أخبار الإنترنت
recent

توحيد الأسماء والصفات

المطلب الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات
توحيد الأسماء والصفات: هو إفراد الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى الواردة في القرآن والسنة، والإيمان بمعانيها وأحكامها. معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 29

المطلب الثاني: شرح مفردات التعريف
أولاً: (إفراد الله):
هذا معنى كلمة (التوحيد)، فأصل هذه الكلمة من (وحد) فيقال: وحد يوحد توحيداً: أي جعله واحداً.
ومادة (وحد) في اللغة مصدرها على انفراد الشيء.
فإذا قلت: توحيد الله بأسمائه: فالمعنى إفراد الله بأسمائه.
ثانيا: (بأسمائه الحسنى):
(بأسمائه): الاسم في اللغة: هو اللفظ الموضوع لمعنى تعييناً أو تمييزاً. أو الاسم: ما دل على الذات وما قام بها من الصفات.
ومن أسماء الله تعالى: الله – الرحمن – الرحيم – الغفور – العزيز – القدير – السميع – البصير – البارئ ...
(الحسنى): هذا وصف لأسماء الله، وقد ورد ذكره في القرآن الكريم.
1 - المواضع التي ورد فيها:
ورد هذا الوصف لأسماء الله عز وجل في أربعة مواضع من كتاب الله عز وجل، وهذه المواضع هي:
أ- قال تعالى: وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180].
ب- قال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى [الإسراء: 110]
ج- قال تعالى: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى [طه: 8].
د- قال تعالى: هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى [الحشر: 24].
2 - تصريفها: حسنى على وزن (فعلى) تأنيث أفعل التفضيل، فحسنى تأنيث أحسن، ككبرى تأنيث أكبر، وصغرى تأنيث أصغر، ولذلك يخطئ من يقول إنها تأنيث حسن؛ لأن تأنيث (حسن) (حسنة)، ومن أجل ذلك لا يصح أن نقول: إن أسماء الله حسنة، والصواب هو أن نقول: إن أسماء الله حسنى ما وصفها الله بذلك.
3 - معناها: معنى حسنى: المفضلة على الحسنة، أي البالغة في الحسن غايته.
المعنى العام للآية: وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى: لله أحسن الأسماء وأجلها لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها.
5 - الحكم المستفاد: يجب الإيمان بهذا الوصف الذي أخبر الله به عن أسمائه وذلك بالاعتقاد الجازم أن أسماء الله هي أحسن الأسماء, وأتمها, وأكملها معنى، وفي هذا الوصف أحكام أخرى مستفادة ...
ثالثاً: (وصفاته العلى):
(وصفاته): الصفة هي: ما قام بالذات مما يميزها عن غيرها من أمور ذاتية أو معنوية أو فعلية.
ومن صفات الله عز وجل:
الذاتية: اليدان – الوجه – العينان – الأصابع.
المعنوية: العلم – القدرة – الحياة - الإرادة.
الفعلية: النزول – الاستواء – الخلق – الرزق.
(العُلَى): قال تعالى: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [النحل: 60].
وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [الرُّوم: 27] ........
2 - تصريفها: (الأعلى) صيغة أفعل التفضيل، أي أعلى من غيره (1).
3 - معنى الآية: قال القرطبي: وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى: أي الوصف الأعلى (2).
وقال ابن كثير: وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وهو كل صفة كمال؛ وكل كمال في الوجود فالله أحق به من غير أن يستلزم ذلك نقصاً بوجه (3).
_________
(1) ((الصواعق المرسلة)) (3/ 1030).
(2) ((تفسير القرطبي)) (10/ 119).
(3) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) (4/ 104).

4 - الحكم المستفاد: يجب الإيمان بما أخبر الله به عن نفسه, وذلك بالاعتقاد الجازم بأن كل ما أخبر الله به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات هي صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فهو سبحانه المستحق للكمال المُطلق من جميع الوجوه.
قال الإمام ابن القيم: (المثل الأعلى يتضمن ثبوت الصفات العليا لله سبحانه، ووجودها العلمي، والخبر عنها، وذكرها، وعبادة الرب سبحانه بها ... ) (1).
رابعاً: الواردة في القرآن والسنة
أي يجب الوقوف في أسماء الله وصفاته على ما جاءت به نصوص القرآن والسنة لا نزيد على ذلك ولا ننقص منه.
فلا نسمي أو نصف الله بما لم يسم أو يصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وذلك لأنه لا طريق إلى معرفة أسماء الله وصفاته إلا من طريق واحد هو طريق الخبر – أي الكتاب والسنة -.
فلو قال شخص: لله سمع بلا أذنين.
وقال آخر: لله سمع بأذنين.
لحكمنا بخطأ الاثنين؛ لأنه لم يأت ذكر الأذنين في النصوص لا نفياً ولا إثباتاً، والحق هو أن يقال: لله سمع يليق بجلاله كما جاءت بذلك النصوص، وقد نهانا الله أن نتكلم بغير علم، فقال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36] وبالتالي لا يجوز الإثبات أو النفي إلا بالنص.
قال الإمام أحمد (ت 241) رحمه الله: (لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه, أو ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم, لا نتجاوز القرآن والسنة) (2).
وقال ابن عبد البر (ت 463) رحمه الله: (ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصاً في كتاب الله، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه) (3).
خامساً: والإيمان بمعانيها وأحكامها
أي الإيمان بما تضمنته من المعاني, وبما ترتب عليها من مقتضيات وأحكام.
وهذا ما جاء الأمر به والحث عليه في القرآن والسنة.
فمن القرآن: قوله تعالى: وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180]، والشاهد من الآية قوله: (فادعوه بها).
ووجه الاستشهاد: أن الله يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها، فالدعاء بها يتناول:
دعاء المسألة: كقولك: ربي ارزقني.
ودعاء الثناء: كقولك: سبحان الله.
ودعاء التعبد: كالركوع والسجود (4).
ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحد، من أحصاها دخل الجنة)) متفق عليه.
الشاهد من الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحصاها)).
ووجه الاستشهاد: أن معنى أحصاها: أي حفظها ألفاظاً، وفهم معانيها ومدلولاتها، وعمل بمقتضياتها وأحكامها.
فالعلم بأسماء الله وصفاته, واعتقاد تسمي الله واتصافه بها هو من العبادة, وإدراك القلب لمعانيها، وما تضمنته من الأحكام والمقتضيات، واستشعاره وتجاوبه لذلك بالقدر الذي يؤدي إلى سلامة تفكيره واستقامة سلوكه، هو عبادة أيضاً.
فأهل السنة يؤمنون بما دلت عليه أسماء الله وصفاته من المعاني، وبما يترتب عليها من مقتضيات وأحكام، بخلاف أهل الباطل الذين أنكروا ذلك وعطلوه.
فأهل السنة يؤمنون بأن كل اسم من أسماء الله يدل على معنى الذي نسميه (الصفة) , فلذلك كان لزاماً على من يؤمن بأسماء الله تعالى أن يراعي الأمور التالية:
_________
(1) ((الصواعق المرسلة)) (3/ 1034) بتصرف.
(2) ((الفتوى الحموية)) (ص: 61)، دار فجر التراث.
(3) ((جامع بيان العلم وفضله)) (ص: 96).
(4) ((مدارج السالكين)) (1/ 420).

