأمر كذلك لفعل عمر ذلك مرة واحدة، ولما استمر عليه كلما استسقى، وهذا بيّن لا يخفى إن شاء الله تعالى على أهل العلم والإنصاف.
5 – لقد فسرت بعض روايات الحديث الصحيحة كلام عمر المذكور وقصده، إذ نقلت دعاء العباس رضي الله عنه استجابة لطلب عمر رضي الله عنه، فمن ذلك ما نقله الحافظ العسقلاني رحمه الله في (الفتح) (3/ 150) حيث قال: (قد بين الزبير بن بكار في (الأنساب) صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجّه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، قال: فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض، وعاش الناس) (1).
وفي هذا الحديث: أولاً: التوسل بدعاء العباس رضي الله عنه لا بذاته كما بينه الزبير
بن بكار وغيره، وفي هذا رد واضح على الذين يزعمون أن توسل عمر كان بذات العباس لا بدعائه، إذ لو كان الأمر كذلك لما كان ثمة حاجة ليقوم العباس، فيدعو بعد عمر دعاءً جديداً.
ثانياً: أن عمر صرح بأنهم كانوا يتوسلون بنبينا صلى الله عليه وسلم في حياته، وأنه في هذه الحادثة توسل بعمه العباس، ومما لا شك فيه أن التوسليْن من نوع واحد: توسلهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وتوسلهم بالعباس، وإذا تبين للقارئ ... أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم إنما كان توسلاً بدعائه صلى الله عليه وسلم فتكون النتيجة أن توسلهم بالعباس إنما هو توسل بدعائه أيضاً، بضرورة أن التوسليْن من نوع واحد.
أما أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم إنما كان توسلاً بدعائه، فالدليل على ذلك صريح رواية الإسماعيلي في (مستخرجه على الصحيح) لهذا الحديث بلفظ: (كانوا إذ قحطوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم استسقوا به، فيستسقي لهم، فيسقون، فلما كان في إمارة عمر ... ) (2) فذكر الحديث (3)، نقلته من (الفتح) (2/ 399)، فقوله: (فيستسقي لهم) صريح في أنه صلى الله عليه وسلم كان يطلب لهم السقيا من الله تعالى ففي (النهاية) لابن الأثير: (الاستسقاء، استفعال من طلب السقيا أي إنزال الغيث على البلاد والعباد، يقال: سقى الله عباده الغيث وأسقاهم، والاسم السقيا بالضم، واستقيت فلاناً إذا طلبت منه أن يسقيك).
إذا تبين هذا، فقوله في هذه الرواية (استسقوا به) أي بدعائه، وكذلك قوله في الرواية.
الأولى: (كنا نتوسل إليك بنبينا)، أي بدعائه، لا يمكن أن يفهم من مجموع رواية الحديث.
إلا هذا. ويؤيده:
ثالثاً: لو كان توسل عمر إنما هو بذات العباس أو جاهه عند الله تعالى، لما ترك التوسل.
_________
(1) [3755])) ((فتح الباري)) لابن حجر (3/ 443).
(2) [3756])) رواه ابن حبان (7/ 110) , وذكره ابن حجر في ((فتح الباري)) (2/ 495)
(3) [3757])) الحديث رواه البخاري (1010).

به صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، لأن هذا ممكن لو كان مشروعاً، فعدول عمر عن هذه إلى التوسل بدعاء العباس رضي الله عنه أكبر دليل على أن عمر والصحابة الذين كانوا معه كانوا لا يرون التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا جرى عمل السلف من بعدهم، كما رأيت في توسل معاوية بن أبي سفيان والضحاك ابن قيس بيزيد بن الأسود الجرشي، وفيهما بيان دعائه بصراحة وجلاء.
فهل يجوز أن يجمع هؤلاء كلهم على ترك التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم لو كان جائزاً، سيّما والمخالفون يزعمون أنه أفضل من التوسل بدعاء العباس وغيره؟! اللهم إن ذلك غير جائز ولا معقول، بل إن هذا الإجماع منهم من أكبر الأدلة على أن التوسل المذكور غير مشروع عندهم، فإنهم أسمى من أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير!
اعتراض ورده:
وأما جواب صاحب (مصباح الزجاجة في فوائد قضاء الحاجة) (ص25) عن ترك عمر التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن عمر لم يبلغه حديث توسل الضرير، ولو بلغه لتوسل به).
فهو جواب باطل من وجوه:
الأول: أن حديث الضرير إنما يدل على ما دل عليه توسل عمر هذا من التوسل بالدعاء.
لا بالذات ...
الثاني: أن توسل عمر لم يكن سراً، بل كان جهراً على رؤوس الأشهاد، وفيهم كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فإذا جاز أن يخفى الحديث على عمر، فهل يجوز أن يخفى على جميع الموجودين مع عمر من الصحابة؟!
الثالث: أن عمر ... كان يكرر هذا التوسل كلما نزل بأهل المدينة خطر، أو كلما دعي للاستسقاء كما يدل على ذلك لفظ (كان) في حديث أنس السابق (أن عمر كان إذا قحَطوا استسقى بالعباس) (1) وكذلك روى ابن عباس عن عمر كما ذكره ابن عبد البر في (الاستيعاب) (3/ 98)، فإذا جاز أن يخفى ذلك عليه أول مرة، أفيجوز أن يستمر على الجهل به كلما استسقى بالعباس، وعنده المهاجرون والأنصار، وهم سكوت لا يقدمون إليه ما عندهم من العلم بحديث الضرير؟! اللهم إن هذا الجواب ليتضمن رمي الصحابة جميعهم بالجهل بحديث الضرير مطلقاً، أو على الأقل بدلالته على جواز التوسل بالذات، والأول باطل لا يخفى بطلانه، والثاني حق فإن الصحابة لو كانوا يعلمون أن حديث الضرير يدل على التوسل المزعوم لما عدلوا عن التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بدعاء العباس كما سبق.
رابعاً: أن عمر ليس هو وحده الذي عدل عن التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالدعاء، بل تابعه على ذلك معاوية بن أبي سفيان فإنه أيضاً عدل إلى التوسل بدعاء يزيد بن الأسود، ولم يتوسل به صلى الله عليه وسلم وعنده جماعة من الصحابة وأجلاء التابعين، فهل يقال أيضاً إن معاوية ومن معه لم يكونوا يعلمون بحديث الضرير؟ وقل نحو ذلك في توسل الضحاك بن قيس بيزيد هذا أيضاً.
ثم أجاب صاحب (المصباح) بجواب آخر، وتبعه من لم يوفق من المتعصبين المخالفين فقال:
_________
(1) [3758])) رواه البخاري (1010).

(إن عمر أراد بالتوسل بالعباس الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في إكرام العباس وإجلاله، وقد جاء هذا صريحاً عن عمر، فروى الزبير بن بكار في (الأنساب) من طريق داود بن عطاء عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: (استسقى عمر ابن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب، فخطب عمر فقال: إن رسول صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، واتخذوه وسيلة إلى الله ... ) ورواه البلاذري من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه به (1).
والجواب من وجوه أيضاً:
الأول: عدم التسليم بصحة هذه الرواية، فإنها من طريق داود ابن عطاء وهو المدني، وهو ضعيف كما في (التقريب)، ومن طريق الزبير بن بكار عنه رواه الحاكم (3/ 334) وسكت عنه، وتعقبه الذهبي بقوله: (داود متروك) ... والراوي عنه ساعدة بن عبيدالله المزني لم أجد من ترجم له، ثم إن في السند اضطراباً، فقد رواه – كما رأيت – هشام بن سعد عن زيد بن أسلم فقال: (عن أبيه) بدل ابن عمر، لكن هشاماً أوثق من داود، إلا أننا لم نقف على سياقه، لننظر هل فيه مخالفة لسياق داود هذا أم لا؟ ولا تغتر بقولهم في (المصباح) عقب هذا الإسناد: (به) المفيد أن السياق واحد، فإن عمدته فيما نقله عن البلاذري إنما هو (فتح الباري) وهو لم يقل: (به). انظر (الفتح) (2/ 399).
الثاني: لو صحت هذه الرواية، فهي إنما تدل على السبب الذي من أجله توسل عمر بالعباس دون غيره من الصحابة الحاضرين حينذاك، وأما أن تدل على جواز الرغبة عن التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم - لو كان جائزاً عندهم – إلى التوسل بالعباس أي بذاته فكلا، ثم كلا، لأننا نعلم بالبداهة والضرورة – كما قال بعضهم – أنه لو أصاب جماعة من الناس قحط شديد، وأرادوا أن يتوسلوا بأحدهم لما أمكن أن يعدلوا عمن دعاؤه أقرب إلى الإجابة، وإلى رحمة الله سبحانه وتعالى، ولو أن إنساناً أصيب بمكروه فادح، وكان أمامه نبي، وآخر غير نبي، وأراد أن يطلب الدعاء من أحدهما لما طلبه إلا من النبي، ولو طلبه من غير النبي، وترك النبي لعد من الآثمين الجاهلين، فكيف يظن بعمر ومن معه من الصحابة أن يعدلوا عن التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بغيره، لو كان التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم جائزاً، فكيف وهو أفضل عند المخالفين من التوسل بدعاء العباس وغيره من الصالحين؟! لا سيما وقد تكرر ذلك منهم مراراً كما سبق، وهم لا يتوسلون به صلى الله عليه وسلم ولا مرة واحدة، واستمر الأمر كذلك، فلم ينقل عن أحد منهم خلاف ما صنع عمر، بل صح عن معاوية ومن معه ما يوافق صنيعه حيث توسلوا بدعاء يزيد بن الأسود، وهو تابعي جليل، فهل يصح أن يقال: إن التوسل به كان اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؟!
الحق أقول: إن جريان عمل الصحابة على ترك التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم عند نزول الشدائد بهم.
_________
(1) [3759])) رواه الطبراني في ((الدعاء)) (5/ 427) والحاكم (3/ 377) , قال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (2/ 711): تفرد به الزبير بن بكار عن ساعدة, وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (2/ 92): [فيه] داود وهو ضعيف, وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/ 174): [فيه] داود بن عطاء المدني: متروك, وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (3/ 139): واه جدا.

– بعد أن كانوا لا يتوسلون بغيره صلى الله عليه وسلم في حياته – لهو أكبر الأدلة الواضحة على أن التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم غير مشروع، وإلا لنقل ذلك عنهم من طرق كثيرة في حوادث متعددة، ألا ترى إلى هؤلاء المخالفين كيف يلهجون بالتوسل بذاته صلى الله عليه وسلم لأدنى مناسبة لظنهم أنه مشروع، فلو كان الأمر كذلك لنُقِل مثله عن الصحابة، مع العلم أنهم أشد تعظيماً ومحبة له صلى الله عليه وسلم من هؤلاء، فكيف ولم يُنقل عنهم ذلك ولا مرة واحدة، بل صح عنهم الرغبة عنه إلى التوسل بدعاء الصالحين؟!
الشبهة الثانية: حديث الضرير:
بعد أن فرغنا من تحقيق الكلام في حديث توسل عمر بالعباس رضي الله عنه، وبينا أنه ليس حجة للمخالفين بل هو عليهم، نشرع الآن في تحقيق القول في حديث الضرير، والنظر في معناه: هل هو حجة لهم أم عليهم أيضاً؟ فنقول:
أخرج أحمد وغيره بسند صحيح عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: ((إن شئت دعوت لك، وإن شئت أخّرتُ ذاك، فهو خير))، وفي رواية: - وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك -، فقال: ادعهُ. فأمره أن يتوضأ، فيحسن وضوءه، فيصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهتُ بك إلى ربي في حاجتي هذه، فتقضى لي، اللهم فشفِّعه فيَّ (وشفّعني فيه). قال: ففعل الرجل فبرأ (1).
يرى المخالفون: أن هذا الحديث يدل على جواز التوسل في الدعاء بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الصالحين، إذ فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الأعمى أن يتوسل به في دعائه، وقد فعل الأعمى ذلك فعاد بصيراً.
وأما نحن فنرى أن هذا الحديث لا حجة لهم فيه على التوسل المختلف فيه، وهو التوسل بالذات، بل هو دليل آخر على النوع الثالث من أنواع التوسل المشروع ... ، لأن توسل الأعمى إنما كان بدعائه. والأدلة على ما نقول من الحديث نفسه كثيرة، وأهمها:
أولاً: أن الأعمى إنما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له، وذلك قوله: (ادعُ الله أن يعافيني) فهو توسل إلى الله تعالى بدعائه صلى الله عليه وسلم، لأنه يعلم أن دعاءه صلى الله عليه وسلم أرجى للقبول عند الله بخلاف دعاء غيره، ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه أو حقه لما كان ثمة حاجة به إلى أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ويطلب منه الدعاء له، بل كان يقعد في بيته، ويدعو ربه بأن يقول مثلاً:
(اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن يشفيني، وتجعلني بصيراً). ولكنه لم يفعل، لماذا؟ لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حق الفهم، ويعرف أنه ليس كلمة يقولها صاحب الحاجة، يذكر فيها اسم الموسَّل به، بل لابد أن يشتمل على المجيء إلى من يعتقد فيه الصلاح والعلم بالكتاب والسنة، وطلب الدعاء منه له.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل له، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
_________
(1) [3760])) رواه أحمد (4/ 138) (17279) والحديث رواه ابن ماجه (1385) والترمذي (3578) والطبراني (9/ 30) وابن خزيمة في ((صحيحه)) (2/ 225) وعبد بن حميد (1/ 147) , قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وقال الشوكاني في ((تحفة الذاكرين)) (230): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

((إن شئت دعوتُ، وإن شئت صبرت فهو خير لك)). وهذا الأمر الثاني هو ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: ((إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه – أي عينيه – فصبر، عوضته منهما الجنة)) (1).
ثالثاً: إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله: (فادع) فهذا يقتضي أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له، لأنه صلى الله عليه وسلم خير من وفى بما وعد، وقد وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق، فقد شاء الدعاء وأصر عليه، فإذن لا بد أنه صلى الله عليه وسلم دعا له، فثبت المراد، وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى بدافع من رحمته، وبحرص منه أن يستجيب الله تعالى دعاءه فيه، وجهه إلى النوع الثاني من التوسل المشروع، وهو التوسل بالعمل الصالح، ليجمع له الخير من أطرافه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو لنفسه وهذه الأعمال طاعة لله سبحانه وتعالى يقدمها بين يدي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، وهي تدخل في قوله تعالى: وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة: 35].
وهكذا فلم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بدعائه للأعمى الذي وعده به، بل شغله بأعمال فيها طاعة لله سبحانه وتعالى وقربة إليه، ليكون الأمر مكتملاً من جميع نواحيه، وأقرب إلى القبول والرضا من الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا، فالحادثة كلها تدور حول الدعاء – كما هو ظاهر – وليس فيها ذكر شيء مما يزعمون.
وقد غفل عن هذا الشيخ الغماري أو تغافل، فقال في (المصباح) (24): ((وإن شئتَ دعوتُ)). أي وإن شئت علمتك دعاء تدعو به، ولقنتك إياه، وهذا التأويل واجب ليتفق أول الحديث مع آخره).
... هذا التأويل باطل لوجوه كثيرة منها: أن الأعمى إنما طلب منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، لا أن يعلمه دعاء، فإذا كان قوله صلى الله عليه وسلم له: ((وإن شئت دعوت)) جواباً على طلبه تعين أنه الدعاء له، ولابد، وهذا المعنى هو الذي يتفق مع آخر الحديث، ولذلك رأينا الغماري لم يتعرض لتفسير قوله في آخره: ((اللهم فشفعه في، وشفعني فيه)) لأنه صريح في أن التوسل كان بدعائه صلى الله عليه وسلم ...
ثم قال: (ثم لو سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للضرير فذلك لا يمنع من تعميم الحديث في غيره).
... وهذه مغالطة مكشوفة، لأنه لا أحد ينكر تعميم الحديث في غير الأعمى في حالة دعائه صلى الله عليه وسلم لغيره، ولكن لما كان الدعاء منه صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى غير معلوم بالنسبة للمتوسلين في شتى الحوائج والرغبات، وكانوا هم أنفسهم لا يتوسلون بدعائه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، لذلك اختلف الحكم، وكان هذا التسليم من الغماري حجة عليه.
رابعاً: أن في الدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه أن يقول: ((اللهم فشفعه في)) وهذا يستحيل حمله على التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم، أو جاهه، أو حقه، إذ أن المعنى: اللهم اقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم في، أي اقبل دعائه في أن ترد عليَّ بصري، والشفاعة لغة الدعاء، وهو المراد بالشفاعة الثابتة له صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة، وهذا يبين أن الشفاعة أخص من الدعاء، إذ لا تكون إلا إذا كان هناك اثنان يطلبان أمراً، فيكون أحدهما شفيعاً للآخر، بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره، قال في (لسان العرب): (الشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره، والشافع الطالب لغيره، يتشفع به إلى المطلوب، يقال: تشفعت بفلان إلى فلان، فشفعني فيه).
فثبت بهذا الوجه أيضاً أن توسل الأعمى إنما كان بدعائه صلى الله عليه وسلم لا بذاته.
_________
(1) [3761])) رواه البخاري (5653).

خامساً: إن مما علم النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى أن يقوله: ((وشفعني فيه)) أي اقبل شفاعتي، أي دعائي في أن تقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم، أي دعاءه في أن ترد علي بصري. هذا الذي لا يمكن أن يفهم من هذه الجملة سواه.
ولهذا ترى المخالفين يتجاهلونها ولا يتعرضون لها من قريب أو من بعيد، لأنها تنسف بنيانهم من القواعد، وتجتثه من الجذور، وإذا سمعوها رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه. ذلك أن شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأعمى مفهومة، ولكن شفاعة الأعمى في الرسول صلى الله عليه وسلم كيف تكون؟ لا جواب لذلك عندهم البتة. ومما يدل على شعورهم بأن هذه الجملة تبطل تأويلاتهم أنك لا ترى واحداً منهم يستعملها، فيقول في دعائه مثلاً: اللهم شفع فيَّ نبيك، وشفعني فيه.
سادساً: إن هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب، وما أظهره الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه بدعائه صلى الله عليه وسلم لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره، ولذلك رواه المصنفون في (دلائل النبوة) كالبيهقي وغيره، فهذا يدل على أن السر في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤيده كل من دعا به من العميان مخلصاً إليه تعالى، منيباً إليه قد عوفي، بل على الأقل لعوفي واحد منهم، وهذا ما لم يكن ولعله لا يكون أبداً.
كما أنه لو كان السر في شفاء الأعمى أنه توسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وقدره وحقه، كما يفهم عامة المتأخرين، لكان من المفروض أن يحصل هذا الشفاء لغيره من العميان الذين يتوسلون بجاهه صلى الله عليه وسلم، بل ويضمون إليه أحياناً جاه جميع الأنبياء المرسلين، وكل الأولياء والشهداء والصالحين، وجاه كل من له جاه عند الله من الملائكة، والإنس والجن أجمعين! ولم نعلم ولا نظن أحداً قد علم حصول مثل هذا خلال القرون الطويلة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم إلى اليوم.
إذا تبين للقارئ الكريم ما أوردناه من الوجوه الدالة على أن حديث الأعمى إنما يدور حول التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم، وأنه لا علاقة له بالتوسل بالذات، فحينئذ يتبين له أن قول الأعمى في دعائه: (اللهم إني أسألك، وأتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم) إنما المراد به: أتوسل إليك بدعاء نبيك، أي على حذف المضاف، وهذا أمر معروف في اللغة، كقوله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [يوسف: 82] أي أهل القرية وأصحاب العير. ونحن والمخالفون متفقون على ذلك، أي على تقدير مضاف محذوف، وهو مثل ما رأينا في دعاء عمر وتوسله بالعباس، فإما أن يكون التقدير: إني أتوجه إليك بـ (جاه) نبيك، ويا محمد إني توجهت بـ (ذات) ك أو (مكانت) ك إلى ربي كما يزعمون، وإما أن يكون التقدير: إني أتوجه إليك بـ (دعاء) نبيك، ويا محمد إني توجهت بـ (دعاء) ك إلى ربي كما هو قولنا. ولا بد لترجيح أحد التقديرين من دليل يدل عليه. فأما تقديرهم (بجاهه) فليس لهم عليه دليل لا من هذه الحديث ولا من غيره، إذ ليس في سياق الكلام ولا سباقه تصريح أو إشارة لذكر الجاه أو ما يدل عليه إطلاقاً، كما أنه ليس عندهم شيء من القرآن أو من السنة أو من فعل الصحابة يدل على التوسل بالجاه، فيبقى تقديرهم من غير مرجح، فسقط من الاعتبار، والحمد لله ...

وثمة أمر آخر جدير بالذكر، وهو أنه لو حمل حديث الضرير على ظاهره، وهو التوسل بالذات لكان معطلاً لقوله فيما بعد: (اللهم فشفعه في، وشفعني فيه) وهذا لا يجوز كما لا يخفى، فوجب التوفيق بين هذه الجملة والتي قبلها. وليس ذلك إلا على ما حملناه من أن التوسل كان بالدعاء، فثبت المراد، وبطل الاستدلال به على التوسل بالذات، والحمد لله.
على أنني أقول: لو صح أن الأعمى إنما توسل بذاته صلى الله عليه وسلم، فيكون حكماً خاصاً به صلى الله عليه وسلم، لا يشاركه فيه غيره من الأنبياء والصالحين، وإلحاقهم به مما لا يقبله النظر الصحيح، لأنه صلى الله عليه وسلم سيدهم وأفضلهم جميعاً، فيمكن أن يكون هذا مما خصه الله به عليهم كثير مما صح به الخبر، وباب الخصوصيات لا تدخل فيه القياسات، فمن رأى أن توسل الأعمى كان بذاته لله، فعليه أن يقف عنده، ولا يزيد عليه كما نقل عن الإمام أحمد والشيخ العز بن عبد السلام رحمهما الله تعالى. هذا هو الذي يقتضيه البحث العلمي مع الإنصاف، والله الموفق للصواب ...
تنبيه:
واعلم أنه وقع في بعض الطرق الأخرى لحديث الضرير ... زيادتان لا بد من بيان شذوذهما وضعفهما، حتى يكون القارئ على بينة من أمرهما، فلا يغتر بقول من احتج بهما على خلاف الحق والصواب.
الزيادة الأولى:
زيادة حماد بن سلمة قال: حدثنا أبو جعفر الخطمي .. فساق إسناده مثل رواية شعبة، وكذلك المتن إلا أنه اختصره بعض الشيء، وزاد في آخره بعد قوله: ((وشفع نبيي في رد بصري: وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك)) رواه أبو بكر بن أبي خيثمة في (تاريخه)، فقال: حدثنا مسلم بن إبراهيم: حدثنا حماد بن سلمه به.
وقد أعلَّ هذه الزيادة شيخ الإسلام ابن تيمية في (القاعدة الجليلة) (ص102) بتفرد حماد بن سلمة بها، ومخالفته لرواية شعبة، وهو أجل من روى هذا الحديث وهذا إعلال يتفق مع القواعد الحديثية، ولا يخالفها البتة، وقول الغماري في (المصباح) (ص30) بأن حماداً ثقة من رجال الصحيح، وزيادة الثقة مقبولة، غفلة منه أو تغافل عما تقرر في المصطلح، أن القبول مشروط بما إذا لم يخالف الراوي من هو أوثق منه، قال الحافظ في (نخبة الفكر): (والزيادة مقبولة ما لم تقع منافية لمن هو أوثق، فإن خولف بأرجح، فالراجح المحفوظ، ومقابله الشاذ).
... وهذا الشرط مفقود هنا، فإن حماد بن سلمة، وإن كان من رجال مسلم، فهو
بلا شك دون شعبة في الحفظ، ويتبين لك ذلك بمراجعة ترجمة الرجلين في كتب القوم، فالأول أورده الذهبي في (الميزان) وهو إنما يورد فيه من تُكُلَّم فيه، ووصفه بأنه (ثقة له أوهام) بينما لم يورد فيه شعبة مطلقاً، ويظهر لك الفرق بينهما بالتأمل في ترجمة الحافظ لهما، فقد قال في (التقريب): (حماد بن سلمة ثقة عابد أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بآخره) ثم قال: (شعبة بن الحجاج ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال، وذب عن السنة، وكان عابداً).
...

وإذا تبين لك هذا عرفت أن مخالفة حماد لشعبة في هذا الحديث وزيادته عليه تلك الزيادة غير مقبولة، لأنها منافية لمن هو أوثق منه فهي زيادة شاذة كما يشير إليه كلام الحافظ السابق في (النخبة) ولعل حماداً روى هذا الحديث حين تغير حفظه، فوقع في الخطأ، وكأن الإمام أحمد أشار إلى شذوذ هذه الزيادة، فإنه أخرج الحديث من طريق مؤمَّل (وهو ابن إسماعيل) عن حماد – عقب رواية شعبة المتقدمة – إلا أنه لم يسق لفظ الحديث، بل أحال به على لفظ حديث شعبة، فقال: (فذكر الحديث) ويحتمل أن الزيادة لم تقع في رواية مؤمل عن حماد، لذلك لم يشر إليها الإمام أحمد كما هي عادة الحفاظ إذا أحالوا في رواية على أخرى بينوا ما في الرواية المحالة من الزيادة على الأولى.
وخلاصة القول: إن الزيادة لا تصح لشذوذها، ولو صحت لم تكن دليلاً على جواز التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم، لاحتمال أن يكون معنى قوله: ((فافعل مثل ذلك)) يعني من إتيانه صلى الله عليه وسلم في حال حياته، وطلب الدعاء منه والتوسل به، والتوضؤ والصلاة، والدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو به. والله أعلم.
الزيادة الثانية:
قصة الرجل مع عثمان بن عفان، وتوسله به صلى الله عليه وسلم حتى قضى له حاجته، وأخرجها الطبراني في (المعجم الصغير) (ص103 - 104) وفي (الكبير) (3/ 2/1/ 1 - 2) من طريق عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته فلقي عثمان بن حنيف، فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان: ائت الميضأة، فتوضأ، ثم ائت المسجد، فصل فيه ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك عز وجل، فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك، ورح إليَّ حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال، ثم أتى باب عثمان رضي الله عنه فجاء البواب حتى أخذ بيده، فأدخله عليه، فأجلسه معه على الطنفسة، وقال: حاجتك؟ فذكر حاجته، فقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فأتنا، ثم إن الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إلي حتى كلمته في، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير، فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فتصبر، فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد، وقد شق علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ائت الميضأة، فتوضأ ثم صلِّ ركعتين، ثم ادعُ بهذه الدعوات)) قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا، وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط. (1) قال الطبراني: (لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي وهو ثقة، وهو الذي يحدث عنه أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي – واسمه عمير بن يزيد – وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة، والحديث صحيح).
...
_________
(1) [3762])) رواه الطبراني في ((الكبير)) (9/ 30) وفي ((الصغير)) (1/ 306) وقال الطبراني والحديث صحيح, بعد ما ذكر الطرق التي روي بها, وقال مقبل الوادعي في ((الشفاعة)) (189): في إسنادها روح بن القاسم، لكن تضعيف هذه الزيادة من حيث كونها تدور على شبيب بن سعيد.

لا شك في صحة الحديث، وإنما البحث الآن في هذه القصة التي تفرد بها شبيب بن سعيد كما قال الطبراني، وشبيب هذا متكلم فيه، وخاصة في رواية ابن وهب عنه، لكن تابعه عنه إسماعيل وأحمد ابنا شبيب بن سعيد هذا، أما إسماعيل فلا أعرفه، ولم أجد من ذكره، ولقد أغفلوه حتى لم يذكروه في الرواة عن أبيه، بخلاف أخيه أحمد فإنه صدوق، وأما أبوه شبيب فملخص كلامهم فيه: أنه ثقة في حفظه ضعف، إلا في رواية ابنه أحمد هذا عنه عن يونس خاصة فهو حجة، فقال الذهبي في (الميزان): (صدوق يغرب، ذكره ابن عدي في (كامله) فقال .. له نسخة عن يونس بن يزيد مستقيمة، حدث عنه ابن وهب بمناكير، قال ابن المديني: كان يختلف في تجارة إلى مصر، وكتابه صحيح قد كتبته عن ابنه أحمد. قال ابن عدي: كان شبيب لعله يغلط ويهم إذا حدث من حفظه، وأرجو أنه لا يتعمد، فإذا حدث عنه ابنه أحمد بأحاديث يونس فكأنه يونس آخر. يعني يجوَّد).
فهذا الكلام يفيد أن شبيباً هذا لا بأس بحديثه بشرطين اثنين: الأول: أن يكون من رواية ابنه أحمد عنه، والثاني: أن يكون من رواية شبيب عن يونس، والسبب في ذلك أنه كان عنده كتب يونس بن يزيد، كما قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) عن أبيه، فهو إذا حدث من كتبه هذه أجاد، وإذا حدث من حفظه وهم كما قال ابن عدي، وعلى هذا فقول الحافظ في ترجمته من (التقريب): (لا بأس بحديثه من رواية ابنه أحمد عنه، لا من رواية ابن وهب) فيه نظر، لأنه أوهم أنه لا بأس بحديثه من رواية أحمد مطلقاً، وليس كذلك، بل هذا مقيد بأن يكون من روايته هو عن يونس لما سبق، ويؤيده أن الحافظ نفسه أشار لهذا القيد، فإنه أورد شبيباً هذا في (من طعن فيه من رجال البخاري) من (مقدمة فتح الباري) (ص133) ثم دفع الطعن عنه – بعد أن ذكر من وثقه وقول ابن عدي فيه – بقوله: (قلت: أخرج البخاري من رواية ابنه عنه عن يونس أحاديث، ولم يخرج من روايته عن غير يونس، ولا من رواية ابن وهب عنه شيئاً).
فقد أشار رحمه الله بهذا الكلام إلى أن الطعن قائم في شبيب إذا كانت روايته عن غير يونس، ولو من رواية ابنه أحمد عنه، وهذا هو الصواب كما بينته آنفاً، وعليه يجب أن يحمل كلامه في (التقريب) توفيقاً بين كلاميه، ودفعاً للتعارض بينهما.
إذا تبين هذا يظهر لك ضعف هذه القصة، وعدم صلاحية الاحتجاج بها. ثم ظهر لي فيها علة أخرى وهي الاختلاف على أحمد فيها، فقد أخرج الحديث ابن السني في (عمل اليوم والليلة) (ص202) والحاكم (1/ 526) من ثلاثة طرق عن أحمد بن شبيب بدون القصة، وكذلك رواه عون بن عمارة البصري ثنا روح ابن القاسم به، أخرجه الحاكم، وعون هذا وإن كان ضعيفاً، فروايته أولى من رواية شبيب، لموافقتها لرواية شعبة وحماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي.
وخلاصة القول: إن هذه القصة ضعيفة منكرة، لأمور ثلاثة:
ضعف حفظ المتفرد بها، والاختلاف عليه فيها، ومخالفته للثقات الذين لم يذكروها في الحديث، وأمر واحد من هذه الأمور كاف لإسقاط هذه القصة، فكيف بها مجتمعة؟ ومن عجائب التعصب واتباع الهوى أن الشيخ الغماري أورد روايات هذه القصة في (المصباح) (ص12و17) من طريق البيهقي في (الدلائل) والطبراني، ثم لم يتكلم عليها مطلقاً لا تصحيحاً ولا تضعيفاً، والسبب واضح، أما التصحيح فغير ممكن صناعة، وأما التضعيف فهو الحق ولكن, ونحو ذلك فعل من لم يوفق في (الإصابة)، فإنهم أوردوا (ص21 - 22) الحديث بهذه القصة، ثم قالوا: (وهذا الحديث صححه الطبراني في (الصغير) و (الكبير)!
وفي هذا القول على صغره جهالات:

أولاً: أن الطبراني لم يصحح الحديث في (الكبير) بل في (الصغير) فقط، وأنا نقلت الحديث عنه للقارئين مباشرة، لا بالواسطة كما يفعل أولئك، لقصر باعهم في هذا العلم الشريف (ومن ورد البحر استقل السواقيا).
ثانياً: أن الطبراني إنما صحح الحديث فقط دون القصة، بدليل قوله ... (قد روى الحديث شعبة ... والحديث صحيح) فهذا نص على أنه أراد حديث شعبة، وشعبة لم يرو هذه القصة، فلم يصححها إذن الطبراني، فلا حجة لهم في كلامه.
ثالتاً: أن عثمان بن حنيف لو ثبتت عنه القصة لم يُعَلِّم ذلك الرجل فيها دعاء الضرير بتمامه، فإنه أسقط منه جملة ((اللهم شفعه في وشفعني فيه)) لأنه يفهم بسليقته العربية أن هذا القول يستلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داعياً لذلك الرجل، كما كان داعياً للأعمى، ولما كان هذا منفياً بالنسبة للرجل، لم يذكر هذه الجملة؟ قال شيخ الإسلام (ص104): (ومعلوم أن الواحد بعد موته صلى الله عليه وسلم إذا قال: اللهم فشفعه في وشفعني فيه – مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعُ له – كان هذا كلاماً باطلاً، مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا أن يقول: (فشفعه في)، ولم يأمره بالدعاء المأثور على وجهه، وإنما أمره ببعضه، وليس هناك من النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة، ولا ما يظن أنه شفاعة، فلو قال بعد موته: (فشفعه في) لكان كلاماً لا معنى له، ولهذا لم يأمر به عثمان، والدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به، والذي أمر به ليس مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا لا تثبت به شريعة، كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في حسن العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات، إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه، وكان ما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم يخالفه ولا يوافقه، لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها، بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، ومما تنازعت فيه الأمة، فيجب رده إلى الله والرسول).
ثم ذكر أمثلة كثيرة مما تفرد به بعض الصحابة، ولم يتبع عليه مثل إدخال ابن عمر الماء في عينيه في الوضوء، ونحو ذلك فراجعه.
ثم قال: وإذا كان في ذلك كذلك، فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داعياً له، ولا شافعاً فيه فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعاً بعد مماته كما كان يشرع في حياته، بل كانوا في الاستسقاء في حياته صلى الله عليه وسلم يتوسلون فلما مات لم يتوسلوا به، بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهور، لما اشتد بهم الجدب حتى حلف عمر: لا يأكل سميناً حتى يخصب الناس، ثم لما استسقى بالناس قال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. فيسقون. وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة، ولم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته، فلو كان توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته كتوسلهم في حياته لقالوا: كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما، ونعدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلائق، وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله؟ فلما لم يقل ذلك أحد منهم، وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره، وشفاعة غيره، علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به، لا بذاته).

هذا، وفي القصة جملة إذا تأمل فيها العاقل العارف بفضائل الصحابة وجدها من الأدلة الأخرى على نكارتها وضعفها، وهي أن الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه كان لا ينظر في حاجة ذلك الرجل، ولا يلتفت إليه! فكيف يتفق هذا مع ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تستحي من عثمان، ومع ما عرف به رضي الله عنه من رفقه بالناس، وبره بهم، ولينه معهم؟ هذا كله يجعلنا نستبعد وقوع ذلك منه، لأنه ظلم يتنافى مع كماله رضي الله عنه وأرضاه.
الشبهة الثالثة: قياس الخالق على المخلوقين:
يقول المخالفون، إن التوسل بذوات الصالحين وأقدارهم أمر مطلوب وجائز، لأنه مبني على منطق الواقع ومتطلباته، ذلك أن أحدنا إذا كانت له حاجة عند ملك أو وزير أو مسؤول كبير فهو لا يذهب إليه مباشرة، لأنه يشعر أنه ربما لا يلتفت إليه، هذا إذا لم يرده أصلاً، ولذلك كان من الطبيعي إذا أردنا حاجة من كبير فإننا نبحث عمن يعرفه، ويكون مقرباً إليه أثيراً عنده، ونجعله واسطة بيننا وبينه، فإذا فعلنا ذلك استجاب لنا، وقضيت حاجتنا، وهكذا الأمر نفسه في علاقتنا بالله سبحانه – بزعمهم – فالله عز وجل عظيم العظماء، وكبير الكبراء، ونحن مذنبون عصاة، وبعيدون لذلك عن جناب الله، ليس من اللائق بنا أن ندعوه مباشرة، لأننا إن فعلنا ذلك خفنا أن يردنا على أعقابنا خائبين، أو لا يلتفت إلينا فنرجع بخفي حنين، وهناك ناس صالحون كالأنبياء والرسل والشهداء قريبون إليه سبحانه، يستجيب لهم إذا دعوه، ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا لديه، أفلا يكون الأولى بنا والأحرى أن نتوسل إليه بجاههم، ونقدم بين يدي دعائنا ذكرهم، عسى أن ينظر الله تعالى إلينا إكراماً لهم، ويجيب دعاءنا مراعاة لخاطرهم، فلماذا تمنعون هذا النوع من التوسل، والبشر يستعملونه فيما بينهم، فلم لا يستعملونه مع ربهم ومعبودهم؟
ونقول جواباً على هذه الشبهة: إنكم يا هؤلاء إذاً تقيسون الخالق على المخلوق، وتشبهون قيوم السماوات والأرض، أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، الرؤوف الرحيم بأولئك الحكام الظالمين، والمتسلطين المتجبرين الذين لا يأبهون لمصالح الرعية، ويجعلون بينهم وبين الرعية حجباً وأستاراً، فلا يمكنها أن تصل إليهم إلا بوسائط ووسائل، ترضي هذه الوسائط بالرشاوي والهبات، وتخضع لها وتتذلل، وتترضاها وتتقرب إليها، فهل خطر ببالكم أيها المساكين أنكم حين تفعلون ذلك تذمون ربكم، وتطعنون به، وتؤذونه، وتصفونه بما يمقته وما يكرهه؟ هل خطر ببالكم أنكم تصفون الله تعالى بأبشع الصفات حين تقيسونه على الحكام الظلمة، والمتسلطين الفجرة، فكيف يسوِّغ هذا لكم دينكم، وكيف يتفق هذا مع ما يجب عليكم من تعظيمكم لربكم، وتمجيدكم لخالقكم؟
ترى لو كان يمكن لأحد الناس أن يخاطب الحاكم وجهاً لوجه، ويكلمه دون واسطة أو حجاب أيكون ذلك أكمل وأمدح له، أم حين لا يتمكن من مخاطبته إلا من خلال وسائط قد تطول وقد تقصر؟
يا هؤلاء إنكم تفخرون في أحاديثكم بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وتمجدونه وتشيدون به وتبينون للناس أنه كان متواضعاً لا يتكبر ولا يتجبر، وكان قريباً من الناس، يتمكن أضعفهم من لقائه ومخاطبته، وأنه كان يأتيه الأعرابي الجاهل الفظ من البادية، فيكلمه دون واسطة أو حجاب، فينظر في حاجته ويقضيها له إن كانت حقاً. ترى هل هذا النوع من الحكام خير وأفضل، أم ذاك النوع الذي تضربون لربكم به الأمثال؟
فما لكم كيف تحكمون؟ وما لعقولكم أين ذهبت، وما لتفكيركم أين غاب، وكيف ساغ لكم تشبيه الله تعالى بالملك الظالم، أم كيف غطى عنكم الشيطان بشاعة قياس الله سبحانه على الأمير الغاشم؟

يا هؤلاء إنكم لو شبهتم الله تعالى بأعدل الناس وأتقى الناس، وأصلح الناس لكفرتم، فكيف وقد شبهتموه بأظلم الناس، وأفجر الناس، وأخبث الناس؟
يا هؤلاء إنكم لو قستم ربكم الجليل على عمر بن الخطاب التقي العادل لوقعتم في الشرك، فكيف تردى بكم الشيطان، فلم ترضوا بذلك حتى أوقعكم في قياس ربكم على أهل الجور والفساد من الملوك والأمراء والوزراء؟
إن تشبيه الله تعالى بخلقه كفر كله حذر منه سبحانه حيث قال: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [سورة النحل:73 - 74] (1) كما نفى سبحانه أي مشابهة بينه وبين أي خلق من مخلوقاته فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [سورة الشورى: 11]. ولكن شر تشبيه أن يشبهه المرء بالأشرار والفجار والفساق من الولاة، وهو يظن أنه يحسن صنعاً! إن هذا هو الذي يحمل بعض العلماء والمحققين على المبالغة في إنكار التوسل بذوات الأنبياء، واعتباره شركاً، وإن كان هو نفسه ليس شركاً عندنا، بل يخشى أن يؤدي إلى الشرك، وقد أدى فعلاً بأولئك الذين يعتذرون لتوسلهم بذلك التشبيه السابق الذي هو الكفر بعينه لو كانوا يعلمون.
ومن هنا يتبين أن قول بعض الدعاة الإسلاميين اليوم في الأصل الخامس عشر من أصوله العشرين: (والدعاء إذا قُرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء، وليس من مسائل العقيدة) ليس صحيحاً على إطلاقه لما علمت أن في الواقع ما يشهد بأنه خلاف جوهري، إذ فيه شرك صريح ... ولعل مثل هذا القول الذي يهوِّن من أمر هذا الانحراف هو أحد الأسباب التي تدفع الكثيرين إلى عدم البحث فيه، وتحقيق الصواب في أمره، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى استمرار المبتدعين في بدعهم، واستفحال خطرها بينهم، ولذلك قال الإمام العز بن عبد السلام في رسالة (الواسطة) (ص5): (ومن أثبت الأنبياء وسواهم من مشايخ العلم والدين وسائط بين الله وبين خلقه كالحجَّاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله تعالى حوائج خلقه، وأن الله تعالى إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملك حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، ولأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطلب، فمن أثبتهم وسائط على هذ الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء مشبَّهون لله، شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أنداداً ... ).
الشبهة الرابعة: هل هناك مانع من التوسل المبتدع على وجه الإباحة لا استحباب؟
قد يقول القائل: صحيح أنه لم يثبت في السنة ما يدل على استحباب التوسل بذوات الأنبياء والصالحين، ولكن ما المانع منه إذا فعلناه على طريق الإباحة، لأنه لم يأتِ نهي عنه؟
فأقول: هذه شبهة طالما سمعناها ممن يريد أن يتخذ موقفاً وسطاً بين الفريقين لكي يرضي كلاً منهما، وينجو من حملاتهما عليه! والجواب: يجب أن لا ننسى في هذا المقام معنى الوسيلة إذ هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود ...
_________
(1) [3763])) قال الحافظ ابن كثير: (أي لا تجعلوا لله أنداداً وأشباهاً وأمثالاً).

ولا يخفى أن الذي يراد التوصل إليه إما أن يكون دينياً، أو دنيوياً، وعلى الأول لا يمكن معرفة الوسيلة التي توصل إلى الأمر الديني إلا من طريق شرعي، فلو ادعى رجل أن توسله إلى الله تعالى بآية من آياته الكونية العظيمة كالليل والنهار مثلاً سبب لاستجابة الدعاء لرد عليه ذلك إلا أن يأتي بدليل، ولا يمكن أن يقال حينئذ بإباحة هذا التوسل، لأنه كلام ينقض بعضه بعضاً، أنك تسميه توسلاً، وهذا لم يثبت شرعاً، وليس له طريق آخر في إثباته، وهذا بخلاف القسم الثاني من القسمين المذكورين وهو الدنيوي، فإن أسبابه يمكن أن تعرف بالعقل أو بالعلم أو بالتجربة ونحو ذلك، مثل الرجل يتاجر ببيع الخمر، فهذا سبب معروف للحصول على المال، فهو وسيلة لتحقيق المقصود وهو المال، ولكن هذه الوسيلة نهى الله عنها، فلا يجوز اتباعها بخلاف ما لو تاجر بسبب لم يحرمه الله عز وجل، فهو مباح، أما السبب المدعى أن يقرب إلى الله وأنه أرجى في قبوله الدعاء، فهذا سبب لا يعرف إلا بطريق الشرع، فحين يقال: بأن الشرع لم يرد بذلك، لم يجز تسميته وسيلة حتى يمكن أن يقال إنه مباح التوسل به،. ......
وشيء ثان: وهو أن التوسل الذي سلمنا بعدم وروده قد جاء في الشرع ما يغني عنه، وهو التوسلات الثلاثة التي سبق ذكرها في أول البحث، فما الذي يحمل المسلم على اختيار هذا التوسل الذي لم يرد، والإعراض عن التوسل الذي ورد؟ وقد اتفق العلماء على أن البدعة إذا صادمت سنة فهي بدعة ضلالة اتفاقاً، وهذا التوسل من هذا القبيل، فلم يجز التوسل به، ولو على طريق الإباحة دون الاستحباب!.
وأمر ثالث: وهو أن هذا التوسل بالذوات يشبه توسل الناس ببعض المقربين إلى الملوك
والحكام، والله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء باعتراف المتوسلين بذلك، فإذا توسل المسلم إليه تعالى بالأشخاص فقد شبهه عملاً بأولئك الملوك والحكام كما سبق بيانه، وهذا غير جائز.
الشبهة الخامسة: قياس التوسل بالذات على التوسل بالعمل الصالح
هذه شبهة أخرى يثيرها بعض أولئك المبتدعين (1) زينها لهم الشيطان، ولقنهم إياها حيث يقولون: قد قدمتم أن من التوسل المشروع اتفاقاً التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح، فإذا كان التوسل بهذا جائزاً فالتوسل بالرجل الصالح الذي صدر منه هذا العمل أولى بالجواز، وأحرى بالمشروعية، فلا ينبغي إنكاره.
والجواب من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا قياس، والقياس في العبادات باطل كما تقدم (ص130)، وما مثل من يقول هذا القول إلا كمثل من يقول: إذا جاز توسل المتوسل بعمله الصالح – وهو بلا شك دون عمل الولي والنبي – جاز أن يتوسل بعمل النبي والولي، وهذا وما لزم منه باطل فهو باطل.
الوجه الثاني: أن هذه مغالطة مكشوفة، لأننا لم نقل – كما لم يقل أحد من السلف قبلنا – أنه يجوز للمسلم أن يتوسل بعمل غيره الصالح، وإنما التوسل المشار إليه إنما هو التوسل بعمل المتوسل الصالح نفسه، فإذا تبين هذا قلبنا عليهم كلامهم السابق فقلنا: إذا كان لا يجوز التوسل بالعمل الصالح الذي صدر من غير الداعي فأولى ثم أولى ألا يجوز التوسل بذاته، وهذا بين لا يخفى والحمد لله. التوسل أنواعه وأحكامه لمحمد ناصر الدين الألباني – بتصرف - ص40
توجيه بعض ما استدل به المبتدعون من جواز التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم مع بيان خطئهم في الاستدلال:
_________
(1) [3764])) منهم صاحب كتاب ((التاج)).