أولاً: الإيمان بثبوت ذلك الاسم لله عز وجل.
ثانياً: الإيمان بما دل عليه الاسم من المعنى أي (الصفة).
ثالثاً: الإيمان بما يتعلق به من الآثار والحكم والمقتضى.
مثال ذلك: (السميع).
اسم من أسماء الله الحسنى، فلابد من الإيمان به من:
1 - إثبات اسم (السميع) باعتباره اسماً من أسماء الله الحسنى.
2 - إثبات (السمع) صفة له.
3 - إثبات الحكم (أي الفعل) وهو أن الله يسمع السر والنجوى.
وإثبات المقتضى والأثر: وهو وجوب خشية الله, ومراقبته, وخوفه, والحياء منه عز وجل.
قال ابن القيم رحمه الله: (كل اسم من أسمائه عز وجل له تعبد مختص به علماً ومعرفة وحالاً:
علماً ومعرفة: أي إن من علم أن الله مسمى بهذا الاسم وعرف ما يتضمنه من الصفة ثم اعتقد ذلك فهذه عبادة.
وحالاً: أي إن لكل اسم من أسماء الله مدلولاً خاصاً وتأثيراً معيناً في القلب والسلوك، فإذا أدرك القلب معنى الاسم وما يتضمنه واستشعر ذلك، تجاوب مع هذه المعاني، وانعكست هذه المعرفة على تفكيره وسلوكه) (1).
وكذلك الشأن في صفات الله عز وجل، فلابد من الإيمان بمعانيها وأحكامها، فهذه عقيدة أهل السنة، بخلاف عقيدة المعطلة الذين نفوا ما دلت عليه تلك الصفات من المعاني، وتلاعبوا بتلك المعاني فحرفوها وبدلوها.
فأهل السنة يرون أنه لزاماً على من أراد إثبات الصفات والإيمان بأنها صفات كمال تثبت لله حقيقة – أن يراعي الأمور التالية:
1 - إثبات تلك الصفة فلا يعاملها بالنفي والإنكار.
2 - أن لا يتعدى بها اسمها الخاص الذي سماها الله به، بل يحترم الاسم كما يحترم الصفة، فلا يعطل الصفة ولا يغير اسمها ويعيرها اسماً آخر، كما تسمي المعطلة سمعه وبصره وكلامه (أعراضاً).
ويسمون وجهه ويديه وقدمه (جوارح وأبعاضاً).
ويسمون علوه على خلقه واستواءه على عرشه (تحيزاً).
3 - عدم تشبيهها بما للمخلوق، فإن الله سبحانه (ليس كمثله شيء) لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
4 - اليأس من إدراك كنهها وكيفياتها، فالعقل قد يئس من تعرف كنه الصفة وكيفيتها، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول أهل السنة: (بلا كيف): أي بلا كيف يعقله البشر، فإن من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟ ولا يقدح في الإيمان بها، ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك (2).
5 - تحقيق المقتضى والأثر لتلك الصفات، فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها – أعني من موجبات العلم بها, والتحقق بمعرفتها – فعلم العبد بتفرد الرب بالخلق, والرزق, والإحياء, والإماتة، يثمر له عبودية (التوكل).
وعلم العبد بجلال الله وعظمته وعزه، يثمر له الخضوع, والاستكانة, والمحبة. معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات لمحمد بن خليفة التميمي– بتصرف - ص: 29
_________
(1) ((مدارج السالكين)) (1/ 420).
(2) ((مدارج السالكين)) (3/ 358 - 359) بتصرف يسير.