- حديث الأعمى الذي صححه الترمذي ((أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يدعو الله أن يرد بصره عليه، فأمره أن يتوضأ فيصلي ركعتين ويقول: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، يا نبي الله، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضيها، اللهم فشفعه في فدعا الله، فرد الله عليه بصره)) (1).
والجواب عن هذا أن يقال:
أولاً: لا ريب أن الله جعل على نفسه حقاً لعباده المؤمنين، كما قال تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47] , وكما قال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54] وفي (الصحيحين): ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل وهو رديفه: يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم)) (2) فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق.
وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا: هل يوجب بنفسه على نفسه؟ على قولين. ومن جوز ذلك احتج بقوله سبحانه: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54] , وبقوله في الحديث الصحيح: ((إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)) (3) والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية– 2/ 784
- حديث أبي سعيد: ((أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا)) (4) , فهذا الحديث رواه عطية العوفي، وفيه ضعف. لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب، فإن حق السائلين عليه سبحانه، أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له، والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته فهو من التوسل به، والتوجه به، والتسبب به، ولو قدر أنه قسم لكان قسما بما هو من صفاته لأن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله. فصار هذا كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)). اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية– 2/ 796
_________
(1) [3765])) رواه الترمذي (3578) وابن ماجه (1385) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 169) (10495) , وأحمد (4/ 138) (17279) والطبراني (9/ 30) وابن خزيمة في ((صحيحه)) (2/ 225) وعبد بن حميد (1/ 147) , قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وقال الشوكاني في ((تحفة الذاكرين)) (ص: 230): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).
(2) [3766])) رواه البخاري (7373) ومسلم (30).
(3) [3767])) رواه مسلم (2577) من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
(4) [3768])) رواه ابن ماجه (778) وأحمد (3/ 21) (11172) قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 379): لم أره في شيء من الأصول التي جمعها أبو رزين, وقال ابن تيمية في ((الرد على البكري)) (122) في إسناده عطية العوفي وفيه ضعف, وضعفه الألباني في ((ضعيف ابن ماجه)).

ومن هذا الباب: ما يروى عن عبد الله بن جعفر أنه قال: (كنت إذا سألت عليا رضي الله عنه شيئا فلم يعطنيه قلت له: بحق جعفر إلا ما أعطيتنيه فيعطينيه) (1) أو كما قال. فإن بعض الناس ظن أن هذا من باب الإقسام عليه بجعفر، أو من باب قولهم: أسألك بحق أنبيائك، ونحو ذلك. وليس كذلك، بل جعفر هو أخو علي، وعبد الله هو ابنه، وله عليه حق الصلة، فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر، كما في الحديث: ((إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي)) (2) , ولو كان هذا من الباب الذي ظنوه لكان سؤاله لعلي بحق النبي وإبراهيم الخليل ونحوهما، أولى من سؤاله بحق جعفر، فكان علي إلى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته وإجابة السائل به أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره، لكن بين المعنيين فرق. فإن السائل بالنبي، طالب به متسبب به، فإن لم يكن في ذلك السبب ما يقتضي حصول مطلوبه، ولا كان مما يقسم به لكان باطلا.
وإقسام الإنسان على غيره بشيء يكون من باب تعظيم المقسم للمقسم به، وهذا هو الذي جاء به الحديث من الأمر بإبرار القسم، وفي مثل هذا قيل: ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)) (3) , وقد يكون من باب تعظيم المسؤول به. فالأول يشبه ما ذكره الفقهاء في الحلف الذي يقصد به الحض والمنع. والثاني: سؤال للمسؤول بما عنده من محبة المسؤول به وتعظيمه ورعاية حقه.
فإن كان ذلك مما يقتضي حصول مقصود السائل حسن السؤال، كسؤال الإنسان بالرحم. وفي هذا سؤال الله بالأعمال الصالحة، وبدعاء أنبيائه وشفاعتهم. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية– 2/ 801
وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه، فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، وهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: ((اللهم شَفِّعْه فيَّ)) ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك مما يعد من آيات النبي صلى الله عليه وسلم. ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدْعُ لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله (4). قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية- ص 101
- ما روي عن مالك في هذا وجوابه
_________
(1) [3769])) رواه الطبراني (2/ 109) وأحمد في ((العلل)) (1/ 378).
(2) [3770])) رواه مسلم (2552).
(3) [3771])) رواه البخاري (2703).
(4) وقد عمي بعض الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم منهم ابن عباس وجابر وكان ابن عباس راغباً في الشفاء، فلو كان التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم مشروعاً لتوسل بذاته صلى الله عليه وسلم ولشفي وهو أولى بأن يجاب من هذا الصحابي المجهول بل عمي عتبان بن مالك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك ابن أم مكتوم.

ثم ذكر حكاية بإسناد غريب (1) منقطع رواها عن غير واحد إجازة، قالوا: حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهات قال: حدثنا أبو الحسن علي بن فهر، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرح، ثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب، ثنا يعقوب (2) بن إسحاق بن أبي إسرائيل، ثنا ابن حميد (3) قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله أدب قوماً فقال لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: 2] الآية، ومدح قوماً فقال إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [الحجرات: 3] الآية، وذم قوماً فقال إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ [الحجرات: 4] الآية، وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً. فاستكان لها أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو؟ أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله، قال الله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء: 64]: (4).
...
_________
(1) لقد بحثت عن رجال هذا الإسناد بدءًا من أبي العباس أحمد بن عمر بن دلهات إلى أبي الحسن بن المنتاب في ترتيب المدارك للقاضي عياض، والصلة لابن بشكوال، فلم أقف لأحد منهم على ترجمة، فهو إسناد غريب حقاً كما وصفه شيخ الإسلام.
(2) هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن كامجر، قال الدارقطني لا بأس به، ((تاريخ بغداد)) (14/ 291).
(3) قال الذهبي في ((المغني)) (2/ 573): ضعيف لا من قبل حفظه، قال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير. وقال البخاري: فيه نظر. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبوزرعة: يكذب. وقال صالح جزرة: ما رأيت أحذق بالكذب منه ومن ابن الشاذكوني.
(4) قال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (1/ 353): كذب على مالك ليس لها إسناد معروف وهو خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات في كتب أصحابه.

وهذه الحكاية منقطعة؛ فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكاً لا سيما في زمن أبي جعفر المنصور، فإن أبا جعفر توفي بمكة سنة ثمان وخمسين ومائة، وتوفي مالك سنة تسع وسبعين ومائة، وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة ثمان وأربعين ومائتين (1) ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه (2). وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث، كذَّبه أبو زرعة (3) وابن وارة (4). وقال صالح بن محمد الأسدي (5): ما رأيت أحدًا أجرأ على الله منه وأحذق بالكذب منه (6). وقال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير (7). وقال النسائي: ليس بثقة (8). وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالمقلوبات (9).
وآخر من روى (الموطأ) عن مالك هو أبو مصعب (10) وتوفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وآخر من روى عن مالك على الإطلاق هو أبو حذيفة أحمد ابن إسماعيل السهمي (11) توفي سنة تسع وخمسين ومائتين.
وفي الإسناد أيضاً من لا يعرف حاله (12).
_________
(1) انظر: كتاب ((المجروحين)) لابن حبان (2/ 303)، و ((الكاشف)) (3/ 326)، و ((تهذيب التهذيب)) (9/ 131)، والميزان (3/ 531).
(2) ولم يذكره أحد في تلاميذ مالك حتى المزي في ((تهذيب الكمال))، انظر ترجمة مالك في ((تهذيب الكمال)) (3/ 1296 - 1297)، وترجمة محمد بن حميد منه (3/ 1190 - 1191) وراجع ((ترتيب المدارك)) للقاضي عياض (1/ 282 - 545) وقد قسم فيه الرواة عن مالك إلى طبقتين: كبرى وصغرى، وعلى حسب البلدان، ولم يذكر فيهم ابن حميد وهذا يؤكد ما قاله شيخ الإسلام.
(3) قال ابن حبان في ((المجروحين)) (2/ 204). قال أبو زرعة وابن وارة - أي للإمام أحمد -: صح عندنا أنه يكذب قال - يعني صالح بن أحمد -: فرأيت أبي بعد ذلك إذا ذكر ابن حميد نفض يده.
(4) الحافظ الكبير الثبت أبو عبد الله محمد بن مسلم بن عثمان بن وارة الرازي، مات سنة (270)، ((تذكرة الحفاظ)) (2/ 575).قال الحافظ: ثقة حافظ .. من الحادية عشر/ س. (تقريب) (2/ 207).
(5) الحافظ العلامة شيخ ما وراء النهر، أبو علي صالح بن محمد بن عمرو بن حبيب الأسدي مولاهم البغدادي، نزيل بخارى، كان ثبتاً صدوقاً مشهوراً. قال أبو سعد الإدريسي: ما أعلم بعصر صالح بالعراق ولا بخراسان في الحفظ مثله ... ، ((تذكرة الحفاظ)) (2/ 541 - 543).
(6) انظر: ((تاريخ بغداد)) (2/ 262) وقال: محمد بن حميد أحاديثه تزيد وما رأيت أجرأ على الله منه.
(7) ((تاريخ بغداد)) (2/ 260)
(8) ((تاريخ بغداد)) (2/ 263).
(9) كتاب ((المجروحين)) (2/ 203). وقال البخاري في ((التاريخ)) (ق1/ج1/ 69): فيه نظر. وقال إسحاق بن منصور: أشهد على محمد بن حميد وعبيد بن إسحاق العطار أنهما كذابان. ((تاريخ بغداد)) (2/ 263). وجرت له قصتان مع أبي حاتم الرازي ومحمد بن عيسى الدامغاني اتضح منهما كذبه العريض. ((الجرح والتعديل)) لابن أبي حاتم (7/ 232 - 233). راجع هذه الأقوال في ((تهذيب الكمال)) (3/ 1190 - 1191)، و ((تهذيب التهذيب)) (9/ 127 - 131)، و ((الميزان)) (3/ 530).
(10) الإمام الفقيه أحمد بن أبي بكر الزهري المدني، قاضي المدينة وعالمها، سمع مالكاً وطائفة. وفاته كما ذكر شيخ الإسلام. راجع ((الكاشف)) (1/ 53)، و ((التقريب)) (1/ 12)، و ((التذكرة)) (ص 482).
(11) الأمر كما ذكر المؤلف. انظر ((الكاشف)) (1/ 52)، و ((التقريب)) (1/ 11).
(12) لعله يشير بهذا إلى معظم رجال الإسناد من ابن دلهات إلى يعقوب بن إسحاق، وقد أخبرت أني لم أقف لهم على خبر بعد بحث، فلعل واحداً من هؤلاء المجهولين اخترع هذه الحكاية إن سلم من اختراعها ابن حميد.

وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه، ومحمد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند، فكيف إذا أرسل (1) حكاية لا تعرف إلا من جهته! (2).
هذا إن ثبتت عنه، وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له في مسألة في الفقه، بل إذا روى عنه الشاميون كالوليد بن مسلم ومروان بن محمد الطاطري ضعفوا رواية هؤلاء، وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين، فكيف بحكاية تناقض مذهبه المعروف عنه من وجوه رواها واحد من الخراسانيين لم يدركه وهو ضعيف عند أهل الحديث!.
مع أن قوله: (وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة). إنما يدل على توسل آدم وذريته به يوم القيامة ...
كما جاءت به الأحاديث الصحيحة (3) حين يأتي الناس يوم القيامة آدم ليشفع لهم، فيردّهم آدم إلى نوح، ثم يردهم نوح إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى عيسى، ويردهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كما قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر)) (4).
ولكنها مناقضة لمذهب مالك المعروف من وجوه:
أحدها، قوله: (أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله وأدعو!) فقال: (ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم)؛ فإن المعروف عن مالك وغيره من الأئمة وسائر السلف من الصحابة والتابعين أن الداعي إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة ويدعو في مسجده، ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه، بل إنما يستقبل القبر عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء له. هذا قول أكثر العلماء كمالك في إحدى الروايتين والشافعي وأحمد وغيرهم ... ومما يوهن هذه الحكاية أنه قال فيها: "ولم تصرفُ وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة". إنما يدل على أنه يوم القيامة يتوسل الناس بشفاعته، وهذا حق كما تواترت به الأحاديث، لكن إذا كان الناس يتوسلون بدعائه وشفاعته يوم القيامة، كما كان أصحابه يتوسلون بدعائه وشفاعته في حياته، فإنما ذاك طلب لدعائه وشفاعته، فنظير هذا - لو كانت الحكاية صحيحة - أن يطلب منه الدعاء والشفاعة في الدنيا عند قبره.
_________
(1) يريد بهذا شيخ الإسلام أن ابن حميد على مافيه من بلاء لم يصرح في رواية هذه الحكاية بصيغة من صيغ التحديث؛ كسمعت مالكاً، أو حدثني، أو أخبرني، أو عن مالك، أو قال مالك، وإنما قال: ناظر مالك فهي بهذا التعبير مرسلة، فإن سلم محمد بن حميد من تبعتها، فهناك احتمال آخر أن يكون رجل كذاب اخترع هذه الحكاية، ونسبها إلى مالك، أو يكون هناك عدد من الوسائط بين محمد بن حميد وبين مالك فيهم كذاب أو كذابون تداولوا هذه الحكاية حتى وصلت إلى محمد بن حميد.
(2) يقصد شيخ الإسلام أن محمد بن حميد مع عدم إدراكه لمالك، فقد انفرد من بين أصحاب مالك على كثرتهم، وكثرة الأئمة الحفاظ فيهم، وعلى كثرة من لازمه منهم، ومع معرفتهم وحفظهم وإتقانهم لحديثه ومثل محمد بن حميد - وأصدق منه - إذا انفرد عن أصحاب مالك بحديث، أو مثل هذه الحكاية، لا تقبل منه، ولو أسندها فكيف إذا أرسلها.
(3) رواه البخاري (4712) ومسلم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) رواه الترمذي (3148) , وابن ماجه (4308) , قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 325): في إسناده علي بن يزيد بن جدعان, وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) ,

ومعلوم أن هذا لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ولا سَنَّهُ لأمته، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين لا مالك ولا غيره من الأئمة، فكيف يجوز أن ينسب إلى مالك مثل هذا الكلام الذي لا يقوله إلا جاهل لا يعرف الأدلة الشرعية ولا الأحكام المعلومة بأدلتها الشرعية، مع علو قدر مالك وعظم فضيلته وإمامته، وتمام رغبته في اتباع السنة وذم البدع وأهلها؟ وهل يأمر بهذا أو يشرعه إلا مبتدع؟ فلو لم يكن عن مالك قول يناقض هذا لعلم أنه لا يقول مثل هذا.
ثم قال في الحكاية: "استقبله واستشفع به فيشفعك الله". والاستشفاع به معناه في اللغة؛ أن يطلب منه الشفاعة كما يستشفع الناس به يوم القيامة، وكما كان أصحابه يستشفعون به.
ومنه الحديث الذي في (السنن) (1) ((أن أعرابياً قال: يا رسول الله! جهدت الأنفس وجاع العيال، وهلك المال، فادْعُ الله لنا فإنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله. فسبح رسول الله حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال: ويحك أتدري ما تقول؟ شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه)).
وذكر تمام الحديث فأنكر قوله: "نستشفع بالله عليك". ومعلوم أنه لا ينكر أن يُسأل المخلوق بالله أو يقسم عليه بالله، وإنما أن يكون الله شافعاً إلى المخلوق، ولهذا لم ينكر قوله: "نستشفع بك على الله"؛ فإنه هو الشافع المشفع.
وهم – لو كانت الحكاية صحيحة – إنما يجيئون إليه لأجل طلب شفاعته صلى الله عليه وسلم ولهذا قال في تمام الحكاية: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا [النساء: 64] الآية، وهؤلاء إذا شرع لهم أن يطلبوا منه الشفاعة والاستغفار بعد موته فإذا أجابهم فإنه يستغفر لهم، واستغفاره لهم دعاء منه وشفاعة أن يغفر الله لهم.
وإذا كان الاستشفاع منه طلب شفاعته، فإنما يقال في ذلك: (استشفعْ به فيشفعه الله فيك) لا يقال: فيشفعك الله فيه وهذا معروف الكلام، ولغة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر العلماء، يقال: شفع فلان في فلان فشفع فيه. فالمشفع الذي يشفعه المشفوع إليه هو الشفيع المستشفع به، لا السائل الطالب من غيره أن يشفع له، فإن هذا ليس هو الذي يشفع، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الشفيع المشفع، ليس المشفع الذي يستشفع به. ولهذا يقول في دعائه: يا رب شفعني، فيشفعه الله فيطلب من الله سبحانه أن يشفعه لا أن يشفع طالبي شفاعته، فكيف يقول: واستشفع به فيشفعك الله؟.
وأيضاً فإنَّ طلب شفاعته ودعائه واستغفاره بعد موته وعند قبره ليس مشروعاً عند أحد من أئمة المسلمين، ولا ذكر هذا أحد من الأئمة الأربعة وأصحابهم القدماء، وإنما ذكر هذا بعض المتأخرين قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية– ص147
_________
(1) رواه أبوداود (4726) والطبراني (2/ 128) والآجري في ((الشريعة)) (1/ 280) من حديث جبير بن مطعم, قال أبو داود والحديث بإسناد أحمد بن سعيد هو الصحيح وافقه عليه جماعة, وقال ابن القيم في ((مختصر الصواعق المرسلة)) (434): إسناده حسن, وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (1/ 8): له طريق أخرى عند غير محمد بن إسحاق, وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن أبي داود)).

ثالثا: أحاديث وآثار ضعيفة في التوسل
يحتج مجيزو التوسل المبتدع بأحاديث كثيرة، إذا تأملناها نجدها تندرج تحت نوعين اثنين، الأول ثابت بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يدل على مرادهم، ولا يؤيد رأيهم كحديث الضرير، وقد تقدم الكلام على هذا النوع.
والنوع الثاني غير ثابت النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضه يدل على مرادهم، وبعضه لا يدل، وهذه الأحاديث التي لا تصح كثيرة، فأكتفي بذكر ما اشتهر منها، فأقول:
الحديث الأول:
عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً ((من خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ... أقبل الله عليه بوجهه)) (1).
رواه أحمد (3/ 21) واللفظ له، وابن ماجه، وانظر تخريجه مفصلاً في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) (رقم 24). وإسناده ضعيف لأنه من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري، وعطية ضعيف كما قال النووي في (الأذكار) وابن تيمية في (القاعدة الجليلة) والذهبي في (الميزان) بل قال في (الضعفاء) (88/ 1): (مجمع على ضعفه)، والحافظ الهيثمي في غير موضع من (مجمع الزوائد) منها (5/ 236) وأورده أبو بكر بن المحب البعلبكي في (الضعفاء والمتروكين)، والبوصيري كما يأتي، وكذا الحافظ ابن حجر بقوله فيه: (صدوق يخطئ كثيراً، كان شيعياً مدلساً، وقد أبان فيه عن سبب ضعفه وهو أمران:
الأول: ضعف حفظه بقوله: (يخطئ كثيراً، وهذا كقوله فيه (طبقات المدلسين): (ضعيف الحفظ) وأصرح منه قوله في (تلخيص الحبير) (ص241 طبع الهند) وقد ذكر حديثاً آخر: (وفيه عطية بن سعيد العوفي وهو ضعيف).
الثاني: تدليسه، لكن كان على الحافظ أن يبين نوع تدليسه، فإن التدليس عند المحدثين على أقسام كثيرة من أشهرها ما يلي:
الأول: أن يروي الراوي عمن لقيه ما لم يسمعه منه، أو عمن عاصره ولم يلقه، موهماً أنه سمعه منه، كأن يقول: عن فلان، أو قال فلان.
الثاني: أن يأتي الراوي باسم شيخه أو لقبه على خلاف المشهور به تعمية لأمره، وقد صرحوا بتحريم هذا النوع إذا كان شيخه غير ثقة، فدلسه لئلا يعرف حاله، أو أوهم أنه رجل آخر من الثقات على وفق اسمه أو كنيته، وهذا يعرف عندهم بتدليس الشيوخ.
... وتدليس عطية من هذا النوع المحرم، كما كنت بينته في كتابي (الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة).
وخلاصة ذلك أن عطية هذا كان يروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فلما مات جالس أحد الكذابين المعروفين، بالكذب في الحديث وهو الكلبي، فكان عطية إذا روى عنه كناه أبا سعيد، فيتوهم السامعون منه أنه يريد أبا سعيد الخدري! وهذا وحده عندي يسقط عدالة عطية هذا، فكيف إذا انضم إلى ذلك سوء حفظه! ولهذا كنت أحب للحافظ رحمه الله أن ينبه على أن تدليس عطية من هذا النوع الفاحش، ولو بالإشارة كما فعل في (طبقات المدلسين) إذ قال: (مشهور بالتدليس القبيح) ...
ثم كأن الحافظ نسي أو وهم – أو غير ذلك من الأسباب التي تعرض للبشر – فقال في تخريجه لهذا الحديث: إن عطية قال في رواية: حدثني أبو سعيد. قال: (فأمن بذلك تدليس عطية) كما نقله ابن علان عنه، وقلده في ذلك بعض المعاصرين.
...
_________
(1) [3794])) انظر ((مسند أحمد)) (3/ 21) (11172) , ورواه ابن ماجه (778) , قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 379): لم أره في شيء من الأصول التي جمعها أبو رزين, وقال ابن تيمية في ((الرد على البكري)) (122) في إسناده عطية العوفي وفيه ضعف, وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 426): إسناده حسن, وحسنه ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/ 267) , وضعفه الألباني في ((ضعيف ابن ماجه)) (152). انظر ((السلسلة الضعيفة)) (24).

والتصريح بالسماع إنما يفيد إذا كان التدليس من النوع الأول، وتدليس عطية من النوع الآخر القبيح، فلا يفيد فيه ذلك، لأنه في هذه الرواية أيضاً قال: (حدثني أبو سعيد) فهذا هو عين التدليس القبيح.
فتبين مما سبق أن عطية ضعيف لسوء حفظه وتدليسه الفاحش، فكان حديثه هذا ضعيفاً، وأما تحسين الحافظ له الذي اغتر به من لا علم عنده فهو بناء على سهوه السابق، فتنبه ولا تكن من الغافلين. وفي الحديث علل أخرى تكلمت عليها في الكتاب المشار إليه سابقاً، فلا حاجة للإعادة، فليرجع إليه من شاء الزيادة.
وأما فهم بعض المعاصرين من عبارة الحافظ ابن حجر السابقة في (التقريب) أنها تفيد توثيق عطية هذا ففهم لا يغبطون عليه، وقد سألت الشيخ أحمد بن الصديق حين التقيت به في ظاهرية دمشق عن هذا الفهم فتعجب منه، فإن من كثر خطؤه في الرواية سقطت الثقة به بخلاف من قال ذلك منه، فالأول ضعيف الحديث، والآخر حسن الحديث، ولذلك جعل الحافظ في (شرح النخبة) من كثر غلطه قرين من ساء حفظه، وجعل حديث كل منهما مردوداً فراجعه مع حاشية الشيخ علي القاري عليه (ص121، 130).
وإنما غرَّ هؤلاء ما نقلوه عن الحافظ أنه قال في (تخريج الأذكار): (ضعف عطية إنما جاء من قبل تشيعه، وقيل تدليسه، وإلا فهو صدوق).
وهم لقصر باعهم إن لم نقل لجهلهم في هذا العلم لا جرأة لهم على بيان رأيهم الصريح في أوهام العلماء، بل إنهم يسوقون كلماتهم كأنها في مأمن من الخطأ والزلل، لا سيما إذا كانت موافقة لغرضهم كهذه الجملة، وإلا فهي ظاهرة التعارض مع قول الحافظ المنقول عن (التقريب) إذ أنها تعلل ضعف عطية بسببين:
أحدهما: التشيع، وهذا ليس جرحاً مطلقاً على الراجح.
والثاني: التدليس، وهذا جرح قد يزول كما سيأتي، ومع ذلك فإنه أشار إلى تضعيفه لهذا السبب بقوله: (قيل). بينما جزم في (التقريب) بأنه كان مدلساً، كما جزم بأنه كان شيعياً، ولذلك أورده (أعني الحافظ نفسه) في رسالة (طبقات المدلسين) (ص18) فقال: (تابعي معروف، ضعيف الحفظ مشهور بالتدليس القبيح) ذكره في (المرتبة الرابعة) وهي التي يورد فيها (من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع، لكثرة تدليسهم عن الضعفاء والمجاهيل كبقية بن الوليد) كما ذكره في المقدمة، فهذان النصان من الحافظ نفسه دليل على وهمه في تضعيفه كون عطية مدلساً في الجملة المذكورة آنفاً. فهذا وجه من وجوه التعارض بينها وبين عبارة (التقريب). وثمة وجه آخر وهو أنه في هذه الجملة لم يصفه بما هو جرح عنده – كما سبق عن (شرح النخبة) – وهو قوله في (التقريب): (يخطئ كثيراً) فهذا كله يدلنا على أن الحافظ رحمه الله تعالى لم يكن قد ساعده حفظه حين تخريجه لهذا الحديث، فوقع في هذا القصور الذي يشهد به كلامه المسطور في كتبه الأخرى، وهي أولى بالاعتماد عليها من كتابه (التخريج)، لأنه في تلك ينقل عن الأصول مباشرة، ويلخص منها بخلاف صنيعه في (التخريج).
ولما ذكرنا من حال العوفي ضعف الحديث غير واحد من الحفاظ كالمنذري في (الترغيب) والنووي وشيخ الإسلام ابن تيمية في (القاعدة الجليلة) وكذا البوصيري، فقال في (مصباح الزجاجة) (2/ 52): (هذا إسناد مسلسل بالضعفاء: عطية وفضيل بن مرزوق والفضل بن الموفق كلهم ضعفاء). وقال صديق خان في (نزل الأبرار) (ص71) بعد أن أشار لهذا الحديث وحديث بلال الآتي بعده: (وإسنادهم ضعيف، صرح بذلك النووي في (الأذكار).
الحديث الثاني:

وحديث بلال الذي أشار إليه صديق خان هو ما روي عنه أنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى الصلاة قال: بسم الله، آمنت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله. اللهم بحق السائلين عليك، وبحق مخرجي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً .. )) (1) الحديث أخرجه ابن السني في (عمل اليوم والليلة – رقم82) من طريق الوازع بن نافع العقيلي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله عنه.
... وهذا سند ضعيف جداً، وآفته الوازع هذا، فإنه لم يكن عنده وازع يمنعه من الكذب، كما بينته في (السلسلة الضعيفة) ولذلك لما قال النووي في (الأذكار): (حديث ضعيف أحد رواته الوازع بن نافع العقيلي وهو متفق على ضعفه، وأنه منكر الحديث) قال الحافظ بعد تخريجه: (هذا حديث واه جداً، أخرجه الدارقطني في (الأفراد) من هذا الوجه وقال: تفرد به الوازع، وهو متفق على ضعفه وأنه منكر الحديث. والقول فيه أشد من ذلك، فقال ابن معين والنسائي: ليس بثقة، وقال أبو حاتم وجماعة، متروك الحديث، وقال الحاكم: يروي أحاديث موضوعة).
... فلا يجوز الاستشهاد به كما فعل الشيخ الكوثري، والشيخ الغماري في (مصباح الزجاجة) وغيرهما من المبتدعة.
ومع كون هذين الحديثين ضعيفين فهما لا يدلان على التوسل بالمخلوقين أبداً، وإنما يعودان إلى أحد أنواع التوسل المشروع الذي تقدم الكلام عنه، وهو التوسل إلى الله تعالى بصفة من صفاته عز وجل، لأن فيهما التوسل بحق السائلين على الله وبحق ممشى المصلين. فما هو حق السائلين على الله تعالى؟، لا شك أنه إجابة دعائهم، وإجابة الله دعاء عباده صفة من صفاته عز وجل، وكذلك حق ممشى المسلم إلى المسجد هو أن يغفر الله له، ويدخله الجنة ومغفرة الله تعالى ورحمته، وإدخاله بعض خلقه ممن يطيعه الجنة. كل ذلك صفات له تبارك وتعالى.
وبهذا تعلم أن هذا الحديث الذي يحتج به المبتدعون ينقلب عليهم، ويصبح بعد فهمه فهماً جيداً حجة لنا عليهم، والحمد لله على توفيقه.
الحديث الثالث:
عن أبي أمامة قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح، وإذا أمسى دعا بهذا الدعاء: اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد .. أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، وبكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك ... )) (2).
قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (10/ 117): (رواه الطبراني، وفيه فضال بن جبير، وهو ضعيف مجمع على ضعفه).
... بل هو ضعيف جداً، اتهمه ابن حبان فقال: (شيخ يزعم أنه سمع أبا أمامة، يروي عنه ما ليس منه حديثه). وقال أيضاً: (لا يجوز الاحتجاج به بحال، يروي أحاديث لا أصل لها).
وقال ابن عدي في (الكامل) (25/ 13): (أحاديثه كلها غير محفوظة).
... فالحديث شديد الضعف، فلا يجوز الاستشهاد به أيضاً، كما فعل صاحب (المصباح) (ص56).
الحديث الرابع:
_________
(1) [3795])) انظر ((عمل اليوم والليلة) (1/ 161) لابن السني, قال ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/ 267): الحديث واه جدا, وقال النووي في ((الأذكار)) (1/ 78): حديث ضعيف أحد رواته الوازع بن نافع العقيلي وهو متفق على ضعفه وأنه منكر الحديث. والحديث رواه ابن ماجه (778) , وأحمد (3/ 21) (11172) , من حديث فضيل بن مرزوق عن عطية بن سعد العوفى عن أبى سعيد الخدرى, قال ابن تيمية في ((الرد على البكري)) (122): في إسناده عطية العوفي وفيه ضعف, وضعفه الألباني في ((ضعيف ابن ماجه)).
(2) [3796])) رواه الطبراني (8/ 264) , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 120): فيه فضال بن جبير وهو ضعيف مجمع على ضعفه, وضعفه الألباني انظر ((السلسلة الضعيفة)) (6253).

عن أنس بن مالك قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي رضي الله عنهما دعا أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون ...
فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضطجع فيه فقال: ((الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها، ووسع مدخلها بحق نبيك، والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين ... )) (1).
قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (9/ 257): (رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه روح بن صلاح، وثقة ابن حبان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح).
... ومن طريق الطبراني رواه أبو نعيم في (حلية الأولياء) (3/ 121) وإسناده عندهما ضعيف، لأن روح بن صلاح الذي في إسناده قد تفرد به، كما قال أبو نعيم نفسه، وروح ضعفه ابن عدي، وقال ابن يونس: رويت عنه مناكير، وقال الدارقطني (ضعيف في الحديث) وقال ابن ماكولا: (ضعفوه) وقال ابن عدي بعد أن أخرج له حديثين: (له أحاديث كثيرة، في بعضها نكرة) فقد اتفقوا على تضعيفه فكان حديثه منكراً لتفرده به.
وقد ذهب بعضهم إلى تقوية هذا الحديث لتوثيق ابن حبان والحاكم لروح هذا، ولكن ذلك لا ينفعهم، لما عرفا به من التساهل في التوثيق، فقولهما عند التعارض لا يقام له وزن حتى لو كان الجرح مبهماً، فكيف مع بيانه كما هي الحال هنا، وقد فصلت الكلام على ضعف هذا الحديث في (السلسلة الضعيفة) فلا نعيد الكلام عليه في هذه العجالة ...
الحديث الخامس:
عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين)) (2).
فيرى المخالفون أن هذا الحديث يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب من الله تعالى أن ينصره، ويفتح عليه بالضعفاء المساكين من المهاجرين، وهذا – بزعمهم – هو التوسل المختلف فيه نفسه.
والجواب من وجهين:
الأول: ضعف الحديث، فقد أخرجه الطبراني في (المعجم الكبير) (1/ 81/2): حدثنا محمد بن إسحاق بن راهويه حدثنا أبي حدثنا عيسى بن يونس حدثني أبي عن أبيه عن أمية به.
وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي بن عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي إسحاق عن أمية بن خالد به. ثم رواه من طريق قيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن المهلب بن أبي صفرة عن أمية بن خالد مرفوعاً بلفظ:
(( ... يستفتح ويستنصر بصعاليك المسلمين)).
... مداره على أمية هذا، ولم تثبت صحبته، فالحديث مرسل ضعيف، وقال ابن عبد البر في (الاستيعاب) (1/ 38): (لا تصح عندي صحبته، والحديث مرسل) وقال الحافظ في (الإصابة) (1/ 133): (ليست له صحبة ولا رواية).
... وفيه علة أخرى، وهي اختلاط أبي إسحاق وعنعنته، فإنه كان مدلساً، إلا أن سفيان سمع منه قبل الاختلاط، فبقيت العلة الأخرى وهي العنعنة.
فثبت بذلك ضعف الحديث وأنه لا تقوم به حجة. وهذا هو الجواب الأول.
_________
(1) [3797])) رواه الطبراني في ((الكبير)) (24/ 351) , وفي ((الأوسط)) (1/ 67) وضعفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (23).
(2) [3798])) رواه الطبراني (1/ 292) , قال ابن عبد البر في ((الاستيعاب)) (1/ 197): مرسل, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 142): رواته رواة الصحيح وهو مرسل, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 265): رجاله رجال الصحيح, وقال ابن حجر في ((هداية الرواة)) (4/ 57): مرسل, وضعفه الألباني في ((ضعيف الترغيب)) (1858) ,

الثاني: أن الحديث لو صح فلا يدل إلا على مثل ما دل عليه حديث عمر، وحديث الأعمى من التوسل بدعاء الصالحين. قال المناوي في (فيض القدير): ((كان يستفتح)) أي يفتتح القتال، من قوله تعالى: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال:19] ذكره الزمخشري.
((ويستنصر)) أي يطلب النصرة ((بصعاليك المسلمين)) أي بدعاء فقرائهم الذين لا مال لهم.
... وقد جاء هذا التفسير من حديثه، أخرجه النسائي (2/ 15) بلفظ: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم، وصلاتهم وإخلاصهم)) (1) وسنده صحيح، وأصله في (صحيح البخاري)، فقد بين الحديث أن الاستنصار إنما يكون بدعاء الصالحين،
لا بذواتهم وجاههم.
ومما يؤكد ذلك أن الحديث ورد في رواية قيس بن الربيع المتقدمة بلفظ: ((كان يستفتح ويستنصر ... )) فقد علمنا بهذا أن الاستنصار بالصالحين يكون بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم، وهكذا الاستفتاح، وبهذا يكون هذا الحديث – إن صح – دليلاً على التوسل المشروع، وحجة على التوسل المبتدع، والحمد لله.
الحديث السادس:
عن عمر بن الخطاب مرفوعاً: ((لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال: يا آدم ‍! وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضِف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال: غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتُك)) (2).
أخرجه الحاكم في (المستدرك) (2/ 615) من طريق أبي الحارث عبد الله بن مسلم الفهري: حدثنا إسماعيل بن مسلمة: أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر. وقال: صحيح الإسناد ...
فتعقبه الذهبي فقال: (قلت: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ، وعبد الله بن أسلم الفهري لا أدري من ذا) قلت: ومن تناقض الحاكم في (المستدرك) نفسه أنه أورد فيه (3/ 332) حديثاً آخر لعبد الرحمن هذا ولم يصححه، بل قال: (والشيخان لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد!).
... والفهري هذا أورده الذهبي في (الميزان) وساق له هذا الحديث وقال: (خبر باطل)، وكذا قال الحافظ ابن حجر في (اللسان) (3/ 360) وزاد عليه قوله في الفهري هذا: (لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله فإنه من طبقته) قلت: والذي قبله هو عبد الله بن مسلم بن رُشيد، قال الحافظ: ذكره ابن حبان، متهم بوضع الحديث، يضع على ليث ومالك وابن لهيعة، لا يحل كتب حديثه، وهو الذي روى عن ابن هدية نسخة كأنها معمولة).
... والحديث رواه الطبراني في (المعجم الصغير) (ص207): ثنا محمد بن داود بن أسلم الصدفي المصري: ثنا أحمد بن سعيد المدني الفهري: ثنا عبد الله بن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم به. وهذا سند مظلم فإن كل من دون عبد الرحمن لا يعرفون، وقد أشار إلى ذلك الحافظ الهيثمي حيث قال في (مجمع الزوائد) (8/ 253): (رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه من لم أعرفهم).
...
_________
(1) [3799])) رواه النسائي (6/ 45) (3178) , وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2/ 409): إسناده صحيح على شرط الشيخين. والحديث أصله في ((صحيح البخاري)) (2896).
(2) [3800])) رواه الحاكم (2/ 672): وقال هذا حديث صحيح الإسناد, وتعقبه الذهبي وقال: بل موضوع, وقال البيهقي في ((دلائل النبوة)) (5/ 489): تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه عنه وهو ضعيف, وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (2/ 299): [فيه] عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وفيه كلام, وقال الألباني في ((التوسل)) (103): موضوع.

وهذا إعلال قاصر، يوهم من لا علم عنده أن ليس فيهم من هو معروف بالطعن فيه، وليس كذلك فإن مداره على عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال البيهقي: (إنه تفرد به) وهو متهم بالوضع، رماه بذلك الحاكم نفسه، ولذلك أنكر العلماء عليه تصحيحه لحديثه، ونسبوه إلى الخطأ والتناقض، فقال (وارث علم الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين شيخ الإسلام ابن تيمية) (1) رحمه الله في (القاعدة الجليلة) (ص89): (ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه، فإنه نفسه قد قال في كتاب (المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم): (عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة، لا تخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه) , قلت: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيراً (2)، ضعفه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني، وغيرهم. وقال ابن حبان: (كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك من روايته من رفع المراسيل، وإسناد الموقوف، فاستحق الترك).
وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث، وقالوا: إن الحاكم يصحح أحاديث موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث. ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم).
... وقد أورد الحاكم نفسه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في كتابه (الضعفاء) كما سماه
العلامة ابن عبد الهادي، وقال في آخره: (فهؤلاء الذين قدمت ذكرهم قد ظهر عندي جرحهم، لأن الجرح لا يثبت إلا ببينة، فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به، فإن الجرح لا أستحله تقليداً، والذي أختاره لطالب هذا الشأن أن لا يكتب حديث واحد من هؤلاء الذين سميتهم، فالراوي لحديثهم داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْن)) (3).
... فمن تأمل في كلام الحاكم هذا والذي قبله يتبين له بوضوح أن حديث عبد الرحمن بن زيد هذا موضوع عند الحاكم نفسه، وأن من يرويه بعد العلم بحاله فهو أحد الكاذبَيْن.
وقد اتفق عند التحقيق كلام الحفاظ ابن تيمية والذهبي والعسقلاني على بطلان هذا الحديث، وتبعهم على ذلك غير واحد من المحققين كالحافظ ابن عبد الهادي كما سيأتي، فلا يجوز لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصحح الحديث بعد اتفاق هؤلاء على وضعه تقليداً للحاكم في أحد قوليه، مع اختياره في قوله الآخر لطالب العلم أن لا يكتب حديث عبد الرحمن هذا، وأنه إن فعل كان أحد الكاذبين كما سبق.
... أن للحديث علتين:
الأولى: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأنه ضعيف جداً.
الثانية: جهالة الإسناد إلى عبد الرحمن.
_________
(1) [3801])) من كلام العلامة الشيخ محب الدين الخطيب في مقدمته للقاعدة الجليلة.
(2) [3802])) هذا نص من شيخ الإسلام على أن كلمة (يغلط كثيراً) صيغة جرح لا تعديل، ولا يخفى أنه لا فرق بينها وبين كلمة (يخطئ كثيراً) التي وصف الحافظ بها عطية العوفي.
(3) [3803])) رواه مسلم في المقدمة (1/ 7) من حديث المغيرة بن شعبة.

وللحديث عندي علة أخرى. وهي اضطراب عبد الرحمن أو من دونه في إسناده، فتارة كان يرفعه كما مضى، وتارة كان يرويه موقوفاً على عمر، لا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه أبو بكر الآجري في كتاب (الشريعة) (ص427) من طريق عبد الله ابن إسماعيل بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن زيد به، وعبد الله هذا لم أعرفه أيضاً، فلا يصح عن عمر مرفوعاً ولا موقوفاً، ثم رواه الآجري من طريق آخر عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أنه قال: من الكلمات التي تاب الله بها على آدم قال: ((اللهم أسألك بحق محمد عليك .. )) الحديث نحوه مختصراً، (1) وهذا مع إرساله ووقفه، فإن إسناده إلى ابن أبي الزناد ضعيف جداً، وفيه عثمان بن خالد والد أبي مروان العثماني، قال النسائي: (ليس بثقة).
وعلى هذا فلا يبعد أن يكون أصل هذا الحديث من الإسرائيليات التي تسربت إلى المسلمين من بعض مسلمة أهل الكتاب أو غير مسلمتهم. أو عن كتبهم التي لا يوثق بها، لما طرأ عليها من التحريف والتبديل كما بينه شيخ الإسلام في كتبه، ثم رفعه بعض هؤلاء الضعفاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم خطأ أو عمداً.
مخالفة هذا الحديث للقرآن:
ومما يؤيد ما ذهب إليه العلماء من وضع هذا الحديث وبطلانه أنه يخالف القرآن الكريم في موضعين منه:
الأول: أنه تضمن أن الله تعالى غفر لآدم بسبب توسله به صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول:
فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 37] وقد جاء تفسير هذه الكلمات عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما مما يخالف هذا الحديث، فأخرج الحاكم (3/ 545) عنه: ((فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ قال: أي رب! ألم تخلقني بيدك؟
قال: بلى. قال: ألم تنفخ فيَّ من روحك؟ قال: بلى. قال: أي رب! ألم تسكنّي جنتك؟ قال: بلى. قال: ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى. قال: أرأيت إن تبتُ وأصلحت، أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: بلى. قال: فهو قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة: 37])) (2) وقال الحاكم: (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
... وقول ابن عباس هذا في حكم المرفوع من وجهين:
الأول: أنه أمر غيبي لا يقال من مجرد الرأي.
الثاني: أنه ورد في تفسير الآية، وما كان كذلك فهو في حكم المرفوع ...
ولا سيما إذا كان من قول إمام المفسرين عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله ((اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)) (3).
وقد قيل في تفسير هذه الكلمات: إنها ما في الآية الأخرى قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23].وبهذا جزم السيد رشيد رضا في (تفسيره).
_________
(1) [3804])) رواه الآجري في ((الشريعة)) (1/ 395).
(2) [3805])) رواه الحاكم (2/ 594) والآجري في ((الشريعة)) (1/ 370) وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (1/ 104) قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وصححه الألباني في ((التوسل)) (113).
(3) [3806])) رواه أحمد (1/ 266) (2397) والطبراني (10/ 263) والحاكم (3/ 615) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال البزار في ((البحر الزخار)) (11/ 282): روي من غير وجه بأسانيد مختلفة وباختلاف ألفاظ, وصححه ابن عبد البر في ((الاستيعاب)) (3/ 67) وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 279): لأحمد طريقان رجالهما رجال الصحيح, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (6/ 88).

(1/ 279). لكن أشار ابن كثير (1/ 81) إلى تضعيفه، ولا منافاة عندي بين القولين، بل أحدهم يتمم الآخر، فحديث ابن عباس لم يتعرض لبيان ما قاله آدم عليه السلام بعد أن تلقى من ربه تلك الكلمات وهذا القول يبين ذلك، فلا منافاة والحمد لله، وثبت مخالفة الحديث للقرآن، فكان باطلاً.
الموضع الثاني: قوله في آخره: ((ولولا محمد ما خلقتك)) فإن هذا أمر عظيم يتعلق بالعقائد التي لا تثبت إلا بنص متواتر اتفاقاً، أو صحيح عند آخرين، ولو كان ذلك صحيحاً لورد في الكتاب والسنة الصحيحة، وافتراض صحته في الواقع مع ضياع النص الذي تقوم به الحجة ينافي قوله تبارك وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. والذكر هنا يشمل الشريعة كلها قرآناً وسنة، كما قرره ابن حزم في (الإحكام) وأيضاً فإن الله تبارك وتعالى قد أخبرنا عن الحكمة التي من أجلها خلق آدم وذريته، فقال عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] , فكل ما خالف هذه الحكمة أو زاد عليها لا يقبل إلا بنص صحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم كمخالفة هذا الحديث الباطل. ومثله ما اشتهر على ألسنة الناس: ((لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك)) (1) فإنه موضوع كما قاله الصنعاني ووافقه الشوكاني في (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة) (2). ومن الطرائف أن المتنبي ميرزا غلام أحمد القادياني سرق هذا الحديث الموضوع فادعى أن الله خاطبه بقوله: ((لولاك لما خلقت الأفلاك))!! وهذا شيء يعترف به أتباعه القاديانيون ... لوروده في كتاب متنبئهم (حقيقة الوحي) (ص99).
ثم على افتراض أن هذا الحديث ضعيف فقط كما يزعم بعض المخالفين خلافاً لمن سبق ذكرهم من العلماء والحفاظ، فلا يجوز الاستدلال به على مشروعية التوسل المختلف فيه، لأن – على قولهم – عبادة مشروعة، وأقل أحوال العبادة أن تكون مستحبة، والاستحباب حكم شرعي من الأحكام الخمسة التي لا تثبت إلا بنص صحيح تقوم به الحجة، فإذا الحديث عنده ضعيف، فلا حجة فيه البتة، وهذا بين لا يخفى إن شاء الله تعالى.
الحديث السابع ((توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم)):
وبعضهم يرويه بلفظ: ((إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم)) (3).
هذا باطل لا أصل له في شيء من كتب الحديث البتة، وإنما يرويه بعض الجهال بالسنة كما نبَّه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (القاعدة الجليلة) (ص132، 150) قال: (مع أن جاهه صلى الله عليه وسلم عند الله أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين، ولكن جاه المخلوق عند الخالق ليس كجاه المخلوق عند المخلوق فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه، فهو شريك له في حصول المطلوب، والله تعالى لا شريك له
كما قال سبحانه: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سورة سبأ: 22 - 23].
_________
(1) [3807])) قال الصغاني في ((موضوعات الصغاني)) (52): موضوع, وقال ملا علي قاري في ((الأسرار المرفوعة)) (288): قيل لا أصل له أو بأصله موضوع, انظر ((السلسلة الضعيفة)) (1/ 359).
(2) [3808])) ((الفوائد المجموعة)) (1/ 152).
(3) [3809])) قال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (27/ 126): كذب موضوع, وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1/ 99): لا أصل له.