المبحث الثاني: عقيدة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته إجمالا
وأهل السنة والجماعة: يعرفون ربهم بصفاته الواردة في القرآن والسنة، ويصفون ربهم بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسمائه وآياته، ويثبتون لله ما أثبته لنفسه من غير تمثيل، ولا تكييف ولا تعطيل، ولا تحريف، وقاعدتهم في كل ذلك قول الله تبارك وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] وقوله: وَلِلَّهِ الأسماء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180] وأهل السنة والجماعة: لا يحددون كيفية صفات الله – جل وعلا – لأنه تبارك وتعالى لم يخبر عن الكيفية، ولأنه لا أحد أعلم من الله سبحانه بنفسه، قال تعالى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ [البقرة:140] وقال تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:74] ولا أحد أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي قال الله تبارك وتعالى في حقه: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] وأهل السنة والجماعة: يؤمنون أن الله – سبحانه وتعالى – هو الأول ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، كما قال سبحانه: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3] وكما أن ذاته - سبحانه وتعالى - لا تشبه الذوات، فكذلك صفاته لا تشبه الصفات؛ لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كفء له ولا ند له، ولا يقاس بخلقه؛ فيثبتون لله ما أثبته لنفسه إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل؛ فحين يثبتون لله ما أثبته لنفسه لا يمثلون، وإذا نزهوه لا يعطلون الصفات التي وصف نفسه بها، وأنه تعالى محيط بكل شيء، وخالق كل شيء، ورازق كل حي، قال الله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] وقال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58] ويؤمنون بأن الله تعالى استوى على العرش فوق سبع سموات بائن من خلقه، أحاط بكل شيء علماً، كما أخبر عن نفسه في كتابه العزيز في سبع آيات كريمات بلا تكييف قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وقال: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] وقال: أَأَمِنتُم مَّنْ فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك:17] وقال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] وقال: يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل:50] وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟)) (1)
_________
(1) رواه البخاري (4351)، ومسلم (1064). من حديث أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ..

وأهل السنة والجماعة: يؤمنون بأن الكرسي والعرش حق قال تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] والعرش لا يقدر قدره إلا الله، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة في فلاة وسع السماوات والأرض، والله مستغن عن العرش والكرسي، ولم يستو على العرش لاحتياجه إليه؛ بل لحكمة يعلمها، وهو منزه عن أن يحتاج إلى العرش أو ما دونه، فشأن الله تبارك وتعالى أعظم من ذلك؛ بل العرش والكرسي محمولان بقدرته وسلطانه وأن الله تعالى خلق آدم – عليه السلام – بيديه، وأن كلتا يديه يمين ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء كما وصف نفسه سبحانه فقال: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء [المائدة:64] وقال: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] وأهل السنة والجماعة: يثبتون لله سمعاً، وبصراً، وعلماً، وقدرة، وقوة، وعزاً، وكلاماً وحياة، وقدماً وساقاً، ويداً، ومعية وغيرها من صفاته – عز وجل – التي وصف بها نفسه في كتابه العزيز، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها؛ لأنه تعالى لم يخبرنا عن الكيفية، قال تعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] وقال: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التحريم:2] وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [البينة:8] يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف:55] يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم:42] اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [المجادلة:14] وغيرها من آيات الصفات وأهل السنة والجماعة: يؤمنون بأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم، ويزورونه، ويكلمهم ويكلمونه، قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] وسوف يرونه كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته)) (1) وأن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل نزولاً حقيقياً يليق بجلاله وعظمته قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر؛ فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له؟)) (2)
_________
(1) رواه البخاري (554)، ومسلم (633). من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا عند النبى صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة -يعنى البدر- فقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته،. .. )
(2) رواه البخاري (1145)، ومسلم (758). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ..

ويؤمنون بأنه تعالى يجيء يوم الميعاد للفصل بين العباد، مجيئاً حقيقياً يليق بجلاله، قال سبحانه وتعالى: كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:21 - 22] وقوله: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ [البقرة: 210] فمنهج أهل السنة والجماعة في كل ذلك الإيمان الكامل بما أخبر به الله تعالى، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والتسليم به؛ كما قال الإمام الزهري رحمه الله تعالى: من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم وكما قال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: (كل ما وصف الله تعالى به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره لا كيف، ولا مثل) وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله) وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي، وسفيان بن عيينة، ومالك بن أنس عن هذه الأحاديث في الصفات والرؤية، فقالوا: (أمروها كما جاءت بلا كيف) وقال الإمام مالك بن أنس – إمام دار الهجرة – رحمه الله: إياكم والبدع قيل: وما البدع؟ قال: أهل البدع هم الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسأله رجل عن قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالاً، وأمر به أن يخرج من المجلس وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء؛ بل يصفه بما وصف به نفسه، ولا يقول فيه برأيه شيئاً؛ تبارك الله تعالى رب العالمين ولما سئل – رحمه الله – عن صفة النزول، فقال: ينزل بلا كيف. وقال الحافظ الإمام نعيم بن حماد الخزاعي رحمه الله: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف به نفسه ولا رسوله تشبيها وقال بعض السلف: قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم لذا فإنه من سلك مسلك السلف في الحديث عن ذات الله تعالى وصفاته، يكون ملتزماً بمنهج القرآن في أسماء الله وصفاته سواء كان السالك في عصر السلف، أو في العصور المتأخرة وكل من خالف السلف في منهجهم؛ فلا يكون ملتزماً بمنهج القرآن، وإن كان موجوداً في عصر السلف، وبين أظهر الصحابة والتابعين الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص55
المطلب الأول: العلم بأسماء الله وصفاته هو الطريق إلى معرفة الله سبحانه وتعالى
والإيمان بالأسماء والصفات يقوي اليقين بالله، وهو سبب لمعرفة الله، والعلم به، بل إن العلم بالله ومعرفة الله - جل وعلا - تكون بمعرفة أسمائه وصفاته، وبمعرفة آثار الأسماء والصفات في ملكوت الله جل وعلا التمهيد لشرح كتاب التوحيد لصالح بن عبد العزيز آل الشيخ - ص 437

المطلب الثاني: تزكية النفوس وإقامتها على منهج الله
أمَّا التزكية التي أثنى الله تعالى على أصحابها في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا [الشمس:9] فالمراد بتزكية النفس هنا تطهيرُها بالأعمال الصالحة وترك الأعمال السيّئة، هذه تزكية النفس، شغلُها بالأعمال الصالحة وتجنيبُها للأعمال السيئة فهناك تزكيةٌ منهيٌّ عنها وهي: الإعجاب والمدح للنفس، وهناك تزكية مأمورٌ بها وهي الإصلاح والتوبة والعمل الصالح: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وتوعَّد الله الذين لا يزكون أنفسهم قال تعالى: وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت: 6 - 7] قال بعض المفسرين: المراد بالزّكاة هنا: تزكية النفس، لأن الآية مكية، والزكاة بالأموال لم تكن نزلت إلاّ في المدينة، وفي قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [المؤمنون:4] قالوا: والمراد بالزكاة هنا: زكاة النفس، لأنَّ الآية مكيّة- أيضاً-، فتزكية النفس بالأعمال الصالحة مطلوبة مأمور بها إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد لصالح بن فوزان الفوزان - ص246

المطلب الثالث: العلم بأسماء الله وصفاته أشرف العلوم
إن العلم بالله وأسمائه وصفاته أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، والمعلوم في هذا العلم هو الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، فالاشتغال بفهم هذا العلم، والبحث التام عنه، اشتغال بأعلى المطالب، وحصوله للعبد من أشرف المواهب، ولذلك بينه الرسول صلى الله عليه وسلم غاية البيان، ولاهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم ببيانه لم يختلف فيه الصحابة رضي الله عليهم كما اختلفوا في الأحكام تفسير أسماء الله الحسنى لعبدالرحمن السعدي - ص6 - 8

المطلب الرابع: العلم بأسماء الله وصفاته أصل للعلم بكل ما سواه
إحصاء الأسماء الحسنى والعلم بها أصل للعلم بكل معلوم فإن المعلومات سواه إما أن تكون خلقا له تعالى أو أمرا إما علم بما كونه أو علم بما شرعه ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه فالأمر كله مصدره عن أسمائه الحسنى وهذا كله حسن لا يخرج عن مصالح العباد وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده فوجود من سواه تابع لوجوده تبع المفعول المخلوق لخالقه فكذلك العلم بها أصل للعلم بكل ما سواه فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم فمن أحصى أسماءه كما ينبغي للمخلوق أحصى جميع العلوم إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى ولهذا لا تجد فيها خللا ولا تفاوتا لأن الخلل الواقع فيما يأمر به العبد أو يفعله إما أن يكون لجهله به أو لعدم حكمته وأما الرب تعالى فهو العليم الحكيم فلا يلحق فعله ولا أمره خلل ولا تفاوت ولا تناقض بدائع الفوائد لمحمد بن أبي بكرابن قيم الجوزية - 1/ 170

المطلب الخامس: العلم بأسماء الله وصفاته من أسباب زيادة الإيمان
إن الإيمان بأسماء الله الحسنى ومعرفتها يتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع هي روح الإيمان ورَوحه (الروح: هو الفرح، والاستراحة من غم القلب)، وأصله وغايته، فكلما زاد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته ازداد إيمانه وقوي يقينه التوضيح والبيان لشجرة الإيمان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي - ص41

تمهيد:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله تسعة وتسعون اسماً, مائة إلا واحدة لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر)) (1).
وفي رواية: ((من أحصاها دخل الجنة)) (2).
_________
(1) رواه البخاري (6410)، ومسلم (2677).
(2) رواه البخاري (7392)، ومسلم (2636).

المسألة الأولى: هل المراد بالحديث حصر الأسماء الحسنى في هذا العدد؟
((لله تسعة وتسعون اسماً مائة إلا واحدة)) هل المراد به حصر الأسماء الحسنى في هذا العدد, أو أنها أكثر من ذلك، ولكن اختصت هذه بأن من أحصاها دخل الجنة؟
فذهب جمهور العلماء إلى الثاني، ونقل النووي اتفاق العلماء عليه، وقال: ليس في الحديث حصر أسماء الله تعالى, وليس معناه أنه ليس له اسم غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث: أن هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبار بحصر الأسماء.
وقال أبو سليمان حمد الخطابي: إنما هو بمنزلة قولك إن لزيد ألف درهم أعدها للصدقة، وكقولك: إن لعمرو مائة ثوب من زاره خلعها عليه، وهذا لا يدل على أنه ليس عنده من الدراهم أكثر من ألف درهم، ولا من الثياب أكثر من مائة ثوب، وإنما دلالته أن الذي أعده زيد من الدراهم للصدقة ألف درهم، وأن الذي أرصده عمرو من الثياب للخلع مائة, والذي يدل على صحة هذا التأويل حديث عبد الله بن مسعود وقد ذكره محمد بن إسحاق بن خزيمة في المأثور:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: ((اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك, أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك .. إلخ)) (1). فهذا يدلك على أن لله أسماء لم ينزلها في كتابه، حجبها عن خلقه، ولم يظهرها لهم. اهـ (2).
وقال شيخ الإسلام كما في (مجموع الفتاوى) (6/ 381) بعد نقله كلام الخطابي: وأيضاً فقوله: ((إن لله تسعة وتسعون)) تقيده بهذا العدد، بمنزلة قوله تعالى: تِسْعَةَ عَشَرَ فلما استقلوهم قال: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر: 31]. فأن لا يعلم أسماءه إلا هو أولى اهـ.
وقال في (درء تعارض العقل والنقل) (3/ 332) والصواب الذي عليه الجمهور أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)) (3) معناه: أن من أحصى التسعة والتسعين من أسمائه دخل الجنة، ليس مراده أنه ليس له إلا تسعة وتسعون اسماً، ثم ذكر حديث عبد الله بن مسعود السابق (4).
وقال: وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخط, وبمعافاتك من عقوبتك, وبك منك لا أحصي ثناء عليك, أنت كما أثنيت على نفسك)) (5).
فأخبر أنه صلى الله عليه وسلم لا يحصى ثناء عليه، ولو أحصى جميع أسمائه لأحصى صفاته كلها, فكان يحصى الثناء عليه لأن صفاته إنما يعبر عنها بأسمائه.
_________
(1) رواه أحمد (1/ 391) (3712) والطبراني (10/ 169) وابن حبان (3/ 253) والحاكم (1/ 690). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 189): رجاله رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان , وصححه ابن القيم في ((شفاء العليل)) (2/ 749) وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 267)) إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (199).
(2) ((شأن الدعاء)) (ص: 24).
(3) رواه البخاري (6410)، ومسلم (2677).
(4) الحديث رواه أحمد (1/ 391) (3712) والطبراني (10/ 169) وابن حبان (3/ 253) والحاكم (1/ 690). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 189): رجاله رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان , وصححه ابن القيم في ((شفاء العليل)) (2/ 749) وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 267)) إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (199).
(5) رواه مسلم (486). من حديث عائشة رضي الله عنها.