فلا يلزم إذاً من كون جاهه صلى الله عليه وسلم عند ربه عظيماً، أن نتوسل به إلى الله تعالى لعدم ثبوت الأمر به عنه صلى الله عليه وسلم، ويوضح ذلك أن الركوع والسجود من مظاهر التعظيم فيما اصطلح عليه الناس، فقد كانوا وما يزال بعضهم يقومون ويركعون ويسجدون لمليكهم ورئيسهم والمعظم لديهم، ومن المتفق عليه بين المسلمين أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو أعظم الناس لديهم، وأرفعهم عندهم. ترى فهل يجوز لهم أن يقوموا ويركعوا ويسجدوا له في حياته وبعد مماته؟
الجواب: إنه لا بد لمن يجوز ذلك، من أن يثبت وروده في الشرع، وقد نظرنا فوجدنا أن السجود والركوع لا يجوزان إلا له سبحانه وتعالى، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد أو يركع أحد لأحد، كما أننا رأينا في السنة كراهية النبي صلى الله عليه وسلم للقيام، فدل ذلك على عدم مشروعيته.
ترى فهل يستطيع أحد أن يقول عنا حين نمنع السجود لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إننا ننكر جاهه صلى الله عليه وسلم وقدره؟ كلا ثم كلا.
فظهر من هذا بجلاء إن شاء الله تعالى أنه لا تلازم بين ثبوت جاه النبي صلى الله عليه وسلم وبين تعظيمه بالتوسل بجاهه ما دام أنه لم يرد في الشرع.
هذا، وإن من جاهه صلى الله عليه وسلم أنه يجب علينا اتباعه وإطاعته كما يجب إطاعة ربه، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا أمرتكم به)) (1) فإذا لم يأمرنا بهذا التوسل ولو أمرَ استحباب فليس عبادة، فيجب علينا اتباعه في ذلك وأن ندع العواطف جانباً، ولا نفسح لها المجال حتى ندخل في دين الله ما ليس منه بدعوى حبه صلى الله عليه وسلم، فالحب الصادق إنما هو بالاتِّباع، وليس بالابتداع كما قال عز وجل: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران: 31] , ومنه قول الشاعر:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمرك في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
أثران ضعيفان:
1 – أثر الاستسقاء بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته:
وبعد أن فرغنا من إيراد الأحاديث الضعيفة في التوسل، وتحقيق القول فيها يحسن بنا أن نورد أثراً، كثيراً ما يورده المجيزون لهذا التوسل المبتدع، لنبين حاله من صحة أو ضعف، وهل له علاقة بما نحن فيه أم لا؟
فأقول: قال الحافظ في (الفتح) (2/ 397) ما نصه: (وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار – وكان خازن عمر – قال: ((أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! استسق لأمتك، فإنهم قد هلكوا، فأتي الرجلُ في المنام، فقيل له: ائت عمر .. )) الحديث. (2) وقد روى سيف في (الفتح) أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة).
... والجواب من وجوه:
_________
(1) [3810])) رواه الشافعي في ((المسند)) (1/ 233) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/ 76) وفي ((شعب الإيمان)) (3/ 239) والبغوي في ((شرح السنة)) (7/ 241) من حديث المطلب بن حنطب رضي الله عنه, قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (4/ 417) إسناده مرسل حسن.
(2) [3811])) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 356) , وضعفه الألباني في ((التوسل)) (118) قال: فيه مالك الدار غير معروف العدالة والضبط.

الأول: عدم التسليم بصحة هذه القصة، لأن مالك الدار غير معروف العدالة والضبط، وهذان شرطان أساسيان في كل سند صحيح كما تقرر في علم المصطلح، وقد أورده ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (4/ 213) ولم يذكر راوياً عنه غير أبي صالح هذا، ففيه إشعار بأنه مجهول، ويؤيده أن ابن أبي حاتم نفسه – مع سعة حفظه واطلاعه – لم يحك فيه توثيقاً فبقي على الجهالة، ولا ينافي هذا قول الحافظ: ( ... بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان ... ) لأننا نقول: إنه ليس نصاً في تصحيح جميع السند بل إلى أبي صالح فقط، ولولا ذلك لما ابتدأ هو الإسنادَ من عند أبي صالح، ولقال رأساً: (عن مالك الدار ... وإسناده صحيح) ولكنه تعمد ذلك، ليلفت النظر إلى أن ها هنا شيئاً ينبغي النظر فيه، والعلماء إنما يفعلون ذلك لأسباب منها: أنهم قد لا يحضرهم ترجمة بعض الرواة، فلا يستجيزون لأنفسهم حذف السند كله، لما فيه من إيهام صحته لاسيما عند الاستدلال به، بل يوردون منه ما فيه موضع للنظر فيه، وهذا هو الذي صنعه الحافظ رحمه الله هنا، وكأنه يشير إلى تفرد أبي صالح السمان عن مالك الدار كما سبق نقله عن ابن أبي حاتم، وهو يحيل بذلك إلى وجوب التثبت من حال مالك هذا أو يشير إلى جهالته. والله أعلم.
وهذا علم دقيق لا يعرفه إلا من مارس هذه الصناعة، ويؤيد ما ذهبت إليه أن الحافظ المنذري أورد في (الترغيب) (2/ 41 - 42) قصة أخرى من رواية مالك الدار عن عمر ثم قال: (رواه الطبراني في (الكبير)، ورواته إلى مالك الدار ثقات مشهورون، ومالك الدار لا أعرفه). وكذا قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (3/ 125).
وقد غفل عن هذا التحقيق صاحب كتاب (التوصل) (ص241) فاغتر بظاهر كلام الحافظ، وصرح بأن الحديث صحيح، وتخلص منه بقوله: (فليس فيه سوى: جاء رجل .. ) واعتمد على أن الرواية التي فيها تسمية الرجل ببلال بن الحارث فيها سيف، وقد عرفت حاله.
وهذا لا فائدة كبرى فيه، بل الأثر ضعيف من أصله لجهالة مالك الدار كما بيناه.
الثاني: أنها مخالفة لما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء لاستنزال الغيث من السماء، كما ورد ذلك في أحاديث كثيرة، وأخذ به جماهير الأئمة، بل هي مخالفة لما أفادته الآية من الدعاء والاستغفار، وهي قوله تعالى في سورة نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا [نوح: 10 - 11] وهذا ما فعله عمر بن الخطاب حين استسقى وتوسل بدعاء العباس كما سبق بيانه، وهكذا كانت عادة السلف الصالح كلما أصابهم القحط أن يصلوا ويدعوا، ولم ينقل عن أحد منهم مطلقاً أنه التجأ إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب منه الدعاء للسقيا، ولو كان ذلك مشروعاً لفعلوه ولو مرة واحدة، فإذا لم يفعلوه دل ذلك على عدم مشروعية ما جاء في القصة.
الثالث: هب أن القصة صحيحة، فلا حجة فيها، لأن مدارها على رجل لم يسم، فهو مجهول أيضاً، وتسميته بلالاً في رواية سيف لا يساوي شيئاً، لأن سيفاً هذا – وهو ابن عمر التميمي – متفق على ضعفه عند المحدثين، بل قال ابن حبان فيه: (يروي الموضوعات عن الأثبات، وقالوا: إنه كان يضع الحديث). فمن كان هذا شأنه لا تقبل روايته ولا كرامة،
لا سيما عند المخالفة ...
الفرق بين التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم وبين طلب الدعاء منه:

الوجه الرابع: أن هذا الأثر ليس فيه التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل فيه طلب الدعاء منه بأن يسقي الله تعالى أمته، وهذه مسألة أخرى لا تشملها الأحاديث المتقدمة، ولم يقل بجوازها أحد من علماء السلف الصالح رضي الله عنهم، أعني الطلب منه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (القاعدة الجليلة) (ص19 - 20): (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ويستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم، ولا في مغيبهم، فلا يقول أحد: (يا ملائكة الله اشفعوا لي عند الله، سلوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا، وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين: يا نبي الله يا ولي الله (الأصل: رسول الله) ادع الله لي، سل الله لي، سل الله أن يغفر لي ... ولا يقول: أشكو إليك ذنوبي أو نقص رزقي أو تسلط العدو علي، أو أشكو إليك فلاناً الذي ظلمني، ولا يقول: أنا نزيلك، أنا ضيفك، أنا جارك، أو أنت تجير من يستجيرك.
ولا يكتب أحد ورقة ويعلقها عند القبور، ولا يكتب أحد محضراً أنه استجار بفلان، ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك المحضر ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، كما يفعله النصارى في كنائسهم، وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين أو في مغيبهم، فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام، وبالنقل المتواتر وبإجماع المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع هذا لأمته، وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئاً من ذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها أنه يستحب لأحد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أن يشفع له أو يدعو لأمته، أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين، وكان أصحابه يبتلون بأنواع البلاء بعد موته، فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول ولا قبر الخليل ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول: نشكوا إليك جدب الزمان أو قوة العدو، أن كثرة الذنوب ولا يقول: سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم، بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين، وكل بدعة ليست واجبة ولا مستحبة فهي بدعة سيئة وضلالة باتفاق المسلمين (1).
_________
(1) [3812])) يحمل كلام شيخ الإسلام هنا على أحد وجهين: أولهما: أن يكون خطاب المخالفين بما يعتقدون من انقسام البدعة بحسب الأحكام الخمسة، ومنها الوجوب والاستحباب. وثانيهما: أن يكون أراد بالبدعة اللغوية منها، وهي ما حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ودل عليها الدليل الشرعي. وإنما قلنا هذا لما هو معروف عنه رحمه الله أنه يعد البدعة الشرعية كلها ضلالة، وتمام كلامه هنا يدل عليه.

ومن قال في بعض البدع: إنها بدعة حسنة فإنما ذلك إذا قام دليل شرعي على أنها مستحبة، فأما ما ليس بمستحب ولا واجب فلا يقول أحد من المسلمين: إنها من الحسنات التي يتقرب بها إلى الله، ومن تقرب إلى الله بما ليس من الحسنات المأمور بها أمر إيجاب ولا استحباب فهو ضال متبع للشيطان، وسبيله من سبيل الشيطان، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، وخط خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال ((هذا سبيل الله، وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)) ثم قرأ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (1) [الأنعام: 153].
قلت: إنما وقع بعض المتأخرين في هذا الخطأ المبين بسبب قياسهم حياة الأنبياء في البرزخ على حياتهم في الدنيا، وهذا قياس باطل مخالف للكتاب والسنة والواقع، وحسبنا الآن مثالاً على ذلك أن أحداً من المسلمين لا يجيز الصلاة وراء قبورهم، ولا يستطيع أحد مكالمتهم، ولا التحدث إليهم، وغير ذلك من الفوارق التي لا تخفى على عاقل.
الاستغاثة بغير الله تعالى:
ونتج من هذا القياس الفاسد والرأي الكاسد تلك الضلالة الكبرى، والمصيبة العظمى التي وقع فيها كثير من عامة المسلمين وبعض خاصتهم، ألا وهي الاستغاثة بالأنبياء الصالحين من دون الله تعالى في الشدائد والمصائب حتى إنك لتسمع جماعات متعددة عند بعض القبور يستغيثون بأصحابها في أمور مختلفة، كأن هؤلاء الأموات يسمعون ما يقال لهم، ويطلب منهم من الحاجات المختلفة بلغات متباينة، فهم عند المستغيثين بهم يعلمون مختلف لغات الدنيا، ويميزون كل لغة عن الأخرى، ولو كان الكلام بها في آن واحد! وهذا هو الشرك في صفات الله تعالى الذي جهله كثير من الناس، فوقعوا بسببه في هذه الضلالة الكبرى.
ويبطل هذا ويرد عليه آيات كثيرة. منها قوله تعالى: قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً [الإسراء: 56]. والآيات في هذا
الصدد كثيرة، بل قد ألف في بيان ذلك كتب ورسائل عديدة (2). فمن كان في شك من ذلك فليرجع إليها يظهر له الحق إن شاء الله، ولكني وقفت على نقول لبعض علماء الحنفية رأيت من المفيد إيرادها هنا حتى لا يظن ظان أن ما قلناه لم يذهب إليه أحد من أصحاب المذاهب المعروفة.
_________
(1) [3813])) رواه أحمد (1/ 465) وابن حبان (1/ 180) والحاكم (2/ 261) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 343) والطيالسي (1/ 33) , قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال ابن القيم في ((طريق الهجرتين)) (152): ثابت, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 25): فيه عاصم بن بهدلة وهو ثقة وفيه ضعف, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (6/ 89): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).
(2) [3814])) منها ((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) و ((الرد على البكري)) لشيخ الإسلام ابن تيمية، ومن أجمعها ((مجموعة التوحيد النجدية)) فعليك بمطالعتها.

قال الشيخ أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي في (التعليق المغني على سنن الدارقطني) (ص520 - 521): (ومن أقبح المنكرات وأكبر البدعات وأعظم المحدثات ما اعتاده أهل البدع من ذكر الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله بقولهم: يا شيخ عبد القادر الجيلاني شيئاً لله، والصلوات المنكوسة إلى بغداد، وغير ذلك مما لا يعد، هؤلاء عبدة غير الله ما قدروا الله حق قدره، ولم يعلم هؤلاء السفهاء أن الشيخ رحمه الله لا يقدر على جلب نفع لأحد ولا دفع ضر عنه مقدار ذرة، فلم يستغيثون به ولم يطلبون الحوائج منه؟! أليس الله بكاف عبده؟!! اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك أو نعظم أحداً من خلقك كعظمتك، قال في (البزازية) وغيرها من كتب الفتاوى: (من قال: إن أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر) (1) وقال الشيخ فخر الدين أبو سعد عثمان الجياني بن سليمان الحنفي في رسالته: "ومن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله، واعتقد بذلك كفر. كذا في (البحر الرائق)، وقال القاضي حميد الدين ناكوري الهندي في (التوشيح): (منهم الذين يدعون الأنبياء والأولياء عند الحوائج والمصائب باعتقاد أن أرواحهم حاضرة تسمع النداء وتعلم الحوائج، وذلك شرك قبيح وجهل صريح، قال الله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف: 5]، وفي (البحر) (2): لو تزوج بشهادة الله ورسوله لا ينعقد النكاح، ويكفر لاعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب (3)، وهكذا في (فتاوى قاضي خان) و (العيني) و (الدر المختار) و (العالمكيرية) وغيرها من كتب العلماء الحنفية، وأما في الآيات الكريمة والسنة المطهرة في إبطال أساس الشرك، والتوبيخ لفاعله فأكثر من أن تحصى، - ولشيخنا العلامة السيد محمد نذير حسين الدهلوي في رد تلك البدعة المنكرة رسالة شافية).
2 – أثر فتح الكوى فوق قبر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماء:
روى الدارمي في (سننه) (1/ 43): حدثنا أبو النعمان ثنا سعيد ابن زيد ثنا عمرو بن مالك النكري حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال: قحَط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة، فقالت: (انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا، فمطرنا مطراً حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق) (4).
... وهذا سند ضعيف لا تقوم به حجة لأمور ثلاثة:
أولها: أن سعيد بن زيد وهو أخو حماد بن زيد فيه ضعف. قال فيه الحافظ في (التقريب): صدوق له أوهام. وقال الذهبي في (الميزان): (قال يحيى بن سعيد: ضعيف، وقال السعدي: ليس بحجة، يضعفون حديثه، وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي، وقال أحمد: ليس به بأس، كان يحيى بن سعيد لا يستمرئه).
وثانيهما: أنه موقوف على عائشة وليس بمرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولو صح لم تكن فيه حجة، لأنه يحتمل أن يكون من قبيل الآراء الاجتهادية لبعض الصحابة، مما يخطئون فيه ويصيبون، ولسنا ملزمين بالعمل بها.
_________
(1) [3815])) ((البحر)) (5/ 134).
(2) [3816])) (3/ 94).
(3) [3817])) ومن هذا القبيل ما اعتاده كثير من الناس من الإجابة بقولهم: "الله ورسوله أعلم"! وما ورد من قول بعض الصحابة ذلك فإنما كان في حال حياته صلى الله عليه وسلم، أما في حال وفاته فلا يجوز هذا بحال.
(4) [3818])) رواه الدارمي (1/ 56) قال الألباني في ((التوسل)) (126): ضعيف الإسناد موقوف.

وثالثها: أن أبا النعمان هذا هو محمد بن الفضل، يعرف بعارم، وهو وإن كان ثقة فقد اختلط في آخر عمره. وقد أورده الحافظ برهان الدين الحلبي حيث أورده في "المختلطين" من كتابه (المقدمة) وقال (ص391): (والحكم فيهم أنه يقبل حديث من أخذ عنهم قبل الاختلاط ولا يقبل من أخذ عنهم بعد الاختلاط أو أشكل أمره فلم يدر هل أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده).
... وهذا الأثر لا يدرى هل سمعه الدارمي منه قبل الاختلاط أو بعده، فهو إذن غير مقبول، فلا يحتج به، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الرد على البكري) (ص68 - 74): (وما روي عن عائشة رضي الله عنها من فتح الكوة من قبره إلى السماء، لينزل المطر فليس بصحيح، ولا يثبت إسناده، ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة، بل كان باقياً كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه، كما ثبت في (الصحيحين) عن عائشة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها، لم يظهر الفيء من حجرتها)) (1)، ولم تزل الحجرة النبوية كذلك في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم .. ومن حينئذ دخلت الحجرة النبوية في المسجد، ثم إنه يُبنى حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدار عال، وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف. وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بين لو صح ذلك لكان حجة ودليلاً على أن القوم لم يكونوا يقسمون على الله بمخلوق ولا يتوسلون في دعائهم بميت، ولا يسألون الله به، وإنما فتحوا على القبر لتنزل الرحمة عليه، ولم يكن هناك دعاء يقسمون به عليه، فأين هذا من هذا، والمخلوق إنما ينفع المخلوق بدعائه أو بعمله، فإن الله تعالى يحب أن نتوسل إليه بالإيمان والعمل والصلاة والسلام على نبيه صلى الله عليه وسلم ومحبته وطاعته وموالاته، فهذه هي الأمور التي يحب الله أن نتوسل بها إليه، وإن أريد أن نتوسل إليه بما تُحِبُ ذاته، وإن لم يكن هناك ما يحب الله أن نتوسل به من الإيمان والعمل الصالح، فهذا باطل عقلاً وشرعاً، أما عقلاً فلأنه ليس في كون الشخص المعين محبوباً له ما يوجب كون حاجتي تقضى بالتوسل بذاته إذا لم يكن مني ولا منه سبب تقضى به حاجتي، فإن كان منه دعاء لي أو كان مني إيمان به وطاعة له فلا ريب أن هذه وسيلة، وأما نفس ذاته المحبوبة فأي وسيلة لي منها إذا لم يحصل لي السبب الذي أمرت به فيها.
وأما الشرع فيقال: العبادات كلها مبناها على الاتباع لا على الابتداع، فليس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله، فليس لأحد أن يصلي إلى قبره ويقول هو أحق بالصلاة
إليه من الكعبة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في (الصحيح) أنه قال ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) (2) مع أن طائفة من غلاة العباد يصلون إلى قبور شيوخهم، بل يستدبرون القبلة، ويصلون إلى قبر الشيخ ويقولون: هذه قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة! وطائفة أخرى يرون الصلاة عند قبور شيوخهم أفضل من الصلاة في المساجد حتى المسجد الحرام (والنبوي) والأقصى. وكثير من الناس يرى أن الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل منه في المساجد، وهذا كله مما قد علم جميع أهل العلم بديانة الإسلام أنه مناف لشريعة الإسلام. ومن لم يعتصم في هذا الباب وغيره بالكتاب والسنة فقد ضَل وأضل، ووقع في مهواة من التلف. فعلى العبد أن يسلم للشريعة المحمدية الكاملة البيضاء الواضحة، ويسلم أنها جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإذا رأى من العبادات والتقشفات وغيرها التي يظنها حسنة ونافعة ما ليس بمشروع علم أن ضررها راجح على نفعها، ومفسدتها راجحة على مصلحتها، إذ الشارع الحكيم لا يهمل المصالح) ثم قال: (والدعاء من أجل العبادات، فينبغي للإنسان أن يلزم الأدعية المشروعة فإنها معصومة كما يتحرى في سائر عبادته الصور المشروعة، فإن هذا هو الصراط المستقيم. والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين). التوسل أنواعه وأحكامه لمحمد ناصر الدين الألباني - بتصرف- ص 75
وإذا كان القرب من النبي صلى الله عليه وسلم لا يغني عن القريب شيئاً، دل ذلك على منع التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، لأن جاه النبي صلى الله عليه وسلم لا ينتفع به إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان أصح قولي أهل العلم تحريم التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين – ص 122
_________
(1) [3819])) رواه البخاري (545) ومسلم (611).
(2) [3820])) رواه مسلم (972).

المطلب الأول: معنى التبرك
البركة: هي كثرة الخير وثبوته، وهي مأخوذة من البركة بالكسر، والبركة: مجمع الماء، ومجمع الماء يتميز عن مجرى الماء بأمرين:
الكثرة. الثبوت.
والتبرك طلب البركة، وطلب البركة لا يخلو من أمرين:
أن يكون التبرك بأمر شرعي معلوم، مثل القرآن، قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ [ص: 29] , فمن بركته أن من أخذ به حصل له الفتح، فأنقذ الله بذلك أمماً كثيرة من الشرك، ومن بركته أن الحرف الواحد بعشر حسنات، وهذا يوفر للإنسان الوقت والجهد، إلى غير ذلك من بركاته الكثيرة.
أن يكون بأمر حسي معلوم، مثل: التعليم، والدعاء، ونحوه، فهذا الرجل يتبرك بعمله ودعوته إلى الخير، فيكون هذا بركة لأننا نلنا منه خيراً كثيراً.
وقال أسيد بن حضير: (ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر) (1)، فإن الله يجري على بعض الناس من أمور الخير ما لا يجريه على يد الآخر. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص245
_________
(1) [3821])) رواه البخاري (334) ومسلم (367).

تمهيد
والتبرك ينقسم من جهة حكمه إلى قسمين:
أ- تبرك مشروع: وهو أن يفعل المسلم العبادات المشروعة طلباً للثواب المترتب عليها، ومن ذلك أن يتبرك بقراءة القرآن والعمل بأحكامه، فالتبرك به هو ما يرجو المسلم من الأجور على قراءته له وعمله بأحكامه، ومنه التبرك بالمسجد الحرام بالصلاة فيه ليحصل على فضيلة مضاعفة الصلاة فيه، فهذا من بركة المسجد الحرام.
ب- تبرك ممنوع: وهو ينقسم من حيث حكمه إلى قسمين: تبرك شركي، وتبرك بدعي تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين- بتصرف - ص: 288

1 - التبرك بذكر الله
بما أن حقيقة البركة ثبوت الخير ودوامه، وكثرة الخير وزيادته، وأن الخير كله الديني والدنيوي في يدي الله سبحانه وتعالى. ..... فلا تطلب البركة إلا منه تبارك وتعالى، أو مما أودع هو فيه البركة، وعلى الوجه المشروع، فإن من وسائل طلب البركة منه سبحانه وتعالى التبرك بذكره عز وجل.
وذكر الله سبحانه وتعالى يكون بالقلب، ويكون باللسان، والأفضل منه ما كان بالقلب واللسان جميعاً، فإن اقتصر على أحدهما فالقلب أفضل (1)، لأن ذكر القلب يثمر المعرفة، ويثير المحبة والحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة (2). التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع – ص: 203
بركات الذكر وفضائله:
لذكر الله تعالى فضائل عظيمة وبركات كثيرة، دينية ودنيوية.
(أ) فمن البركات الدنيوية ما يأتي:
1 - اطمئنان القلب وزوال الخوف عنه، كما قال تعالى: أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ [الرعد: 28].
2 - الذكر يعطي الذاكرة قوة، حتى أنه ليفعل مع الذكر ما لا يطيق فعله بدونه.
وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة وعلياً رضي الله تعالى عنهما أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثاً وثلاثين، ويحمدا ثلاثاً وثلاثين، ويكبرا أربعاً وثلاثين، لما سألته الخادم، وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة، فعلمها ذلك وقال: ((فهو خير لكما من خادم)) (3).
فقيل: إن من داوم على ذلك وجد قوة في بدنه مغنية عن خادم (4).
وذكر ابن القيم رحمه الله أن كلمة (لا حول ولا قوة إلا بالله) لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق. وأورد شواهد على ذلك (5).
3 - من منافع الاستغفار الدنيوية ما جاء في قول الله تعالى في سورة نوح اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10 - 12]. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب)) (6).
4 - من بركات الذكر الدنيوية الرقية باسم الله تعالى، وبالأذكار الشرعية للاستشفاء والعلاج ...
(ب) ومن البركات الدينية ما يأتي:
1 - مغفرة الذنوب ومضاعفة الأجر.
والأحاديث في هذا كثيرة جداً، أنقل منها ما يأتي:
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك)) (7).
_________
(1) من كتاب ((الأذكار)) للنووي (ص: 6).
(2) ((الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب)) للإمام ابن القيم (ص: 190).
(3) رواه البخاري (3705) , ومسلم (2727).
(4) ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 164، 165) باختصار.
(5) ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 165، 167).
(6) رواه أبو داود (1518) وابن ماجه (3819) قال البغوي في ((شرح السنة)) (3/ 100): يرويه الحكم بن مصعب بإسناده، وهو ضعيف، وضعفه الألباني في ((ضعيف ابن ماجه)) (768).
(7) رواه البخاري (6405)، ومسلم (2691).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) (1).
وفي صحيح البخاري عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أبوء لك بنعمتك، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أعوذ بك من شر ما صنعت، إذا قال حين يمسي فمات دخل الجنة، أو كان من أهل الجنة، وإذا قال حين يصبح فمات من يومه مثله)) (2).
2 - ومن المنافع الدينية أيضاً أن مجالس الذكر من أسباب نزول السكينة وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة. فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده)) (3).
(ج) ومن البركات الدينية والدنيوية معاً لذكر الله عز وجل أنه حصن منيع من الشياطين وشرورهم.
والأحاديث الدالة على هذا كثيرة، ومنها ما يأتي:
جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء)) (4).
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن قدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً)) (5).
وفي بعض السنن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله)) (6).
ثم إن الدعاء له ثمرات ونتائج طيبة في الدنيا والآخرة.
ومما يدل على فضل الذكر أيضاً: أن المقصود بالطاعات كلها إقامة ذكر الله عز وجل، فهو سر الطاعات وروحها (7).
إلى غير ذلك من الفضائل العظيمة والبركات العديدة لذكر الله عز وجل (8). ولذا ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه)) (9) كما روت ذلك عائشة رضي الله عنها.
فحري بنا المداومة على ذكر الله تعالى بأنواعه، وفي مواطنه، والتقيد بالأذكار المشروعة، طاعة لله تعالى، واتباعاً لرسوله صلى الله عليه وسلم، ورجاء نيل الفضائل الجليلة، والبركات الكثيرة، والخيرات الوفيرة لذكر الله تعالى في الدنيا والآخرة. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع - بتصرف– ص: 210
_________
(1) رواه البخاري (6405)، ومسلم (2691). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري (6306).
(3) رواه مسلم (2699).
(4) رواه مسلم (2018).
(5) رواه البخاري (141)، ومسلم (1434).
(6) رواه الترمذي (606)، وابن ماجه (297) وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بذاك القوي، وقال البيهقي في الدعوات الكبير (1/ 111): إسناده فيه نظر.
(7) من كتاب ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 426)، وانظر التفصيل في كتابه ((الوابل الصيب)) (ص: 159 - 162)، وانظر أيضاً ((فتح الباري)) (11/ 209، 210).
(8) ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه ((الوابل الصيب)) (ص91 - 187) أكثر من سبعين فائدة للذكر.
(9) رواه البخاري معلقا قبل حديث (634) باب هل يتتبع المؤذن فاه ها هنا وها هنا، ومسلم (373).

2 - التبرك بتلاوة القرآن الكريم
بركات التلاوة وفضائلها:
قال سبحانه وتعالى آمراً بتلاوة كتابه الكريم وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الكهف: 27].
وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: ((اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)). رواه الإمام مسلم من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه (1).
وقال جل وعلا في بيان فضل تلاوة القرآن المجيد: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 29، 30].
وأما الأحاديث في ذلك فكثيرة جداً.
منها ما جاء في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، المخرج في صحيح مسلم وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل)) (2).
ومنها ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المخرج في صحيح مسلم أيضاً وفيه ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)) (3).
وقد ثبت في الصحيحين دنو الملائكة واستماعهم لقراءة أسيد بن حضير رضي الله عنه.
وروى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) (4).
وأخيراً أذكر المثل الذي ضربه نبينا صلى الله عليه وسلم لمن يقرأ القرآن أو يتركه، مؤمناً كان أو منافقاً.
فقد روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مر)) (5).
هذا مجمل فضائل وبركات تلاوة القرآن الكريم الدينية.
ومن البركات والمصالح الدنيوية: الاستشفاء به والانتفاع من الرقية ببعض سوره وآياته. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع – ص: 215
_________
(1) رواه مسلم (804).
(2) رواه مسلم (803).
(3) رواه مسلم (2699).
(4) رواه الترمذي (2910). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وصحح إسناده الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (901) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.
(5) رواه البخاري (5020،5429). ومسلم (797)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

تمهيد:
(ولا شك أن آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم – صفوة خلق الله وأفضل النبيين – أثبت جوداً، وأشهر ذكراً، وأظهر بركة، فهي أولى بذلك وأحرى).
ولهذا فإن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم تبركوا بذاته عليه الصلاة والسلام، وبآثاره الحسية المنفصلة منه صلى الله عليه وسلم في حياته، وأقرهم صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينكر عليهم، ثم إنهم رضي الله عنهم تبركوا ومن بعدهم من سلف هذه الأمة الصالح بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، مما يدل على مشروعية هذا التبرك.
وينبغي أن يعلم أنه لا يصاحب هذا التبرك – من جهة الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح – شيء يعارض أو يناقض توحيد الألوهية أو الربوبية، وأن هذا الفعل ليس من باب الغلو المذموم، وإلا لنبه على ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته رضي الله عنهم، كما نهاهم عن بعض الألفاظ الشركية (1)، وحذرهم من ألفاظ الغلو (2).
فينظر إذاً إلى هذا على أنه تكريم وتشريف من الخالق سبحانه وتعالى لصفوة خلقه في بدنه، وما ينفصل عنه من آثاره الحسية، حيث وضع تبارك وتعالى في ذلك كله الخير والبركة.
_________
(1) انظر أمثلة هذا في كتاب ((التوحيد)) للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص: 112) (باب قول ما شاء الله وشئت).
(2) انظر أمثلة هذا في كتاب ((التوحيد)) للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص: 146) (باب ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك).

نماذج من تبرك الصحابة بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته:
..... نماذج مما نقل إلينا نقلاً صحيحاً من الأخبار والآثار عن تبرك جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أثناء حياته، بذاته الكريمة، أو بآثاره الشريفة صلى الله عليه وسلم، على النحو التالي:
أ- تبرك الصحابة رضي الله عنهم بأعضاء جسده صلى الله عليه وسلم.
مما يدل على بركة أعضاء جسده الشريف صلى الله عليه وسلم ما روته عائشة رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات، وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها)) (1).
ومما ورد عن تبرك الصحابة رضي الله تعالى عنهم بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم ما ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيها، فربما جاءوه في الغداة الباردة، فيغمس يده فيها)) (2).
وما ثبت عن أبي جحيفة رضي الله عنه أنه قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة إلى البطحاء فتوضأ ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين)) وفيه ((وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم)) قال: ((فأخذت بيده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك)) (3).
وكان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على تقبيل يده صلى الله عليه وسلم.
كما أنهم أيضاً يحرصون على مس أي موضع من جسده صلى الله عليه وسلم وتقبيله كلما أمكن ذلك للتبرك وغيره.
ومن هذا ما روى أبو داود في سننه أن أسيد بن حضير رضي الله عنه بينما هو يحث القوم – وكان فيه مزاح – طعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود، فقال: أصبرني، قال: ((اصطبر)) قال: إن عليك قميصاً وليس علي قميص، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضنه، وأخذ يقبل كشحه، قال: ((إنما أردت هذا يا رسول الله)) (4).
ب- تبركهم بما انفصل منه صلى الله عليه وسلم:
1 - التبرك بشعر النبي صلى الله عليه وسلم.
ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبركون بشعر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قد أقرهم على ذلك، بل إنه صلى الله عليه وسلم وزعه عليهم.
ففي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق (خذ) وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس)) (5).
وفي رواية: ((فبدأ بالشق الأيمن، فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال بالأيسر فصنع به مثل ذلك، ثم قال: هاهنا أبو طلحة فدفعه إلى أبي طلحة)) (6).
قال النووي رحمه الله تعالى: (من فوائد الحديث التبرك بشعره صلى الله عليه وسلم، وجواز اقتنائه للتبرك) (7).
وكان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على اقتناء شعره الشريف عليه الصلاة والسلام.
ففي صحيح مسلم أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال: ((لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه، وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل)) (8).
_________
(1) رواه البخاري (5016)، ومسلم (2192).
(2) رواه البخاري (5016)، ومسلم (2192).
(3) رواه البخاري (3553).
(4) رواه أبو داود (5224) والطبراني في ((الكبير)) (1/ 205) (556) والحديث سكت عنه أبو داود [وقد قال في رسالته لأهل مكة كل ما سكت عنه فهو صالح]، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5224): إسناده صحيح.
(5) رواه مسلم (1305).
(6) رواه مسلم (1305).
(7) ((شرح النووي لصحيح مسلم)) (9/ 54).
(8) رواه مسلم (2325).

وقد ذكر النووي من أحكام هذا الحديث: تبرك الصحابة بشعر الرسول صلى الله عليه وسلم الكريم، وإكرامهم إياه أن يقع منه إلا في يد رجل سبق إليه (1).
ولعل حرص الصحابة رضي الله عنهم على ذلك في حجة الوداع لإظهار مدى حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له على مرأى جموع الحجاج.
2 - التبرك بريق النبي صلى الله عليه وسلم.
في الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى بعبد الله بن الزبير. قالت: ((فأتيت المدينة فنزلت بقباء، فولدته بقباء، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ثم حنكه بالتمرة)) الحديث (2).
وجاء في صحيح البخاري في حديث صلح الحديبية أن عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه قال عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ((فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده ... )) (3).
قال ابن حجر رحمه الله معلقاً على فعل الصحابة رضي الله عنهم ونحوه في هذه الغزوة مع الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولعل الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عروة، وبالغوا في ذلك،، إشارة منهم إلى الرد على ما خشيه من فرارهم، وكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحب إمامه هذه المحبة، ويعظمه هذا التعظيم، كيف يظن به أن يفر عنه ويسلمه لعدوه؟ بل هم أشد اغتباطاً به وبدينه وبنصره من القبائل التي يراعي بعضها بعضاً بمجرد الرحم) (4).
3 - التبرك بعرق النبي صلى الله عليه وسلم.
جاء في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه، قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأُتيت فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه وسلم نام في بيتك على فراشك، قال: فجاءت وقد عرق، واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها، فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها، ففزع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((وما تصنعين يا أم سليم؟ فقالت: يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا، قال: أصبت)) (5).
ج- تبركهم بما لبسه أو لمسه أو فضل منه صلى الله عليه وسلم:
- التبرك بثياب النبي صلى الله عليه وسلم:
جاء في صحيح البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: ((جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببردة، فقال سهل للقوم: أتدرون ما البردة؟ فقال القوم: هي شملة، فقال سهل: هي شملة منسوجة، فيها حاشيتها، فقالت: يا رسول الله أكسوك هذه، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله ما أحسن هذه، فاكسنيها، فقال: نعم فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم لامه أصحابه فقالوا: ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجا إليها، ثم سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يسأل شيئاً فيمنعه، فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم لعلي أكفن فيها)) (6).
وثبت في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى اللاتي يغسلن ابنته إزاره وقال: ((أشعرنها إياه)) (7).
قال النووي رحمه الله تعالى: معنى ((أشعرنها إياه)): اجعلنه شعاراً لها، وهو الثوب الذي يلي الجسد، سمي شعراً لأنه يلي شعر الجسد، ثم قال: (والحكمة في إشعارها به تبريكها).
_________
(1) من كتاب ((شرح النووي لصحيح مسلم)) (15/ 82).
(2) رواه البخاري (3909)، ومسلم (2146).
(3) رواه البخاري (2731،2732).
(4) ((فتح الباري)) (5/ 341).
(5) رواه مسلم (2331).
(6) رواه مسلم (6036).
(7) رواه البخاري (1253)، ومسلم (939).

- التبرك بمواضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم.
جاء في صحيح مسلم في حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ((فكان يصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، فإذا جيء به إليه سأل عن موضع أصابعه، فيتتبع موضع أصابعه)) (1).
- التبرك بفضل شرب النبي صلى الله عليه وسلم.
في الصحيحين عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب، فشرب منه، وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا والله، لا أوثر بنصيبي منك أحداً. قال: فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده)) (2).
- التبرك بماء وضوئه صلى الله عليه وسلم.
جاء في الصحيحين عن أبي جحيفة رضي الله عنه أنه قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فأتي بوضوء فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به)) (3).
وأما المقصود بفضل وضوئه صلى الله عليه وسلم فقد قال ابن حجر رحمه الله تعالى: (كأنهم اقتسموا الماء الذي فضل عنه، ويحتمل أن يكونوا تناولوا ما سال من أعضاء وضوئه صلى الله عليه وسلم) (4). وجاء في صحيح البخاري في حديث صلح الحديبية أن عروة ابن مسعود الثقفي رضي الله عنه قال عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ((وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه)) (5).
بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد أصحابه رضي الله عنهم أحياناً إلى شيء من هذا، وساعدهم عليه.
ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ((دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء، فغسل يديه ووجهه فيه، ومج فيه، ثم قال: اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما، وأبشرا فأخذا القدح، ففعلا ما أمرهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنادتهما أم سلمة من وراء الستر: أفضلا لأمكما مما في إنائكما، فأفضلا لها منه طائفة)) (6).
وفيهما أيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ وصب علي من وضوئه فعقلت)) الحديث (7). التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع – ص: 243
_________
(1) رواه مسلم (2053).
(2) رواه البخاري (2451) ومسلم (2030).
(3) رواه البخاري (3553) ومسلم (503).
(4) ((فتح الباري بشرح صحيح البخاري)) لابن حجر العسقلاني (1/ 295).
(5) رواه البخاري (2731،2732).
(6) رواه البخاري (4328)، ومسلم (2497).
(7) رواه البخاري (194).

4 - التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم بعد وفاته:
• أ- نماذج من تبرك الصحابة بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته:.
• ب- نماذج من تبرك التابعين بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته:.
• ج- هل يوجد شيء من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم في العصر الحاضر؟.

أ- نماذج من تبرك الصحابة بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته:
عقد الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه - كتاب فرض الخمس - باب بعنوان: باب ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم وعصاه, وسيفه, وقدحه, وخاتمه، وما استعمل الخلفاء بعده من ذلك مما لم يذكر قسمته، ومن شعره, ونعله, وآنيته, مما تبرك أصحابه وغيرهم بعد وفاته (1).
ثم ساق البخاري جملة من أحاديث هذا الباب. ... منها.
عن عيسى بن طهمان قال: (أخرج إلينا أنس نعلين جرداوين، لهما قبالان، فحدثني ثابت البناني بعد عن أنس: أنهما نعلا النبي صلى الله عليه وسلم) (2).
وعن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة رضي الله عنها كساء ملبداً، وقالت: (في هذا نزع روح النبي صلى الله عليه وسلم) (3). وفي رواية أخرى (أخرجت إلينا عائشة إزاراً غليظاً مما يصنع باليمن، وكساء من هذه التي يدعونها الملبدة). (4).
وأخرج البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه أيضاً في موضع آخر عن عاصم الأحول قال: (رأيت قدح النبي صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع، فسلسله بفضة، قال أنس: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا القدح أكثر من كذا وكذا) (5).
وجاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أخرجت جبة طيالسة، وقالت: (هذه كانت عند عائشة حتى قبضت، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها) (6).
_________
(1) ((صحيح البخاري)) (4/ 46).
(2) رواه البخاري (3107).
(3) رواه البخاري (3108).
(4) رواه البخاري (3108)، ومسلم (2080).
(5) رواه البخاري (3108)، ومسلم (2080).
(6) رواه ومسلم (2069).

ب- نماذج من تبرك التابعين بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته:
لم يقتصر التبرك بآثار المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على الصحابة الكرام رضي الله عنهم، بل نقل عن بعض التابعين أيضاً رحمهم الله تعالى ما يدل على وقوع هذا التبرك المشروع.
وسأورد الآن نماذج مما صح نقله في هذا الباب عن جمع من التابعين رحمهم الله تعالى.
فمن ذلك حرصهم على اقتناء شعر الرسول صلى الله عليه وسلم، المحفوظ عند بعض الصحابة رضي الله عنهم للتبرك به.
ففي صحيح البخاري رحمه الله تعالى عن ابن سيرين رحمه الله تعالى أنه قال: قلت لعبيدة: (عندنا من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، أصبناه من قبل أنس، أو من قبل أهل أنس) فقال: (لأن تكون عندي شعرة منه أحب إلي من الدنيا وما فيها) (1).
وكانوا يتبركون بالشعرات الكريمة عند إصابتهم بالعين ونحوها.
ففي صحيح البخاري عن عثمان بن عبد الله بن موهب رضي الله عنه قال: (أرسلني أهلي إلى أم سلمة – زوج النبي صلى الله عليه وسلم – بقدح من ماء ... فيه شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مخضبة ... ) (2).
قال ابن حجر رحمه الله: (والمراد أنه كان من اشتكى أرسل إناء إلى أم سلمة، فتجعل فيه تلك الشعرات وتغسلها فيه، وتعيده، فيشربه صاحب الإناء، أو يغتسل به استشفاء بها فتحصل له بركتها) (3).
كما كان التابعون رحمهم الله تعالى يتبركون بالشرب في قدح النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد عقد الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه – كتاب الأشربة – باباً بعنوان (باب الشرب من قدح النبي صلى الله عليه وسلم وآنيته) ثم ذكر هذا القول تعليقاً: وقال أبو بردة: قال لي عبد الله بن سلام: (ألا أسقيك في قدح شرب النبي صلى الله عليه وسلم فيه؟) (4).
ثم روى البخاري في هذا الباب حديثين فقط.
وسأذكر أحدهما، وهو المروي عن أبي حازم رحمه الله عن سهل بن سعد رضي الله عنه، وفيه أن سهل بن سعد سقى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم بقدح، قال أبو حازم: (فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه) وقال: (ثم استوهبه عمر بن عبد العزيز بعد ذلك فوهبه له) (5).
وفي موضع آخر من صحيح البخاري، روى عن عاصم الأحول رحمه الله أنه قال في شأن قدح النبي صلى الله عليه وسلم – الموجود عند أنس بن مالك رضي الله عنه -: (رأيت القدح وشربت فيه) (6).
_________
(1) رواه البخاري (170).
(2) رواه البخاري (5896).
(3) ((فتح الباري)) (10/ 353).
(4) رواه البخاري معلقا قبل حديث (5637).
(5) رواه البخاري (5637).
(6) رواه البخاري (3109).