وخالف ابن حزم ههنا، فذهب إلى الحصر في العدد المذكور, ورد عليه الحافظ ابن حجر في الفتح فقال: وابن حزم ممن ذهب إلى الحصر في العدد المذكور، وهو لا يقول بالمفهوم أصلاً، ولكنه احتج بالتأكيد في قوله صلى الله عليه وسلم: ((مائة إلا واحداً)) قال: لإنه لو جاز أن يكون له اسم زائد على العدد المذكور، لزم أن يكون له مائة، فيبطل قوله: ((مائة إلا واحداً)).
قال الحافظ: وهذا الذي قاله ليس بحجة على ما تقدم، لأن الحصر المذكور عندهم باعتبار الوعد الحاصل لمن أحصاها، فمن ادعى أن الوعد وقع لمن أحصى زائداً على ذلك أخطأ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون هناك اسم زائد. اهـ (1).
وقد تكلم العلماء – ومنهم الرازي في شرح الأسماء - عن سر هذا العدد المخصوص بكلام كثير (2)، والذي نراه أن تفويض علمه لله أقرب إلى الصواب، لأن الله لم يطلعنا على حكمة ذلك، فهو كأعداد الصلوات، والله تعالى أعلم. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود- ص 43
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: أسماء الله ليست محصورة بعدد معين، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود الحديث الصحيح المشهور: ((اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك – إلى أن قال: أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)) (3)، وما أستأثر الله به في علم الغيب لا يمكن أن يُعلَم به، وما ليس بمعلوم فليس بمحصور وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)) (4)، فليس معناه أنه ليس له إلا هذه الأسماء، لكن معناه أن مَن أحصى من أسمائه هذه التسعة والتسعين فإنه يدخل الجنة، فقوله: ((من أحصاها)) تكميل للجملة الأولى، وليست استئنافية منفصلة، ونظير هذا قول القائل: عندي مئة فرس أعددتها للجهاد في سبيل الله، فليس معناه أنه ليس عنده إلا هذه المئة بل معناه أن هذه المئة مُعدَّة لهذا الشيء القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 2/ 354
_________
(1) ((فتح الباري)) (11/ 221).
(2) ((تفسير الرازي)) (ص: 2092).
(3) رواه أحمد (1/ 391) (3712)، وأبو يعلى في ((المسند)) (9/ 198)، وابن حبان (3/ 253)، والطبراني (10/ 169) والحاكم (1/ 690). وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه فإنه مختلف في سماعه عن أبيه. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 136): رواه أحمد وأبو يعلى والبزار إلا أنه قال: ((وذهاب غمي)) مكان ((همي)) والطبراني ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان. وقال ابن القيم في (شفاء العليل) (2/ 749): صحيح. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 267): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (199): صحيح.
(4) رواه البخاري (2736)، ومسلم (2677). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

المسألة الثانية: معنى إحصاء أسماء الله
معنى قوله ((من أحصاها)) وهو يحتمل وجوها:
- أن يعدها حتى يستوفيها حفظاً, ويدعو ربه بها، ويثني عليه بجميعها، كقوله تعالى: لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن: 28]. واستدل له الخطابي بقوله صلى الله عليه وسلم – كما في الرواية الأخرى – ((من حفظها دخل الجنة)) (1) (2).
وقال النووي: قال البخاري وغيره من المحققين: معناه حفظها, وهذا هو الأظهر لثبوته نصاً في الخبر.
وقال في الأذكار: وهو قول الأكثرين (3).
وقال ابن الجوزي: لما ثبت في بعض طرق الحديث ((من حفظها)) بدل ((من أحصاها))، اخترنا أن المراد (العد) أي: من عدها ليستوفيها حفظاً.
ورد هذا القول الحافظ فقال: وفيه نظر، لأنه لا يلزم من مجيئه بلفظ ((حفظها)) تعيين السرد عن ظهر قلب, بل يحتمل الحفظ المعنوي.
وقال الأصيلي: ليس المراد بالإحصاء عدها فقط, لأنه قد يعدها الفاجر، وإنما المراد العلم بها.
وكذا قال أبو نعيم الأصبهاني وابن عطية (4).
- أن يكون المراد بالإحصاء (الإطاقة)، كقوله تعالى: عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ [المزمل: 20] أي لن تطيقوه، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم ((استقيموا ولن تحصوا .. )) (5). أي: لن تبلغوا كل الاستقامة.
فيكون المعنى: أن يطبق الأسماء الحسنى ويحسن المراعاة لها، وأن يعمل بمقتضاها، وأن يعتبرها فيلزم نفسه بواجبها.
فإذا قال: يا رحمن يا رحيم، تذكر صفة الرحمة، واعتقد أنها من صفات الله سبحانه، فيرجو رحمته ولا ييأس من مغفرته.
وإذا قال: (السميع البصير) علم أنه يراه ويسمعه, وأنه لا تخفى عليه خافية، فيخافه في سره, وعلنه, ويراقبه في كافة أحواله.
وإذا قال: (الرزاق) اعتقد أنه المتكفل برزقه يسوقه إليه في وقته, فيثق بوعده, ويعلم أنه لا رازق له سواه .. إلخ (6).
وقال أبو عمر الطلمنكي: من تمام المعرفة بأسماء الله تعالى وصفاته التي يستحق بها الداعي والحافظ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعرفة بالأسماء والصفات, وما تتضمن من الفوائد, وتدل عليه من الحقائق، ومن لم يعلم ذلك لم يكن عالماً لمعاني الأسماء، ولا مستفيداً بذكرها ما تدل عليه من المعاني اهـ (7).
- أن يكون الإحصاء بمعنى العقل والمعرفة, فيكون معناه أن من عرفها، وعقل معانيها، وآمن بها دخل الجنة، وهو مأخوذ من الحصاة وهي العقل، والعرب تقول: فلان ذو حصاة، أي: ذو عقل، ومعرفة بالأمور (8).
قال القرطبي: المرجو من كرم الله تعالى أن من حصل له إحصاء هذه الأسماء على إحدى هذه المراتب مع صحة النية أن يدخله الله الجنة.
_________
(1) رواه البخاري (6410)، ومسلم (2677). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) ((شأن الدعاء)) (26).
(3) ((الأذكار)) (64).
(4) ((الفتح)) (11/ 226).
(5) رواه ابن ماجه (226)، وأحمد (5/ 276) (22432)، والدارمى (1/ 174) (655)، وابن حبان (3/ 311) (1037)، والطبراني (2/ 101) (1444)، والحاكم (447)، والبيهقي (1/ 82) (389). من حديث ثوبان رضي الله عنه. قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (1/ 47): هذا الحديث رجاله ثقات أثبات، إلا أنه منقطع بين سالم وثوبان، فإنه لم يسمع منه بلا خلاف، لكن له طرق أخرى متصلة، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 130): إسناده صحيح، وجوّد إسناده النووي في ((المجموع)) (2/ 4)، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 181) كما قال في المقدمة.
(6) ((شأن الدعاء)) ص (27 - 28) ((الفتح)) (11/ 225 - 226).
(7) ((الفتح)) (11/ 226).
(8) ((شأن الدعاء)) ص (28 - 29) ((الفتح)) (11/ 225).