ج- هل يوجد شيء من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم في العصر الحاضر؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال أحب أن أنبه على أن حكم التبرك بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم باق على مشروعيته، لا يقتصر على الصحابة رضي الله عنهم أو التابعين فقط رحمهم الله تعالى، فإن بركة آثار الرسول صلى الله عليه وسلم باقية فيها، وليس هناك ما يرفعها.
وإجابة عن السؤال الآنف الذكر لابد من بيان الأمور الآتية:
أولاً: جاء في صحيح البخاري رحمه الله عن عمرو بن الحارث رضي الله عنه أنه قال: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهماً ولا ديناراً، ولا عبداً ولا أمة، ولا شيئاً، إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضاً جعلها صدقة) (1).
ولا شك أن هذا يدل على قلة ما خلفه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته من أدواته الخاصة.
ثانياً: وردت أخبار عديدة بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين رحمهم الله، إلى يومنا هذا تدل على حصول هذا التبرك بآثار المصطفى صلى الله عليه وسلم، من قبل بعض الخلفاء والعلماء والصالحين، وإن كان بعض هذه الأخبار ليس صحيحاً، وهذا إما بسبب ضعف في روايته، أو لعدم صحة نسبة الأثر ذاته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأكثر.
قال صاحب كتاب (الآثار النبوية) بعد أن سرد الآثار المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، بالقسطنطينية – عاصمة الخلافة العثمانية -: (لا يخفى أن بعض هذه الآثار محتمل الصحة، غير أنا لم نر أحداً من الثقات ذكرها بإثبات أو نفي، فالله سبحانه أعلم بها، وبعضها لا يسعنا أن نكتم ما يخامر النفس فيها من الريب ويتنازعها من الشكوك) (2) الخ.
ثالثاً: ثبوت فقدان الكثير من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم على مدى الأيام والقرون، بسبب الضياع، أو الحروب والفتن، وغير ذلك.
ومن الأمثلة على هذا ما يأتي:-
1 - جاء في صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق فكان في يده، ثم كان في يد أبي بكر، ثم كان في يد عمر، ثم كان في يد عثمان، حتى وقع منه في بئر أريس، نقشه – محمد رسول الله -) (3).
2 - فقدان البردة والقضيب في آخر الدولة العباسية حين أحرقهما التتار عند غزوهم لبغداد سنة 656هـ (4).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: (وقد توارث بنو العباس هذه البردة خلفاً عن سلف، وكان الخليفة يلبسها يوم العيد على كتفيه، ويأخذ القضيب المنسوب إليه صلوات الله وسلامه عليه في إحدى يديه، فيخرج وعليه من السكينة والوقار ما يصدع به القلوب، ويبهر به الأبصار) (5).
3 - ذهاب نعلين ينسبان إلى النبي صلى الله عليه وسلم في فتنة تيمورلنك بدمشق سنة 803هـ (6).
ومن الأسباب أيضاً لفقدان الآثار النبوية وصية بعض من عنده شيء منها أن يكفن فيه إن كان لباساً، كما تقدم قريباً من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، أو يوصي بأن يدفن معه بعد موته، إن كان ذلك الأثر شعرات مثلاً (7).
_________
(1) رواه البخاري (2739).
(2) من كتاب ((الآثار النبوية)) لأحمد تيمور باشا (ص: 78).
(3) رواه البخاري (5873)، ومسلم (2091).
(4) من كتاب ((الآثار النبوية)) لأحمد تيمور باشا (ص: 27 - 30).
(5) من كتاب ((البداية والنهاية)) لابن كثير (6/ 8).
(6) ((فتح المتعال في مدح النعال)) لأحمد بن محمد المقري (ص: 363) باختصار.
(7) انظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (11/ 337)، ((الآثار النبوية)) لأحمد تيمور باشا (ص: 82، 84، 85).

رابعاً: يلحظ كثرة ادعاء وجود وامتلاك شعرات منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من البلدان الإسلامية (1) في العصور المتأخرة، حتى قيل إن في القسطنطينية وحدها ثلاثاً وأربعين شعرة سنة 1327هـ، ثم أهدي منها خمس وعشرون وبقي ثماني عشرة (2).
ولذا قال مؤلف كتاب (الآثار النبوية) بعد أن ذكر أخبار التبرك بشعرات الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل أصحابه رضي الله عنهم: (فما صح من العشرات التي تداولها الناس بعد ذلك فإنما وصل إليهم مما قسم بين الأصحاب رضي الله عنهم، غير أن الصعوبة في معرفة صحيحها من زائفها) (3).
وهناك عناية بحفظ تلك الشعراء المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل من يدعي ذلك، حيث إنها تحفظ في صناديق أو قوارير وتلف بقطع من الحرير ونحوه.
على أنه في بعض الأماكن يحتفل بإخراجها – على طريقة خاصة – مرة واحدة أو أكثر كل عام، في بعض المواسم، كليلة 27 من رمضان، أو ليلة النصف من شعبان مثلاً (4).
ومن خلال ما تقدم فإن ما يدعى الآن عند بعض الأشخاص، أو في بعض المواضع من وجود بعض الآثار النبوية، كالشعرات أو النعال وغيرها – موضع شك، فيحتاج في إثبات صحة نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى برهان قاطع، يزيل الشك الوارد، ولكن أين ذلك؟
يقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله: (ونحن نعلم أن آثاره صلى الله عليه وسلم، من ثياب، أو شعر، أو فضلات، قد فقدت، وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين) (5) لاسيما مع مرور أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان على وجود تلك الآثار النبوية، ومع إمكان الكذب في ادعاء نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم للحصول على بعض الأغراض، كما وضعت الأحاديث ونسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً.
وعلى أي حال فإن التبرك الأسمى والأعلى بالرسول صلى الله عليه وسلم هو اتباع ما أثر عنه من قول أو فعل، والاقتداء به، والسير على منهاجه ظاهراً وباطناً، وإن في هذا الخير كله ...
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (كان أهل المدينة لما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في بركته لما آمنوا به وأطاعوه، فببركة ذلك حصل لهم سعادة الدنيا والآخرة، بل كل مؤمن آمن بالرسول وأطاعه حصل له من بركة الرسول بسبب إيمانه وطاعته من خير الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله) (6). التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع - بتصرف– ص: 243
_________
(1) ومن الأمثلة على ذلك: القاهرة، دمشق، بيت المقدس، عكا، حيفا وغيرها. انظر كتاب ((الآثار النبوية)) لأحمد تيمور باشا (ص: 89 - 96).
(2) انظر: ((الآثار النبوية)) (ص: 91).
(3) انظر: ((الآثار النبوية)) (ص: 82).
(4) انظر: ((الآثار النبوية)) (ص: 91 - 93، 95)، وكتاب ((تبرك الصحابة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم)) للكردي (ص: 58 - 60)، وكتاب ((تحذير المسلمين عن الابتداع والبدع في الدين)) لأحمد بن حجر البنعلي (ص: 168 - 170).
(5) ((التوسل أنواعه وأحكامه)) للألباني (ص: 146)، وانظر كتاب ((أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة)) لأحمد بن يحيى النجمي (ص: 309)، وكتاب ((هذه مفاهيمنا)) لصالح بن عبد العزيز آل الشيخ (ص: 204).
(6) ((مجموع فتاوى)) شيخ الإسلام ابن تيمية (11/ 113).

1 - تبرك شركي:
وهو أن يعتقد المتبرك أن المتبرك به – وهو المخلوق – يهب البركة بنفسه، فيبارك في الأشياء بذاته استقلالاً، أو أن يطلب منه الخير والنماء فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى (1)؛ لأن الله تعالى وحده موجد البركة وواهبها، فقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((البركة من الله))، فطلبها من غيره، أو اعتقاد أن غيره يهبها بذاته شرك أكبر.
_________
(1) ((كتاب التبيان)) (ص: 26 - 27) و ((كتاب التنشيط)) (ص: 60 - 65) كلاهما للرستمي الحنفي نقلاً عن كتاب ((جهود علماء الحنفية)) لشمس الدين الأفغاني (2/ 1575 - 1578)، وينظر: ((التيسير))، باب من تبرك بشجرة أو حجر (ص: 148).

2 - تبرك بدعي:
وهو التبرك بما لم يرد دليل شرعي يدل على جواز التبرك به، معتقداً أن الله جعل فيه بركة، أو التبرك بالشيء الذي ورد التبرك به في غير ما ورد في الشرع التبرك به فيه.
وهذا بلا شك محرم؛ لأن فيه إحداث عبادة لا دليل عليها من كتاب أو سنة، ولأنه جعل ما ليس بسبب سبباً، فهو من الشرك الأصغر؛ ولأنه يؤدي إلى الوقوع في الشرك الأكبر تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين - ص: 289
أنواع التبرك البدعي
النوع الأول: التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته
الذي بقي من التبرك بعد وفاته أمران فقط هما:
1 - الإيمان به وطاعته واتباعه.
ومن المعلوم أن هذا واجب على المكلفين، وأن من أداه سيحصل على الخير العظيم والأجر الجزيل، وعلى سعادة الدارين، وهذا ما يسمى بالبركات المعنوية للرسول صلى الله عليه وسلم، وأنعم بذلك من فضل وخير.
2 - التبرك بآثاره الحسية المنفصلة منه صلى الله عليه وسلم ...
وعلى هذا فما عدا ذلك من صيغ التبرك بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته غير مشروع، بل هو ممنوع.
هذا وإن مما تتحتم معرفته هنا أنه مع وجوب اعتقاد عظم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وعلو منزلته، وعموم بركته حياً وميتاً، ومع عظم محبة الناس له صلى الله عليه وسلم، إلا أن هذا يجب أن لا يؤدي إلى رفعه فوق منزلته، أو الغلو في محبته، كما يظهر مثلاً في ممارسات التبرك بالرسول صلى الله عليه وسلم غير المشروع.
كما ينبغي أن يعلم أيضاً أن منع التبرك بالرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال، لا يعني انتقاص حقه أو التقليل من شأنه صلى الله عليه وسلم. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع – بتصرف - ص: 317
أ- مظاهر التبرك الممنوع بقبره صلى الله عليه وسلم:
تشرع زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بدون شد الرحال إليه، وأن فاعل ذلك يثاب عليه كما يثاب على زيارة القبور، إلا أن هذه الزيارة لابد أن تكون على الوجه المشروع كما سلف إيضاحه.
ولكن بعض الزائرين لقبره عليه الصلاة والسلام لم يكتفوا بالزيارة الشرعية، بل أحدثوا بدعا وأموراً، بحجة التماس البركة والخير والأجر، ونحو ذلك.
ولا شك أن ذلك ممنوع من جهة الشرع، كما سيأتي توضيحه بإذن الله. ويمكن بيان أبرز مظاهر ذلك التبرك الممنوع بقبره صلى الله عليه وسلم فيما يلي:
1 - طلب الدعاء أو الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم عند قبره:
إن هذا العمل من أنواع التوسل غير المشروع بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإن التوسل مشروع ونافع في حياته صلى الله عليه وسلم فقط، وبشفاعته يوم القيامة.
أما طلب ذلك بعد وفاته، عند قبره، أو غير قبره صلى الله عليه وسلم، كأن يقول الشخص: يا رسول الله استغفر الله لي، ادع الله أن يغفر لي، أو يهديني، أو ينصرني، فهذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، وليست واجبة ولا مستحبة باتفاقهم، وكل بدعة ليست واجبة ولا مستحبة فهي بدعة سيئة، وهي ضلالة باتفاق المسلمين (1).
_________
(1) من كتاب ((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) لابن تيمية (ص: 14 - 21) بتصرف واختصار.

أما سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته حاجة، أو الاستغاثة به لكشف كربة، ونحو ذلك، فهذا أبعد مراتب البدع، وهو من أنواع الشرك بالله تعالى (1)، لأنه من باب الاستعانة أو الاستغاثة بمخلوق بما لا يقدر عليه إلا الله تبارك وتعالى (2).
2 - أداء بعض العبادات عند القبر النبوي:
من أشهر هذه العبادات الدعاء والصلاة عند القبر. وإن من يعمل ذلك يظن أو يعتقد أن الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت، وأن الصلاة عند القبر أرجى للقبول (3)، فيقصد زيارته لذلك (4).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا الفعل ونحوه: (فهذا من المنكرات المبتدعة باتفاق أئمة المسلمين، وهي محرمة، وما علمت في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين) (5).
وقال أيضاً رحمه الله مبيناً حكم الدعاء عند القبر النبوي: (ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه، فإن هذا بدعة، ولم يكن أحد من الصحابة يقف عند القبر يدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون القبلة، ويدعون في مسجده) (6) اهـ.
ويدخل فيما تقدم من بدع الزيارة: الجلوس عند القبر، وحوله، لتلاوة القرآن الكريم، وذكر الله عز وجل (7)، وما قد يتبع ذلك من رفع الصوت، وطول القيام أو الجلوس عند القبر، مما يضايق الآخرين من المصلين أو الزوار، أو يشوش عليهم، وأيضاً تجديد الزائر التوبة عند القبر الشريف، كما ادعى بعضهم استحبابه (8).
وهكذا فإن قصد أي نوع من أنواع العبادة الأخرى، كالطواف (9) ونحوه، مما قد يعمل عند القبر تبركاً، فإن ذلك كله من البدع المحدثة في الدين، ولأن الطواف خاص بالكعبة فقط.
وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معللاً عدم مشروعية أداء العبادات عند القبر النبوي: (لو كان للأعمال عند القبر فضيلة لفتح للمسلمين باب الحجرة، فلما منعوا من الوصول إلى القبر، وأمروا بالعبادة في المسجد: علم أن فضيلة العمل فيه لكونه في مسجده ... ولم يأمر قط بأن يقصد بعمل صالح أن يفعل عند قبره صلى الله عليه وسلم) (10).
3 - التمسح بالقبر أو تقبيله، ونحو ذلك:
_________
(1) من كتاب ((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) (ص: 119)، وكتاب ((الرد على البكري)) لابن تيمية (ص: 55) بتصرف.
(2) انظر إن شئت تفاصيل هذه المسألة في كتاب غاية الأماني في الرد على النبهاني للألوسي (ص: 256) فما بعدها، وانظر أيضاً لهذه المسألة ونحوها كتاب ((كشف الشبهات)) للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وقد طبع ضمن القسم الأول لمؤلفاته (ص: 153 - 183) وهو كتاب نفيس.
(3) ومن باب أولى قصد الصلاة تجاه القبر. انظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 194).
(4) ((الرد على البكري)) لابن تيمية (ص: 56) بتصرف.
(5) ((الرد على البكري)) لابن تيمية (ص: 56).
(6) ((مجموعة الرسائل الكبرى)) لابن تيمية (2/ 408)، وانظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 681).
(7) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 737) بتصرف، ومن رسالة الألباني بعنوان ((مناسك الحج والعمرة في الكتاب والسنة وآثار السلف، ورد ما ألحق الناس بها من البدع)) (ص: 61).
(8) انظر مثلاً كتاب ((وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى)) للسمهودي (4/ 1399)، وكتاب ((حقيقة التوسل والوسيلة على ضوء الكتاب والسنة)) لموسى محمد علي (ص: 94).
(9) ((الروض المربع)) للبهوتي (ص: 152)، ((مجموعة الرسائل الكبرى)) لابن تيمية (2/ 410)، ((الإيضاح في المناسك)) للنووي (ص: 160)، ((المدخل)) لابن الحاج (1/ 263)، ((الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع)) للسيوطي (ص: 125)، ((الإبداع في مضار الابتداع)) لعلي محفوظ (ص: 166)، وغيرها.
(10) ((مجموع الفتاوى)) (27/ 236، 237).

إن التمسح بحائط قبر الرسول صلى الله عليه وسلم باليد أو غيرها – على أي وجه كان – أو تقبيله رجاء الخير والبركة، مظهر من مظاهر البدع عند بعض الزوار.
وقد نص على كراهة ذلك الفعل، وعلى النهي عنه جماعة من العلماء (1)، وقال الإمام الغزالي رحمه الله: إنه عادة النصارى واليهود (2).
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اتفاق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين – الصحابة وأهل البيت وغيرهم – أنه لا يتمسح به، ولا يقبله (3).
أما ما يروى عن بعض العلماء أنه فعل ذلك أو أجازه ففيه نظر (4).
وقال شيخ الإسلام مبيناً حكم تقبيل الجمادات: (ليس في الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود، وقد ثبت في الصحيحين أن عمر رضي الله عنه قال: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) (5) (6) ..
وقال في موضع آخر مبيناً سبب كراهة العلماء للتمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم أو تقبيله، قال رحمه الله: (لأنهم علموا ما قصده النبي صلى الله عليه وسلم من حسم مادة الشرك، وتحقيق التوحيد، وإخلاص الدين لله رب العالمين) (7).
وقال أيضا: (لأن التقبيل والاستلام إنما يكون لأركان بيت الله الحرام، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق) (8).
وللإمام النووي رحمه الله تعالى كلام نفيس حول حكم هذا الفعل بقبر الرسول صلى الله عليه وسلم، أرى أن من المناسب ذكره هنا لأهميته.
قال رحمه الله ما نصه: (يكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد منه لو حضر في حياته صلى الله عليه وسلم، هذا هو الصواب، وهو الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، وينبغي أن لا يغتر بكثير من العوام في مخالفتهم ذلك، فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بأقوال العلماء، ولا يلتفت إلى محدثات العوام وجهالاتهم، ولقد أحسن السيد الجليل أبو علي الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى في قوله ما معناه: اتبع طرق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطريق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين. ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته، لأن البركة إنما هي في ما وافق الشرع، وأقوال العلماء، وكيف يبتغى الفضل في مخالفة الصواب؟) (9) اهـ.
_________
(1) انظر الكتب الآتية: ((الشفا)) للقاضي عياض (2/ 85)، ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (1/ 259)، ((الحوادث والبدع)) للطرطوشي (ص: 148)، ((المغني)) لابن قدامة (3/ 559)، ((الإيضاح)) للنووي (ص: 161)، ((المدخل)) لابن الحجاج (1/ 263)، ((الأمر بالأتباع)) للسيوطي (ص: 125)، ((وفاء الوفا بأخبار المصطفى)) للسمهودي (4/ 1402).
(2) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (1/ 271).
(3) ((مجموع الفتاوى)) (27/ 79).
(4) راجع ((الرد على الأخنائي)) لابن تيمية (ص: 169، 171)، ((أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة)) لأحمد بن يحيى النجمي (ص: 303 - 306).
(5) ((مجموع الفتاوى)) (27/ 79).
(6) الحديث رواه البخاري (1597) ومسلم (1270).
(7) ((مجموع الفتاوى)) (27/ 80).
(8) ((مجموعة الرسائل الكبرى)) لابن تيمية (1/ 298).
(9) ((الإيضاح في المناسك)) للإمام النووي (ص: 161).

وهكذا تبين لنا أن التمسح بالقبر أو تقبيله (1)، ونحو ذلك مما قد يعمل عند القبر الشريف تبركاً، كإلصاق البطن أو الظهر بجدار القبر (2)، أو التبرك برؤية القبر (3)، كل ذلك من البدع المذمومة.
إلى غير ذلك من مظاهر التبرك غير المشروع بقبر النبي صلى الله عليه وسلم التي يراها من يزور مسجده صلى الله عليه وسلم ويسلم عليه. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع – ص: 324
ب- التبرك بالمواضع التي جلس أو صلى فيها صلى الله عليه وسلم
لابد من معرفة الفرق بين هذين الأمرين (وهما):
أحدهما: ما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم من العبادات – كالصلاة ونحوها – في أي بقعة أو مكان، فإنه يشرع قصده وتحري مكانه، اقتداء به صلى الله عليه وسلم وطلباً للأجر والثواب، وهذا لا خلاف فيه.
الثاني: ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من العبادات وغيرها، في أي مكان، دون قصده لمكان بذاته، أو أداء العبادة فيه، فهذا مما لا يشرع قصده أو تحريه، وهو محل البحث هنا.
وعلى هذا فإن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه التعبد فهو عبادة يشرع التأسي به فيه، فإذا تخصص زمان أو مكان بعبادة، كان تخصيصه بتلك العبادة سنة (4).
فقصد الصلاة أو الدعاء في الأمكنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد الصلاة أو الدعاء عندها سنة، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعاً له، كما إذا تحرى الصلاة أو الدعاء في وقت من الأوقات، فإن قصد الصلاة أو الدعاء في ذلك الوقت سنة كسائر عباداته، وسائر الأفعال التي فعلها على وجه التقرب (5).
ومن أمثلة هذا قصد الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة خلف مقام إبراهيم عليه السلام، وكما كان يتحرى الصلاة عند الاسطوانة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وكما يقصد المساجد للصلاة، ويقصد الصف الأول، ونحو ذلك (6). أما ما لم يكن كذلك فلا يشرع قصده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية موضحاً حكم هذه المسألة: (لم يشرع الله تعالى للمسلمين مكاناً يقصد للصلاة إلا المسجد، ولا مكاناً يقصد للعبادة إلا المشاعر، فمشاعر الحج، كعرفة ومزدلفة ومنى تقصد بالذكر والدعاء والتكبير لا الصلاة، بخلاف المساجد، فإنها هي التي تقصد للصلاة، وما ثم مكان يقصد بعينه إلا المساجد والمشاعر، وفيها الصلاة والنسك ... وما سوى ذلك من البقاع فإنه لا يستحب قصد بقعة بعينها للصلاة ولا الدعاء ولا الذكر، إذ لم يأت في شرع الله ورسوله قصدها لذلك، وإن كان مسكناً لنبي أو منزلاً أو ممراً.
فإن الدين أصله متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وموافقته بفعل ما أمرنا به وشرعه لنا وسنه لنا، ونقتدي به في أفعاله التي شرع لنا الاقتداء به فيها، بخلاف ما كان من خصائصه.
فأما الفعل الذي لم يشرعه هو لنا، ولا أمرنا به، ولا فعله فعلاً سن لنا أن نتأسى به فيه، فهذا ليس من العبادات والقرب، فاتخاذ هذا قربة مخالفة له صلى الله عليه وسلم) (7) اهـ.
_________
(1) أقبح من هذا تقبيل الأرض حول القبر. انظر: ((وفاء الوفا)) للسمهودي (4/ 1406).
(2) من كتاب ((الإيضاح)) للنووي (ص: 160، 161)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 219)، ((الأمر بالأتباع)) للسيوطي (ص: 125)، ((الإبداع)) لعلي محفوظ (ص: 166). ومنهم من يضع خده على القبر استشفاء. انظر كتاب ((التوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية)) لمحمد الفقي (ص: 216).
(3) ذكر هذا بعضهم على سبيل الترغيب. انظر كتاب ((الشفا)) للقاضي عياض (2/ 85).
(4) ((مجموعة الرسائل والمسائل)) لابن تيمية (5/ 260).
(5) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 746، 747) بتصرف.
(6) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 742).
(7) ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (5/ 263، 264).

وبناء على ما تقدم فإن المواضع التي صلى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة – ما عدا مسجده صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء – أو على طرقها، أو بمكة – ما عدا المسجد الحرام – ونحو ذلك مما لم يقصده بذاته، كبعض المساجد بمكة أو المدينة وما حولهما، المبنية على آثار صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم، في حضره أو سفره أو غزواته – إن صح ذلك – لا تشرع الصلاة فيها على سبيل القصد, والقربة, والتبرك، وستأتي أدلة ذلك.
وكذلك فإن المواضع والبقاع والجبال التي جلس أو أقام فيها الرسول صلى الله عليه وسلم – ما عدا المشاعر – لا تقصد العبادة فيها التماساً للبركة.
وكذا فإن الآبار التي شرب منها الرسول صلى الله عليه وسلم – ما عدا بئر زمزم – أو اغتسل منها، لا تقصد تبركاً واستشفاء ......
أدلة عدم شرعية التبرك بالمواضع التي جلس أو صلى فيها صلى الله عليه وسلم:
يمكن الاستدلال على عدم شرعية التبرك بهذه المواضع – على الوجه المتقدم – من عدة أوجه:
أحدها: لا يوجد دليل من النصوص الشرعية يفيد جواز ذلك الفعل أو استحبابه.
ولا شك أن الجلوس في تلك المواضع للصلاة أو الدعاء أو الذكر ونحو ذلك قربة وتبركاً من أنواع العبادة، والعبادات مبناها على الاتباع لا على الابتداع.
الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم لم ينقل عن أحد منهم أنه تبرك بشيء من المواضع التي جلس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو البقع التي صلى عليها عليه الصلاة والسلام اتفاقاً، مع أنهم أحرص الأمة على التبرك بالرسول صلى الله عليه وسلم، ومع علمهم بتلك المواضع، وشدة محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له، واتباعهم لسنته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجاً وعماراً ومسافرين، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحباً لكانوا إليه أسبق، فإنهم أعلم بسنته، وأتبع لها من غيرهم) (1).
فتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين التي حث الرسول صلى الله عليه وسلم على التمسك بها، بل هو مما ابتدع.
ولم ينقل قصد الصلاة في تلك البقاع التي صلى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهو لم يكن يقصد التبرك – كما سيأتي إيضاحه – مع أن قول الصحابي إذا خالفه نظيره ليس بحجة، فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة (2).
وكما أن أداء الصلاة ونحوها من أنواع العبادة غير مشروع عند الآثار النبوية تبركاً، فإن التمسح أو التقبيل لشيء منها ممنوع أيضاً، كما عليه سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: (المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه بالمدينة النبوية دائماً، لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يقبله، ولا المواضع التي صلى فيها بمكة وغيرها) (3).
الوجه الثالث: نهي السلف الصالح عن هذا التبرك قولاً وفعلاً.
لقد أنكر هذا التبرك السلف الصالح رحمهم الله، من الصحابة والتابعين فمن بعدهم.
وكان على رأس هؤلاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الراشد.
_________
(1) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 748).
(2) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 748) بتصرف.
(3) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 800).

فعن المعرور بن سويد رحمه الله قال: (خرجنا مع عمر بن الخطاب، فعرض لنا في بعض الطريق مسجد، فابتدره الناس يصلون فيه، فقال عمر: ما شأنهم؟ فقالوا: هذا مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا، حتى أحدثوها بِيَعاً، فمن عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض) (1).
قال ابن تيمية رحمه الله معلقاً على هذه القصة: (لما كان النبي لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه، بل صلى فيه لأنه موضع نزوله، رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة، بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبه بهم في ذلك، ففاعل ذلك متشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصورة، ومتشبه باليهود والنصارى في القصد، الذي هو عمل القلب وهذا هو الأصل، فإن المتابعة في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل) (2) اهـ.
وورد في قصة أخرى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بها فقطعت.
هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفعله، الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)) (3).
وقد قال ابن وضاح القرطبي رحمه الله بعد أن روى هاتين القصتين: (وكان مالك بن أنس، وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد، وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم ما عدا قباء وأحداً) (4).
ثم قال: (وسمعتهم يذكرون أن سفيان الثوري دخل مسجد بيت المقدس، فصلى فيه، ولم يتبع تلك الآثار، ولا الصلاة فيها، وكذلك فعل غيره أيضاً ممن يقتدى به، وقدم وكيع أيضاً مسجد بيت المقدس فلم يعد فعل سفيان).
ثم قال أخيراً: (فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين، فقد قال بعد من مضى: كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكراً عند من مضى) (5) الخ.
تلك نماذج لنهي السلف الصالح رحمهم بأقوالهم وأفعالهم عن هذا التبرك المبتدع.
الوجه الرابع: أن منع هذا التبرك من باب سد الذريعة، ويمكن إيضاح ذلك من عدة وجوه:
أحدها: أن النهي عن هذا الفعل سد لذريعة الشرك والفتنة (6)، فهو وسيلة إلى الفتنة بتلك المواضع، وتعظيمها، وربما أفضى ذلك إلى جعلها معابد (7).
الثاني: أن ذلك الفعل يشبه الصلاة عند المقابر (8)، إذ هو ذريعة إلى اتخاذ تلك الآثار مساجد.
والنصوص الشرعية تحرم اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ... مع أنهم مدفونون فيها، وهم أحياء في قبورهم (9)، فما بالك بالمواضع الأخرى لهم.
الثالث: أن هذا الفعل ذريعة إلى التشبه بأهل الكتاب في أفعالهم، كما حذر عمر رضي الله عنه.
_________
(1) رواه عبد الرزاق 2/ 118 (2734).
(2) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (1/ 281).
(3) رواه أحمد2/ 53، والترمذي (3682) وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وقال الألباني ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5988): حسن أو أعلى.
(4) المقصود إتيان قبور شهداء أحد لزيارتهم والسلام عليهم، وفي كتاب ((الاعتصام)) للشاطبي (1/ 347) هكذا (ما عدا قباء وحده) نقلاً عن ابن وضاح.
(5) ((البدع والنهي عنها)) لابن وضاح القرطبي (ص: 43).
(6) ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 368).
(7) من كتاب ((التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية)) لعبد العزيز بن ناصر الرشيد (ص: 340)، وانظر كتاب ((هذه مفاهيمنا)) لصالح آل الشيخ (ص: 212).
(8) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 745).
(9) ((مجموعة الرسائل والمسائل)) لابن تيمية (5/ 262) بتصرف.

الوجه الخامس: أن بركة ذوات الأنبياء والمرسلين لا تتعدى إلى الأمكنة الأرضية، والله أعلم، وإلا لزم أن تكون كل أرض وطئها النبي، أو جلس عليها، أو طريق مر بها تطلب بركتها، ويتبرك بها، وهذا لازم باطل قطعًا، فانتفى الملزوم إذاً (1).
قال الشيخ صديق حسن رحمه الله: (قالوا: المشي في أرض مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر السيئات، خصوصاً مع النية الصالحة ... وفيها بشرى له برجاء أن يكون متبعاً آثاره الشريفة، قلت: وذلك يحتاج إلى سند، لأن المكفر إنما هو اتباع هديه وسنته ظاهراً وباطناً دون تتبع آثاره الأرضية فقط، فتدبر) (2).
وبهذه الأوجه وغيرها يستدل على عدم مشروعية التبرك المذكور. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع – ص: 339
وما ورد عن ابن عمر ونزوله في مواضع نزول النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك مردود بفعل سائر الصحابة
وقد تبين أن أحدا من السلف لم يكن يفعل ذلك، إلا ما نقل عن ابن عمر: أنه كان يتحرى النزول في المواضع التي نزل فيها النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة في المواضع التي صلى فيها، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وصب فضل وضوئه في أصل شجرة. ففعل ابن عمر ذلك وهذا من ابن عمر تحر لمثل فعله. فإنه قصد أن يفعل مثل فعله، في نزوله وصلاته، وصبه للماء وغير ذلك، لم يقصد ابن عمر الصلاة والدعاء في المواضع التي نزلها.
... أن لا تكون تلك البقعة في طريقه، بل يعدل عن طريقه إليها، أو يسافر إليها سفرا قصيراً أو طويلا مثل من يذهب إلى حراء ليصلي فيه ويدعو، أو يذهب إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى ليصلي فيه ويدعو، أو يسافر إلى غير هذه الأمكنة من الجبال وغير الجبال، التي يقال فيها مقامات الأنبياء أو غيرهم، أو مشهد مبني على أثر نبي من الأنبياء، مثل ما كان مبنياً على نعله، ومثل ما في جبل قاسيون، وجبل الفتح، وجبل طور زيتا الذي ببيت المقدس، ونحو هذه البقاع، فهذا مما يعلم كل من كان عالما بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحال أصحابه من بعده، أنهم لم يكونوا يقصدون شيئا من هذه الأمكنة.
ارتياد جبل حراء والغار ونحوه من البدع التي لم تشرع ولم يفعلها الصحابة والسلف الصالح.
فإن جبل حراء الذي هو أطول جبل بمكة، كانت قريش تنتابه قبل الإسلام وتتعبد هناك، ولهذا قال أبو طالب في شعره:
وراق ليرقى في حراء ونازل
وقد ثبت في (الصحيح) ((عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي غار حراء، فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، ثم يرجع فيتزود لذلك، حتى فجأه الوحي، وهو بغار حراء، فأتاه الملك، فقال له: اقرأ. فقال لست بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، ثم قال: اقرأ. فقال لست بقارئ قال: مرتين أو ثلاثا- ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1 - 5] , فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره)) (3) الحديث بطوله.
_________
(1) من كتاب ((هذه مفاهيمنا)) (ص: 211)، وانظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل)) لابن تيمية (5/ 263).
(2) من كتاب ((رحلة الصديق إلى البيت العتيق)) لصديق حسن خان (ص: 21).
(3) رواه البخاري (3).

فتحنثه وتعبده بغار حراء كان قبل المبعث. ثم إنه لما أكرمه الله بنبوته ورسالته، وفرض على الخلق الإيمان به وطاعته واتباعه، وأقام بمكة بضع عشرة سنة هو ومن آمن به من المهاجرين الأولين الذين هم أفضل الخلق، ولا يذهب هو ولا أحد من أصحابه إلى حراء. ثم هاجر إلى المدينة واعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت -والحديبية عن يمينك وأنت قاصد مكة إذا مررت بالتنعيم عند المساجد التي يقال إنها مساجد عائشة، والجبل الذي عن يمينك يقال له جبل التنعيم، والحديبية غربيه- ثم إنه اعتمر من العام القابل عمرة القضية، ودخل مكة هو وكثير من أصحابه، وأقاموا بها ثلاثا. ثم لما فتح مكة وذهب إلى ناحية حنين والطائف شرقي مكة، فقاتل هوازن بوادي حنين، ثم حاصر أهل الطائف وقسم غنائم حنين بالجعرانة، فأتى بعمرة من الجعرانة إلى مكة، ثم إنه اعتمر عمرته الرابعة مع حجة الوداع، وحج معه جماهير المسلمين، ولم يتخلف عن الحج معه إلا من شاء الله، ولم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته زيارة تلك البقاع والمشاهد وهو في ذلك كله، لا هو ولا أحد من أصحابه يأتي غار حراء، ولا يزوره، ولا شيئا من البقاع التي حول مكة، ولم يكن هناك عبادة إلا بالمسجد الحرام، وبين الصفا والمروة، وبمنى والمزدلفة وعرفات، وصلى الظهر والعصر ببطن عرنة، وضربت له القبة يوم عرفة بنمرة، المجاورة لعرفة.
ثم بعده خلفاؤه الراشدون وغيرهم، من السابقين الأولين، لم يكونوا يسيرون إلى غار حراء ونحوه للصلاة فيه والدعاء.
وكذلك الغار المذكور في القرآن في قوله تعالى: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة: 40] , وهو غار بجبل ثور، يمان مكة، لم يشرع لأمته السفر إليه وزيارته والصلاة فيه والدعاء، ولا بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة مسجدا، غير المسجد الحرام، بل تلك المساجد كلها محدثة، مسجد المولد وغيره، ولا شرع لأمته زيارة موضع المولد ولا زيارة موضع بيعة العقبة الذي خلف منى، وقد بني هناك له مسجد.
ومعلوم أنه لو كان هذا مشروعا مستحبا يثيب الله عليه، لكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بذلك، ولكان يعلم أصحابه ذلك، وكان أصحابه أعلم بذلك وأرغب فيه ممن بعدهم، فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيء من ذلك علم أنه من البدع المحدثة، التي لم يكونوا يعدونها عبادة وقربة وطاعة، فمن جعلها عبادة وقربة وطاعة فقد اتبع غير سبيلهم، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله.
وإذا كان حكم مقام نبينا صلى الله عليه وسلم في مثل غار حراء الذي ابتدئ فيه بالإنباء والإرسال، وأنزل عليه فيه القرآن، مع أنه كان قبل الإسلام يتعبد فيه. وفي مثل الغار المذكور في القرآن الذي أنزل الله فيه سكينته عليه.
فمن المعلوم أن مقامات غيره من الأنبياء أبعد عن أن يشرع قصدها، والسفر إليها لصلاة أو دعاء أو نحو ذلك، إذا كانت صحيحة ثابتة. فكيف إذا علم أنها كذب، أو لم يعلم صحتها.
وأيضا- فإن المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه بالمدينة النبوية دائما، لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يقبله، ولا المواضع التي صلى فيها بمكة وغيرها. فإذا كان الموضع الذي كان يطؤه بقدميه الكريمتين، ويصلي عليه، لم يشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله، فكيف بما يقال: إن غيره صلى فيه أو نام عليه؟

وإذا كان هذا ليس بمشروع في موضع قدميه للصلاة، فكيف بالنعل الذي هو موضع قدميه للمشي وغيره؟ هذا إذا كان النعل صحيحا، فكيف بما لا يعلم صحته، أو بما يعلم أنه مكذوب: كحجارة كثيرة يأخذها الكذابون وينحتون فيها موضع قدم، ويزعمون عند الجهال أن هذا الموضع قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا غير مشروع في موضع قدميه، وقدمي إبراهيم الخليل، الذي لا شك فيه، ونحن مع هذا قد أمرنا أن نتخذه مصلى، فكيف بما يقال إنه موضع قدميه، كذبا وافتراء عليه كالموضع الذي بصخرة بيت المقدس، وغير ذلك من المقامات.
فإن قيل فقد أمر الله أن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى، فيقاس عليه غيره. قيل له: هذا الحكم خاص بمقام إبراهيم الذي بمكة، سواء أريد به المقام الذي عند الكعبة موضع قيام إبراهيم، أو أريد به المشاعر: عرفة ومزدلفة ومنى، فلا نزاع بين المسلمين أن المشاعر خصت من العبادات بما لا يشركها فيه سائر البقاع، كما خص البيت بالطواف. فما خصت به تلك البقاع لا يقاس به غيرها. وما لم يشرع فيها فأولى أن لا يشرع في غيرها ونحن استدللنا على أن ما لم يشرع هناك من التقبيل، والاستلام أولى أن لا يشرع في غيرها، ولا يلزم أن يشرع في غير تلك البقاع مثل ما شرع فيها. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية– 2/ 803
ج- حكم التبرك بأثر قدم الرسول صلى الله عليه وسلم:
ذلك أنه يوجد في بعض البلدان ما يسمى (أثر موطئ قدم الرسول صلى الله عليه وسلم) وهو عبارة عن حجارة عليها أثر قدم، يزعم بعض الناس أنها قدم الرسول صلى الله عليه وسلم, فيتبركون بها مسحاً وتقبيلاً ومشاهدة، وغير ذلك، كالدعاء عندها، ونحوه، وقد ينشئون الزيارة لأجل ذلك.
والكلام على بطلان ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن ما يدعى وجوده من آثار قدمه الشريفة عليه الصلاة والسلام غير صحيح؛ لعدة أسباب, منها ما يأتي:
1 - عدم وجود ما يثبت صحة شيء من ذلك، فليس هناك أدلة معتبرة يعتمد عليها، وإنما الأمر مجرد إشاعات فقط في البداية، اكتسبت الشهرة بعد ذلك، خصوصاً عند العوام.
2 - نص المحققون من العلماء والحفاظ على إنكار صحة آثار القدم النبوية على الأحجار (1).
وإن من علامات زيف آثار القدم ما قرره صاحب كتاب (الآثار النبوية) حين قابل بين المعروف من تلك الآثار، حيث قال: (المعروف الآن من هذه الأحجار سبعة: أربعة منها بمصر، وواحد بقبة الصخرة ببيت المقدس، وواحد بالقسطنطينية، وواحد بالطائف، وهي حجارة سوداء، إلى الزرقة في الغالب، عليها آثار أقدام متباينة في الصورة والقدم، لا يشبه الواحد منها الآخر) (2).
3 - أن ما استفاض واشتهر خصوصاً على ألسنة الشعراء والمداح من تأثير قدمه صلى الله عليه وسلم في الصخر إذا وطئ عليه لا أصل له، فهو كذب مختلق (3).
الوجه الثاني: لو صح وجود شيء من آثار قدم الرسول صلى الله عليه وسلم افتراضاً، فإنه لا يجوز التبرك به على وجه من الوجوه، لما يأتي:
1 - ما تقدم تقريره والاستدلال عليه. .. من عدم مشروعية التبرك بالمواضع التي جلس أو صلى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثر القدم جزء من هذه المواضع، ولذا لم يتبرك به السلف الصالح رحمهم الله تعالى.
_________
(1) أورد المؤلف أحمد تيمور باشا صاحب كتاب ((الآثار النبوية)) جملة من أسماء هؤلاء العلماء. انظر كتابه هذا (ص: 68، 69)، وراجع ((الاقتضاء)) (2/ 800)، و ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (27/ 13).
(2) ((الآثار النبوية)) لأحمد تيمور باشا (ص: 53).
(3) انظر كتاب ((فتح المتعال في مدح النعال)) للمقري (ص: 349، 351)، وكتاب ((الآثار النبوية)) (ص: 53، 63).

وقد نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (الموضع الذي كان صلى الله عليه وسلم يطؤه بقدميه الكريمتين، ويصلي عليه، لم يشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله) (1).
وقال في موضع آخر رحمه الله: (قصد الصلاة والدعاء عندما يقال إنه قدم نبي، أو أثر نبي، أو قبر نبي ... من البدع المحدثة، المنكرة في الإسلام، لم يشرع ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا كان السابقون الأولون والتابعون لهم بإحسان يفعلونه، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين، بل هو من أسباب الشرك، وذرائع الإفك) (2).
2 - اتفق العلماء على ما مضت به السنة من أنه لا يشرع الاستلام والتقبيل لمقام إبراهيم عليه السلام (3) – الموجود به موضع قدميه – وإذا كان هذا غير مشروع في موضع قدمي إبراهيم عليه السلام – الذي لا شك فيه – مع أنا قد أمرنا أن نتخذه مصلى، فكيف بما يقال إنه موضع قدم الرسول صلى الله عليه وسلم – كذباً وافتراء (4) -.
هذا ما يتعلق بحكم التبرك بأثر قدم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهكذا الحكم أيضاً في كل ما قد ينسب إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم من آثار أخرى مشابهة، كأثر الكف, أو المرفق, أو الرأس وغير ذلك (5)، فإنه لا يوجد لها مستند شرعي صحيح، يثبت صحة نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أنه لا يشرع التبرك بها على أي وجه من الوجوه لو صح شيء منها، والله سبحانه وتعالى أعلم. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن بن محمد الجديع – ص: 352
د - حكم التبرك بمكان ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم:
ذكر بعض المتأخرين من المؤرخين أن بمكة موضعاً مشهوراً يقال إنه مكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يزار بعد صلاة المغرب من الليلة الثانية عشرة من شهر ربيع الأول في كل سنة، من قبل بعض الفقهاء والأعيان، على طريقة خاصة، فيدخلون فيه ويخطبون ويدعون لولاة الأمر، ثم يعودون إلى المسجد الحرام قبيل العشاء (6).
وذكر بعضهم أن هذا الموضع يفتح يوم الاثنين من شهر ربيع الأول ليتبرك به الناس – بالصلاة, والدعاء, والتمسح ونحو ذلك – فهو أول تربة مست جسمه الطاهر عليه الصلاة والسلام (7)، وحتى ادعى بعض العلماء أن الدعاء يستجاب في مولد النبي صلى الله عليه وسلم عند الزوال (8).
فهل التبرك بمكان ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم مشروع أم ممنوع؟.
والجواب: أن حكم هذه المسألة لا يختلف عن أمثالها من المسائل السابقة، وهو عدم الجواز، وذلك من وجهين:
الوجه الأول: اختلاف العلماء والمؤرخين في تعيين مكان ولادته صلى الله عليه وسلم (9)، وعدم وجود أدلة صحيحة تحدد هذا الموضع يقيناً.
وأما المكان المشهور – المشار إليه آنفاً – فمحل شك لدى كثير من العلماء.
وقد تطرق الرحالة أبو سالم العياشي إلى تحقيق مكان المولد، وساق اختلاف العلماء فيه، ثم ناقش ذلك القول المشهور بين الناس.
_________
(1) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 800).
(2) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (27/ 145).
(3) انظر: ((أخبار مكة)) للأزرقي (2/ 29، 30)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 212).
(4) ((الاقتضاء)) (2/ 799، 800) بتصرف.
(5) انظر: ((الآثار النبوية)) لأحمد تيمور باشا (ص: 61، 62).
(6) من كتاب ((الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف)) لابن ظهيرة – المتوفى سنة 986هـ - (ص: 326)، و ((كتاب إعلام العلماء الأعلام)) للقطبي – المتوفى سنة 1014هـ (ص: 154) باختصار.
(7) ((رحلة ابن جبير)) (ص: 92) بتصرف.
(8) انظر: ((إعلام العلماء والأعلام)) للقطبي (ص: 154).
(9) انظر مثلاً ((شفاء الغرام)) (1/ 269)، ((الجامع اللطيف)) (ص: 325 - 327)، ((أخبار الكرام)) (ص: 220، 221).

ومما أورده قوله: (والعجب أنهم عينوا محلاً من الدار مقدار مضجع، وقالوا له: موضع ولادته صلى الله عليه وسلم، ويبعد عندي كل البعد تعيين ذلك من طريق صحيح أو ضعيف، لما تقدم من الخلاف في كونه في مكة أو غيرها، وعلى القول بأنه فيها ففي أي شعابها؟ وعلى القول بتعيين هذا الشعب ففي أي الدور؟ وعلى القول بتعيين الدار يبعد كل البعد تعيين الموضع من الدار، بعد مرور الأزمان والأعصار، وانقطاع الآثار).
ثم قال أيضاً رحمه الله مستبعداً صحة تحديد ذلك المكان: (والولادة وقعت في زمن الجاهلية، وليس هناك من يعتني بحفظ الأمكنة، سيما مع عدم تعلق غرض لهم بذلك، وبعد مجيء الإسلام فقد علم من حال الصحابة وتابعيهم ضعف اعتناقهم بالتقييد، بالأماكن التي لم يتعلق بها عمل شرعي، لصرفهم اعتناءهم رضي الله عنهم لما هو أهم، من حفظ الشريعة، والذب عنها بالسنان واللسان) (1) اهـ.
ولا شك أن اختلاف العلماء والمؤرخين في تحديد موضع الولادة دليل على عدم اهتمام الصحابة الأجلاء رضي الله عنهم به – لأنه لا يتعلق به عمل شرعي – وإلا لنقل اتفاقهم على مكان معين معروف، كما تعرف أماكن مشاعر الحج مثلاً.
فهذا إذاً من دلائل عدم مشروعية التبرك بمكان الولادة، فالصحابة أحرص من غيرهم على فعل الخير والمسارعة إليه.
الوجه الثاني: لو صحت معرفة مكان ولادة النبي صلى الله عليه وسلم لما جاز التبرك به على أي وجه، لما تقدم تقريره والاحتجاج له ... من عدم مشروعية التبرك بالمواضع التي جلس أو صلى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك من الآثار المكانية، ومكان الولادة جزء منها.
أما الاستدلال على شرعية تعظيم المكان الذي ولد فيه نبي، والتبرك به، بما روي أن جبريل عليه السلام أمر محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج بصلاة ركعتين ببيت لحم، حيث ولد عيسى عليه السلام (2)، فيجاب عنه بما يأتي:
1 - أن علماء الحديث وغيرهم حكموا على هذه الرواية بأنها منكرة موضوعة، فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في بيت لحم (3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ثبت في الصحيح ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى بيت المقدس ليلة الإسراء صلى فيه ركعتين)) (4) ولم يصل بمكان غيره ولا زاره، وحديث المعراج فيه ما هو في الصحيح، وفيه ما هو في السنن والمسانيد، وفيه ما هو ضعيف، وفيه ما هو من الموضوعات المختلقات، مثل ما يرويه بعضهم فيه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له جبريل: هذا قبر أبيك إبراهيم، انزل فصل فيه، وهذا بيت لحم مولد أخيك عيسى، انزل فصل فيه)) (5) .... فهذا ونحوه من الكذب المختلق باتفاق أهل المعرفة). إلى أن قال: (وبيت لحم كنيسة من كنائس النصارى، ليس في إتيانها فضيلة عند المسلمين، سواء كان مولد عيسى أو لم يكن) (6).
وقال ابن القيم رحمه الله: (قد قيل: إنه – أي النبي صلى الله عليه وسلم – نزل ببيت لحم، وصلى فيه، ولم يصح ذلك عنه ألبتة) (7).
_________
(1) ((الرحلة العياشية)) المسماة (ماء الموائد) للعياشي (1/ 225).
(2) من كتاب ((القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل صلى الله عليه وسلم)) للشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري (ص: 43، 138) نقلاً عن رسالة لمحمد بن علوي المالكي.
(3) انظر كتاب ((القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل صلى الله عليه وسلم)) للشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري (ص: 138 - 145) فقد أفاض مؤلفه وفقه الله في نقل كلام أهل العلم وحكمهم على هذه الرواية وأسانيدها.
(4) رواه مسلم (162).
(5) ينظر كتاب ((المجروحين)) (1/ 225) لابن حبان.
(6) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 814).
(7) ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/ 34).

2 - لو ثبت أنه عليه الصلاة والسلام صلى ليلة الإسراء في بيت لحم، لم يكن في ذلك ما يؤيد جواز الصلاة في مكان ولادة النبي صلى الله عليه وسلم تبركاً واحتساباً للأجر، لعدم صحة القياس في أمور العبادة، فهي توقيفية.
فضلاً عن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته بتعظيم بيت لحم، ولم يأمرها بالصلاة فيه، ولم يكن أحد من الصحابة رضي الله عنهم يعظم بيت لحم ويصلي فيه (1)، فليس في إتيانه فضيلة عند المسلمين كما تقدم، وكذا مكان ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن بن محمد الجديع – ص: 355
النوع الثاني: التبرك بالأولياء والصالحين
وردت أدلة كثيرة تدل على مشروعية التبرك بجسد وآثار النبي صلى الله عليه وسلم، كشعره وعرقه وثيابه وغير ذلك.
أما غير النبي صلى الله عليه وسلم من الأولياء والصالحين فلم يرد دليل صحيح صريح يدل على مشروعية التبرك بأجسادهم ولا بآثارهم، ولذلك لم يرد عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من التابعين أنهم تبركوا بجسد أو آثار أحد من الصالحين، فلم يتبركوا بأفضل هذه الأمة بعد نبيها، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه, ولا بغيره من العشرة المبشرين بالجنة، ولا بأحد من أهل البيت ولا غيرهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، لحرصهم الشديد على فعل جميع أنواع البر والخير، فإجماعهم على ترك التبرك بجسد وآثار غيره صلى الله عليه وسلم من الصالحين دليل صريح على عدم مشروعيته.
وعليه فإن من تبرك بذات أو آثار أحد من الصالحين غير النبي صلى الله عليه وسلم قد عصى الله تعالى، وعصى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأعطى هذه الخاصية التي خص بها ربنا جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم لغيره من البشر، وسواهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فسوى عموم الأولياء والصالحين بخير البشر وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه هضم لحقه صلى الله عليه وسلم، ودليل على نقص محبته عليه الصلاة والسلام في قلب هذا المتبرك.
ومن أنواع التبرك المحرم بالصالحين:
أ) التمسح بهم, ولبس ثيابهم, أو الشرب بعد شربهم طلباً للبركة.
ب) تقبيل قبورهم، والتمسح بها، وأخذ ترابها طلباً للبركة، وقد حكى جمع من أهل العلم إجماع العلماء على أن هذا كله منهي عنه (2)، وذكر أبو حامد الغزالي الشافعي المتوفي سنة 505هـ، وغيره من علماء الشافعية والحنفية أن هذه الأفعال من عادات النصارى، وذكر بعض علماء الشافعية وبعض علماء الحنفية أن استلام القبور تبركاً كبيرة من كبائر الذنوب.
ج) عبادة الله عند قبورهم تبركاً بها، معتقداً فضل التعبد لله تعالى عندها، وأن ذلك سبب لقبول هذه العبادة، وسبب لاستجابة الدعاء.
النوع الثالث: التبرك بالأزمان, والأماكن, والأشياء التي لم يرد في الشرع ما يدل على مشروعية التبرك بها.
ومن أمثلة هذه الأشياء:
1 - الأماكن التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم، أو تعبد لله فيها اتفاقاً من غير قصد لها لذاتها، وإنما لأنه صلى الله عليه وسلم كان موجوداً في هذه الأماكن وقت تعبده لله تعالى بهذه العبادة، ولم يرد دليل شرعي يدل على فضلها.
_________
(1) من كتاب ((الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي)) للشيخ حمود التويجري (ص: 88) بتصرف، وانظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 813).
(2) ينظر: رسالة ((زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور)) (ص: 24 - 32)، ((الاستغاثة في الرد على البكري)) (1/ 356)، ((مجموع الفتاوى)) (4/ 521، 26/ 97، 27/ 79 - 109، 136 - 294)، ((الاختيارات)) الجنائز (ص: 92)، ((الصارم المنكي)) (ص: 109 - 178)، ((الزواجر)): الكبيرة (93 - 98، 1/ 149).

ومن هذه الأماكن: جبل ثور، وغار حراء، وجبل عرفات، والأماكن التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره، والمساجد السبعة التي قرب الخندق، والمكان الذي يزعم بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد فيه – مع أنه مختلف في مكان ولادته عليه الصلاة والسلام اختلافاً كثيراً – ومثل الأماكن التي قيل إنه ولد فيها نبي أو ولي أو عاشوا فيها ونحو ذلك – مع أن كثيراً من ذلك لم يثبت -.
فلا يجوز للمسلم قصد زيارة هذه الأماكن للتعبد لله تعالى عندها، أو فوقها، بصلاة أو دعاء أو غيرهما، كما لا يجوز للمسلم مسح شيء من هذه الأماكن لطلب البركة، ولا يشرع صعود هذه الجبال لا في أيام الحج ولا غيرها، حتى جبل عرفات، لا يشرع صعوده في يوم عرفة، ولا غيره، ولا التمسح بالعمود التي فوقه، وإنما يشرع الوقوف عند الصخرات القريبة منه إن تيسر، وإلا وقف الحاج في أي مكان من عرفات.
ولذلك لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه قصد شيئاً من هذه الأماكن للتبرك بها بتقبيل أو لمس أو غيرهما ولا أن أحداً منهم قصدها للتعبد لله فيها.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى)) (1) رواه البخاري ومسلم، وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي هو ثاني الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم (أنه لما رأى الناس وهو راجع من الحج ينزلون فيصلون في مسجد، فسأل عنهم، فقالوا: مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هلك من كان قبلكم أنهم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً، من مر بشيء من هذه المساجد فحضرت الصلاة فليصل، وإلا فليمض) (2).
فهذا قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)) (3). وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر – رضي الله عنهما – ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)) (4).
وهو – أي قول عمر السابق – يدل على التحذير من التبرك بالأماكن التي مر بها أو تعبد فيها نبينا صلى الله عليه وسلم دون قصد لها، وعلى عدم مشروعية قصد هذه الأماكن للتعبد لله فيها، وعلى هذا أجمع سلف هذه الأمة وكل من سار على طريقتهم؛ ولأن ذلك من المحدثات التي لا دليل عليها.
_________
(1) رواه البخاري (1197)، ومسلم (827).
(2) رواه عبد الرزاق (2/ 118) (2734). قال ابن تيمية في ((التوسل والوسيلة)) (203)، وابن كثير في ((مسند الفاروق)) (1/ 142): إسناده صحيح.
(3) [3958])) رواه الترمذي (3682) , وأحمد (2/ 53) (5145) , وابن حبان (15/ 318) , والحاكم (3/ 93) , والطبراني في ((الأوسط)) (3/ 338) , قال الترمذي هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (7/ 133): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)). والحديث روي عن أبي هريرة, ومعاوية ابن أبي سفيان, وأبو ذر الغفاري, وبلال, رضي الله عنهم.
(4) رواه الترمذي (3663، 3799) وابن ماجه (97) , وأحمد (5/ 385) (23324). وقال: هذا حديث حسن. وحسنه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1165)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 579). وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

2 - التبرك ببعض الأشجار وبعض الأحجار وبعض الأعمدة وبعض الآبار والعيون التي يظن بعض العامة أن لها فضلاً، إما لظنهم أن أحد الأنبياء والأولياء وقف على ذلك الحجر، أو لاعتقادهم أن نبياً نام تحت تلك الشجرة، أو يرى أحدهم رؤيا أن هذه الشجرة أو هذا الحجر مبارك، أو يعتقدون أن نبياً اغتسل في تلك البئر أو العين، أو أن شخصاً اغتسل فيها فشفي، ونحو ذلك، فيغلون فيها ويتبركون بها فيتمسحون بالأشجار والأحجار، ويغتسلون بماء هذه البئر أو تلك العين طلباً للبركة، ويعلقون بالشجرة الخرق والمسامير والثياب، فربما أدى بهم غلوهم هذا في آخر الأمر إلى عبادة هذه الأشياء، واعتقاد أنها تنفع وتضر بذاتها.
ولا شك أن التبرك بالأشجار والأحجار والعيون ونحوها، بأي نوع من أنواع التبرك، من مسح أو تقبيل، أو اغتسال، أو غيرها مما سبق ذكره تبركاً وتعظيماً محرم بإجماع أهل العلم، ولا يفعله إلا الجهال؛ لأنه إحداث عبادات ليس لها أصل في الشرع، ولأنه من أعظم أسباب الوقوع في الشرك الأكبر، ولما روى أبو واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم وأمتعتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال صلى الله عليه وسلم: ((الله أكبر، هذا كما قالت بنو إسرائيل: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138]، ثم قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم)) (1).
فلما طلب حدثاء العهد بالإسلام من الصحابة شجرة يتبركون بها تقليداً للمشركين أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وأخبرهم أن طلبهم هذا يشبه طلب بني إسرائيل من موسى عليه السلام أن يجعل لهم آلهة تقليداً لمشركي زمانهم، فطلبهم مشابه لطلب بني إسرائيل من جهة طلب التشبه بالمشركين فيما هو شرك، وإن كان ما طلبه هؤلاء الصحابة من الشرك الأصغر.
ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه ليس هناك حجر أو غيره يشرع مسحه أو تقبيله تبركاً، حتى مقام إبراهيم الخليل – عليه السلام – لا يشرع تقبيله مطلقاً مع أنه قد وقف عليه، وأثرت فيه قدماه – عليه السلام -، وهذا كله قد أجمع عليه أهل العلم.
ومسح الحجر الأسود وتقبيله, وكذلك مسح الركن اليماني في أثناء الطواف إنما هو من باب التعبد لله تعالى، واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال عمر رضي الله عنه لما قبل الحجر الأسود: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) (2) رواه البخاري ومسلم.
كما أنه يجب قطع الأشجار وهدم الآبار والعيون، وإزالة الأحجار التي يتبرك بها العامة، حسماً لمادة الشرك، كما فعل عمر – رضي الله عنه – حين قطع شجرة بيعة الرضوان.
2 - التبرك ببعض الليالي والأيام التي يقال: إنها وقعت فيها أحداث عظيمة، كالليلة التي يقال إنها حصل فيها الإسراء والمعراج، ونحو ذلك تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين - ص: 296
النوع الرابع: التبرك بالأماكن والأشياء الفاضلة
وردت نصوص شرعية كثيرة تدل على فضل وبركة كثير من الأماكن، كالكعبة المشرفة، والمساجد الثلاثة، وكثير من الأزمان كليلة القدر ويوم عرفة، وكثير من الأشياء الأخرى، كما زمزم، والسحور للصائم، والتبكير في طلب الرزق ونحوه، وغير ذلك.
_________
(1) رواه الترمذي (2180)، وأحمد (5/ 218) (21947). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.
(2) [3961])) رواه البخاري (1597) ومسلم (1270).

والتبرك بهذه الأشياء يكون بفعل العبادات وغيرها مما ورد في الشرع ما يدل على فضلها فيها، ولا يجوز التبرك بها بغير ما ورد، وعليه فمن تبرك بالأزمان, أو الأماكن, أو الأشياء التي وردت نصوص تدل على فضلها أو بركتها بتخصيصها بعبادات أو تبركات معينة لم يرد في الشرع ما يدل على تخصيصها بها، فقد خالف المشروع، وأحدث بدعة ليس لها أصل في الشرع، وذلك كمن يخص ليلة القدر بعمرة، وكمن يتبرك بجدران الكعبة بتقبيلها أو مسحها، أو يتمسح بمقام إبراهيم أو بالحجر المسمى حجر إسماعيل، أو بأستار الكعبة، أو بجدران المسجد الحرام، أو المسجد النبوي وأعمدتهما ونحو ذلك، فهذا كله محرم، وهو من البدع المحدثة، وقد اتفق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة على عدم مشروعيته (1)، وعندك أن يتبرك بأحجار أو تراب شيء من المواضع الفاضلة بالتمرغ عليه أو يجمعه أو الاحتفاظ به.
ومما يدل أيضاً على تحريم التبرك بالأشياء الفاضلة بغير ما ورد في الشرع ما ثبت في (صحيح البخاري) عن ثاني الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بأتباع سنتهم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جعل الحق على قلب عمر ولسانه)) (2)، وقال صلى الله عليه وسلم عنه وعن أبي بكر: ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)) (3)، أنه قال رضي الله عنه لما قبل الحجر الأسود: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) (4) رواه البخاري ومسلم، فقول عمر هذا صريح في أن تقبيل الحجر الأسود إنما هو اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، فالمسلم يفعله تعبداً لله تعالى، واقتداء بخير البرية صلى الله عليه وسلم، وليس من باب التبرك في شيء.
وإذا كان هذا في شأن الحجر الأسود الذي هو أفضل الكعبة، فغيره من الأماكن والأشياء الفاضلة أولى، فيتعبد المسلم فيها بما ورد في الشرع ولا يزيد عليه.
ومما يدل كذلك على تحريم التبرك بالأشياء الفاضلة بغير ما ورد في الشرع ما ثبت عن حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – أنه أنكر على من استلم أركان الكعبة الأربعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الحجر الأسود والركن اليماني (5).رواه البخاري. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين - بتصرف– ص: 308
_________
(1) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص: 808، 809)، ((مجموع الفتاوى)) (4/ 521، 27/ 79، 106 - 110)، ((الاختيارات)) الجنائز (92)، و ((الحج)) (ص: 118)، ((زيارة القبور)) للبركوي الحنفي (ص: 52)، ((مجلس الأبرار)) للرومي الحنفي مع ((خزينة الأسرار)) لسبحان بخش الهندي الحنفي (ص: 130)، و ((نقائش الأزهار للسورتي الحنفي (ص: 161) نقلاً عن ((جهود علماء الحنفية)) (ص: 657)، ((إصلاح المساجد)) للقاسمي (ص: 52)، ((القول السديد)) للسعدي (ص: 53)، ((فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم)) (5/ 11، 12).
(2) [3963])) رواه الترمذي (3682) , وأحمد (2/ 53) (5145) , وابن حبان (15/ 318) , والحاكم (3/ 93) , والطبراني في ((الأوسط)) (3/ 338) , قال الترمذي هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (7/ 133): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)).والحديث روي عن أبي هريرة, ومعاوية ابن أبي سفيان, وأبو ذر الغفاري, وبلال, رضي الله عنهم.
(3) رواه الترمذي (3663، 3799) وابن ماجه (97) , وأحمد (5/ 385) (23324). وقال: هذا حديث حسن. وحسنه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1165)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 579). وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.
(4) [3965])) رواه البخاري (1597) ومسلم (1270).
(5) رواه البخاري (244).

1 - الجهل بالدين
من الأمور المسلم بها: أهمية العلم, ولاسيما العلم الشرعي، أي معرفة أمور الدين وشرائعه، ومن ثم العمل بذلك، حتى يعبد الله تعالى على بصيرة, قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9].
ومن هنا فإن الجهل بالدين وبأحكامه آفة خطيرة، وداء عظيم، فهو يحجب عن معرفة الحق، ويبعد عن سنن الهدى، ويؤدي إلى الضلال، ويوقع في البدع المتعددة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ما أحدث في الإسلام من المساجد والمشاهد على القبور والآثار فهو من البدع المحدثة في الإسلام، من فعل من لم يعرف شريعة الإسلام، وما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من كمال التوحيد, وإخلاص الدين لله، وسد أبواب الشرك التي يفتحها الشيطان لبني آدم. ولهذا يوجد أن من كان أبعد عن التوحيد, وإخلاص الدين لله, ومعرفة دين الإسلام هم أكثر تعظيماً لمواضع الشرك، فالعارفون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أولى بالتوحيد وإخلاص الدين لله، وأهل الجهل بذلك أقرب إلى الشرك والبدع) (1). الخ.
فالجهل إذاً أحد أسباب حصول كثير من صور التبرك الممنوع عند بعض المسلمين، حيث لم يميزوا بين التبرك المشروع والممنوع، بل خلطوا بينهما أو قاسوا الثاني على الأول.
ولقد انتشر الجهل في العصور المتأخرة في أنحاء العالم الإسلامي، وخاصة الأقطار النائية.
ومن أهم أسباب انتشار الجهل بين الناس: سكوت علماء أهل السنة عن بيان الحق وتبليغ شرائع الدين وأحكامه، وتخاذلهم عن إنكار البدع المحدثة والتحذير عنها، وإعراض الناس عن سؤال أهل العلم في أمور دينهم.
وفي مقابل هذا: تشجيع ورعاية علماء أهل البدع – وعلى رأسهم الروافض والصوفية – لبدعهم، وإحيائها، أو إفتاء البعض بدون علم ولا دراية، فيحصل الضلال والإضلال.
هذا ومن آثار الجهل السيئة، والمفاسد المترتبة عليه: تقليد الأسلاف، وتحكيم العادات السائدة بدون دليل، وهي شبهة قديمة احتج بها الكفار المخالفون لدعوة الرسل عليهم السلام، كما أخبرنا الله تعالى عن ذلك في كتابه الكريم.
يقول الإمام الشوكاني رحمه الله مبيناً خطر هذا الأمر: (بهذه الذريعة الشيطانية، والوسيلة الطاغوتية بقي المشرك من الجاهلية على شركه، واليهودي على يهوديته، والنصراني على نصرانيته، والمبتدع على بدعته، وصار المعروف منكراً, والمنكر معروفاً، وتبدلت الأمة بكثير من المسائل الشرعية غيرها، وألفوا ذلك، ومرنت عليه نفوسهم، وقبلته قلوبهم، وأنسوا إليه) (2).
كما أن من مفاسد الجهل أيضاً الوقوع في فتنة الشيطان وتلبيسه.
قال الإمام ابن القيم عند ذكره الأمور التي أوقعت عباد القبور في الافتتان بها، مع العلم بأن ساكنيها أموات، لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياتاً ولا نشوراً.
قال رحمه الله تعالى: (منها: الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله، بل جميع الرسل: من تحقيق التوحيد، وقطع أسباب الشرك، فقل نصيبهم جداً من ذلك، ودعاهم الشيطان إلى الفتنة، ولم يكن عندهم من العلم ما يبطل دعوته، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وعصموا بقدر ما معهم من العلم) (3) الخ.
وعلى أي حال فإن الواجب على المسلم تعلم أمور دينه والتفقه فيه، حتى لا يعبد الله بغير ما شرعه، ولأن من أمكنه التعلم ولم يتعلم يأثم.
وقد يعذر الجاهل لعدم علمه، أو عدم استطاعته التعلم، لكنه لا يعذر بعد العلم، فقد قامت عليه الحجة حينئذ التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن بن محمد الجديع – ص: 467
_________
(1) ((تفسير سورة الإخلاص)) (ص: 366).
(2) ((الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد)) لمحمد بن علي الشوكاني (ص: 28)، المطبوع ضمن مجموعة الرسائل السلفية. انظر ((رسالة تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد)) للصنعاني (ص: 33).
(3) ((إغاثة اللهفان)) (1/ 214، 215).

2 - التشبه بالكفار
لقد دل القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع العلماء على الأمر بمخالفة الكفار، والنهي عن مشابهتهم، لما ينشأ عن مشابهتهم والاقتداء بهم من الأضرار الكثيرة.
فمن الأدلة على ذلك في القرآن الكريم قول الله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [البقرة: 120].
وأما الأحاديث في ذلك فكثيرة.
منها ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) (1).
وما أخرجه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لتتبعن سنن الذين من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم. قلنا: يا رسول الله, اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)) (2).
قال ابن تيمية رحمه الله: وهذا خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك، والذم لمن يفعله، كما كان يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات (3).
كما جاءت السنة بالنهي عن مشابهة الكفار في أمور مخصوصة كثيرة، في العبادات والعادات، كنهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، وأن في ذلك مشابهة لأهل الكتاب.
وقد تقدم لنا إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من طلب اتخاذ شجرة لتعليق الأسلحة، وللعكوف عندها من أجل التبرك، اقتداء بفعل مشركي الجاهلية.
هذا ومن صور التبرك الحاصلة بسبب التشبه بالكفار مما ابتلي به بعض المسلمين ما يأتي:
1 - الغلو في الأنبياء والصالحين.
فإن النصارى قد عظموا أنبياءهم وأتباعهم حتى عبدوهم، فقلدهم بعض المسلمين وتأثروا بهم، حيث غلوا في محبة وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين، كما تقدم قريباً.
وقد أضل النصارى كثيراً من جهال المسلمين، حتى صاروا يزورون كنائسهم، ويلتمسون البركة من قسيسيهم ورهابينهم ونحوهم (4).
2 - إحداث الاحتفال بالموالد والأعياد.
ومن أمثلة ذلك الاحتفال بزمان المولد النبوي، وموالد الأولياء، ونحو ذلك من المناسبات تعظيماً وتبركاً.
ولا يخفى أن أهم دواعي إحداث هذه الأعياد والاحتفالات البدعية في بلاد المسلمين هو التشبه بأهل الكتاب، ولاسيما النصارى منهم، حيث إنهم يقيمون أعياداً عديدة في مواسم وأحوال عيسى عليه السلام.
3 - بناء المساجد وغيرها على القبور، والتبرك بها.
فإن منشأ ما ابتلي به الكثير في بلاد المسلمين من بناء المساجد على القبور، أو اتخاذ القبور مساجد بلا بناء، أو تعظيم القبور والمشاهد، إن منشأ ذلك هو التقليد الأعمى لمن كان قبلنا من الضالين، بل والمغضوب عليهم (5).
_________
(1) رواه أبو داود (4031)، وأحمد (2/ 50) (5114). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (15/ 509)، والعراقي في ((المغني)) (1/ 359): إسناده صحيح. وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 282): ثابت [و] إسناده حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح.
(2) رواه البخاري (7319) , ومسلم (2669).
(3) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 147).
(4) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (27/ 460، 461) بتصرف.
(5) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (27/ 460)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 77، 295)، بحث الوادعي ((حول القبة المبنية على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم)) (ص: 286) بتصرف.

فإن اليهود والنصارى هم الأئمة في ذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم محذراً عن فعلهم، في مرض موته: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (1).
والنصارى أشد غلوا في ذلك من اليهود، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأينها بالحبشة، فيها تصاوير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) (2).
ومن المعلوم أن النصارى يفرحون بما يفعله أهل البدع والجهل من المسلمين، مما يوافق دينهم، ويشابهونهم فيه، ويحبون أن يقوى ذلك ويكثر، ليقوى بذلك دينهم، ولئلا ينفر المسلمون عنهم وعن دينهم (3). ولا شك أن من دواعي التشبه بأفعال الكفار مجاورتهم أو مخالطتهم، حتى وصل الحال – مثلاً – ببعض جهال المسلمين في بلاد الهند إلى أن أحدهم صار يمشي زحفاً لزيارة قبر الولي، ويرجع على قفاه تقديراً وتعظيماً. وهذا بسبب مجاورة البوذيين هناك ومخالطتهم، حيث تأثروا بهم فقلدوهم في هذا الفعل ونحوه. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن بن محمد الجديع – ص: 475
_________
(1) رواه البخاري (1390)، ومسلم (529) من حديث عائشة.
(2) رواه البخاري (427)، ومسلم (528).
(3) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (27/ 462 - 464) باختصار.

3 - تعظيم الآثار
المقصود بالآثار هنا: الآثار المكانية، ونحوها.
وقد تقدم أنه لا يجوز تعظيم مكان لم يعظمه الشرع، كما أن هذا التعظيم يجب أن يكون على وفق الشرع أيضاً، وما جاوز ذلك من التعظيم والتبرك بالأماكن فممنوع.
وقد لاحظنا ... أن تعظيم الآثار المكانية وتقديسها هو السبب الباعث على التبرك بها وطلب الخير عندها.
كما يلاحظ أن معظم هذه الآثار التي يتبرك بها هي آثار النبي والصالحين المكانية المنسوبة إليهم، مثل أماكن ولادتهم، ومواضع عبادتهم أو إقامتهم، أو بعض أحوالهم، ...
ويدخل في هذا تعظيم قبور الأنبياء والصالحين والبناء عليها.
وهذه الآثار المكانية إما أن تكون ثابتة – وهي الأكثر – أو منقولة، مثل ما يزعم في بعض البلدان من أحجار عليها أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وما ينقل من تراب القبور تبركاً.
ولا شك أن تعظيم تلك الآثار، ومن ثم التبرك بها، قد حصل بسبب تعظيم أصحاب هذه الآثار والغلو فيهم.
ومن الأسباب الأخرى أيضاً تقليد الكفار، فإن الكفار يعظمون آثار عظمائهم، وتعظيم الآثار من سماتهم.
ويمكن أن يدخل فيما تقدم مما يعظم ويتبرك به: التبرك الممنوع ببعض البقاع المقدسة، أو ما هي مظنة التقديس والتعظيم، كالتبرك ببعض أجزاء الكعبة، أو بالمشاعر المقدسة، أو بصخرة بيت المقدس، ونحو ذلك.
هذا ولعل من أسباب انتشار التبرك بالمواضع: تساهل الكثير من العلماء في رواية أخبار فضائل المواضع، وعدم تمحيصها، فكثرت في كتب الفضائل الأحاديث والآثار والأخبار الضعيفة، بل والموضوعة، عن فضائل بعض المواضع وما تحتوي عليه من البركة.
ومن النماذج لما وصل إليه تعظيم وتقديس الآثار المكانية، والمبالغة في اقتضائها للبركة ما يأتي:
(1) أن مفتاح الكعبة إذا وضع في فم الصغير الذي ثقل لسانه عن الكلام يتكلم سريعاً بقدرة الله تعالى (1).
(2) ما يروى أن الله تعالى قال للصخرة: (أنت عرشي الأدنى).
(3) تمسح الجهال بالحاج أو المعتمر من مكة المكرمة، أو الزائر للمدينة المنورة، بل وبسكان الحجاز وما حوله.
(4) نقل شيء من تراب قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة وحفظه تبركاً، وكذا قبر غيره صلى الله عليه وسلم.
(5) أكل تراب جبل عرفات، ونحوه.
وغير ذلك كثير ...
وهناك أسباب أخرى عامة ساعدت على وجود وانتشار هذا التبرك الممنوع وفشوه في المجتمع.
ومن أهم هذه الأسباب على سبيل الإجمال: تأثير الفرق المبتدعة، كالصوفية والرافضة، والتمسك بالآثار الضعيفة أو الموضوعة، وقياس الممنوع من التبرك على المشروع منه، وسكوت العلماء عن الإنكار، والاستسلام للعاطفة, والتعصب للهوى، والله تعالى أعلم. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع – بتصرف – ص: 479
_________
(1) انظر ((رحلة الصديق إلى البيت العتيق))، للسيد صديق حسن خان (ص: 24).

ثالثاً: آثار التبرك الممنوع
لاشك أن التبرك الممنوع يفضي إلى شرور كثيرة، اعتقادية وعملية، وإلى مفاسد عظيمة، دينية ودنيوية، فله آثار سيئة وخطيرة.
وسأتكلم عن أهم هذه الآثار بالتفصيل، مبيناً كيفية حصول كل أثر منها، مع الاستشهاد بنماذج توضح ذلك.
أولا: الشرك:
من آثار التبرك الممنوع: الشرك، والمقصود به الشرك الأكبر.
وهو أعظم الآثار وأشدها خطراً، كيف لا وهو أكبر الكبائر، يخرج من ملة الإسلام، ويحبط جميع الأعمال، ويوجب الخلود في النار لمن مات عليه، وفيه تنقص لله رب العالمين.
ولهذا بعث الله تعالى رسله من أجل إفراده بالعبادة بجميع أنواعها، وترك عبادة ما سواه، كما قال عز وجل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36].
أما كيف يوصل التبرك الممنوع إلى الشرك؟ فإن ذلك يحصل من إحدى حالتين:
الأولى: أن يكون التبرك الممنوع في حد ذاته شركاً.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك: التبرك بالأموات – من الأنبياء والصالحين وغيرهم – في دعائهم لقضاء الحاجات الدينية أو الدنيوية، وتفريج الكربات والاستغاثة بهم، والتقرب إليهم بالذبح أو النذر لهم، والطواف على قبورهم.
فهذا ونحوه من الشرك الأكبر، لأنهم قد اعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يعتقد إلا في الله، فأنزلوهم منزلة الربوبية، أو صرفوا لهم من العبادات ما لا يجوز أن يصرف إلا لله تبارك وتعالى، وهذا بسبب المبالغة في تعظيمهم، والافتتان فيهم، والتعلق بهم.
ووصل الأمر في اعتقاد بعض المشركين بأصحاب القبور إلى أن قالوا: إن البلاء يندفع عن أهل البلد بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين.
وكل هذه الأمور الشركية تفعل باسم التبرك، وأحياناً باسم التوسل والتشفع.
الحالة الثانية: أن يؤدي التبرك الممنوع إلى الشرك، فيكون التبرك الممنوع من وسائله، ويكون الشرك من نتائج التبرك الممنوع ومن آثاره.
ولهذا حصل المنع من بعض أنواع التبرك سداً للذريعة إلى الشرك، وخوفاً من الوقوع فيه.
ومن الأمثلة على ذلك النهي عن الصلاة عند القبور، أو بناء المساجد أو القباب عليها، أو الدعاء عندها، ونحو ذلك من المظاهر والمشاهد مما يراد به تعظيم أصحابها.
ويلحق بذلك: التبرك بأمكنة وآثار الأنبياء والصالحين، وتعظيمها وتقديسها.
فإن هذه الأمور ونحوها من أعظم الذرائع والأسباب المؤدية إلى وقوع الشرك بأصحاب القبور والآثار في وقت من الأوقات مع تطاول الأيام.
وقد كان أصل حصول الشرك وعبادة الأصنام في الأرض بسبب تعظيم الموتى الصالحين.
روى ابن جرير الطبري رحمه الله عن بعض السلف في تفسيره لقوله تعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا [نوح: 23 - 24] أن هذه أسماء رجال صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا جاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر, فعبدوهم. وروى ابن جرير أن هذه الأصنام كانت تعبد في زمان نوح عليه السلام، ثم اتخذها العرب بعد ذلك (1).
وأيضا فإن (اللات) التي هي من أكبر أوثان العرب في الجاهلية، كان سبب عبادتهم تعظيم قبر رجل صالح والعكوف عليه (2).
وبهذا تبين أن سبب عبادة الأصنام هو المبالغة في تعظيم الصالحين.
_________
(1) ((تفسير الطبري)) (29/ 98، 99) وانظر: ((صحيح البخاري)) (6/ 736) كتاب التفسير، تفسير سورة نوح.
(2) انظر: ((تفسير الطبري)) (27/ 58، 59).

ولهذا نهى الشارع الحكيم عن كل ما يؤدي إلى اتخاذ الأوثان، مثل تعظيم قبور الأنبياء والصالحين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع هي التي أوقعت كثيراً من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين ... ونحو ذلك، فلأن يشرك بقبر الرجل الذي يعتقد نبوته أو صلاحه، أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله، وبهذا نجد أقواماً كثيرين يتضرعون عندها ويخشعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في المسجد، بل ولا في السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء بها ما لا يرجونه في المساجد التي تشد إليها الرحال).
ثم قال رحمه الله: (فهذه المفسدة، التي هي مفسدة الشرك – كبيره وصغيره – هي التي حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقاً، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد الثلاثة، ونحو ذلك، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس واستوائها وغروبها، لأنها الأوقات التي يقصد المشركون بركة الصلاة للشمس فيها، فنهى المسلم عن الصلاة حينئذ – وإن لم يقصد ذلك – سدًّا للذريعة) (1) اهـ.
ومن الأمثلة أيضاً على النهي عن بعض أنواع التبرك سدًّا لذريعة الوقوع في الشرك: التبرك الممنوع بالأشجار والأحجار وبعض البقع، وتعظيمها، فإن هذا التبرك قد يؤدي إلى الشرك مع مرور الزمان.
ولقد كان من أسباب عبادة الأوثان والأحجار عند العرب أن الواحد منهم كان إذا أراد سفراً حمل معه حجراً من حجارة البيت تبركاً به وتعظيماً، حتى صاروا إلى عبادة الأحجار والجمادات.
جاء في كتاب (الأصنام) لابن الكلبي (أن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام لما سكن مكة، وولد بها أولاد كثير حتى ملأوا مكة ... ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضاً، فتفسحوا في البلاد ... وكان الذي سلخ بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجراً من حجارة الحرم، تعظيماً للحرم وصبابة بمكة، فحيثما حلوا وضعوه، وطافوا به كطوافهم بالكعبة، تيمناً منهم بها، وصبابة بالحرم وحباً له، وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة، ويحجون ويعتمرون على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
ثم سلخ ذلك بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم ... ) (2).
ثانياً: الابتداع:
التبرك الممنوع ابتداع في الدين، ليس عليه دليل من كتاب الله تعالى ولا من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وهو مخالف للتبرك المشروع الذي دلت عليه الأدلة الشرعية.
فالتبرك الممنوع كله إذاً من أصنام البدع المحدثة المذمومة، إلا أن بدعيته تتفاوت وتختلف باختلاف صوره وكيفيته، فإن منه ما يصل إلى حد الشرك ... ومنه ما يكون أدنى من ذلك.
والأمثلة على صور التبرك الممنوع المبتدعة كثيرة جداً،. ....
ومن نماذج ذلك على سبيل الإجمال ما يأتي:-
- شد الرحال إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين.
- التبرك بقبور الأنبياء والصالحين، كأداء العبادات عندهم، مثل الصلاة والدعاء والطواف، وكتقبيل القبور والتمسح بها، وحمل شيء من ترابها والعكوف عندها.
- قصد مواضع صلاة أو جلوس النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة أو الدعاء، مما لم يفعله صلى الله عليه وسلم على وجه التعبد.
_________
(1) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 674).
(2) ((الأصنام)) لابن الكلبي (ص: 6).

- التبرك بمكان ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، أو بليلة مولده، أو بليلة الإسراء والمعراج، أو ذكرى الهجرة، ونحو ذلك.
- وكذا التبرك بموالد الصالحين، أو من يسمون بالأولياء.
- التبرك المبتدع ببعض الجبال والمواضع.
وكما أن التبرك الممنوع بدعة في حد ذاته فهو أيضاً يجر إلى بدع أخرى.
وأكتفي هنا من الشواهد على ذلك بمثالين فقط.
أحدهما: أن من النتائج السيئة للتبرك الممنوع بقبور الأنبياء والصالحين بناء المساجد عليها، وبناء القباب فوقها، وزخرفة القبور وتشييدها، وكذا بناء المساجد على آثار الأنبياء والصالحين، ونحو ذلك من الأعمال المحدثة في الإسلام.
الثاني: أن التبرك الممنوع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته قد أدى إلى إحداث عيد المولد النبوي والاحتفال به، ثم تدرج الأمر، فأقيمت الاحتفالات لأعياد أخرى كثيرة مبتدعة، في مواسم متفرقة، كليلة الإسراء والمعراج, وذكرى الهجرة، وغير ذلك من الأعياد المبتدعة التي تفعل باسم الدين، وكأنها من شعائر الإسلام، والتي يزداد عددها مع مرور الأيام.
وهذا هو شأن البدعة، فإن فعل القليل منها يؤدي إلى فعل الكثير من البدع الأخرى.
فلا يجوز التهاون في شأن البدعة مهما صغرت، فإنها تتدرج حتى تكبر وتعظم، ويشتد خطرها وأثرها.
قال الإمام أبو محمد البربهاري رحمه الله محذراً عن ذلك: (واحذر صغار المحدثات من الأمور، فإن صغار البدع تعود حتى تصير كباراً، وكذلك كل بدعة أحدثت من الأمور، فإن صغار البدع تعود حتى تصير كباراً، وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة، كان أولها صغيراً يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع المخرج منها، فعظمت، وصارت ديناً يدان بها) (1).
وحسبنا في ذم البدع والابتداع قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) (2)، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: ((وشر الأمور محدثاتها)) (3).
ثالثا: اقتراف المعاصي:
إن من آثار التبرك الممنوع انتهاك الحرمات، ووقوع كثير من المفاسد والمنكرات، ومن الأمثلة على ذلك ما يأتي:
1 - ما تتضمنه غالباً أعياد المولد النبوي، وأعياد موالد الأولياء، وكذا الأعياد المبتدعة الأخرى من أنواع المعاصي والمنكرات الظاهرة.
ومنها استعمال الأغاني وآلات اللهو والطرب، وما يتبع ذلك من الرقص.
وإقامة حلقات الذكر على الوجه المحرم شرعاً، مع قلة احترام كتاب الله تعالى.
ومنها اختلاط الرجال بالنساء، وما ينتج عن ذلك من الفتنة.
ومنها إضاعة الأموال وتبذيرها لإقامة الحفلات، والإسراف في إيقاد الشموع في المساجد والطرقات, ونفقات الزينة.
إلى غير ذلك من الأمور المخالفة للشرع، التي تفعل باسم التبرك والاحتفال بليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم ونحوها من المناسبات.
2 - ما يترتب من المفاسد والأضرار على التبرك الممنوع بالقبور واتخاذها مزارات ومشاهد وأعياد متكررة.
ومن ذلك صرف النفقات الباهظة المحرمة على بناء القباب والمزارات وكسوتها بالأقمشة، وتزيينها بالمصابيح، وتحبيس الأوقاف للإنفاق على ذلك، وإضاعة الأموال عن طريق النذور التي تقدم لصالح الأموات ويأكلها السدنة.
_________
(1) ((شرح السنة)) لأبي محمد البربهاري (ص: 23).
(2) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (4/ 126) (17184). قال الترمذي: هذا حديث صحيح. قال الشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (1/ 160)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.
(3) رواه مسلم (867).

3 - ما يحصل من مساوئ التبرك الممنوع عند زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، كالجلوس عند القبر النبوي للتلاوة والذكر، ورفع الصوت بالدعاء، وتكرار التلفظ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقصد القبر للسلام عليه بعد كل صلاة.
ومع بدعية هذه الأفعال إلا أن لها أيضاً أضراراً على الآخرين، كالتشويش على المصلين، وإحداث الزحام على الزوار.
رابعا: الوقوع في أنواع من الكذب:
إن من الآثار السيئة للتبرك الممنوع لجوء أصحابه إلى الكذب، من أجل الاستدلال على شرعية ما ذهبوا إليه، أو لغرض تعيين موضع التبرك أو محله. ولهذا وقعوا في عدة أنواع من الكذب، تلك الخصلة الذميمة الممقوتة.
ويمكن بيان أنواع الكذب التي وقعوا فيها بسبب التبرك الممنوع فيما يأتي:
الأول: الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم.
لا شك أن أشد أنواع الكذب هو الكذب على الله تعالى, أو على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد حذر عليه الصلاة والسلام من الكذب عليه بقوله: ((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) (1).
ويتنوع الكذب هنا على الرسول صلى الله عليه وسلم: فقد يكون في أقواله، للاستدلال على شرعية التبرك ببعض الأمور، وهذا هو الكثير، وقد يكون الكذب في آثاره صلى الله عليه وسلم.
ومن نماذج الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله ما يأتي:
1 - إيراد الأخبار الموضوعة لأجل تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم في القصص التي تقرأ ليلة المولد النبوي.
2 - الأحاديث الموضوعة في فضل زيارة قبره صلى الله عليه وسلم.
3 - وضع الأحاديث في فضائل القبور كحديث: ((إذا أعيتكم الأمور فعليكم بالقبور)).
4 - الأحاديث المكذوبة في فضل الصخرة بالقدس.
5 - أحاديث فضل الجامع الأموي بدمشق ومضاعفة الصلاة فيه.
أما الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم في آثاره فإن المقصود به ما قد ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كذباً – لا سيما في العصر الحاضر – من آثاره الحسية، للتبرك بها، كشعراته مثلاً.
وكذا دعوى وجود أثر موطئ قدم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الأحجار، حتى يتبرك بها، وقد حققت عدم صحة ذلك.
الثاني: الكذب على غير الرسول صلى الله عليه وسلم، كالكذب على الصحابة رضي الله عنهم، أو التابعين رحمهم الله، وغيرهم من الصالحين.
وهذا الكذب عليهم قد يكون في الأقوال، مثل ما ينسب إليهم من الروايات المكذوبة في ذكر فضائل وبركة بعض الأماكن.
وقد يكون الكذب عليهم في الأفعال، كادعاء حصول البركة عند بعض القبور، مثل ادعاء أن الشافعي كان يدعو عند قبر أبي حنيفة إذا نزلت به شدة فيستجاب له.
الثالث: الكذب في تعيين موضع التبرك.
ويكثر هذا النوع في تعيين مواضع قبور بعض الصالحين من الصحابة وغيرهم.
ولعل خير مثال على ذلك هو تعدد أسماء المدن التي يقال إن رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما موجود فيها، فقد بلغ عددها ثمانية أسماء.
الرابع: ادعاء بركة بعض المواضع دون مستند شرعي.
ومن النماذج على ذلك: زعمهم أن دار خديجة رضي الله عنها بمكة أفضل المواضع بعد المسجد الحرام، وأن الدعاء يستجاب فيها.
ومنها كثرة ادعاء استجابة الدعاء عند بعض المقابر أو الجبال أو المساجد المحدثة المبنية على آثار الأنبياء والصالحين ...
خامساً: تحريف النصوص:
... إن أصحاب التبرك الممنوع، من أجل الاستدلال على شرعية ما ذهبوا إليه يلجؤن أحياناً إلى الكذب، فهم لهذا أيضاً يذهبون إلى تحريف معاني النصوص الشرعية، وتحميلها ما لا تحتمل.
وأغلب ما يوجد من هذا التحريف هو تحريفهم النصوص التي يريدون الاستدلال بها.
ومن الأمثلة على ذلك ما يأتي:
_________
(1) رواه البخاري (1291)، ومسلم في مقدمة صحيحه (3).

1 - استدلالهم على استحباب طلب الاستغفار من الرسول صلى الله عليه وسلم عند قبره بعموم قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء: 64].
2 - استدلالهم على مشروعية التبرك بالمواضع التي صلى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بحديث صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان بن مالك رضي الله عنه.
3 - استدلالهم على جواز اتخاذ المساجد على القبور بقوله تعالى في قصة أصحاب الكهف: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف: 21].
وقد يوجد التحريف من قبلهم عن طريق تحريف النصوص المعارضة لهم.
مثال ذلك تحريفهم نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره عيداً بقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تجعلوا قبري عيداً)) (1).
فقالوا: هذا أمر بملازمة قبره، والعكوف عنده، واعتياد قصده وانتيابه، ونهي أن يجعل بمنزلة العيد الذي يكون من الحول إلى الحول، بل يقصد كل ساعة وكل وقت (2).
وهذا تحريف للمعاني، ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم، وقلب للحقائق (3).
سادساً: إضاعة السنن:
من المفاسد في الدين التي يشتمل عليها التبرك الممنوع إضاعة السنن. وهذا من خصائص البدع (ذلك أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن) (4).
ولهذا جاء في الحديث ((ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة)) (5).
ولا شك أن السنن تموت إذا أحييت البدع (لأن الباطل إذا عمل به لزم ترك العمل بالحق، كما في العكس، لأن المحل الواحد لا يشتغل إلا بأحد الضدين) (6).
ثم إن من لم يعطل الفرائض والسنن فستضعف عنايته بها على الأقل، بسبب تعلقه بالبدع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عند سياقه مفاسد البدع: (ومنها أن الخاصة والعامة تنقص بسببها عنايتهم بالفرائض والسنن، ورغبتهم فيها، فتجد الرجل يجتهد فيها ويخلص وينيب، ويفعل فيها ما لا يفعله في الفرائض والسنن، حتى كأنه يفعل هذه عبادة، ويفعل الفرائض والسنن عادة ووظيفة، وهذا عكس الدين، فيفوته بذلك ما في الفرائض والسنن من المغفرة, والرحمة, والرقة, والطهارة, والخشوع، وإجابة الدعوة، وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك من الفوائد، إن لم يفته هذا كله فلابد أن يفوته كماله) (7).
هذا ومن الأمثلة على ما يؤدي إليه التبرك الممنوع من إضاعة الواجبات والسنن ما يأتي:
1 - التبرك بقبور الأنبياء والصالحين، والعكوف عندها ومجاورتها، ونحو ذلك من المظاهر المبتدعة يشغل عن كثير من الفرائض والواجبات, والسنن المشروعة في الدين.
_________
(1) رواه أبو داود (2042)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/ 491) (4162). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (892) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، والنووي في ((الأذكار)) (154).
(2) ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 192).
(3) ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 192، 193).
(4) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 740).
(5) رواه أحمد (4/ 105) (17011) , مرفوعا من حديث غضيف بن الحارث. قال الهيثمي ((مجمع الزوائد)) (1/ 193): فيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو منكر الحديث. وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (3/ 333): في إسناده ابن أبي مريم وهو ضعيف وبقية وهو مدلس.
(6) ((الاعتصام)) للشاطبي (1/ 114).
(7) ((الاقتضاء)) (2/ 611)، وانظر هذا المرجع (2/ 741).

حتى لقد أصبح العكوف عند بعضهم في المسجد المبني على القبر أحب إليه من العكوف في المسجد الحرام، بل حرمة ذلك المسجد المبني على القبر الذي حرمه الله ورسوله أعظم عندهم من حرمة بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه (1).
وبلغ الأمر ببعض الغلاة إلى تفضيل زيارة المشاهد التي على القبور على حج البيت الحرام، وإلى اعتقاد أن السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من حج البيت (2).
2 - قصد المساجد المحدثة المبتدعة، وتتبع آثار الأنبياء والصالحين وبعض الجبال والمواضع، في مكة والمدينة وبلاد الشام وغيرها، لأداء العبادات فيها تبركاً، كالصلاة والدعاء – وفي ذلك تعطيل لأداء العبادة المفروضة أو المسنونة في المساجد الثلاثة الفاضلة، وسائر المساجد الأخرى التي شرعت العبادة فيها.
3 - إقامة الأعياد والاحتفالات المبتدعة للموالد وغيرها، التي تستنزف الجهود والأوقات، وتشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، وعن كثير من الواجبات والسنن.
سابعاً: التغرير بالجهال، وإضلال الأجيال:
من الآثار السيئة للتبرك الممنوع أنه يؤدي إلى التغرير بالجهال وإضلالهم. فمن المعلوم أن هذا التبرك يحتوي على مظاهر بارزة جذابة.
ومن أكثر تلك المظاهر: الأبنية المقامة على بعض القبور، كالمساجد والقباب والمشاهدات والمزارات، وما يجري فيها وما حولها من مظاهر التبرك المبتدعة المختلفة.
ومنها أيضاً مظاهر الأعياد والاحتفالات المبتدعة، التي تقام في المساجد, أو القبور, أو الطرقات، واجتماع الناس فيها.
فإن الجاهل إذا رأى هذه المظاهر المحسوسة والمشاهد الملموسة، أو مر بها، سيتأثر بلا شك، ويغتر بذلك، لاسيما مع كثرة أهلها الذين يزاولونها ويعتنون بها.
فهذا التبرك الممنوع – بمظاهره البراقة – سبب من أسباب فتنة الناس به, وجرهم إليه، ولاسيما الجهال والعوام، وهو بهذا يؤدي إلى إضلال كثير من الأجيال المتعاقبة للمسلمين، الذين يرون تلك المظاهر والمشاهد المتكررة، التي تقام باسم الدين، ويدعو إليها من ينتسب إليه، إضافة إلى تحسين الشيطان للبدع في نفوس الناس وتزيينها لهم. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن بن محمد الجديع – بتصرف – ص: 483
_________
(1) ((الاقتضاء)) (2/ 739).
(2) ((الاقتضاء)) (2/ 739).

أولاً: معنى اتخاذ القبور مساجد
الذي يمكن أن يفهم من هذا الاتخاذ، إنما هو ثلاثة معانٍ:
الأول: الصلاة على القبور، بمعنى: السجود عليها.
الثاني: السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء.
الثالث: بناء المساجد عليها، وقصد الصلاة فيها.
أقوال العلماء في معنى الاتخاذ المذكور:
وبكل واحدٍ من هذه المعاني قال طائفة من العلماء، وجاءت بها نصوص صريحة عن سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
أما الأول: فقال ابن حجر الهيتمي: واتخاذ القبر مسجداً معناه الصلاة عليه، أو إليه (1).
فهذا نصٌ منه على أنه يفهم الاتخاذ المذكور شاملاً لمعنيين، أحدهما: الصلاة على القبر.
وقال الصنعاني: واتخاذ القبور مساجد أعمّ من أن يكون بمعنى الصلاة إليها، أو بمعنى الصلاة عليها (2).
... يعني أنه يعمّ المعنيين كليهما، ويحتمل أنه أراد المعاني الثلاثة، وهو الذي فهمه الإمام الشافعي رحمه الله، وسيأتي نص كلامه في ذلك، ويشهد للمعنى الأول أحاديث:
الأول: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبور، أو يقعد عليها، أو يصلى عليها)) (3).
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر)) (4).
الثالث: عن أنس رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى القبور)) (5).
الرابع: عن عمرو بن دينار - وسئل عن الصلاة وسط القبور - قال: ذكر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كانت بنو إسرائيل اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فلعنهم الله تعالى)) (6).
وأما المعنى الثاني: فقال المناوي في (فيض القدير) - حيث شرح الحديث الثالث المتقدم -: أي اتخذوها جهة قبلتهم، مع اعتقادهم الباطل، وأن اتخاذها مساجد لازم لاتخاذ المساجد عليها كعكسه، وهذا بيّن به سبب لعنهم لما فيه من المغالاة في التعظيم. قال القاضي - يعني: البيضاوي -: لما كانت اليهود يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيماً لشأنهم، ويجعلونها قبلة، ويتوجهون في الصلاة نحوها، فاتخذوها أوثاناً لعنهم الله، ومنع المسلمين عن مثل ذلك ونهاهم عنه ...
... وهذا معنى قد جاء النهي الصريح عنه فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)) (7).
قال الشيخ علي القاري - معللاً النهي -: لما فيه من التعظيم البالغ كأنه من مرتبة المعبود، ولو كان هذا التعظيم حقيقة للقبر أو لصاحبه لكفر المعظِّم، فالتشبه به مكروه، وينبغي أن تكون كراهة تحريم، وفي معناه بل أولى منه الجنازة الموضوعة - يعني قبلة المصلين - وهو مما ابتلي به أهل مكة حيث يضعون الجنازة عند الكعبة ثم يستقبلون إليها (8) ....
_________
(1) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 121).
(2) ((سبل السلام)) (1/ 214).
(3) رواه ابن ماجه مختصرا (1270)، وأبو يعلى في مسنده (2/ 297). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 64): رواه أبو يعلى ورجاله ثقات. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)) (ص29): إسناده صحيح.
(4) رواه الطبراني (11/ 376). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 27): رواه الطبراني في ((الكبير)) وفيه عبدالله بن كيسان المروزي: ضعّفه أبو حاتم، ووثّقه ابن حبان. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1016): الحديث صحيح.
(5) رواه ابن حبان (6/ 93). وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (6893): صحيح.
(6) رواه عبدالرزاق (1/ 406) (1591). وقال الألباني في ((تحذير الساجد)) (29): وهو مرسل صحيح الإسناد.
(7) رواه مسلم (972). من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه.
(8) انظر: ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) (2/ 372).

ونحو الحديث السابق ما روى ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال: كنت أصلي قريباً من قبر، فرآني عمر بن الخطاب، فقال: القبر القبر؛ فرفعت بصري إلى السماء وأنا أحسبه يقول: القمر! (1).
وأما المعنى الثالث: فقد قال به الإمام البخاري، فإنه ترجم للحديث الأول بقوله: (باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور) (2).
فقد أشار بذلك إلى أن النهي عن اتخاذ القبور مسجداً يلزم منه النهي عن بناء المساجد عليه، وهذا أمر واضح، وقد صرح به المناوي آنفاً، وقال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: قال الكرماني: مفاد الحديث منع اتخاذ القبر مسجداً، ومدلول الترجمة اتخاذ المسجد على القبر، ومفهومها متغاير، ويجاب بأنهما متلازمان، وإن تغاير المفهوم (3).
وهذا المعنى هو الذي أشارت إليه السيدة عائشة رضي الله عنها بقولها في آخر الحديث الأول: فلولا ذاك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً (4).
إذ المعنى فلولا ذاك اللعن الذي استحقه اليهود والنصارى بسبب اتخاذهم القبور مساجد المستلزم البناء عليها، لجعل قبره صلى الله عليه وسلم في أرض بارزة مكشوفة، ولكن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك خشية أن يبنى عليه مسجد من بعض من يأتي بعدهم فتشملهم اللعنة.
ويؤيد هذا ما روى ابن سعد بسند صحيح عن الحسن وهو (البصري) قال: ائتمروا أن يدفنوه صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واضعاً رأسه في حجري إذ قال: ((قاتل الله أقواماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، واجتمع رأيهم أن يدفنوه حيث قبض في بيت عائشة رضي الله عنها (5).
... هذه الرواية - على إرسالها - تدل على أمرين اثنين:
أحدهما: أن السيدة عائشة فهمت من الاتخاذ المذكور في الحديث أنه يشمل المسجد الذي قد يدخل فيه القبر، فبالأحرى أن يشمل المسجد الذي بني على القبر.
الثاني: أن الصحابة أقرّوها على هذا الفهم، ولذلك رجعوا إلى رأيها فدفنوه صلى الله عليه وسلم في بيتها.
فهذا يدل على أنه لا فرق بين بناء المسجد على القبر، أو إدخال القبر في المسجد، فالكل حرام لأن المحذور واحد، ولذلك قال الحافظ العراقي: فلو بنى مسجداً يقصد أن يدفن في بعضه دخل في اللعنة، بل يحرم الدفن في المسجد، وإن شرط أن يدفن فيه لم يصح الشرط لمخالفة وقفه مسجداً (6).
... وفي هذا إشارة إلى أن المسجد والقبر لا يجتمعان في دين الإسلام ...
ويشهد لهذا المعنى الحديث الخامس المتقدم بلفظ: ((أولئك قوم إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً ... أولئك شرار الخلق ... )) (7).
فهو نص صريح في تحريم بناء المسجد على قبور الأنبياء والصالحين؛ لأنه صرح أنه من أسباب كونهم من شرار الخلق عند الله تعالى.
ويؤيده حديث جابر رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه)) (8).
_________
(1) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (427)، ورواه موصولاً عبدالرزاق في ((المصنف)) (1/ 404) (1581) وزاد: ((إنما أقول القبر: لا تصل إليه)). وقال الألباني في ((النصيحة)) (143): أخرجه البخاري في صحيحه تعليقاً، وهو صحيح. وانظر: ((تغليق التعليق)) (2/ 228 - 230) ففيه زيادة فائدة.
(2) انظر: ((صحيح البخاري)) باب رقم (61).
(3) انظر: ((فتح الباري)) (3/ 201).
(4) رواه مسلم (529).
(5) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (2/ 241). وقال الألباني في ((تحذير الساجد)) - كما في (متن الموسوعة) -: سنده صحيح.
(6) انظر: ((فيض القدير)) للمناوي (5/ 274).
(7) رواه البخاري (427)، ومسلم (528). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(8) رواه مسلم (970).

فإنه بعمومه يشمل بناء المسجد على القبر، كما يشمل بناء القبة عليه، بل الأول أولى بالنهي، كما لا يخفى.
فثبت أن هذا المعنى صحيح أيضاً يدل عليه لفظ (الاتخاذ)، وتؤيده الأدلة الأخرى.
أما شمول الأحاديث للنهي عن الصلاة في المساجد المبنيّة على القبور فدلالتها على ذلك أوضح، وذلك لأن النهي عن بناء المساجد على القبور يستلزم النهي عن الصلاة فيها، من باب أن النهي عن الوسيلة يستلزم النهي عن المقصود بها والتوسل بها إليه، مثاله: إذا نهى الشارع عن بيع الخمر، فالنهي عن شربه داخل في ذلك، كما لا يخفى، بل النهي عنه من باب أولى.
ومن البيّن جداً أن النهي عن بناء المساجد على القبور ليس مقصوداً بالذات، كما أن الأمر ببناء المساجد في الدور والمحلات ليس مقصوداً بالذات، بل ذلك كله من أجل الصلاة فيها، سلباً أو إيجاباً، يوضح ذلك المثال الآتي: لو أن رجلاً بنى مسجداً في مكان قفر غير مأهول، ولا يأتيه أحد للصلاة فيه،
فليس لهذا الرجل أيّ أجر في بنائه لهذا المسجد، بل هو عندي آثم لإضاعة المال، ووضعه الشيء في غير محله!
فإذا أمر الشارع ببناء المساجد فهو يأمر ضمناً بالصلاة فيها، لأنها هي المقصودة بالبناء، وكذلك إذا نهى عن بناء المساجد على القبور، فهو ينهى ضمناً عن الصلاة فيها؛ لأنها هي المقصودة بالبناء أيضاً، وهذا بيّن لا يخفى على العاقل إن شاء الله تعالى.
ترجيح شمول الحديث للمعاني كلها وقول الشافعي بذلك:
وجملة القول: أن الاتخاذ المذكور في الأحاديث المتقدمة يشمل كل هذه المعاني الثلاثة، فهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وقد قال بذلك الإمام الشافعي رحمه الله، ففي كتابه (الأم) ما نصه:
وأكره أن يُبنى على القبر مسجد وأن يُسوّى، أو يُصلّى عليه، وهو غير مُسوّى - يعني: أنه ظاهر معروف - أو يُصلى إليه، قال: وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (1). قال: وأكره هذا للسنة والآثار، وأنه كره - والله تعالى أعلم - أن يُعظّمه أحد من المسلمين، يعني يتخذ قبره مسجداً، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على ما يأتي بعده (2).
فقد استدل بالحديث على المعاني الثلاثة التي ذكرها في سياق كلامه، فهو دليل واضح على أنه يفهم الحديث على عمومه، وكذلك صنع المحقق الشيخ على القارئ نقلاً عن بعض أئمة الحنفية فقال في (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح): سبب لعنهم: إما لأنهم كانوا يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيماً لهم، وذلك هو الشرك الجلي، وإما لأنهم كانوا يتخذون الصلاة لله تعالى في مدافن الأنبياء والسجود على مقابرهم والتوجه إلى قبورهم حالة الصلاة نظراً منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء، وذلك هو الشرك الخفي لتضمنه ما يرجع إلى تعظيم مخلوق فيما لم يؤذن له، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن ذلك إما لمشابهة ذلك الفعل سنة اليهود، أو لتضمّنه الشرك الخفي. كذا قاله بعض الشراح من أئمتنا، ويؤيده ما جاء في رواية: ((يُحذِّر ما صنعوا)) (3) (4).
... والسبب الأول الذي ذكره وهو السجود لقبور الأنبياء تعظيماً لهم وإن كان غير مستبعد حصوله من اليهود والنصارى، فإنه غير متبادر من قوله صلى الله عليه وسلم: ((اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) فإن ظاهره أنهم اتخذوها مساجد لعبادة الله فيها على المعاني السابقة تبركاً بمن دُفن فيها من الأنبياء، وإن كان هذا أدى بهم - كما يؤدي بغيرهم - إلى وقوعهم في الشرك الجلي، ذكره الشيخ القارئ. تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد لمحمد ناصر الدين الألباني - ص28
_________
(1) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 892) مرسلاً. من حديث عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. ورواه موصولاً البخاري (437)، ومسلم (530) بدون لفظة: (النصارى)، وأحمد (2/ 285) (7818) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال شعيب الأرناؤوط محقق المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(2) ((الأم)) (ص246).
(3) رواه البخاري (435، 436)، ومسلم (531). من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم.
(4) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) (1/ 45).

ثانياً: أدلة تحريم هذا الاتخاذ وحكمه ومذاهب العلماء فيه
1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). قالت: فلولا ذاك أبرز (1) قبره غير أنه خُشي أن يتخذ مسجداً (2) ...
2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (3).
3 و4 - عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة جعل يلقي على وجهه طرف خميصة له، فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو يقول: ((لعنة الله على اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) تقول عائشة: ((يُحذِّر مثل الذي صنعوا)) (4).
قال الحافظ ابن حجر: وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذمّ من يفعل فعلهم ...
5 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان مرض النبي صلى الله عليه وسلم تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها: مارية - وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة - فذكرن من حسنها وتصاويرها قالت: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: ((أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) (5)
قال الحافظ ابن رجب في (فتح الباري): هذا الحديث يدلّ على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها، كما يفعله النصارى، ولا ريب أن كل واحد منهما محرم على انفراد، فتصوير صور الآدميين محرم، وبناء القبور على المساجد بانفراده محرم، كما دلت عليه نصوص أُخر، يأتي ذكر بعضها. قال: والتصاوير التي في الكنيسة التي ذكرتها أم حبيبة وأم سلمة كانت على الحيطان ونحوها، ولم يكن لها ظل، فتصوير الصور على مثال صور الأنبياء والصالحين للتبرك بها، والاستشفاع بها يحرم في دين الإسلام، وهو من جنس عبادة الأوثان، وهو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أهله شرار الخلق عند الله يوم القيامة، وتصوير الصور للتآنس برؤيتها أو للتنزه بذلك، والتلهي محرم، وهو من الكبائر وفاعله من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، فإنه ظالم ممثل بأفعال الله التي لا يقدر على فعلها غيره، والله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى (6) ...
... ولا فرق في التحريم بين التصوير اليدوي والتصوير الآلي والفوتوغرافي، بل التفريق بينهما جمود وظاهرية عصرية ...
6 - عن جندب بن عبدالله البجلي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: ((قد كان لي فيكم إخوة وأصدقاء، وإني أبرأ إلى الله أن يكون لي فيكم خليل، وإن الله عز وجل قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)) (7).
_________
(1) قال الألباني: أي كشف قبره صلى الله عليه وسلم ولم يتخذ عليه الحائل، والمراد دفن خارج بيته، كذا في ((فتح الباري)).
(2) رواه البخاري (1390)، ومسلم (529).
(3) رواه البخاري (437)، ومسلم (530).
(4) رواه البخاري (435، 436)، ومسلم (531).
(5) رواه البخاري (427)، ومسلم (528).
(6) ((فتح الباري)) لابن رجب (3/ 197، 198).
(7) رواه مسلم (532).

7 - عن الحارث النجراني قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: ((ألا وإنَّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك)) (1).
8 - عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: ((أدخلوا عليَّ أصحابي فدخلوا عليه وهو متقنع ببردة معافريّ، فكشف القناع فقال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (2).
9 - عن أبي عبيدة بن الجراح قال: آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم: ((أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أن شرار الناس الذي اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (3).
10 - عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله (وفي روايةٍ: قاتل الله) اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (4).
11 - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (5).
12 - عن عبدالله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد)) (6).
13 - عن علي بن أبي طالب قال: ((لقيني العباس فقال: يا علي انطلق بنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا من الأمر شيء وإلا أوصى بنا الناس، فدخلنا عليه، وهو مغمى عليه، فرفع رأسه فقال: لعن الله اليهود اتخذوا قبور الأنبياء مساجد)). زاد في رواية: ((ثم قالها الثالثة)). فلما رأينا ما به خرجنا ولم نسأله عن شيءٍ (7) ...
_________
(1) رواه ابن أبي شيبة (2/ 150) (7546). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): وإسناده صحيح على شرط مسلم.
(2) رواه أحمد (5/ 203) (21822)، والطبراني (1/ 164). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 30): رواه أحمد والطبراني في ((الكبير))، ورجاله موثقون. وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (2/ 139): إسناده جيد. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): سنده حسن في الشواهد.
(3) رواه أحمد (1/ 195) (1691) و (1/ 196) (1699)، والدارمي (2/ 305)، والبيهقي (9/ 208)، وأبو يعلى (2/ 177). قال الذهبي في ((المهذب)) (7/ 3775): إسناده صالح. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 328): [روي] بإسنادين ورجال طريقين منها ثقات متصل إسنادهما. وقال أحمد شاكر في ((المسند)) (3/ 146): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): سنده صحيح.
(4) رواه أحمد (5/ 184) (21644) و (5/ 186) (21667)، والطبراني (5/ 150). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 30): رواه الطبراني في ((الكبير)) ورجاله موثقون. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): صحيح بشواهده المتقدمة.
(5) رواه أحمد (2/ 246) (7352)، وأبو يعلى (12/ 33)، والحميدي (2/ 445). قال أحمد شاكر في ((المسند)) (13/ 88): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): سنده صحيح. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده قوي.
(6) الشطر الأول من الحديث رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم (7067)، والحديث رواه موصولاً أحمد (1/ 405) (3844)، وابن حبان (15/ 260)، والطبراني (10/ 188)، وأبو يعلى (9/ 216). قال أحمد شاكر في ((المسند)) (5/ 324): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): صحيح.
(7) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (4/ 28)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (42/ 426). وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): هذا إسناد حسن لولا أنني لم أعرف أبا بكر هذا، ولم يورده الدولابي، وأبو أحمد الحاكم في ((الكنى)).

إن كل من يتأمل في تلك الأحاديث الكريمة يظهر له بصورةٍ لا شك فيها أن الاتخاذ المذكور حرام، بل كبيرة من الكبائر، لأن اللعن الوارد فيها، ووصف المخالفين بأنهم شرار الخلق عند الله تبارك وتعالى، لا يمكن أن يكون في حقّ من يرتكب ما ليس كبيرة كما لا يخفى.
مذاهب العلماء في ذلك:
وقد اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم ذلك، ومنهم من صرح بأنه كبيرة وإليك تفاصيل المذاهب في ذلك:
1 - مذهب الشافعية أنه كبيرة:
قال الفقيه ابن حجر الهيتمي: الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون: اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثاناً، والطواف بها، واستلامها، والصلاة إليها (1).
ثم ساق بعض الأحاديث المتقدمة وغيرها، ثم قال: (تنبيه): عدّ هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية، ... ووجه اتخاذ القبر مسجداً منها واضح، لأنه لعن من فعل ذلك بقبور أنبيائه، وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله تعالى يوم القيامة، ففيه تحذير لنا كما في رواية: ((يُحذِّر مثل الذي صنعوا)) (2) أي يُحذِّر أمته بقوله لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك، فيلعنوا كما لعنوا، ومن ثم قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركاً وإعظاماً، ومثلها الصلاة عليه للتبرك والإعظام، وكون هذا الفعل كبيرة ظاهرة من الأحاديث المذكورة لما علمت، فقال بعض الحنابلة: قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركاً به عين المحادّة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وابتداع دين لم يأذن به الله، للنهي عنها ثم إجماعاً، فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، أو بناؤها عليها والقول بالكراهة محمول على غير ذلك، إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله، ويجب المبادرة لهدمها، وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار، لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه نهى عن ذلك، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره. اهـ. (3).
هذا كله كلام الفقيه ابن حجر الهيتمي، وأقره عليه المحقق الألوسي في (روح المعاني) (4)، وهو كلام يدل على فهم وفقه في الدين؛ وقوله فيما نقله عن بعض الحنابلة: والقول بالكراهة محمول على غير ذلك كأنه يشير إلى قول الشافعي: وأكره أن يُبنى على القبر مسجد وأن يُسوّى، أو يُصلّى عليه، وهو غير مُسوّى - يعني: أنه ظاهر معروف - أو يُصلّى إليه، قال: وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (5). قال: وأكره هذا للسنة والآثار، وأنه كره - والله تعالى أعلم - أن يُعظّم أحد من المسلمين، يعني يتخذ قبره مسجداً، ولم تُؤمن في ذلك الفتنة والضلال على ما يأتي بعده (6).
_________
(1) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 120).
(2) رواه البخاري (435، 436)، ومسلم (531).
(3) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 121).
(4) ((روح المعاني)) (5/ 31).
(5) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 892) مرسلاً. من حديث عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. ورواه موصولاً البخاري (437)، ومسلم (530) بدون لفظة: (النصارى)، وأحمد (2/ 285) (7818) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال شعيب الأرناؤوط محقق المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(6) ((الأم)) (ص246).

وعلى هذا أتباعه من الشافعية كما في (التهذيب)، وشرحه (المجموع) ومن الغريب أنهم يحتجون على ذلك ببعض الأحاديث ... مع أنها صريحة في تحريم ذلك، ولعن فاعله، ولو أن الكراهة كانت عندهم للتحريم لقرب الأمر، ولكنها لديهم للتنزيه فكيف يتفق القول بالكراهة مع تلك الأحاديث التي يستدلون بها عليها؟!
أقول هذا، وإن كنت لا أستبعد حمل الكراهة في عبارة الشافعي المتقدمة خاصة على الكراهة التحريمية؛ لأنه هو المعنى الشرعي المقصود في الاستعمال القرآني، ولا شك أن الشافعي متأثر بأسلوب القرآن غاية التأثر، فإذا وقفنا في كلامه على لفظ له معنى خاص في القرآن الكريم وجب حمله عليه، لا على المعنى المصطلح عليه عند المتأخرين، فقد قال تعالى: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7] وهذه كلها محرمات، فهذا المعنى - والله أعلم - هو الذي أراده الشافعي رحمه الله بقوله المتقدم: (وأكره)، ويؤيده أنه قال عقب ذلك: وإن صلى إليه أجزأه، وقد أساء؛ فإن قوله: (أساء) معناه: ارتكب سيئة، أي حراماً، فإنه هو المراد بالسيئة في أسلوب القرآن أيضاً، فقد قال تعالى في سورة (الإسراء) بعد أن نهى عن قتل الأولاد، وقربان الزنى، وقتل النفس وغير ذلك: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء: 38] أي: محرماً.
ويؤكد أنّ هذا المعنى هو المراد من الكراهة في كلام الشافعي في هذه المسألة: أن مذهبه أن الأصل في النهي التحريم، إلا ما دلّ الدليل على أنه لمعنى آخر، كما صرح بذلك في رسالته (جماع العلم) (1) ونحوه في كتابه (الرسالة) (2)، ومن المعلوم لدى كل من درس هذه المسألة بأدلتها أنه لا يوجد أي دليل يصرف النهي الوارد في بعض الأحاديث المتقدمة إلى غير التحريم كيف والأحاديث تؤكد أنه للتحريم ... ؟ ولذلك فإني أقطع بأن التحريم هو مذهب الشافعي، لاسيما وقد صرح بالكراهة بعد أن ذكر حديث: ((قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (3) ... فلا غرابة إذاً إن صرح الحافظ العراقي -وهو شافعي المذهب - بتحريم بناء المسجد على القبر كما تقدم والله أعلم.
ولهذا نقول: لقد أخطأ من نسب إلى الإمام الشافعي القول بإباحة تزوج الرجل بنته من الزنى بحجّة أنه صرّح بكراهة ذلك والكراهة لا تنافي الجواز إذا كانت للتنزيه! قال ابن القيم: نصّ الشافعي على كراهة تزوج الرجل بنته من ماء الزنى، ولم يقل قطّ أنه مباح ولا جائز، والذي يليق بجلالته وإمامته
ومنصبه الذي أحلّه الله به من الدين أن هذه الكراهة منه على وجه التحريم، وأطلق لفظ الكراهة لأن الحرام يكرهه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى عقب ذكر ما حرمه من المحرمات من عند
قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ... [الإسراء: 23] إلى قوله: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ... [الأنعام:151] إلى قوله: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] إلى آخر الآيات ثم قال: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38]، وفي (الصحيح): ((إن الله عز وجل كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال)) (4).
_________
(1) ((جماع العلم)) (ص125).
(2) ((الرسالة)) (ص343).
(3) رواه البخاري (437)، ومسلم (530) بدون لفظ: (النصارى)، وأحمد (2/ 285) (7818) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال شعيب الأرناؤوط محقق المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(4) رواه البخاري (2408) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. ومسلم (1715) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعملت فيه في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن المتأخرين اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرّم، وتركه أرجح من فعله، ثم حمل من حمل منهم كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث، فغلط في ذلك، وأقبح غلطاً منه من حمل لفظ الكراهة، أو لفظ لا ينبغي في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على المعنى الاصطلاحي الحادث! (1) ...
2 - مذهب الحنفية الكراهة التحريمية:
والكراهة بهذا المعنى الشرعي قد قال به هنا الحنفية فقال الإمام محمد تلميذ أبي حنيفة: لا نرى أن يُزاد على ما خرج من القبر ونكره أن يُجصص أو يُطين أو يُجعل عنده مسجدا (2).
والكراهة عند الحنفية إذا أُطلقت فهي للتحريم كما هو معروف لديهم وقد صرح بالتحريم في هذه المسألة ابن الملك منهم ...
3 - مذهب المالكية التحريم:
وقال القرطبي - بعد أن ذكر الحديث الخامس (3) -: قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد (4).
4 - مذهب الحنابلة التحريم:
ومذهب الحنابلة التحريم أيضا كما في (شرح المنتهى) (5) وغيره بل نص بعضهم على بطلان الصلاة في المساجد المبنية على القبور ووجوب هدمها فقال ابن القيم في (زاد المعاد) في صدد بيان ما تضمنته غزوة تبوك من الفقه والفوائد وبعد أن ذكر قصة مسجد الضرار الذي نهى الله تبارك وتعالى نبيه أن يصلي فيه وكيف أنه صلى الله عليه وسلم هدمه وحرقه؛ قال: ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يُعصى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيها، وهدمها كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه وهو مسجد يُصلى فيه ويُذكر اسم الله فيه لما كان بناؤه ضرراً وتفريقاً بين المؤمنين ومأوى للمنافقين وكل مكانٍ هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله إما بهدمٍ أو تحريقٍ وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وُضع له وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله أحقّ بذلك وأوجب ... ومنها: أن الوقف لا يصحّ على غير برّ ولا قربة كما لم يصحّ وقف هذا المسجد وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بُني على قبر كما يُنبش الميت إذا دُفن في المسجد نصّ على ذلك الإمام أحمد وغيره؛ فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق فلو وضعا معاً لم يجز ولا يصحّ هذا الوقف، ولا يجوز ولا تصحّ الصلاة في هذا المسجد لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولعنه من اتخذ القبر مسجداً أو أوقد عليه سراجاً (6) فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه، وغربته بين الناس كما ترى (7).
_________
(1) ((إعلام الموقعين)) (1/ 47 - 48).
(2) ((الآثار)) لمحمد بن الحسن الشيباني (ص45).
(3) وهو حديث عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان مرض النبي صلى الله عليه وسلم تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها: مارية - وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة - فذكرن من حسنها وتصاويرها قالت: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: ((أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)). رواه البخاري (427)، ومسلم (528).
(4) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (10/ 38).
(5) ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/ 353).
(6) ((زاد المعاد)) (3/ 22).
(7) ((زاد المعاد)) (3/ 22).

فتبين مما نقلناه عن العلماء أن المذاهب الأربعة متفقة على ما أفادته الأحاديث المتقدمة من تحريم بناء المساجد على القبور. وقد نقل اتفاق العلماء على ذلك أعلم الناس بأقوالهم ومواضع اتفاقهم واختلافهم ألا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد سُئل رحمه الله بما نصه: هل تصح الصلاة على المسجد إذا كان فيه قبر والناس تجتمع فيه لصلاتي الجماعة والجمعة أم لا؟ وهل يُمهد القبر أو يُعمل عليه حاجز أو حائط؟
فأجاب: الحمد لله، اتفق الأئمة أنه لا يُبنى مسجد على قبرٍ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)) (1).
وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد فإن كان المسجد قبل الدفن غُيِّر إما بتسويةِ القبر، وإما بنبشه إن كان جديداً، وإن كان المسجد بُني بعد القبر فإما أن يُزال المسجد، وإما أن تُزال صورة القبر؛ فالمسجد الذي على القبر لا يُصلّى فيه فرض ولا نفل فإنه منهيٌ عنه (2).
وقد تبنّت دار الإفتاء في الديار المصرية فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية هذه فنقلتها عنه في فتوى لها أصدرتها تنصّ على عدم جواز الدفن في المسجد فليراجعها من شاء في (مجلة الأزهر) (3)
وقال ابن تيمية: يحرم الإسراج على القبور واتخاذ المساجد عليها وبينها ويتعين إزالتها ولا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين (4) ...
وهكذا نرى أن العلماء كلهم اتفقوا على ما دلت عليه الأحاديث من تحريم اتخاذ المساجد على القبور فنحذّر المؤمنين من مخالفتهم والخروج عن طريقتهم خشية أن يشملهم وعيد قوله عز وجل: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115] وإِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37]. تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد لمحمد ناصر الدين الألباني - ص10
فأما العكوف والمجاورة عند شجرة أو حجر، تمثال أو غير تمثال، أو العكوف والمجاورة عند قبر نبي، أو غير نبي، أو مقام نبي أو غير نبي، فليس هذا من دين المسلمين. بل هو من جنس دين المشركين، الذين أخبر الله عنهم بما ذكره في كتابه، حيث قال: وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:51 - 58].
_________
(1) رواه مسلم (532). من حديث جندب رضي الله عنه.
(2) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 107)، و (2/ 192).
(3) ((مجلة الأزهر)) (112/ 501، 503).
(4) ((الاختيارات العلمية)) (ص52).

وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:69 - 82].
وقال تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الأعراف:138 - 140].
فهذا عكوف المشركين، وذاك عكوف المسلمين، فعكوف المؤمنين في المساجد لعبادة الله وحده لا شريك له، وعكوف المشركين على ما يرجونه، ويخافونه من دون الله، ومن يتخذونهم شركاء وشفعاء، فإن المشركين لم يكن أحد منهم يقول: إن العالم له خالقان، ولا إن الله له شريك يساويه في صفاته. هذا لم يقله أحد من المشركين، بل كانوا يُقرّون بأن خالق السماوات والأرض واحد كما أخبر الله عنهم بقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ [لقمان:25]، وقوله تعالى: قُلْ لِّمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون:84 - 89].
وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك فقال تعالى لهم: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ [الروم:28]. وكانوا يتخذون آلهتهم وسائط تقربهم إلى الله زُلفى، وتشفع لهم كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] وقال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ [الزمر:43 - 44].
وقال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ [يونس:18].

وقال تعالى عن صاحب يس: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:22 - 25].
وقال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 94]
وقال تعالى: مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ [السجدة:4] وقال تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام:51]. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 2/ 827
قال الشيخ حافظ الحكمي-رحمه الله تعالى- في شرح منظومة سلم الوصول
وَمَنْ عَلَى الْقَبْرِ سِرَاجًا أَوْقَدَا ... أوِ ابْتَنَى عَلَى الضَّرِيحِ مَسْجِدا
فإِنَّهُ مُجَدِّدٌ جِهَارا ... لِسُنَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
(ومن على القبر) متعلق بأوقد (سراجا) مفعول (أوقدا) بألف الإطلاق، والمعنى: ومن أوقد سراجاً على القبر (أو ابتنى) بمعنى: بنا وزيدت التاء فيه لمعنى الاتخاذ (على الضريح) أي: على القبر، واشتقاقه من الضرح الذي هو الشق (مسجدا) أو اتخذ القبر نفسه مسجدا ولو لم يبن عليه (فإنه) أي فاعل ذلك (مجدد) بفعله ذلك (جهاراً) أي تجديداً واضحاً مجاهراً به الله ورسوله وأولياءه (لسنن) أي لطرائق (اليهود والنصارى) في اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد ويعكفون عليها، وأعياد لهم ينتابونها، ويترددون إليها، كيف وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم للذين طلبوا منه ذات أنواط: ((الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ لتتبعن سنن من كان قبلكم)) (1) وقال صلى الله عليه وسلم: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه)). قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟)) أخرجاه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه (2)، وقد وقع الأمر والله كما أخبر صلى الله عليه وسلم به، فالله المستعان.
كَمْ حَذَّرَ الْمُخْتَارُ عَنْ ذَا وَلَعَنْ ... فَاعِلَهُ كَمَا رَوَى أَهْلُ السُّنَنْ
بَلْ قَدْ نَهَى عَنِ ارْتِفَاعِ الْقَبْرِ ... وَأَنْ يُزَادَ فِيهِ فَوْقَ الشِّبْرِ
وَكُلُّ قَبْرٍ مُشْرِفٍ فَقَدْ أَمَرْ ... بِأَنْ يُسَوَّى هَكَذَا صَحَّ الْخَبَرْ
_________
(1) رواه ابن حبان (6702)، والطبراني (3/ 244). من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه. قال شعيب الأرناؤوط محقق ((صحيح ابن حبان)): إسناده صحيح على شرط مسلم.
(2) رواه البخاري (3456)، ومسلم (2669).

(كم) خبرية للتكثير (حذر المختار) نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم (عن ذا) الفعل من اتخاذ القبور مساجد وأعياداً والبناء عليها وإيقاد السرج عليها، كما في (الصحيح) عن عائشة رضي الله عنها: أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح - أو الرجل الصالح - بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)) (1). وفيه - أي في (الصحيح) - عنها هي - أي: عائشة - وعبدالله بن عباس رضي الله عنهم: قال: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يُحذِّر ما صنعوا (2) وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (3). وعن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها)) رواه الجماعة إلا البخاري، وابن ماجه (4)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً)) رواه الجماعة إلا ابن ماجه (5). وعن جندب بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: ((إنَّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إنّي أنهاكم عن ذلك)) رواه مسلم (6). وعن جابر رضي الله عنه قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه)) رواه أحمد ومسلم والثلاثة (7) وصححه الترمذي ولفظه: ((نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ))، وفي لفظ النسائي: ((نهى أن يبنى على القبر أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه))، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)) رواه أهل السنن (8). وللترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور)) (9).
_________
(1) رواه البخاري (427)، ومسلم (528).
(2) رواه البخاري (435، 436)، ومسلم (531).
(3) رواه البخاري (437)، ومسلم (530) بدون لفظة: (النصارى)، وأحمد (2/ 285) (7818) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال شعيب الأرناؤوط محقق المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(4) رواه مسلم (972)، وأبو داود (3229)، والترمذي (1050)، والنسائي (2/ 67).
(5) رواه البخاري (432)، ومسلم (777)، وأبو داود (1043)، والترمذي (451)، والنسائي (3/ 197).
(6) رواه مسلم (532).
(7) رواه مسلم (970)، وأبو داود (3225)، والترمذي (1052)، والنسائي (4/ 87)، وأحمد (3/ 295) (14181).
(8) رواه أبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (4/ 94). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حسن. ووافقه البغوي في ((شرح السنة)) (2/ 150)، وابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 345) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)) (59): الحديث صحيح لغيره إلا (اتخاذ السرج) فإنه: منكر، لم يأت إلا من هذا الطريق الضعيف.
(9) رواه الترمذي (1056). وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال البغوي في ((شرح السنة)) (2/ 151): صحيح. وقال ابن القطان في ((المحرر)) (206)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن.

ولابن ماجه مثله من حديث حسان رضي الله عنه (1)، ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد)) رواه أبو حاتم ابن حبان في (صحيحه) (2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) رواه أبو داود بإسناد حسن ورواته ثقات (3) ... ، وقال سعيد بن منصور في (سننه): حدثنا عبدالعزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي صالح قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة رضي الله عنها يتعشَّى فقال: هلم إلى العشاء، فقلت لا أريده، فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم. لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء (4). وروى مالك في (الموطأ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (5). وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا.
(وقد نهى) النبي صلى الله عليه وسلم، عن (ارتفاع القبر) بالبناء أو نحوه، كما تقدم من النهي عن تجصيصها والبناء عليها، ... من الأمر بتسويتها (وأن يزاد فيه فوق شبر) كما في (السنن) عن جابر رضي الله عنه قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُبنى على القبر أو يُزاد عليه أو يُجصص)) (6).
(وكل قبر مشرف) يعني مرتفع (فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم (بأن يُسوّى) بالأرض أو بما عداه من القبور التي لم تجاوز الشرع في ارتفاعها، (هكذا صح الخبر)، وهو ما رواه مسلم عن ثمامة بن شُفِي قال: كنا مع فَضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا، فأمر فَضالة بن عبيد بقبره فسوي ثم قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها)) (7). وله عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوَّيته)) (8). معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ الحكمي – 2/ 659
_________
(1) رواه ابن ماجه (1279). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 43 - 44): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن.
(2) رواه أحمد (1/ 405) (3844)، وابن حبان (15/ 260)، ورواه الطبراني (10/ 188)، وأبو يعلى (9/ 216)، والشطر الأول من الحديث رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم (7067). قال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص330): رواه أحمد بإسنادٍ جيد. وقال أحمد شاكر في ((المسند)) (5/ 324): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): صحيح.
(3) رواه أبو داود (2042). وسكت عنه. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (892) - كما أشار لذلك في مقدمته -، والنووي في ((الأذكار)) (154). وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 169): إسناده حسن وله شواهد. وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (3/ 314): حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.
(4) رواه سعيد بن منصور في ((سننه)) مرسلاً كما في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (ص106). قال ابن القيم في ((إغاثة اللهفان)) (1/ 301)، وابن عبدالهادي الحنبلي في ((الصارم المنكي)) (322): مرسل. قال الألباني في ((أحكام الجنائز)) (ص220): مرسل بإسنادٍ قوي.
(5) رواه مالك في ((الموطأ)) (1/ 172) مرسلاً عن عطاء بن يسار رحمه الله. قال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (2/ 347): روي متصلاً مسنداً. وقال ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 349): مرسل. وقال الألباني في ((غاية المرام)) (126): صحيح.
(6) رواه النسائي (4/ 86)، والبيهقي (3/ 410). قال المعلمي في ((البناء على القبور)) (94): رواته ثقات, وفيه ما يعلم مما تقدم [يعني عنعنة ابن جريج مع الزيادة]. وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح.
(7) رواه مسلم (968).
(8) رواه مسلم (969).

ثالثاً: شبهات حول اتخاذ القبور مساجد وحكم مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم
أولاً: قوله تعالى في سورة الكهف: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21]، وجه دلالة الآية على ذلك: أنّ الذين قالوا هذا القول كانوا نصارى، على ما هو مذكور في كتب التفسير، فيكون اتخاذ المسجد على القبر من شريعتهم، وشريعة من قبلنا شريعة لنا إذا حكاها الله تعالى، ولم يعقبها بما يدل على ردها كما في هذه الآية الكريمة.
ثانياً: كون قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده الشريف، ولو كان ذلك لا يجوز لما دفنوه صلى الله عليه وسلم في مسجده!
ثالثاً: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف مع أن فيه قُبِر سبعين نبياً كما قال صلى الله عليه وسلم (1)!
رابعاً: ما ذكر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل عليه السلام وغيره في الحجر من المسجد الحرام، وهو أفضل مسجد يتحرى المصلي فيه.
خامساً: بناء أبي جندل رضي الله عنه مسجداً على قبر أبي بصير رضي الله عنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في ((الاستيعاب)) لابن عبد البر (2).
سادساً: زعم بعضهم أن المنع من اتخاذ القبور مساجد إنما كان لعلة خشية الافتتان بالمقبور، زالت برسوخ التوحيد في قلوب المؤمنين، فزال المنع!
الجواب عن الشبهة الأولى:
أما الشبهة الأولى فالجواب عنها من ثلاثة وجوه:
الأول: أن الصحيح المتقرر في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا لأدلة كثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحداً من الأنبياء قبلي ... (فذكرها، وآخرها) وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة)) (3)
فإذا تبين هذا فلسنا ملزمين بالأخذ بما في الآية لو كانت تدل على أن جواز بناء المسجد على القبر كان شريعة لمن قبلنا!
الثاني: هب أن الصواب قول من قال: (شريعة من قبلنا شريعة لنا) فذلك مشروط عندهم بما إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وهذا الشرط معدوم هنا، لأن الأحاديث تواترت في النهي عن البناء المذكور كما سبق، فذلك دليل على أن ما في الآية ليس شريعة لنا.
الثالث: لا نسلم أن الآية تفيد أن ذلك كان شريعة لمن قبلنا غاية ما فيها أن جماعة من الناس قالوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21] فليس فيها التصريح بأنهم كانوا مؤمنين، وعلى التسليم فليس فيها أنهم كانوا مؤمنين صالحين، متمسكين بشريعة نبيٍ مرسل، بل الظاهر خلاف ذلك، قال الحافظ ابن رجب في (فتح الباري في شرح البخاري) .. : حديث: ((لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (4).
_________
(1) رواه الطبراني (12/ 414) بلفظ: ((في مسجد الخيف قُبِر سبعين نبياً)). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 300): رواه البزار ورجاله ثقات. وقال ابن حجر في ((مختصر البزار)) (1/ 476): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((ضعيف الجامع)) (4020): ضعيف.
(2) ((الاستيعاب)) (2/ 13). وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): منكر.
(3) رواه البخاري (335) بلفظة: (عامةً) بدلاً من (كافةً)، ومسلم (521) بلفظة: (خاصة). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(4) رواه البخاري (4441). من حديث عائشة رضي الله عنها.

وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21]، فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأن مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المتبعين لما أنزل الله على رسله من الهدى (1).
وقال الشيخ علي بن عروة في (مختصر الكوكب) .. تبعاً للحافظ ابن كثير في (تفسيره): حكى ابن جرير (2) في القائلين ذلك قولين (3):
أحدهما: أنهم المسلمون منهم.
والثاني: أهل الشرك منهم.
فالله أعلم، والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هم محمودون أم لا؟ فيه نظر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يُحذِّر ما فعلوا (4)، وقد رُوِّينا عن عمر بن الخطاب: أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدها عنده، فيها شيء من الملاحم وغيرها (5).
إذا عرفت هذا، فلا يصح الاحتجاج بالآية على وجه من الوجوه، وقال العلامة المحقق الألوسي في (روح المعاني): واستدل بالآية على جواز البناء على قبور العلماء واتخاذ مسجد عليها، وجواز الصلاة في ذلك! وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في (حواشيه على البيضاوي)، وهو قول باطل عاطل، فاسد كاسد ... ) (6).
ثم ذكر بعض الأحاديث المتقدمة، وأتبعها بكلام الهيتمي في (الزواجر) مقراً له عليه، ... ثم نقل عنه في كتابه (شرح المنهاج) ما نصه: وقد أفتى جمعٌ بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية، حتى قبة الإمام الشافعي عليه الرحمة، التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة، فيتعين الرفع للإمام آخذاً من كلام ابن الرفعة في الصلح. اهـ.
_________
(1) ((فتح الباري)) (3/ 194).
(2) ((تفسير الطبري)) (17/ 640).
(3) قال الألباني: وحكاهما أيضاً: ابن الجوزي في تفسيره ((زاد المسير)) (5/ 123) دون أن يرجح أحدهما على عادته.
(4) رواه البخاري (435، 436)، ومسلم (531) بلفظة: (صنعوا) بدلاً من (فعلوا). من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم.
(5) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 78)
(6) ((روح المعاني)) (5/ 31).

ثم قال الإمام الألوسي: لا يقال: إن الآية ظاهرة في كون ما ذكر من شرائع من قبلنا، وقد استُدِلَّ بها، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من نام عن صلاة أو نسيها)) (1)، الحديث ثم تلا قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، وهو مقول لموسى عليه السلام، وسياقه الاستدلال، واحتج أبو يوسف على جري القود بين الذكر والأنثى بآية: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ [المائدة: 45]، والكرخي على جريه بين الحر والعبد، والمسلم والذمي بتلك الآية الواردة في بني إسرائيل، إلى غير ذلك، لأنا نقول: مذهبنا في شرع من قبلنا وإن كان أنه يلزمنا على أنه شريعتنا، لكن لا مطلقاً، بل إنْ قصّ الله تعالى علينا بلا إنكار فإنكار رسوله صلى الله عليه وسلم كإنكاره عز وجل (2). وقد سَمِعتَ أنه عليه الصلاة والسلام لعن الذين يتخذون المساجد على القبور، على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع، وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، والآية ليست كالآيات التي ذكرنا آنفاً احتجاجُ الأئمة بها، وليس فيها أكثر من حكاية قول طائفة من الناس وعزمهم على فعل ذلك، وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسي بهم، فمتى لم يثبت أن فيهم معصوماً لا يدل على فعلهم عن عزمهم على مشروعية ما كانوا بصدده.
ومما يقوي قلة الوثوق بفعلهم القول بأن المراد بهم: الأمراء والسلاطين، كما روي عن قتادة.
وعلى هذا لقائلٍ أن يقول: إن الطائفة الأولى كانوا مؤمنين عالمين بعدم مشروعية اتخاذ المساجد على القبور، فأشاروا بالبناء على باب الكهف وسدّه، وكفّ التعرض لأصحابه، فلم يقبل الأمراء منهم، وغاظهم ذلك حتى أقسموا على اتخاذ المسجد.
وإن أبيت إلا حسن الظن بالطائفة الثانية فلك أن تقول: إن اتخاذهم المسجد عليهم ليس على طراز اتخاذ المساجد على القبور المنهي عنه، الملعون فاعله، وإنما هو اتخاذ مسجد عندهم وقريباً من كهفهم، وقد جاء التصريح بالعندية في رواية القصة عن السدي ووهب، ومثل هذا الاتخاذ ليس محذوراً إذ غاية ما يلزم على ذلك أن يكون نسبة المسجد إلى الكهف الذي هم فيه، كنسبة النبوي إلى المرقد ... صلى الله تعالى على من فيه وسلم، ويكون قوله: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ [الكهف:21] على هذه الشاكلة قول الطائفة: (ابنوا عليهم).
وإن شئت قلت: إن ذلك الاتخاذ كان على كهفٍ فوق الجبل الذي هم فيه، وفيه خبر مجاهد: أن الملك تركهم في كهفهم وبنى على كهفهم مسجداً، وهذا أقرب لظاهر اللفظ كما لا يخفى، وهذا كله إنما يحتاج إليه على القول بأن أصحاب الكهف ماتوا بعد الإعثار عليهم، وأما على القول بأنهم ناموا كما ناموا أولاً فلا يحتاج إليه على ما قيل (3).
_________
(1) رواه البخاري (597)، ومسلم (684) بلفظ: ((من نسي صلاةً أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها))، واللفظ لمسلم من حديث أنس رضي الله عنه.
(2) قال الألباني: لقوله صلى الله عليه وسلم ((فإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله)). وهو حديث صحيح. اهـ. والحديث: رواه أبو داود (4604)، والترمذي (2664)، وابن ماجه (12)، وأحمد (4/ 132) (17233). من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه.
(3) قال الألباني: يشير إلى ما ذكره في أول الصفحة الأولى من الصفحتين المشار إليهما وهو قوله: وعن الحسن: أنه اتخذ (يعني: المسجد) ليصلي فيه أصحاب الكهف إذا استيقظوا. قال الألوسي: وهذا مبني على أنهم لم يموتوا بل ناموا كما ناموا أولاً وإليه ذهب بعضهم، بل قيل: إنهم لا يموتون حتى يظهر المهدي ويكونوا من أنصاره. ولا معول على ذلك وهو عندي أشبه شيء بالخرافات.

وبالجملة: لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب إلى خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة، معولاً على الاستدلال بهذه الآية، فإن ذلك في الغواية غاية، وفي قلة النُهى نهاية! ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من إشرافها، وبنائها بالجص والآجرّ، وتعليق القناديل عليها، والصلاة إليها، والطواف بها، واستلامها، والاجتماع عندها، في أوقات مخصوصة، إلى غير ذلك محتجاً بهذه الآية الكريمة، وبما جاء في بعض روايات القصة من جعل الملك لهم في كل سنة عيداً، وجعله إياهم في توابيت من ساج، ومقيساً لبعض على بعض! وكل ذلك محادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وابتداع دين لم يأذن به الله عز وجل.
ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره عليه الصلاة والسلام - وهو أفضل قبر على وجه الأرض - والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له، والسلام عليه، فتتبع ذاك وتأمل ما هنا وما هناك، والله سبحانه يتولى هداك.
... وقد استدل بالآية المذكورة على الجواز المزعوم، بل على استحباب بناء المساجد على القبور بعض المعاصرين لكن من وجهٍ آخرٍ مبتدعٍ مغايرٍ بعض الشيء لما سبق حكايته ورده فقال ما نصه: والدليل من هذه الآية إقرار الله إياهم على ما قالوا، وعدم رده عليهم!
... هذا الاستدلال باطل من وجهين:
الأول: أنه لا يصحّ أن يعتبر عدم الرد عليهم إقراراً لهم، إلا إذا ثبت أنهم كانوا مسلمين وصالحين متمسكين بشريعة نبيهم، وليس في الآية ما يشير أدنى إشارة إلى أنهم كانوا كذلك، بل يحتمل أنهم لم يكونوا كذلك، وهذا هو الأقرب؛ أنهم كانوا كفاراً أو فجاراً، كما ... -نقل عن- ابن رجب وابن كثير وغيرهما، وحينئذ فعدم الرد عليهم لا يعد إقراراً بل إنكاراً، لأن حكاية القول عن الكفار والفجار يكفي في رده عزوه إليهم! فلا يعتبر السكوت عليه إقراراً كما لا يخفى، ويؤيده الوجه الآتي:
الثاني: أن الاستدلال المذكور إنما يستقيم على طريقة أهل الأهواء من الماضين والمعاصرين، الذين يكتفون بالقرآن فقط ديناً، ولا يقيمون للسنة وزناً، وأما طريقة أهل السنة والحديث الذين يؤمنون بالوحيين، مصدقين بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)) وفي رواية: ((ألا إنّ ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله)) (1).
فهذا الاستدلال عندهم والمستدل يزعم أنه منهم! باطل ظاهر البطلان، لأن الرد الذي نفاه، قد وقع في السنة المتواترة كما سبق، فكيف يقول: إن الله أقرهم ولم يرد عليهم، مع أن الله لعنهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فأي ردٍّ أوضح وأبين من هذا؟!
وما مثل من يستدل بهذه الآية على خلاف الأحاديث المتقدمة؛ إلا كمثل من يستدل على جواز صنع التماثيل والأصنام بقوله تعالى في الجن الذين كانوا مذللين لسليمان عليه السلام: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ [سبأ:13] يستدل بها على خلاف الأحاديث الصحيحة التي تحرم التماثيل والتصاوير! وما يفعل ذلك مسلم يؤمن بحديثه صلى الله عليه وسلم.
وبهذا ينتهي الكلام عن الشبهة الأولى، وهي الاستدلال بآية الكهف والجواب عنها وعن ما تفرع منها.
الجواب عن الشبهة الثانية:
_________
(1) رواه أبو داود (4604) بلفظ: (الكتاب) بدلاً من: (القرآن)، والترمذي (2664)، وابن ماجه (12)، وأحمد (4/ 130) (17213)، و (4/ 132) (17233). من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه. والحديث حسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 129) - كما أشار لهذا في مقدمته -. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): صحيح.

وأما الشبهة الثانية وهي أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده كما هو مشاهد اليوم، ولو كان ذلك حراماً لم يدفن فيه‍!
والجواب: أن هذا وإن كان هو المشاهد اليوم، فإنه لم يكن كذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم لما مات النبي صلى الله عليه وسلم دفنوه في حجرته التي كانت بجانب مسجده، وكان يفصل بينهما جدار فيه باب، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج منه إلى المسجد، وهذا أمر معروف مقطوع به عند العلماء، ولا خلاف في ذلك بينهم، والصحابة رضي الله عنهم حينما دفنوه صلى الله عليه وسلم في الحجرة، إنما فعلوا ذلك كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجداً، كما ... في حديث عائشة وغيره (1)، ولكن وقع بعدهم ما لم يكن في حسبانهم! ذلك أن الوليد بن عبدالملك أمر سنة ثمان وثمانين بهدم المسجد النبوي وإضافة حُجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فأدخل فيه الحجرة النبوية حجرة عائشة، فصار القبر بذلك في المسجد (2)، ولم يكن في المدينة أحد من الصحابة حينذاك خلافاً لما توهم بعضهم، قال العلامة الحافظ محمد بن عبدالهادي في (الصارم المنكي): وإنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبدالملك، بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وكان آخرهم موتاً جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، وتوفي في خلافة عبدالملك، فإنه توفي سنة ثمان وسبعين، والوليد تولى سنة ست وثمانين، وتوفي سنة ست وتسعين، فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك (3)، وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة النميري، في كتاب (أخبار مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم) عن أشياخه وعمن حدثوا عنه أن عمر بن عبد العزيز لما كان نائباً للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة، وعمل سقفه بالساج وماء الذهب وهدم حجرات أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأدخلها في المسجد وأدخل القبر فيه (4).
_________
(1) رواه البخاري (1390)، ومسلم (529). ولفظه: ((لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). لولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خَشِيَ أو خٌشِيَ أن يتخذ مسجداً. من حديث عائشة رضي الله عنه.
(2) انظر: ((تاريخ ابن جرير)) (5/ 22 - 23)، و ((تاريخ ابن كثير)) (9/ 74 - 75).
(3) قال الألباني: وإنما لم يسم الحافظ ابن عبدالهادي السنة التي وقع فيها ذلك لأنها لم ترد في رواية ثابتة على طريقة المحدثين، وما نقلناه عن ابن جرير هو من رواية الواقدي وهو متهم، ورواية ابن شبة الآتية في كلام الحافظ ابن عبدالهادي مدارها على مجاهيل، وهم عن مجهول! كما هو ظاهر، فلا حجة في شيء من ذلك، وإنما العمدة على اتفاق المؤرخين على أن إدخال الحجرة إلى المسجد كان في ولاية الوليد، وهذا القدر كاف في إثبات أن ذلك كان بعد موت الصحابة الذين كانوا في المدينة حسبما بيَّنه الحافظ لكن يُعكّر عليه ما رواه أبو عبدالله الرازي في ((مشيخته)) (1/ 218) عن محمد بن الربيع الجيزري: توفي سهل بن سعد بالمدينة وهو ابن مائة سنة وكانت وفاته: سنة إحدى وتسعين وهو آخر من مات بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. لكن الجيزري هذا لم أعرفه ثم هو معضل، وقد ذكر مثله الحافظ ابن حجر في ((الإصابة)) (2/ 87) عن الزهري من قوله: فهو معضل أيضاً أو مرسل، ثم عقبه بقوله: وقيل: قبل ذلك، وزعم ابن أبي داود أنه مات بالإسكندرية. وجزم في (التقريب): أنه مات سنة 88 فالله أعلم. وخلاصة القول: أنه ليس لدينا نص تقوم به الحجة على أن أحداً من الصحابة كان في عهد عملية التغيير هذه، فمن ادّعى خلاف ذلك فعليه الدليل.
(4) انظر: ((الصارم المنكي)) (ص136).

يتبين لنا مما أوردناه أن القبر الشريف إنما أدخل إلى المسجد النبوي حين لم يكن في المدينة أحد من الصحابة وإن ذلك كان على خلاف غرضهم الذي رموا إليه حين دفنوه في حجرته صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لمسلم بعد أن عرف هذه الحقيقة أن يحتج بما وقع بعد الصحابة، لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة وما فهم الصحابة والأئمة منها ... وهو مخالف أيضاً لصنيع عمر وعثمان حين وسّعا المسجد ولم يدخلا القبر فيه، ولهذا نقطع بخطأ ما فعله الوليد بن عبدالملك عفا الله عنه، ولئن كان مضطراً إلى توسيع المسجد، فإنه كان باستطاعته أن يوسّعه من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة الشريفة، وقد أشار عمر بن الخطاب إلى هذا النوع من الخطأ حين قام هو رضي الله عنه بتوسيع المسجد من الجهات الأخرى ولم يتعرض للحجرة، بل قال: (إنه لا سبيل إليها) (1) فأشار رضي الله عنه إلى المحذور الذي يترقب من جراء هدمها وضمها إلى المسجد.
ومع هذه المخالفة الصريحة للأحاديث المتقدمة وسنة الخلفاء الراشدين، فإن المخالفين لما أدخلوا القبر النبوي في المسجد الشريف احتاطوا للأمر شيئاً ما، فحاولوا تقليل المخالفة ما أمكنهم، قال النووي: ولما احتاجت الصحابة (2) والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بنوا على القبر حيطاناً مرتفعةً مستديرةً حوله، لئلا يظهر في المسجد (3)، فيصلي إليه العوام، ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر (4).
ونقل الحافظ ابن رجب في (الفتح) نحوه عن القرطبي كما في (الكوكب) (65/ 91/1)، وذكر ابن تيمية في (الجواب الباهر) (ق9/ 2): أن الحجرة لما أُدخلت إلى المسجد سُدَّ بابها، وبُني عليها حائط آخر، صيانةً له صلى الله عليه وسلم أن يُتخذ بيته عيداً، وقبره وثناً. تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد لمحمد ناصر الدين الألباني – ص: 54
الجواب عن الشبهة الثالثة:
وأما الشبهة الثالثة، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مسجد الخيف وقد ورد في الحديث أن فيه قَبر سبعين نبيًّا!
فالجواب: أننا لا نشك في صلاته صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد، ولكننا نقول: إن ما ذكر في الشبهة من أنه دفن فيه سبعون نبياً لا حجة فيه من وجهين:
_________
(1) قال الألباني: انظر: ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (4/ 21)، و ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (8/ 478/2) وقال السيوطي في ((الجامع الكبير)) (3/ 272/2): وسنده صحيح إلا أن سالماً أبا النضر لم يدرك عمر، و ((وفاء الوفاء)) للسمهودي (1/ 343)، و ((المشاهدات المعصومية عند قبر خير البرية)) للعلامة محمد سلطان العصومي رحمه الله تعالى (ص43) وهو مؤلف رسالة ((هداية السلطان إلى بلاد اليابان)).
(2) قال الألباني: عزو هذا إلى الصحابة لا يثبت ....
(3) قال الألباني: وفي هذا دليل واضح على أن ظهور القبر في المسجد ولو من وراء النوافذ والحديد والأبواب لا يزيل المحذور، كما هو الواقع في قبر يحيى عليه السلام في مسجد بني أمية في دمشق وحلب، ولهذا نص أحمد على أن الصلاة لا تجوز في المسجد الذي قبلته إلى قبر، حتى يكون بين حائط المسجد وبين المقبرة حائل آخر.
(4) ((شرح صحيح مسلم)) (5/ 14).

الأول: أننا لا نسلم صحة الحديث المشار إليه، لأنه لم يروه أحد ممن عني بتدوين الحديث الصحيح، ولا صححه أحد ممن يوثق بتصحيحه من الأئمة المتقدمين، ولا النقد الحديثي يساعد على تصحيحه، فإن في إسناده من يروي الغرائب وذلك مما يجعل القلب لا يطمئن لصحة ما تفرد به، قال الطبراني في (معجمه الكبير): حدثنا عبدان بن أحمد نا عيسى بن شاذان، نا أبو همام الدلال، نا إبراهيم بن طمهان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ: ((في مسجد الخيف قَبرُ سبعين نبياً)) (1).
وأورده الهيثمي (المجمع) بلفظ: (( ... قُبِرَ سبعون نبياً)) وقال: رواه البزار ورجاله ثقات.
وهذا قصور منه في التخريج، فقد أخرجه الطبراني أيضاً كما رأيت.
وأنا أخشى أن يكون الحديث تحرّف على أحدهما فقال: (قُبِر) بدل (صلى) لأن هذا اللفظ الثاني هو المشهور في الحديث، فقد أخرج الطبراني في (الكبير) بإسنادٍ رجاله ثقات عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً: ((صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً ... )) الحديث (2) ...
وجملة القول: أن الحديث ضعيف لا يطمئن القلب لصحته، فإن صح فالجواب عنه من الوجه الآتي وهو:
الثاني: أن الحديث ليس فيه أن القبور ظاهرة في مسجد الخيف، وقد عقد الأزرقي في (تاريخ مكة) (3) عدة فصول في وصف مسجد الخيف، فلم يذكر أن فيه قبوراً بارزةً، ومن المعلوم أن الشريعة إنما تُبنى أحكامها على الظاهر، فإذاً ليس في المسجد المذكور قبور ظاهرة، فلا محظور في الصلاة فيه ألبتة، لأن القبور مندرسة ولا يعرفها أحد، بل لولا هذا الخبر الذي عرفت ضعفه لم يخطر في بال أحد أن في أرضه سبعين قبراً! ولذلك لا يقع فيه تلك المفسدة التي تقع عادة في المساجد المبنية على القبور الظاهرة والمشرفة!.
الجواب عن الشبهة الرابعة:
وأما ما ذكر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل عليه السلام وغيره في الحجر من المسجد الحرام وهو أفضل مسجد يتحرى فيه.
فالجواب: لا شك أن المسجد الحرام أفضل المساجد والصلاة فيه بمائة ألف صلاة (4)، ولكن هذه الفضيلة أصلية فيه منذ رفع قواعده إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام، ولم تطرأ هذه الفضيلة عليه بدفن إسماعيل عليه السلام فيه لو صح أنه دفن فيه، ومن زعم خلاف ذلك، فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً، وجاء بما لم يقله أحد من السلف الصالح رضي الله عنهم، ولا جاء به حديث تقوم الحجة به.
فإن قيل: لا شك فيما ذكرت، ودفن إسماعيل فيه لا يخالف ذلك، ولكن ألا يدل هذا على الأقل على عدم كراهية الصلاة في المسجد الذي فيه قبر؟
فالجواب: كلا ثم كلا، وهاك البيان من وجوه:
_________
(1) رواه الطبراني (12/ 414) بلفظ: ((في مسجد الخيف قُبِر سبعين نبياً)). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 300): رواه البزار ورجاله ثقات. وقال ابن حجر في ((مختصر البزار)) (1/ 476): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): ضعيف.
(2) رواه الطبراني (11/ 452). من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 300): رواه الطبراني في ((الكبير)) وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): حسن.
(3) ((تاريخ مكة)) (406 - 410).
(4) قال صلى الله عليه وسلم: ((وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)). رواه ابن ماجه (1406)، وأحمد (3/ 343) (14735). قال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 517): إسناده صحيح. وقال العراقي في ((طرح التثريب)) (6/ 47): إسناده جيد. وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (4/ 1550): إسناده صحيح إلا أنه اختلف فيه على عطاء. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.

الأول: أنه لم يثبت في حديثٍ مرفوعٍ أن إسماعيل عليه السلام أو غيره من الأنبياء الكرام دفنوا في المسجد الحرام، ولم يرد شيء من ذلك في كتابٍ من كتب السنة المعتمدة كـ (الكتب الستة)، و (مسند أحمد)، و (معاجم الطبراني الثلاثة) وغيرها، ضعيفاً بل موضوعاً عند بعض المحققين (1)، وغاية ما روي في ذلك من آثار معضلات، بأسانيد واهيات موقوفات، أخرجها الأزرقي في (أخبار مكة)، فلا يلتفت إليها وإن ساقها بعض المبتدعة مساق المسلمات (2). ونحو ذلك ما أورد السيوطي في (الجامع) من رواية الحاكم في (الكنى) عن عائشة مرفوعاً بلفظ: ((إن قبر إسماعيل في الحجر)) (3).
الوجه الثاني: أن القبور المزعوم وجودها في المسجد الحرام غير ظاهرة ولا بارزة، ولذلك لا تقصد من دون الله تعالى، فلا ضرر من وجودها في بطن أرض المسجد، فلا يصح حينئذٍ الاستدلال بهذه الآثار على جواز اتخاذ المساجد على قبور مرتفعة على وجه الأرض لظهور الفرق بين الصورتين، وبهذا أجاب الشيخ على القاري رحمه الله تعالى، فقال في (مرقاة المفاتيح): ... وذكر غيره أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام في الحجر تحت الميزاب، وأن في الحطيم بين الحجر الأسود وزمزم قَبْرُ سبعين نبيًّا (4).
قال القاري: وفيه أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام وغيره مندرسة فلا يصلح الاستدلال (5).
وهذا جواب عالم نحرير، وفقيه خريت، وفيه الإشارة إلى ما ذكرناه آنفاً، وهو أن العبرة في هذه المسألة بالقبور الظاهرة، وأن ما في بطن الأرض من القبور، فلا يرتبط به حكم شرعي من حيث الظاهر، بل الشريعة تنزه عن مثل هذا الحكم، لأننا نعلم بالضرورة والمشاهدة أن الأرض كلها مقبرة الأحياء، كما قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [المرسلات: 25 - 26]
قال الشعبي: بطنها لأمواتكم، وظهرها لأحيائكم (6).
ومنه قول الشاعر:
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب ... فأين القبور من عهد عاد؟
خفف الوطأ ما أظن أديم ... الأرض إلا من هذه الأجساد
سر إن استطعت في الهواء رويداً ... لا اختيالا على رفات العباد
ومن البيّن الواضح أن القبر إذا لم يكن ظاهراً غير معروفاً مكانه، فلا يترتب من وراء ذلك مفسدة كما هو مشاهد، حيث ترى الوثنيات والشركيات إنما تقع عند القبور المشرفة، حتى ولو كانت مزورة! لا عند القبور المندرسة، ولو كانت حقيقية، فالحكمة تقتضي التفريق بين النوعين، وهذا ما جاءت به الشريعة كما بيّنا سابقاً، فلا يجوز التسوية بينهما، والله المستعان.
الجواب عن الشبهة الخامسة:
_________
(1) قال الألباني: نقل السيوطي في ((التدريب)) عن ابن الجوزي قال: ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديث يباين العقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع. قال: ومعنى مناقضته للأصول أن يكون خارجاً من دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة. كذا في ((الباعث الحثيث)) (ص85).
(2) قال الألباني: انظر: ((إحياء المقبور)) (47 - 48). ومن عجائب الجهل بالسنة أن بعض المفسرين المتأخرين احتج بهذه الآثار الواهية على جواز الصلاة في المقبرة بقصد الاستظهار بروح الميت أو وصول أثر ما من أثر عبادته لا للتعظيم له والتوجه نحوه! وهذا مع أنه لا دليل فيها على ما زعمه من الجواز، فهو مخالف لعموم الأدلة الناهية عن الصلاة في المقبرة وما شابهها من المساجد المبنية على القبور ...
(3) قال الألباني في ((ضعيف الجامع الصغير)) (1907): ضعيف.
(4) (مرقاة المفاتيح) (1/ 456).
(5) (مرقاة المفاتيح) (1/ 456).
(6) رواه الدولابي (1/ 129)، والطبري في ((تفسيره)) (24/ 134). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): رجاله ثقات.

أما بناء أبي جندل رضي الله عنه مسجداً على قبر أبي بصير رضي الله عنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فشبهة لا تساوي حكايتها! ولولا أن بعض ذوي الأهواء من المعاصرين اتكأ عليها في رد تلك الأحاديث المحكمة لما سمحت لنفسي أن أسوّد الصفحات في سبيل الجواب عنها وبيان بطلانها! والكلام عليها من وجهين:
الأول: رد ثبوت البناء المزعوم من أصله، لأنه ليس له إسناد تقوم الحجة به، ولم يروه أصحاب (الصحاح) و (السنن) و (المسانيد) وغيرهم، وإنما أورده ابن عبدالبر في ترجمة أبي بصير من (الاستيعاب) مرسلاً، فقال: وله قصة في المغازي عجيبة، ذكرها ابن إسحاق وغيره وقد رواها معمر عن ابن شهاب. ذكر عبدالرزاق عن معمر عن ابن شهاب في قصة عام الحديبية، قال: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلت قريش في طلبه رجلين، فقالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: العهد الذي جعلت لنا أن ترد إلينا كل من جاءك مسلماً. فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين، فخرجا حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيد يا فلان! فاستلّه الآخر، وقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت، فقال له أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد وفرّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد بعده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه: ((لقد رأى هذا ذعراً))، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي، وإني لمقتول. فجاء أبو بصير، فقال: يا رسول الله قد والله أوفى الله ذمتك: قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويل أُمه مِسْعَر حرب، لو كان معه أحد)) فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير ... وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر في أبي بصير بأتمّ ألفاظٍ وأكمل سياقٍ قال:. .. وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه ومن معهما من المسلمين، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي جندل، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه، وصلى عليه، وبنى على قبره مسجداً (1).
...
_________
(1) انظر: ((الاستيعاب)) (2/ 13).

فأنت ترى أن هذه القصة مدارها على الزهري فهي مرسلة على اعتبار أنه تابعي صغير، سمع من أنس بن مالك رضي الله عنه، وإلا فهي معضلة، وكيف ما كان الأمر فلا تقوم بها حجة، على أن موضع الشاهد منها وهو قوله: (وبنى على قبره مسجداً) لا يظهر من سياق ابن عبد البر للقصة أنه من مرسل الزهري، ولا من رواية عبدالرزاق عن معمر عنه، بل هو من رواية موسى بن عقبة، كما صرح به ابن عبد البر، لم يجاوزه، وابن عقبة لم يسمع أحداً من الصحابة، فهذه الزيادة ... قوله: (وبنى على قبره مسجداً) معضلة (1)، بل هي عنده منكرة، لأن القصة رواها البخاري في (صحيحه) (2) موصولة من طريق عبدالرزاق عن معمر قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بها دون هذه الزيادة، وكذلك أوردها ابن إسحاق في (السيرة) عن الزهري مرسلاً كما في (مختصر السيرة) لابن هشام (3)، ووصله أحمد في (مسنده) من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عروة به مثل رواية معمر وأتم وليس فيها هذه الزيادة (4)، وكذلك رواه ابن جرير في (تاريخه) (5) من طريق معمر وابن إسحاق وغيرهما عن الزهري به دون هذه الزيادة، فدل ذلك كله على أنها زيادة منكرة؛ لإعضالها، عدم رواية الثقات لها. والله الموفق.
الوجه الثاني: أن ذلك لو صح لم يجز أن ترد به الأحاديث الصريحة، في تحريم بناء المساجد على القبور لأمرين:
أولاً: أنه ليس في القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره.
ثانياً: أنه لو فرضنا أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك وأقره، فيجب أن يحمل ذلك على أنه قبل التحريم، لأن الأحاديث صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ذلك في آخر حياته كما سبق، فلا يجوز أن يترك النص المتأخر من أجل النص المتقدم - على فرض صحته - عند التعارض وهذا بيّن لا يخفى، نسأل الله تعالى أن يحمينا من اتباع الهوى!
الجواب عن الشبهة السادسة
وهي الزعم بأن المنع إنما كان لعلةٍ، وهي خشية الافتتان بالمقبور، وقد زالت، فزال المنع!!
_________
(1) قال الألباني: ولا تغتر أيها القارئ بما فعله هنا مؤلف ((إحياء المقبور)) فإنه ساق (ص44) القصة التي أوردناها في الأعلى من طريق ابن عبد البر، غير أن المؤلف حذف من كلامه: (وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر). ووصل رواية عبدالرزاق عن الزهري برواية موسى بن عقبة حتى صارتا كأنهما رواية واحدة وبدا للناظر في سياقه أن القصة بناء المسجد على القبر هي من رواية عبدالرزاق عن الزهري، وإنما هي من رواية موسى بن عقبة بدون إسناد! ثم وقفت على رواية موسى بن عقبة في ((تاريخ ابن عساكر)) (8/ 334/1) رواه بإسنادين عنه عن ابن شهاب مرسلاً ومعضلاً بلفظ: (وجعل عند قبره مسجداً) وهذا اللفظ - لو صح - أقلّ مخالفة، لأنه ليس نصاً في أن البناء كان على القبر، بل عنده، وشتان ما بينهما، وليس فيه أيضاً أن أبا جندل هو الذي بنى المسجد؛ فتأمل.
(2) رواه البخاري (2731، 2732).
(3) ((مختصر السيرة)) (3/ 331 - 339)
(4) رواه أحمد (4/ 323) (18930). قال شعيب الأرناؤوط محقق (المسند): إسناده حسن، محمد بن إسحاق وإن كان مدلساً وقد عنعن إلا أنه قد صرح بالتحديث في بعض فقرات هذا الحديث فانتفت شبهة تدليسه.
(5) ((تاريخ الطبري)) (3/ 271 - 285).

لا أعلم أحداً من العلماء ذهب إلى القول بهذه الشبهة، إلا مؤلف (إحياء المقبور) فإنه تمسك بها وجعلها عمدته في رد تلك الأحاديث المتقدمة واتفاق الأمة عليها، فقال ما نصه: وأما النهي عن بناء المساجد على القبور، فاتفقوا على تعليله بعلتين: إحداهما: أن يؤدي إلى تنجيس المسجد (1) ... وثانيهما: وهو قول الأكثرين بل الجميع حتى من نص على العلة السابقة أن ذلك قد يؤدي إلى الضلال والفتنة بالقبر، لأنه إذا وقع بالمسجد، وكان قبر ولي مشهور بالخير والصلاح، لا يؤمن مع طول المدة أن يزيد اعتقاد الجهلة فيه، ويؤدي بهم إلى فرط التعظيم إلى قصد الصلاة إليه، إذا كان في قبلة المسجد، فيؤدي بهم ذلك إلى الكفر والإشراك (2).
ثم ساق شيئاً من النقول في العلة المذكورة عن بعض العلماء منهم الإمام الشافعي، ثم قال المؤلف المشار إليه: والعلة المذكورة قد انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين، ونشأهم على التوحيد الخالص، واعتقاد نفي الشريك مع الله تعالى، وأنه سبحانه المنفرد بالخلق والإيجاد والتصريف (!) وبانتفاء العلة ينتفي الحكم المترتب عليها، وهو كراهة اتخاذ المساجد والقباب على قبور الأولياء والصالحين (3)!
... والجواب: أن يقال: أثبت العرش ثم انقش!
أثبت أولاً أن الخشية المذكورة هي وحدها علة النهي، ثم أثبت أنها قد انتفت، ودون ذلك خرط القتاد.
أما الأول: فإنه لا دليل مطلقاً على أن العلة هي الخشية المذكورة فقط، نعم من الممكن أن يقال: إنها بعض العلة، وأما حصولها بها فباطل، لأن من الممكن أيضاً أن يضاف إليها أمور أخرى معقولة كالتشبه بالنصارى، وكالإسراف في صرف المال فيما لا فائدة فيه شرعاً، وغير ذلك مما قد يبدو للباحث الناقد.
وأما زعمه أن العلة انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين إلخ. فهو زعم باطل أيضاً وبيانه من وجوه:
الأول: أن الزعم بُني على أصل باطل، وهو أن الإيمان بأن الله هو المنفرد بالخلق، والإيجاد كاف في تحقيق الإيمان المنجي عند الله تبارك وتعالى، وليس كذلك، فإن هذا التوحيد وهو المعروف عند العلماء بتوحيد الربوبية، كان يؤمن به المشركون الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، ومع ذلك فلم ينفعهم هذا التوحيد شيئاً، لأنهم كفروا بتوحيد الألوهية والعبادة، وأنكروه على النبي صلى الله عليه وسلم أشد الإنكار، بقولهم فيما حكاه الله عنهم: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5].
ومن مقتضيات هذا التوحيد الذي أنكروه ترك الاستغاثة بغير الله، وترك الدعاء والذبح لغير الله، وغير ذلك مما هو خاص بالله تعالى من العبادات، فمن جعل شيئاً من ذلك لغير الله تبارك وتعالى فقد أشرك به، وجعل له نداً وإن شهد له بتوحيد الربوبية، فالإيمان المنجي إنما هو الجمع بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإفراد الله بذلك، وهذا مفصّل في غير هذا الموضوع ...
الوجه الثاني:
_________
(1) قال الألباني: وهذه العلة باطلة من وجوه لا مجال لبيانها الآن، ومن أدلة ذلك بخصوص قبور الأنبياء: أن أجسادهم لا تبلى كما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف تنجس الأرض بهم؟!
(2) ((إحياء المقبور)) (ص18 - 19).
(3) ((إحياء المقبور)) (ص20 - 21).

علمت مما سبق من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حذَّر من اتخاذ المساجد على القبور في آخر حياته، بل في مرض موته، فمتى زالت العلة التي ذكرها؟ إن قيل: زالت عقب وفاته صلى الله عليه وسلم فهذا نقض لما عليه جميع المسلمين أن خير الناس قرنه صلى الله عليه وسلم، لأن القول بذلك يستلزم بناء على ما سبق من كلامه أن الإيمان لم يكن قد رسخ بعد في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، وإنما رسخ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم! ولذلك لم تزل العلة وبقي الحكم، وهذا مما لا أتصور أحداً يقول به لوضوح بطلانه. وإن قيل: زالت قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، قلنا: وكيف ذلك وهو صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن ذلك في آخر نَفَسٍ من حياته؟! ويؤيده:
الوجه الثالث: أن في بعض الأحاديث المتقدمة باستمرار الحكم إلى قيام الساعة ...
الوجه الرابع: أن الصحابة رضي الله عنهم إنما دفنوه في حجرته صلى الله عليه وسلم خشية أن يتخذ قبره مسجداً، عن عائشة رضي الله عنها في الحديث (1)، فهذه خشية إما أن يقال: إنها كانت مُنصبة على الصحابة أنفسهم، أو على من بعدهم، فإن قيل بالأول، قلنا: فالخشية على من بعدهم أولى، وإن قيل بالثاني، وهو الصواب عندنا، فهو دليل قاطع على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يرون زوال العلة المستلزم زوال الحكم، لا في عصرهم ولا فيما بعدهم، فالزعم بخلاف رأيهم ضلال بيّن. ويؤيده:
الوجه الخامس: أن العمل استمر من السلف على هذا الحكم ونحوه، مما يستلزم بقاء العلة السابقة، وهي خشية الوقوع في الفتنة والضلال، فلو أن العلة المشار إليها كانت منتفية لما استمر العمل على معلولها، وهذا بيّن لا يخفى والحمد لله، وإليك بعض الأمثلة على ما ذكرنا:
1 - عن عبدالله بن شرحبيل بن حسنة قال: رأيت عثمان بن عفان يأمر بتسوية القبور، فقيل له: هذا قبر أم عمرو بنت عثمان! فأمر به فسوّي (2).
2 - عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته)) (3) ...
3 - عن أبي بردة قال: أوصى أبو موسى حين حضره الموت فقال: ((إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا المشي ولا يتبعني مجمر، ولا تجعلوا في لحدي شيئاً يحول بيني وبين التراب، ولا تجعلوا على قبري بناء وأشهدكم أني بريء من كل حالقةٍ، أو سالقةٍ، أو خارقةٍ))، قالوا: أو سمعت فيها شيئاً؟ قال: نعم، من رسول الله صلى الله عليه وسلم (4).
4 - عن أنس: كان يكره أن يُبنى مسجد بين القبور (5).
5 - عن إبراهيم أنه: كان يكره أن يجعل على القبر مسجداً (6).
وإبراهيم هذا هو ابن يزيد النخعي الثقة الإمام، وهو تابعي صغير مات سنة 96هـ، فقد تلقى هذا الحكم بلا شك من بعض كبار التابعين من الصحابة، ففيه دليل قاطع على أنهم كانوا يرون بقاء هذا الحكم واستمراره بعده صلى الله عليه وسلم، فمتى نسخ؟ ‍‍!
_________
(1) رواه البخاري (1390)، ومسلم (529).
(2) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/ 28). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): سنده صحيح.
(3) رواه مسلم (969).
(4) رواه أحمد (4/ 397) (19565)، والبيهقي (3/ 395). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): إسناده قوي. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده حسن من أجل أبي حريز.
(5) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (2/ 153). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): ورجاله ثقات رجال الشيخين.
(6) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/ 23). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): سنده صحيح عنه.

6 - عن المعرور بن سويد قال: خرجنا مع عمر في حجة حجها، فقرأ بنا في الفجر: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1] ولإيلافِ قُرَيْشٍ [قريش:1]، فلما قضى حجه ورجع والناس يبتدرون، فقال: ما هذا؟ فقال: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هكذا هلك أهل الكتاب، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً! من عرضت له منكم فيها الصلاة، فليصل، ومن لم يعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل (1).
7 - عن نافع قال: بلغ عمر بن الخطاب أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت (2).
8 - عن قزعة قال: سألت ابن عمر: آتي الطور؟ فقال: دع الطور ولا تأتها، وقال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (3).
9 - عن علي بن حسين: أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه، (كذا الأصل) فيدخل فيها فيدعو، فدعاه فقال: ألا أحدثك بحديث سمعته من أبي عن جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي، فإن صلاتكم وتسليمكم تبلغني حيثما كنتم)) (4).
ويقويه ما أخرجه ابن أبي شيبة أيضاً، وابن خزيمة في حديث علي ابن حجر وابن عساكر من طريقين عن سهيل بن أبي سهيل أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فالتزمه ومسح، قال: فحصبني حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، (وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني) (5)
_________
(1) رواه عبدالرزاق في ((المصنف)) (2/ 118)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (2/ 151). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): سنده صحيح على شرط الشيخين.
(2) رواه ابن أبي شيبة (2/ 150). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): ورجاله ثقات كلهم، لكنه منقطع بين نافع وعمر فلعل الواسطة بينهما عبدالله بن عمر رضي الله عنهما. ثم قال: ثم استدركت فقلت: يبعد ذلك كله ما أخرجه البخاري فيه ((صحيحه)) (2958) من طريق أخرى عن نافع قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما: ((رجعنا من العام المقبل: فما اجتمع اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله)). يعني خفاءها عليهم. فهو نص على أن الشجرة لم تبق معروفة المكان حتى يمكن قطعها من عمر، فدل ذلك على ضعف رواية القطع الدال عليه الانقطاع الظاهر فيها نفسها. ومما يزيدها ضعفا ما روى البخاري (صحيحه) (4162) عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: ((لقد رأيت الشجرة، ثم أتيتها بعد، فلم أعرفها)).
(3) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (2/ 150)، والأزرقي في ((أخبار مكة)) (2/ 298). وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): إسناده صحيح.
(4) رواه أبو يعلى (1/ 361)، والضياء المقدسي في ((الأحاديث المختارة)) (428). قال ابن عبدالهادي المقدسي في ((الصارم المنكي)) (206): جيد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 6): رواه أبو يعلى، وفيه حفص بن ابراهيم الجعفري ذكره ابن أبى حاتم ولم يذكر فيه جرحاً، وبقية رجاله ثقات. وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (313)، والعجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 33): حسن. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): وسنده مسلسل بأهل البيت رضي الله عنهم، إلا أن أحدهم وهو علي بن عمر مستور، كما قال الحافظ في ((التقريب)) (1/ 700).
(5) رواه عبدالرزاق في ((المصنف)) (3/ 71)، وسعيد بن منصور في ((سننه)) مرسلاً كما في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (ص106)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (13/ 62). قال ابن القيم في ((إغاثة اللهفان)) (1/ 301)، وابن عبدالهادي الحنبلي في ((الصارم المنكي)) (322): مرسل. قال الألباني في ((أحكام الجنائز)) (ص220): مرسلٌ بإسنادٍ قوي.

10 - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني (1) حيثما كنتم)) (2).
11 - ورأى ابن عمر فسطاطاً على قبر عبدالرحمن فقال: انزعه يا غلام فإنما يظله عمله (3).
12 - عن أبي هريرة: أنه أوصى أن لا يضربوا على قبره فسطاطاً (4).
13 - وروى ابن أبي شيبة وابن عساكر مثله عن أبي سعيد الخدري (5).
14 - عن محمد بن كعب قال: هذه الفساطيط التي على القبور محدثة (6).
15 - سعيد بن المسيب أنه قال في مرضه الذي مات فيه: إذا ما مت، فلا تضربوا على قبري فسطاطاً (7).
16 - عن سالم مولى عبدالله بن علي بن حسين قال: أوصى محمد بن علي أبو جعفر قال: لا ترفعوا قبري على الأرض (8).
17 - عن عمرو بن شرحبيل قال: لا ترفعوا جدثي - يعني القبر - فإني رأيت المهاجرين يكرهون ذلك (9).
واعلم أن هذه الآثار وإن اختلفت دلالاتها، فهي متفقة على النهي في الجملة عن كل ما يُنبئ عن تعظيم القبور تعظيماً يخشى منه الوقوع في الفتنة والضلال، مثل بناء المساجد والقباب على القبور، وضرب الخيام عليها، ورفعها أكثر من الحديث المشروع، والسفر والاختلاف إليها (10)، والتمسح بها، ومثل التبرك بآثار الأنبياء ونحو ذلك، فهذه الأمور كلها غير مشروعة عند السلف الذين سميناهم من الصحابة وغيرهم، وذلك يدل على أنهم كانوا جميعاً يرون بقاء علة النهي عن بناء المساجد على القبور وتعظيمها بما لم يشرع، ألا وهي خشية الإضلال والافتتان بالموتى كما نص عليها الإمام الشافعي رحمه الله، بدليل استمرارهم على القول بالحكم المعلول بهذه العلة، فإن بقاء أحدهم يستلزم بقاء الآخر، كما لا يخفى، وهذا بالنسبة لمن نص منهم على كراهية بناء المساجد على القبور ظاهراً، أما الذين صرحوا بالنهي عن غير ذلك، مثل: رفع القبر وضرب الخيمة عليه ونحوه مما أجملنا الكلام عليه آنفاً، فهم يقولون ببقاء الحكم المذكور من باب أولى، وذلك لوجهين:
الأول: أن بناء المساجد على القبور أشد جرماً من رفع القبور وضرب الخيام عليها، لما ورد من اللعن على البناء، دون الرفع والضرب المذكور.
الثاني: أن المفروض في أولئك السلف الفهم والعلم، فإذا ثبت عن أحد منهم النهي عن شيء هو دون ما نهى عنه الشارع، ولم ينقل هذا النهي عن أحدهم، فنحن نقطع بأنه ينهى عنه أيضاً، حتى ولو فرض عدم بلوغ النهي إليه لأن نهيه عما هو دون هذا يستلزم النهي عنه من باب أولى، كما لا يخفى.
فثبت أن القول بانتفاء العلة المذكورة وما بني عليه كله باطل، لمخالفته نهج السلف الصالح رضي الله عنهم، مع مصادمته للأحاديث الصحيحة، والله المستعان. تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد لمحمد ناصر الدين الألباني - 68
_________
(1) قال الألباني: قوله: (تبلغني) هذا الحديث وغيره مما تقدم صريح في أنه عليه الصلاة والسلام لا يسمع صلاة المصلين عليه، فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يسمعها فقد كذب عليه، فكيف حال من يزعم أنه صلى الله عليه وسلم يسمع غيرها؟!
(2) رواه أبو داود (2042). وسكت عنه. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (892) - كما أشار لذلك في مقدمته -، والنووي في ((الأذكار)) (154). وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 169): إسناده حسن، وله شواهد. وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (3/ 314): حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.
(3) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (1461)، ورواه موصولاً ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (35/ 41 - 42) من طريق ابن سعد في ((الطبقات الكبرى))، وانظر: ((تغليق التعليق)) لابن حجر (2/ 492 - 493).
(4) رواه عبدالرزاق في ((المصنف)) (3/ 418)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/ 23)، وابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (4/ 338). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): إسناده صحيح.
(5) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/ 24)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (20/ 396)، ورواه عبدالرزاق في ((المصنف)) (3/ 430). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): إسناده ضعيف، لكن له طرق أخرى عند ابن عساكر فهو بها صحيح.
(6) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/ 24). وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): رجاله ثقات غير ثعلبة وهو ابن الفرات، قال أبو حاتم وأبوزرعة: لا أعرفه، كما في ((الجرح والتعديل)) (1/ 464 - 465).
(7) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (5/ 142).
(8) رواه الدولابي في ((الكنى)) (3/ 154) قال الألباني في ((تحذير الساجد)): ورجاله ثقات غير سالم هذا فهو مجهول. كما قال الذهبي في ((الميزان))، والحلي الشيعي في ((خلاصة الأقوال)) (ص 108).
(9) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (6/ 108) قال الألباني في ((تحذير الساجد)): سنده صحيح.
(10) الاختلاف إليها أي: إكثار التردد لزيارتها، وهذا مستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل قبري عيداً)).

رابعاً: النهي عن اتخاذ قبر النبي صلى الله عليه وسلم عيدا
فأما العموم: فقال أبو داود في (سننه): حدثنا أحمد بن صالح، قال: قرأت على عبدالله بن نافع، أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (1)
فمن ذلك: ما رواه أبو يعلى الموصلي في (مسنده)، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا جعفر بن إبراهيم - من ولد ذي الجناحين- حدثنا علي بن عمر، عن أبيه، عن علي بن الحسين: أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو. فنهاه، فقال: ألا أحدّثكم حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم)) رواه أبو عبدالله محمد بن عبدالواحد المقدسي الحافظ، فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على (الصحيحين)، وشرطه فيه أحسن من شرط الحاكم في (صحيحه) (2).
وروى سعيد في (سننه)، حدثنا حبان بن علي، حدثني محمد بن عجلان، عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني)) (3).
وقال سعيد: حدثنا عبدالعزيز بن محمد، أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر، فناداني، وهو في بيت فاطمة يتعشى. فقال: هلم إلى العشاء؟ فقلت لا أريده. فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم)). ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء (4).
_________
(1) رواه أبو داود (2042). وسكت عنه. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (892) - كما أشار لذلك في مقدمته -، والنووي في ((الأذكار)) (154). وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 169): إسناده حسن وله شواهد. وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (3/ 314): حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.
(2) رواه أبو يعلى (1/ 361)، والضياء المقدسي في ((الأحاديث المختارة)) (428). قال ابن عبدالهادي المقدسي في ((الصارم المنكي)) (206): جيد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 6): رواه أبو يعلى، وفيه حفص بن إبراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً، وبقية رجاله ثقات. وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (313)، والعجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 33): حسن. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): وسنده مسلسل بأهل البيت رضي الله عنهم، إلا أن أحدهم وهو علي بن عمر مستور، كما قال الحافظ في ((التقريب)) (1/ 700).
(3) رواه سعيد بن منصور في ((سننه)) مرسلاً كما في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (ص: 322)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (13/ 62).
(4) رواه سعيد بن منصور في ((سننه)) مرسلاً كما في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (ص: 106)، ورواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (3/ 71). قال ابن القيم في ((إغاثة اللهفان)) (1/ 301)، وابن عبدالهادي الحنبلي في ((الصارم المنكي)) (ص: 322): مرسل. قال الألباني في ((أحكام الجنائز)) (ص220): مرسل بإسنادٍ قوي.

فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لاسيما وقد احتج من أرسله به وذلك يقتضي ثبوته عنده، ولو لم يكن روي من وجوه مسندة غير هذين. فكيف وقد تقدم مسندا؟
ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدا. فقبر غيره أولى بالنهي كائناً من كان، ثم إنه قرن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تتخذوا بيوتكم قبورا)) أي: لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم. وفي (الصحيحين) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورا)) (1).
وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان ينفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه)) (2)، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أعقب النهي عن اتخاذه عيداً بقوله: ((صلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (3) وفي الحديث الآخر: ((فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم)) (4) يشير بذلك صلى الله عليه وسلم إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً، والأحاديث عنه بأن صلاتنا وسلامنا تعرض عليه كثيرة.
مثل ما روى أبو داود من حديث أبي صخر حميد بن زياد، عن يزيد بن عبدالله بن قسيط عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) (5) صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث على شرط مسلم.
_________
(1) رواه البخاري (432)، ومسلم (777).
(2) رواه مسلم (780).
(3) رواه أبو داود (2042). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وسكت عنه. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (892) - كما أشار لذلك في مقدمته -، والنووي في ((الأذكار)) (154). وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 169): إسناده حسن وله شواهد. وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (3/ 314): حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.
(4) رواه أبو يعلى (1/ 361)، والضياء المقدسي في ((الأحاديث المختارة)) (428). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال ابن عبدالهادي المقدسي في ((الصارم المنكي)) (206): جيد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 6): رواه أبو يعلى، وفيه حفص بن ابراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً، وبقية رجاله ثقات. وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (313)، والعجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 33): حسن.
(5) رواه أبو داود (2041). وسكت عنه. وقال النووي في ((الأذكار)) (154): إسناده صحيح. وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/ 299)، والعراقي في ((المغني)) (1/ 409): إسناده جيد. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن.

ومثل ما روى أبو داود - أيضاً - عن أوس بن أوس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي))، قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: ((إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء)) (1) ...
وفي النسائي وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله وكَّلَ بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام)) (2) إلى أحاديث أخر في هذا الباب متعددة.
ثم إن أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنه، نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم، واستدل بالحديث، وهو راوي الحديث الذي سمعه من أبيه الحسين عن جده علي، وأعلم بمعناه من غيره، فبيّن أن قصده للدعاء ونحوه اتخاذ له عيداً.
وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته، كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند دخول المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً. فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت، الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا لها أضبط. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 2/ 659
_________
(1) رواه أبو داود (1047)، ورواه النسائي (3/ 91)، وابن ماجه (1636)، وأحمد (4/ 8) (16/ 207). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال النووي في ((المجموع)) (4/ 548): إسناده صحيح. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (2/ 94) - كما أشار لذلك في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.
(2) رواه النسائي (3/ 43) بلفظ: ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام)) وبلفظ النسائي رواه أحمد (1/ 387) (3666)، والحاكم (2/ 456). وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 416) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح.

خامساً: زيارة القبور
قال الشيخ حافظ الحكمي-رحمه الله تعالى- في شرح الأبيات الآتية من منظومة (سلم الوصول):
فإنْ نَوَى الزَّائِرُ فيمَا أضمَرَهُ ... في نَفْسِهِ تَذْكِرَةً بالآخِرَهْ
ثُمَّ الدُّعَا لَهُ ولِلأَمْوَاتِ ... بِالعَفْوِ والصفْحِ عَنِ الزَّلاَّتِ
وَلَمْ يَكُنْ شَدَّ الرِّحَالِ نَحْوَها ... وَلَمْ يقُلْ هَجْراً كَقَوْلِ السُّفَهَا
فَتِلْكَ سُنَّةٌ أتَتْ صَرِيحَهْ ... في السُّنَنِ المُثْبَتَة الصَّحِيحَهْ
قال: زيارة القبور تأتي (على أقسام ثلاثة): زيارة سنيّة، وزيارة بدعية، وزيارة شركية ...

والبداءة بالشرعية لشرفها والندب إليها، ثم البدعية لكونها أخف جرماً من الشركية، ثم هي بعد ذلك. (فإن نوى الزائر) للقبور (فيما أضمره في نفسه) أي: كانت نيته بتلك الزيارة (تذكرة بالآخرة) أي ليتعظ بأهل القبور ويعتبر بمصارعهم إذ كانوا أحياء مثله يؤملون الآمال ويخولون الأموال، ويجولون في الأقطار بالأيام والليال، ويطمعون في البقاء ويستبعدون الارتحال، فبينما هم كذلك إذا بصارخ الموت قد نادى، فاستجابوا له على الرغم جماعات وفرادى، وأبادهم ملوكاً ونواباً وقواداً وأجناداً، وقدموا على ما قدَّموا غياً كان أو رشاداً، وصار لهم التراب لحفاً ومهاداً، بعد الغرف العالية التي كان عليها الحجاب أرصاداً، تساوى فيها صغيرهم وكبيرهم، وغنيهم وفقيرهم، وشريفهم وحقيرهم، ومأمورهم وأميرهم. اتفق ظاهر حالهم واتحد، ولا فرق للناظر إليهم يميز به أحداً من أحد. وأما باطناً فالله أكبر لو كشف للناظرين الحجاب، لرأوا من الفروق العجب العجاب، فهؤلاء لهم طوبى وحسن مآب، وأولئك في أسوأ حالة وأشد العذاب، فليعلم الواقف عليهم الناظر إليهم، أنه بهم ملتحق، ولإحدى الحالتين مستحق، فليتأهب لذلك، وليتب إلى العزيز المالك، وليلتجئ إليه من شر كل ما هنالك. (ثم) قصد أيضاً (الدعا) أي: دعاء الله عز وجل (له) أي لنفسه (وللأموات) من المسلمين (بالعفو) من الله عز وجل (والصفح عن الزلات) وكذا يدعو لسائر المسلمين بذلك (و) مع ذلك (لم يكن شد الرحال نحوها) الضمير للقبور لما في (الصحيحين) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)) (1). (ولم يقل هجراً) أي محظوراً شرعاً (كقول) بعض (السفها) لما في (السنن) من حديث بريدة قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجراً)) (2) (فتلك) الإشارة إلى النوع المذكور من الزيارة (سنة) طريقة نبوية (أتت صريحة) أي واضحة ظاهرة (في السنن) أي الأحاديث (المثبتة) في دواوين الإسلام (الصحيحة) سنداً ومتناً، منها: حديث بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((وقد كنت نهيتك عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد صلى الله عليه وسلم في زيارة قبر أمه فزوروها، فإنها تذكر الآخرة)) رواه الترمذي وصححه (3). وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: ((استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزورها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت)) (4). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)) رواه أحمد ومسلم والنسائي (5). ولأحمد من حديث عائشة رضي الله عنها مثله وزاد: ((اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنّا بعدهم)) (6).
_________
(1) رواه البخاري (1197)، ومسلم (827).
(2) رواه النسائي (4/ 89)، وأحمد (5/ 361) (23102). وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): حديث صحيح.
(3) رواه الترمذي (1054). وقال: حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. وهو جزء من حديث رواه مسلم (1977).
(4) رواه مسلم (976).
(5) رواه مسلم (249)، والنسائي (150)، وأحمد (2/ 300) (7980).
(6) رواه أحمد (6/ 71) (24469). قال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (4/ 222): حسن. قال شعيب الأرناؤوط محقق (المسند): إسناده ضعيف. وضعف هذه الزيادة الألباني في ((ضعيف سنن ابن ماجه)).

وعن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية)) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه (1)، زاد مسلم في رواية ((يرحم الله المتقدمين منا ومنكم والمتأخرين)) (2) ... وكذلك الأحاديث في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد كثيراً يدعو لهم ويترحم عليهم (3).
وكان الصحابة إذا أتوا قبره صلى الله عليه وسلم صلوا وسلموا عليه فحسب، كما كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه)) (4). وكذا التابعون ومن بعدهم من أعلام الهدى ومصابيح الدجى لم يذكر عنهم في زيارة القبور غير العمل بهذه الأحاديث النبوية وأفعال الصحابة لم يعدلوا عنها ولم يستبدلوا بها غيرها بل وقفوا عندها، فهذه الزيارة الشرعية المستفادة من الأحاديث النبوية، وعليها درج الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان، إنما فيها التذكر بالقبور والاعتبار بأهلها والدعاء لهم والترحم عليهم وسؤال الله العفو عنهم، فمن ادعى فيها غير هذا طولب بالبرهان، وأنى له ذلك ومن أين يطلبه؟ بل كذب وافترى، وقفا ما ليس له به علم. بلى إن العلوم الشرعية دالة على ضلاله وجهله معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ الحكمي – 2/ 646
_________
(1) رواه مسلم (975)، وابن ماجه (1547)، وأحمد (5/ 353) (23035).
(2) رواه مسلم (974) من حديث عائشة رضي الله عنها. بلفظ: (ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين).
(3) رواه مسلم (974).
(4) رواه عبدالرزاق في ((المصنف)) (3/ 576)، وابن أبي شيبة (3/ 28)، والبيهقي (5/ 245). وقال الألباني في ((فضل صلاة النبي)) (100): إسناده موقوف صحيح.

سادساً: حكم الدعاء عند القبور
قال الشيخ حافظ الحكمي-رحمه الله تعالى- في شرح منظومة سلم الوصول:
أو قصد الدعاء والتوسلا ... بهم إلى الرحمن جلّ وعلا
فبدعة محدثة ضلالة ... بعيدة عن هدي ذي الرسالة
أو قصد الدعاء من الصلاة وغيرها، أو الاعتكاف عند قبورهم أو نحو ذلك (والتوسلا) بألف الإطلاق (بهم) أي بأهل القبور (إلى الرحمن جل وعلا) عما ائتفكه أهل الزيغ والضلال (فبدعة محدثة) لم يأذن الله تعالى بها (ضلالة) كما قال صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة)) (1) وقال صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (2). وقال صلى الله عليه وسلم في روايةٍ: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (3). وقال صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)) (4) وغير ذلك. فإن من قال: اللهم إني أسألك بجاه فلان، وهو ميت أو غائب، وإن كان يرى أنه لم يدع إلا الله ولم يعبد سواه فهو قد عبد الله بغير ما شرع وابتدع في الدين ما ليس منه واعتدى في دُعائه ودعا الله بغير ما أمره أن يدعوه به، فإن الله تعالى إنما أمرنا أن ندعوه بأسمائه الحسنى كما قال تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] ولم يشرع لنا أن ندعوه بشيء من خلقه البتة، بل قد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن نقسم بشيء من المخلوقات مطلقاً فكيف بالإقسام بها على الله عز وجل. معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ الحكمي – بتصرف – 2/ 650
ولهذا فإن الدعاء عند القبور وغيرها من الأماكن ينقسم إلى نوعين:
أحدهما: أن يحصل الدعاء في البقعة بحكم الاتفاق، لا لقصد الدعاء فيها، كمن يدعو الله في طريقه، ويتفق أن يمر بالقبور، أو كمن يزورها، فيسلم عليها، ويسأل الله العافية له وللموتى، كما جاءت به السنة، فهذا ونحوه لا بأس به.
الثاني: أن يتحرى الدعاء عندها، بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره، فهذا النوع منهي عنه، إما نهي تحريم أو تنزيه، وهو إلى التحريم أقرب، والفرق بين البابين ظاهر. فإن الرجل لو كان يدعو الله، واجتاز في ممره بصنم، أو صليب، أو كنيسة، أو كان يدعو في بقعة، وهناك صليب هو عنه ذاهل، أو دخل كنيسة ليبيت فيها مبيتاً جائزاً، ودعا الله في الليل، أو بات في بيت بعض أصدقائه ودعا الله، لم يكن بهذا بأس. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 2/ 682
_________
(1) رواه مسلم (867) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(2) رواه البخاري (2695)، ومسلم (1718) (17). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) رواه مسلم (1718). ورواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (7350) كتاب: الاعتصام، باب: إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ. من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (4/ 126) (17184). قال الترمذي: هذا حديث صحيح. قال الشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (1/ 160)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.

سابعاً: الكلام على الزيارة الشركية
قال الشيخ حافظ الحكمي-رحمه الله تعالى- في شرح الأبيات الآتية من منظومة (سلم الوصول):
وَإِنْ دَعَا الْمَقْبُورَ نَفْسَهُ فَقَدْ ... أَشْرَكَ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَجَحَدْ
لَن يَقْبَلَ اللهُ تَعَالَى مِنْهُ ... صَرْفَاً ولاَ عَدْلاً فَيَعْفُوْ عَنْهُ
ثُمَّ الدُّعَا لَهُ وَلِلأَمْوَاتِ ... بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الزَّلاَّتِ
إِذْ كُلُّ ذَنْبٍ مُوشِكُ الْغُفْرَانِ ... إلاَّ اتِّخَاذَ النِّدِّ للرَّحْمَنِ

قال: (وإن دعا) الزائر (المقبور نفسه) من دون الله عز وجل وسأل منه ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل من جلب خير أو دفع ضر أو شفاء مريض أو رد غائب أو نحو ذلك من قضاء الحوائج (فقد أشرك) في فعله ذلك (بالله العظيم) المتعالي عن الأضداد والأنداد والكفؤ والولي والشفيع بدون إذنه (وجحد) حق الله عز وجل على عباده وهو إفراده بالتوحيد وعبادته وحده لا شريك له ونفي ضد ذلك عنه، قال الله تعالى: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]، وقال تعالى: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ. وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ [يونس:106 - 107]، وقال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5 - 6]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأعراف:194] الآيات.
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج:73] الآيات وقال تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر/13] وقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57] الآيات، وغيرها ما لا يحصى يخبر الله تعالى أن من دعا مع الله إلهاً آخر ولو لحظة فقد كفر وإن مات على ذلك فلا فلاح له أبداً، ولو فعل ذلك نبيه لكان من الظالمين، وأنه لا كاشف للضر غيره ولا جالب للخير سواه، وأنه لا أضل ممن يدعو من دونه سواه، وأن من عبد من دون الله يكون عدواً لعابده يوم القيامة وكافراً بعبادته إياه من دون الله تعالى، وأنهم كلهم عباد مثل عابديهم مخلوقون مربوبون مملوكون تحت تصرف الله وقهره لا يستجيبون لمن دعاهم ولا يقدرون على استنقاذ ما استلبه الذباب فكيف يقدرون على قضاء شيء من حوائج عابديهم؟ بل قد أخبرنا عز وجل أنهم لا يسمعون دعاء من دعاهم، ولو سمعوا دعاءه ما استجابوا له، وأخبرنا أن من عبدوهم من الصالحين كالملائكة وعيسى وعزير وغيرهم أنهم لا يملكونَ كشف ضر من دعاهم ولا تحويله من حال إلى حال، بل هم يبتغون الوسيلة إلى ربهم والقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، فينبغي للعباد الاقتداء بهم في ذلك الابتغاء والرجاء والخوف من الله عز وجل، لا دعاؤهم دونه، تعالى الله عما يشركون.
(لا يقبل الله تعالى منه) أي من ذلك الداعي مع الله غيره المتخذ من دونه أولياء (صرفاً) أي نافلةً (ولا عدلاً) أي ولا فريضةً (فيعفو عنه) في ذلك لأن الكافر عمله لا شيء، قال الله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105] وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [الفرقان:23] وقال تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ [إبراهيم:18]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39] الآيات، وقال تعالى لصفوة خلقه وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام: ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:88] وقال لسيدهم وخاتمهم وأكرمهم على ربه تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65].
(إذ) حرف تعليل (كل ذنب) لقي العبد ربه به (موشك الغفران) أي يرجى ويؤمل أن يغفر ويعفو عنه (إلا اتخاذ الند للرحمن) فإن ذلك لا يغفر ولا يخرج صاحبه من النار ولا يجد ريح الجنة، قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48] وقال تعالى: وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء:116] وقال تعالى: مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72] وقال تعالى: وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]. معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ الحكمي – 2/ 656

المبحث الرابع: الغلو في الصالحين
لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو على وجه العموم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)) (1)
وثبت أن الغلو في الصالحين كان هو أول وأعظم سبب أوقع بني آدم في الشرك الأكبر، فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه أخبر عن أصنام قوم نوح أنها صارت في العرب، ثم قال: (أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسخ العلم، عبدت) (2).
ولذلك ينبغي للمسلم أن يحذر من التساهل في هذا الباب؛ لئلا يؤدي به أو يؤدي بمن يراه أو يقلده أو يأتي بعده إلى الوقوع في الشرك الأكبر.
ومن أنواع الغلو المحرم في حق الصالحين والذي يوصل إلى الشرك:
أولاً: المبالغة في مدحهم، كما يفعل كثير من الرافضة، وقلدهم في ذلك كثير من الصوفية، وقد أدت هذه المبالغة بكثير منهم في آخر الأمر إلى الوقوع في الشرك الأكبر في الربوبية، وذلك باعتقاد أن بعض الأولياء يتصرفون في الكون، وأنهم يسمعون كلام من دعاهم ولو من بعد، وأنهم يجيبون دعاءه، وأنهم ينفعون ويضرون، وأنهم يعلمون الغيب، مع أنه ليس لديهم دليل واحد يتمسكون به في هذا الغلو، سوى أحاديث مكذوبة أو واهية ومنامات، وما يزعمونه من الكشف إما كذباً، وإما من أثر تلاعب الشيطان بهم، وقد أدى بهم هذا الغلو إلى الشرك في الألوهية أيضاً، فدعو الأموات من دون الله، واستغاثوا بهم، وهذا والعياذ بالله من أعظم الشرك.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو في مدحه عليه الصلاة والسلام، فقال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم، فإنما أنا عبد فقولون: عبد الله ورسوله)) (3)، رواه البخاري، وإذا كان هذا في حقه صلى الله عليه وسلم فغيره من البشر أولى أن لا يزاد في مدحهم، فمن زاد في مدحه صلى الله عليه وسلم أو في مدح غيره من البشر فقد عصى الله تعالى، ومن دعا إلى هذا الغلو وأصر عليه بعد علمه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم فقد رد سنته صلى الله عليه وسلم، ودعا الناس إلى عدم اتباعه عليه الصلاة والسلام، وإلى اتباع وتقليد اليهود والنصارى في ضلالهم وغلوهم في أنبيائهم، والذي نهاهم الله تعالى عنه.
والنبي صلى الله عليه وسلم له فضائل كبيرة ثابتة في كتاب الله تعالى وفي صحيح سنته عليه الصلاة والسلام، فهو عليه الصلاة والسلام ليس في حاجة إلى أن يكذب ويزور الناس له فضائل صلوات ربي وسلامه عليه.
ثانياً: تصوير الأولياء والصالحين: من المعلوم أن أول شرك حدث في بني آدم سببه الغلو في الصالحين بتصويرهم، كما حصل من قوم نوح عليه السلام، ...
ولخطر التصوير وعظم جرم فاعله وردت نصوص شرعية فيها تغليظ على المصورين، وتدل على تحريم التصوير لذوات الأرواح بجميع صوره وأشكاله.
ومن النصوص الواردة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)) (4)
_________
(1) [4157])) رواه النسائي (5/ 268) وأحمد (1/ 347) (3248) وابن حبان (9/ 183) والحاكم (1/ 637) وأبو يعلى (4/ 316) قال الحاكم حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه, وصححه ابن عبد البر في ((التمهيد)) (24/ 428) وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 85): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).
(2) رواه البخاري (4920).
(3) رواه البخاري (3445) بلفظ (ابن مريم). من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(4) رواه البخاري (5950)، ومسلم (2109).

رواه البخاري ومسلم، وروى البخاري ومسلم أيضاً عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه أتاه رجل فقال: إني رجل أصور هذه الصور، فأفتني فيها، فقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً فتعذبه في جهنم)) (1)
وقال: إن كنت لابد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له.
وثبت عن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج الأسدي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) (2). رواه مسلم
ولذلك فإنه ينبغي للمسلم أن لا يتساهل في أمر التصوير بجميع أنواعه، سواء منه ما كان مجسماً، كالتماثيل وغيرها مما له ظل – وهو أشد حرمة وأعظم إثماً – أم ما كان على ورق, أو جدار, أو خرقة أو غيرها، ويعظم خطر التصوير إذا كان المصور من كبار أهل العلم، أو ممن لهم منزلة كبيرة في قلوب الناس.
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: (التصوير معناه نقل شكل الشيء وهيئته بواسطة الرسم أو الالتقاط بالآلة أو النحت، وإثبات هذا الشكل على لوحة, أو ورقة, أو تمثال، وكان العلماء يتعرضون للتصوير في مواضيع العقيدة؛ لأن التصوير وسيلة من وسائل الشرك، وادعاء المشاركة لله بالخلق أو المحاولة لذلك، وأول شرك حدث في الأرض كان بسبب التصوير ... فالتصوير هو منشأ الوثنية؛ لأن تصوير المخلوق تعظيم له، وتعلق به في الغالب، خصوصاً إذا كان المصور له شأن من سلطة, أو علم, أو صلاح، وخصوصاً إذا عظمت الصورة بنصبها على حائط, أو إقامتها في شارع أو ميدان، فإن ذلك يؤدي إلى التعلق بها من الجهال وأهل الضلال ولو بعد حين، ثم هذا فيه أيضاً فتح باب لنصب الأصنام والتماثيل التي تعبد من دون الله) (3). تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين - بتصرف– ص: 275
_________
(1) رواه مسلم (2110).
(2) رواه مسلم (969).
(3) ينظر كتاب ((الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد)).

المبحث الخامس: تقديس الأشخاص والأشياء
التقديس: هو التعظيم، ويستعمل عرفاً: فيما جاوز الحد المشروع.
والأشياء: جمع شيء، والمراد به الأماكن, والأزمان, والاجتماعات.
وغاية التعظيم وكماله لا يكون إلا لله وحده لا شريك له، لما له من صفات العظمة ونعوت الجلال والكمال، فأسماؤه حسنى كما قال سبحانه: وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف: 180] وأفعاله كلها حكمة كما وصف نفسه فقال: فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [البروج: 16] وشرعه كله عدل كما قال جل شأنه: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50] ونعمه سابغة على عباده قال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34] فهو المستحق وحده لأعظم التقديس وتمامه، فهو المحمود على كل شيء لذاته، وأما غيره سبحانه فإنما يستحق من التعظيم بحسب ما له من مكانة عند الله، وبالطريقة التي شرعها الله لتعظيمه. وكل تعظيم خرج عن ذلك فهو تعظيم محرم لا يأذن به الله.
وبناء على ذلك فإن تعظيم الأشخاص لا يكون إلا بمقدار موافقتهم لشرعه فيستحقون بذلك موالاة المؤمنين ومحبتهم واحترامهم هذا، والتعظيم بناء على ذلك على قسمين:
1 - تعظيم أذن الله به، وهو ما كان في حدود المشروع.
2 - تعظيم لم يأذن الله به، وهو ما جاوز المشروع وهو المسمى بالتقديس.
وعليه فلا تقديس إلا لله وحده، وهو ما تقدم من غاية التعظيم كماله وتمامه وأعلاه. وبذا لا يكون صالحاً لسواه, ولا يوصف به أحد إلا إياه.
ومن الأماكن, والأزمان, والاجتماعات ما جاءت الشريعة بتعظيمه, ورفعة مكانه ومكانته، وذلك بما شرعه الله فيها من العبادة التي يحبها ويرضاها، فيختص التعظيم بها دون سواها، وذلك كالكعبة المشرفة التي شرع تعظيمها بالطواف حولها عبادة لله، وبين الصفا والمروة التي شرع السعي بينهما عبادة لله، وعرفة التي شرع الله الوقوف فيه في يوم التاسع من ذي الحجة عبادة لله، والمسجد النبوي الذي شرع الله تعظيمه بعبادة الله فيه وزيادة الأجر لمن فعلها فيه، والمسجد الأقصى الذي شرع الله تعظيمه بزيادة ثواب العبادة فيه، ونحو ذلك.
وهكذا فقد عظم الله أمر أيام الحج، وأيام التشريق، وشهر رمضان، والاثنين والخميس من كل أسبوع، والأمر نفسه في العيدين، والجمعة، والاجتماع لصلاة الخسوف, والكسوف, والاستسقاء، ونحو ذلك.
فتعظيمها بما عظمها الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز ذلك؛ لأنه عبادة لله، والعبادات توقيفية على معنى أن لا يزاد فيها ولا ينقص إلا بدليل من الكتاب والسنة.

وأما ما عظم من الأماكن والأزمان والاجتماعات، كالقبور، وبعض الأيام كيوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره، والاجتماع فيه كالاحتفال بالإسراء والمعراج، وذكرى الهجرة النبوية، ونحو ذلك. فهي من البدع المنكرة المحرمة كما قال صلى الله عليه وسلم: ((وكل بدعة ضلالة)) ولو كان هذا الأمر مشروعاً لشرعه الله ورسوله، ولفعله من بعده من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فلما لم يكن شيء من ذلك دل على أنه ليس مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لاسيما وأن دين الله قد كمل وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يترك شيئاً نافعاً، أو ضاراً في أمر الدين والدنيا إلا بينه وحث أمته عليه أو حذرهم منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزغ عنها إلا هالك)) (1). وقال سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3] , كما أنه لا يجوز شرعاً أن تشرع عبادات خاصة حتى بأيام أذن الله تعظيمها إلا ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن تخص ليلة الجمعة بقيام, أو يومها بصيام)).
ولأن تخصيص الأماكن والأيام والاجتماعات بذلك في كل عام أو نحوه من اتخاذها عيداً, والرسول صلى الله عليه وسلم نص على أن للمسلمين عيدين الفطر والأضحى، مما يدل على أنه لا عيد غيرهما، فمن اعتاد شيئاً في وقت معين يعظمه بالاجتماع، أو مكان معين، فقد اتخذه عيداً، وشرع ما لم يشرع الله.
كما أنه تحرم موافقة أصحاب الملل الأخرى في أماكن عبادتهم, أو أيامها, أو اجتماعاتها؛ لأن في ذلك تشبهاً بهم. ومن تشبه بقوم فهو منهم، ومن هنا لما جاء الرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مكان نذر الذبح فيه، سأله هل هو مكان لوثن من أوثان الجاهلية أو عيد من أعيادهم؟ فلما بين له الرجل أنه ليس كذلك أذن له، مما يدل على أنه إذا كان مكاناً لعباداتهم أو اجتماعاتهم فيحرم على المسلم موافقتهم فيه، كما أنه صلى الله عليه وسلم شرع صوم التاسع من محرم مع العاشر لما في تخصيصه من شبهة الموافقة لليهود. المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم بن محمد البريكان– ص: 180
_________
(1) رواه ابن ماجه (43) , وأحمد (4/ 126) (17182). من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 68): إسناده حسن, وصححه الشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (2/ 131) , والألباني في ((صحيح ابن ماجه)).

المبحث السادس: الأعياد والاحتفالات البدعية
الأعياد: جمع عيد، وهو اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد؛ إما يعود السنة، أو بعود الأسبوع, أو الشهر, أو نحو ذلك.
فالعيد يجمع أموراً منها يوم عائد كيوم الفطر، ويوم الجمعة، ومنها اجتماع فيه، ومنها أعمال تجمع ذلك من العبادات أو العادات، وقد يختص العيد بمكان تعينه، وقد يكون مطلقاً، وكل من هذه الأمور قد يسمى عيداً.
فالزمان كقوله صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة: ((إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيداً)) (1)، والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس رضي الله عنه: (شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) (2).
والمكان كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا قبري عيداً)) (3).
وقد يكون لفظ العيد اسماً لمجموع اليوم والعمل فيه كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعهما يا أبا بكر إن لكل قوم عيد، وإن عيدنا هذا اليوم)) (4).
وبناء على ذلك فلا يجوز لأحد أن يلازم الحفاوة والاحتفال بيوم من الأيام، أو مكان من الأماكن، أو اجتماع من الاجتماعات لم يرد الشرع باتخاذه عيداً سواء كان ذلك بتخصيصه بعبادة من العبادات، أو اجتماع من الاجتماعات، أو عادة من العادات، فإن قارنه الموافقة لأعداء الله من الكفار, والمشركين, وأهل الكتاب من اليهود والنصارى كان الأمر أعظم حرمة وأشد خطراً، وذلك لما فيه من المشابهة الظاهرة بهم، والذي هو طريق للمشابهة في الباطن.
ولذا لما طلب منه رجل أن يذبح في مكان سماه (بوانة) قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل بها عيد من أعيادهم)) (يريد اجتماعاً معتاداً من اجتماعاتهم التي عندهم عيداً) فلما قال: لا. قال له: ((أوف بنذرك)). وهذا يقتضي أن كون البقعة مكاناً لعيدهم مانع من الذبح بها وإن نذر، كما أن كونها موضع أوثانهم كذلك، وإلا لما انتظم الكلام, ولا حسن الاستفصال. ومعلوم أن ذلك لما هو لتعظيم البقعة التي يعظمونها بالتعييد فيها، أو لمشاركتهم في التعييد فيها، أو لإحياء شعار عيدهم فيها، ونحو ذلك. إذ ليس الإمكان الفعل، أو نفس الفعل، أو زمانه.
فيحرم الاحتفال بعيد الميلاد، سواء كان للمسيح أو للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وغيرهما من الناس، لما في ذلك من مشابهة اليهود والنصارى، وهكذا كل احتفال أو اجتماع يعتاد كل أسبوع, أو شهر, أو سنة، ولم يأت من الشرع ما يدل على إباحته كعيد رأس السنة، أو الاحتفال بالهجرة، أو الإسراء، أو ليلة النصف من شعبان.
_________
(1) رواه البيهقي في ((السنن) (3/ 243)، والطبراني في ((الأوسط)) (2/ 372)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال البيهقي: مرسل وروي موصولا ولا يصح وصله. وقال أبو حاتم الرازي في ((العلل)) (1/ 399): وهم إنما يرويه مالك بإسناد مرسل. وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (11/ 211): [فيه] اضطراب عن يزيد بن سعيد ولا يصح من روايته في هذا الباب.
(2) رواه البخاري (962) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) رواه أبو يعلى (1/ 361)، والضياء المقدسي في ((الأحاديث المختارة)) (428). قال ابن عبدالهادي المقدسي في ((الصارم المنكي)) (206): جيد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 6): رواه أبو يعلى، وفيه حفص بن ابراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً، وبقية رجاله ثقات. وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (313)، والعجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 33): حسن. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): وسنده مسلسل بأهل البيت رضي الله عنهم، إلا أن أحدهم وهو علي بن عمر مستور، كما قال الحافظ في ((التقريب)) (1/ 700).
(4) رواه البخاري (3931) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ومن ذلك ما ابتدع هذه الأزمان من الأعياد الوطنية، والاحتفال بعيد الشجرة، والاحتفال بالأيام المبتدعة كيوم الغذاء، ويوم الطفل، ونحو ذلك.
ويدل على ما ذكرناه ما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد)) (1) وتلك الأيام أيام منى. وفي رواية ((هذا عيدنا)) (2) وفي رواية ((وإن عيدنا هذا اليوم)) (3).
ودلالته من وجهين:
أولاً: قوله: ((فإن لكل قوم عيداً, وهذا عيدنا)) فهذا يقتضي أن لكل قوم عيداً يخصهم كما قال تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا. فأعياد اليهود والنصارى وسواهم أمر يخصهم دوننا فلا نشاركهم فيه, كما لا نشاركهم في دينهم.
ثانياً: قوله: ((هذا عيدنا)) فمقتضى هذا اللفظ أن عيدنا يخصنا وليس لنا عيد سواه وقوله: ((وإن عيدنا هذا اليوم)) أضاف العيد إلى ((نا))، وعرف اليوم، والتعريف باللام والإضافة يفيد الاستغراق، فيقتضي هذا أن جنس عيدنا منحصر في هذا اليوم.
ويدل عليه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (4). ولا شك أن هذه الأعياد والاجتماعات ليست من ديننا فهي مردودة أي: باطلة, فيحرم اعتيادها والاحتفاء بها. ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة)) (5) وهذه الأعياد والاحتفالات من البدع فهي ضلالة، فيحرم اعتيادها والعناية بأمرها.
هذا، والأعياد إما مكانية, أو زمانية، أو اجتماعية.
فأما الأعياد المكانية من جهة حكم الشرع فثلاثة أنواع:
الأول: مالا خصوص له في الشريعة.
الثاني: ماله خصوص لا يقتضي قصده للعبادة فيه.
الثالث: ما تشرع العبادة فيه لكن لا يتخذ عيداً.
فمثال الأول: عموم الأمكنة مما لا خصوصية له، ولا شرعت فيه العبادة، فلا يجوز تخصيصه، ولا قصده بعبادة، كالصحارى، وسائر الأمكنة مثلاً ما لم يكن عيداً لليهود والنصارى.
ومثال الثاني: كقبر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر القبور وكشهر رجب.
ومثال الثالث: كالصلاة في مسجد قباء فهي مشروعة، لكن لا يتخذ عيداً يقصد كل سنة، وكل شهر، ونحو ذلك. وهكذا ليلة النصف من شعبان، ثبوت فضلها لا يجوز اتخاذها عيداً يحتفل به كل سنة.
وأما الأعياد الزمانية فهي أيضاً من جهة حكم الشرع ثلاثة أنواع:
أحدها: يوم لم تعظمه الشريعة أصلاً كأول خميس من رجب، وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب.
النوع الثاني: ما جرى فيه من الحوادث مالا يقتضي كونه موسماً كالثامن عشر من ذي الحجة المشهور بـ (غدير خم).
النوع الثالث: ما هو معظم في الشريعة كيوم عاشوراء، ويوم عرفة، ويومي العيدين، نحوها.
فالأول يحرم تخصيصه بشيء من العبادات أو الاحتفالات، وكذلك الحكم في النوع الثاني. وأما النوع الثالث فلا يتجاوز ما شرعه الله ورسوله فيه.
هذا، وقد يصحب هذه الأعياد المكانية والزمانية من الاجتماعات البدعية ما يجعلها أعظم بدعة، وأغلظ حكماً؛ كمن يقصد القبور يوم العيد، والاجتماع عليها، والاحتفال عندها، أو يقصد المسجد الأقصى من أجل التبرك به، أو الطواف بجبل عرفات، ونحو ذلك من البدع المنكرة التي لم يأت بها دليل من الكتاب ولا من السنة النبوية.
وأما الاجتماعات فهي من جهة حكم الشرع ثلاثة أنواع:
_________
(1) رواه البخاري (987) ومسلم (892) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) رواه البخاري تعليقا بعد حديث رقم (986).
(3) رواه البخاري (3931) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) رواه البخاري (2695)، ومسلم (1718) (17). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(5) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (4/ 126) (17184). قال الترمذي: هذا حديث صحيح. قال الشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (1/ 160)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.

الأول: ما لم يشرع أصلاً كالاجتماع للاحتفال بالمواليد.
الثاني: ما شرع الاجتماع له كصلاة الجماعة، وصلاة العيدين، ونحوها.
الثالث: ما يحرم الاجتماع له كالاجتماع في المقابر, والأضرحة للصلاة المفروضة فيها، ودعاء أهلها، والطواف حولها.
هذا، والواجب على المسلمين أن يحرصوا على تخليص دينهم من كل شائبة تكدر صفوه، أو تتسبب في تغييره؛ لأن الدين إذا كثرت فيه البدع تغيرت صورته، فصار مجموعة من الأعمال الخرافية التي ما أنزل الله بها من سلطان. فإن لحفظ الدين جانبين:
الأول: المحافظة عليه؛ وذلك بتعلم حقائقه، وتعليمها، ونشرها بين الناس حتى تكون معروفة مشهورة ظاهرة واضحة.
الثاني: محاربة ما يكدر صفوه من المكفرات، والمبتدعات، والمعاصي التي تقضي على صفائه، وتكدر حقائقه، فتظهر مشوهة. وبذلك يفرح أعداؤه ويسر أدعياؤه.
قال تعالى: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32].
ومما تقدم تبين أن الحكم العام لاتخاذ الأعياد والاحتفالات هو الحرمة المقتضية للبدعة؛ وأما كونها وسيلة من وسائل الشرك فذلك بين من جهتين:
الأولى: لما في ذلك من المشابهة للكفار في الظاهر التي تؤدي للمشابهة في الباطن؛ لأن المشابهة بالكفار تدل على استحسان من الفاعل لفعلهم، والذي هو جزء من كفرهم, وشعائرهم الوثنية؛ ولذا استحق أن يحشر معهم.
وفي رواية: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) (1). وهو نص صريح على أن التشبه في الظاهر مؤذن بالتشبه بهم في الباطن.
الثانية: ما يشتمل عليه اتخاذ الأعياد والاحتفالات البدعية من مخالفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والحكم بغير ما أنزل الله. ففيه نوع من شرك الطاعة كما قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] أي: ديناً وشرعاً.
وعلى هذا فهو إما وسيلة من وسائل الشرك الأكبر أو الأصغر، فإن اشتمل على عبادة غير الله فهو شرك أكبر، وإن اشتمل على ما دونه فهو شرك أصغر. والشرك الأكبر ينافي التوحيد، والشرك الأصغر ينافي كمال التوحيد.
كما أن اتخاذ الاحتفالات والأعياد البدعية كبيرة من كبائر الذنوب، وهي مؤذنة بتغيير وجه الدين، الأمر الذي هو طريق للكفر الأكبر أو الكفر الأصغر؛ فإن اشتمل على ما به يكفر كفراً أكبر خرج من الملة، وإن اشتمل على ما به كفر أصغر لم يخرج عن الملة، واستحق المتلبس به الوعيد إذا مات ولم يتب منه.
ومن هنا يتبين لنا الخطر المؤدي إلى زعزعة العقيدة الإسلامية في قلوب المسلمين عن طريق اتخاذ الأعياد, والاحتفالات البدعية. ولا يقال إننا نفعلها ولا نجد هذا، لأن الشرع ينزل مظنة الشيء منزلة الشيء نفسه، ويجعل وسائل الأشياء في الحكم كالذي تؤدي إليه، فما كان وسيلة للشرك أكبره أو أصغره ينزل منزلة الشرك نفسه أكبره أو أصغره. المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم بن محمد البريكان– ص: 186
_________
(1) رواه أبو داود (4031)، وأحمد (2/ 50) (5114). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (15/ 509)، والعراقي في ((المغني)) (1/ 359): إسناده صحيح. وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 282): ثابت [و] إسناده حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح.

الفصل الرابع: حماية النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد بتحريم وسائل الشرك وطرقه
لقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أمر التوحيد وحذر عن الشرك غاية التحذير، فكل أمر بالتوحيد ونهي عن الشرك حماية لأمر التوحيد، ولكن المقصود بهذه المسألة هنا ما جاء عنه في التحذير وسده للطرق الموصلة للشرك، إذ به يتحقق الإنسان من معرفة الشرك فيحذره بالابتعاد عن وسائله، ولما خفي على كثير من الناس في الأزمنة المتأخرة هذا الأمر وقعوا في الشرك وإن زعموا أنه ليس بشرك.
فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغلو في تعظيم المخلوق، إذ الغلو في تعظيمه يؤدي إلى استشعار القلب بالخوف والرهبة منه والرجاء فيه، فيصرف إليه عندئذ شيئاً من حقوق الله تعالى. فمن هذه الوسائل المنهي عنها:
الأول (1): إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الغلو في مدحه بما قد يفضي إلى عبادته فقال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)) (2).
_________
(1) انظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (2/ 675)، ومجلة البحوث الإسلامية – العدد: 20، (ص: 200)، بحث للشيخ صالح الفوزان.
(2) رواه البخاري (3445). من حديث عمر رضي الله عنه.

الثاني (1): نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور وعن اتخاذها عيداً، وعن اتخاذها مساجد، فقال لما ذكرت له أم سلمة رضي الله عنها: أنها رأت كنيسة بأرض الحبشة وما فيها من الصور قال: ((أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)) (2) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس ليال: ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك)) (3). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (4). كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور كما قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه) (5). وكذلك نهى عن الصلاة عند القبور سواء بني عليها مسجد أو لا لقوله: ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) (6). فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلك الأمور كلها الدالة على تعظيم القبر لئلا يفضي ذلك إلى عبادتهم وطلب قضاء الحوائج من الموتى، ويدل على أن هذا هو المراد ما أشار به إلى صنيع الأمم السابقة، وكذلك لأن هذا هو أصل ابتداء الشرك في الناس كما تقدم (7). وقد قال ابن قدامة معللاً للنهي عن اتخاذ القبور مساجد ومصلى: (لأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام: تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها) (8) اهـ.
_________
(1) انظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/ 77، 292، 295، 2/ 671 - 672)، و ((مجلة البحوث الإسلامية)) – العدد: 20، (ص: 200). بحث للشيخ صالح الفوزان.
(2) رواه البخاري (434)، ومسلم (528). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) رواه مسلم (532). من حديث جندب بن عبدالله رضي الله عنه.
(4) رواه أبو داود (2042)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/ 491) (4162). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (892) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، والنووي في ((الأذكار)) (154).
(5) رواه مسلم (970).
(6) رواه مسلم (972). من حديث أبو مرثد الغنوي رضي الله عنه.
(7) انظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 673 - 2/ 768).
(8) ((المغني)) لابن قدامة (2/ 193).

الثالث: النهي عن الوفاء بالنذر بالذبح لله تعالى في مكان يذبح فيه لغير الله أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية. فعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: ((نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيه عيد من أعيادهم. قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم)) (1). فقوله في آخر الحديث ((فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله)) يفيد أن الوفاء بالنذر في المكان الذي فيه أمر من أمور الجاهلية معصية لله، ففي هذا سد لذريعة الشرك وإبعاد للمسلمين عن التشبه بالمشركين في تعظيم أوثانهم (2).
الرابع: النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها صيانة للصلاة وللمصلين المسلمين أن يشبهوا الكفار في سجودهم لها وعبادتهم لها وللشيطان.
وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد عمرو بن عبسة بقوله: ((صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ... (إلى أن قال): حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار)) (3).
وهذا كله حماية للتوحيد.
وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل ما يؤدي إلى إساءة الظن برب العالمين وعدم تقديره حق قدره. ومن ذلك الألفاظ التي فيها التسوية بين الله وبين المخلوق، فعن قتيلة: ((أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون وتقولون: ما شاء الله وشئت وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت)) (4) اهـ.
فجعل المخلوق مساوياً للخالق باللفظ في المشيئة أو التعظيم فيه إساءة ظن برب العالمين واستنقاص له، إذ هو المتعالي العظيم الذي له الخلق والأمر سبحانه. وإن هذه التسوية نهي عنها وإن لم يعتقد قائلها ذلك بقلبه، وقد تكون مثل هذه الألفاظ شركاً أكبر إذا قصدها قائلها بقلبه (5). منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 100
_________
(1) رواه أبو داود (3313)، والطبراني (2/ 75) (1342). والحديث سكت عنه أبو داود، واحتج به ابن حزم في ((المحلى)) (8/ 22)، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (741) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال النووي في ((المجموع)) (8/ 467): إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(2) انظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 440 - 442). و ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 201).
(3) رواه مسلم (832).
(4) رواه النسائي (7/ 6) (3782). من حديث قتيلة بنت صيفي الجهني رضي الله عنها. قال ابن حجر في ((الإصابة)) (4/ 389): إسناده صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)).
(5) انظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 596 - 602).
T.H.E

T.H.E

الأستاذ /طارق العقيلي. يتم التشغيل بواسطة Blogger.