وهذه المراتب الثلاثة للسابقين, والصديقين, وأصحاب اليمين اهـ (1).
د – أن يكون معنى الحديث أن يقرأ القرآن حتى يختمه فيستوفي هذه الأسماء كلها في أضعاف التلاوة، فكأنه قال: من حفظ القرآن وقرأه فقد استحق دخول الجنة. (2)
قلت: لكن قد يفوته بعض الأسماء الواردة بالأحاديث النبوية الزائدة على القرآن.
- طعن أبو زيد البلخي في صحة الخبر بأن دخول الجنة ثبت في القرآن مشروطاً ببذل النفس والمال, فكيف يحصل بمجرد حفظ ألفاظ تعد في أيسر مدة؟
قال الحافظ:
وتعقب بأن الشرط المذكور ليس مطرداً ولا حصر فيه، بل قد تحصل الجنة بغير ذلك، كما ورد في كثير من الأعمال غير الجهاد إن فاعله يدخل الجنة. وأما دعوى أن حفظها يحصل في أيسر مدة فإنما يرد على من حمل (الحفظ والإحصاء) على معنى أن يسردها عن ظهر قلب، فأما من أوله على بعض الوجوه المتقدمة فإنه يكون في غاية المشقة. ويمكن الجواب عن الأول بأن الفضل واسع اهـ. (3).
وقد ذكر الرازي أن من أخذ هذا الحديث دون الزيادة التي فيها تفصيل الأسماء كان المراد بقوله (من أحصاها) أي من طلبها في القرآن, وفي جملة الأحاديث الصحيحة حتى يلتقط منها تلك الأسماء التسعة والتسعين, ومعلوم أن ذلك مما لا يمكن تحصيله إلا بعد تحصيل علم الأصول والفروع حتى يقدر على التقاط هذه الأسماء من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, ومعلوم أن من حصل هذه العلوم، واجتهد حتى بلغ درجة يمكنه معها التقاط هذه الأسماء من الكتاب والسنة فقد بلغ الغاية القصوى في العبودية (4) اهـ باختصار.
- قوله: (وهو وتر يحب الوتر).
الوتر: هو الفرد، ومعناه في صفة الله جل وعلا الواحد الذي لا شريك له, ولا نظير له، المتفرد عن خلقه, البائن منهم بذاته وصفاته, فهو سبحانه وتر.
وجميع خلقه شفع, خلقوا أزواجاً. قال سبحانه: وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات: 49].
فالمراد أن الله يحب الوتر من كل شيء, وإن تعدد ما فيه الوتر، ولذلك أمر بالوتر في كثير من الأعمال والطاعات كما في الصلوات الخمس, ووتر الليل, وأعداد الطهارة, وتكفين الميت. وفي كثير من المخلوقات كالسموات والأرض (5). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود- ص 46
وقال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – في معنى الإحصاء:
1 - الإحاطة بها لفظاً ومعنى.
2 - دعاء الله بها، لقوله تعالى: فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، وذلك بأن تجعلها وسيلة لك عند الدعاء، فتقول: يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم! وما أشبه ذلك
3 - أن تتعبد لله بمقتضاها، فإذا علمت أنه رحيم تتعرض لرحمته، وإذا علمت أنه غفور تتعرض لمغفرته، وإذا علمت أنه سميع اتقيت القول الذي يغضبه، وإذا علمت أنه بصير اجتنبت الفعل الذي لا يرضاه القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 3/ 90
وقال أيضاً: أما قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)) (6)، فلا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة: (إن أسماء الله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة) أو نحو ذلك إذن فمعنى الحديث: أن هذا العدد من شأنه أن من أحصاه دخل الجنة، وعلى هذا فيكون قوله: (من أحصاها دخل الجنة) جملة مكملة لما قبلها، وليست مستقلة، ونظير هذا أن تقول: عندي مائة درهم أعددتها للصدقة، فإنه لا يمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تعدها للصدقة ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تعيين هذه الأسماء، والحديث المروي عنه في تعيينها ضعيف قال شيخ الإسلام ابن تيميه في (الفتاوى) ص 383 جـ6 من "مجموع ابن قاسم": تعيينها ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل المعرفة بحديثه، وقال قبل ذلك ص 379: إن الوليد ذكرها عن بعض شيوخه الشاميين كما جاء مفسراً في بعض طرق حديثه اهـ وقال ابن حجر في (فتح الباري) ص215 جـ11 ط السلفية: ليست العلة عند الشيخين (البخاري ومسلم)، تفرد الوليد فقط، بل الاختلاف فيه والاضطراب، وتدليسه واحتمال الإدراج اهـ ولما لم يصح تعيينها عن النبي صلى الله عليه وسلم اختلف السلف فيه، وروي عنهم في ذلك أنواع القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص17
_________
(1) ((الفتح)) (11/ 225).
(2) ((شأن الدعاء)) (ص: 29) وانظر فيما سبق أيضاً ((تفسير الأسماء)) للزجاج ص (22 - 24) والرازي في ((شرح الأسماء)) (ص: 81 - 82).
(3) ((الفتح)) (11/ 227).
(4) ((شرح الأسماء للرازي)) (82).
(5) ((الفتح)) (11/ 227).
(6) رواه البخاري (2736)، ومسلم (2677). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

المسألة الثالثة: ضعف الطرق التي فيها سرد الأسماء
الأولى: ما أخرجه الترمذي (3574)، وابن حبان (2384)، والحاكم (1/ 16)، والبيهقي في (السنن) (10/ 27)، وفي (الأسماء والصفات) (ص15 – 16)، وفي (الاعتقاد) (ص50)، والبغوي في (شرح السنة) (5/ 32) , كلهم من طريق الوليد بن مسلم أخبرنا شعيب بن أبي حمزة, عن أبي الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعون اسماً مائة غير واحدة من أحصاها دخل الجنة, هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس .. )) (1). قال الترمذي عقب الحديث: (هذا حديث غريب, حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح, ولا نعرفه إلا من حديث صفوان ابن صالح, وهو ثقة عند أهل الحديث، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث، وقد روى آدم بن أبي إياس هذا الحديث بإسناد غير هذا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم, وذكر فيه الأسماء وليس له إسناد صحيح) اهـ.
ولم ينفرد به صفوان بن صالح كما قال الترمذي, فقد أخرجه البيهقي في (الأسماء) (ص 15) من طريق موسى بن أيوب النصيبي, وهو ثقة عن الوليد بن مسلم.
وهذه الطريق هي أحسن الطرق على ضعف فيها كما سيأتي بيانه.
الثانية: ما أخرجه ابن ماجه (3861) من طريق عبد الملك ابن محمد الصنعاني ثنا زهير بن محمد التميمي ثنا موسى بن عقبة حدثني عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة به مع اختلاف في سرد الأسماء ونقص وتقديم وتأخير.
قال البوصيري في (الزوائد): لم يخرج أحد من الأئمة الستة عدد أسماء الله الحسنى من هذا الوجه ولا من غيره غير ابن ماجه, والترمذي, مع تقديم وتأخير, وطريق الترمذي أصح شيء في الباب.
قال: وإسناد طريق بن ماجه ضعيف لضعف عبد الملك بن محمد. اهـ.
قلت: عبد الملك بن محمد هو الحميري البرسمي قال فيه الحافظ: لين الحديث.
الثالثة: أخرجها الحاكم (1/ 17) والبيهقي في (الأسماء) (ص: 18 - 19) وفي (الاعتقاد) (ص51) من طريق خالد بن مخلد القطواني ثنا عبد العزيز بن حصين بن الترجمان ثنا أيوب السختياني وهشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به.
قال الحاكم: (عبد العزيز بن الحصين بن الترجمان ثقة وإن لم يخرجاه).
فتعقبه الذهبي بقوله: (بل ضعفوه).
وقد ذكر من ضعفه في (الميزان) (2/ 627): (قال البخاري ليس بالقوي عندهم, وقال ابن معين ضعيف، وقال مسلم: ذاهب الحديث، وقال ابن عدي: الضعف على رواياته بين).
وقال البيهقي في (الأسماء) (ص19): (ويحتمل أن يكون التفسير وقع من بعض الرواة, وكذلك في حديث الوليد بن مسلم, ولهذا الاحتمال ترك البخاري ومسلم إخراج حديث الوليد في الصحيح) اهـ.
ونقل الحافظ في (التلخيص) (4/ 173) عن ابن العربي قوله: (لا نعلم هل تفسير هذا الأسامي في الحديث أو من قول الراوي).
_________
(1) قال الترمذي: غريب، وقال ابن حجر في ((تخريج حديث الأسماء)) (1/ 45): [له متابعة].

وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية – رحمه الله – كما في (مجموع الفتاوى) (6/ 379): (فالحديث الذي فيه ذكر ذلك (أي الأسماء الحسنى) هو حديث الترمذي روى الأسماء الحسنى في (جامعه) من حديث الوليد بن مسلم عن شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة, ورواها ابن ماجه في سننه من طريق مخلد بن زياد القطواني عن هشام بن حسان بن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن هاتين الروايتين ليستا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما كل منهما من كلام بعض السلف، فالوليد ذكرها عن بعض شيوخه الشاميين كما جاء مفسراً في بعض طرق حديثه). (وانظر مجموع الفتاوى 8/ 96 - 97 و22/ 482).
وقال ابن كثير في (التفسير) (2/ 269):) والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك.
أي أنهم جمعوها من القرآن، كما روى عن جعفر بن محمد, وسفيان بن عيينة, وأبو زيد اللغوي والله أعلم) اهـ.
وقال الحافظ في (الفتح) (11/ 215): واختلف العلماء في سرد الأسماء هل هو مرفوع أو مدرج في الخبر عن بعض الرواة، فمشى كثير منهم على الأول، واستدلوا به على جواز تسمية الله تعالى بما لم يرد في القرآن بصيغة الاسم, لأن كثيراً من هذه الأسماء كذلك، وذهب آخرون إلى أن التعيين مدرج لخلو أكثر الروايات عنه, ونقله عبد العزيز النخشبي عن كثير من العلماء.
ثم نقل عن الحاكم قوله: (إن العلة فيه مجرد تفرد الوليد بن مسلم, وأنه أوثق ممن رواه بدون ذكر الأسماء).
ورد عليه الحافظ بقوله: (وليست العلة عند الشيخين تفرد الوليد فقط, بل الاختلاف فيه, والاضطراب, وتدليسه, واحتمال الإدراج) اهـ.
وقد نقل الحافظ ما يدل على الإدراج، وهو ما أخرجه عثمان الدارمي في (النقض على المريسي) عن هشام بن عمار عن الوليد فقال عن خليد بن دعلج عن قتادة عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة فذكره بدون التعيين، قال الوليد: وحدثنا سعيد بن عبد العزيز مثل ذلك وقال: (كلها في القرآن (هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) وسرد الأسماء).
وأخرجه أبو الشيخ بن حيان من رواية أبي عامر القرشي عن الوليد بن مسلم بسند آخر فقال: حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي هريرة، قال زهير: (فبلغنا أن غير واحد من أهل العلم قال أو أولها أن تفتتح بلا إله إلا الله وسرد الأسماء) اهـ.
وهذه الرواية هي رواية ابن ماجه السابقة, ولكن وقع فيها سرد الأسماء أولاً ثم بعد أن انتهى سردها، قال زهير: (فبلغنا من غير واحد من أهل العلم، أن أولها يفتح بقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد, بيده الخير, وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله له الأسماء الحسنى).
قال الحافظ: (والوليد بن مسلم أوثق من عبد الملك الصنعاني، ورواية الوليد تشعر بأن التعيين مدرج) اهـ.
قلت: بل عبد الملك لين الحديث كما نقلنا آنفاً من قول الحافظ نفسه!
وقال في (بلوغ المرام) (ص254): (والتحقيق أن سردها إدراج من بعض الرواة) اهـ.
وقال الصنعاني في (سبل السلام) (4/ 108): (اتفق الحفاظ من أئمة الحديث أن سردها إدراج من بعض الرواة) اهـ.
خلاصة القول أن هذه الزيادة مدرجة في الحديث ولا يصح رفعها. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 50

المطلب السابع: تعظيم الله وتمجيده ودعاؤه بأسمائه وصفاته
قوله: فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] الدعاء هو السؤال، والدعاء قد يكون بلسان المقال، مثل: اللهم اغفر لي يا غفور وهكذا، أو بلسان الحال وذلك بالتعبد له، ولهذا قال العلماء: إن الدعاء دعاء مسألة ودعاء عبادة، لأن حقيقة الأمر أن المتعبد يرجو بلسان حاله رحمة الله ويخاف عقابه والأمر بدعاء الله بها يتضمن الأمر بمعرفتها، لأن لا يمكن دعاء الله بها إلا بعد معرفتها وهذا خلافاً لما قاله بعض المداهنين في وقتنا الحاضر: إن البحث في الأسماء والصفات لا فائدة فيه ولا حاجة إليه أيريدون أن يعبدوا شيئاً لا أسماء له ولا صفات! أم يريدون أن يداهنوا هؤلاء المحرفين حتى لا يحصل جدل ولا مناظرة معهم، وهذا مبدأ خطير أن يقال للناس لا تبحثوا في الأسماء والصفات، مع أن الله أمرنا بدعائه بها، والأمر للوجوب، ويقتضي وجوب علمنا بأسماء الله، ومعلوم أيضاً أننا لا نعلمها أسماء مجردة عن المعاني، بل لابد أن لها معاني فلا بد أن نبحث فيها، لأن علمها ألفاظاً مجردة لا فائدة فيه، وإن قدر أن فيه فائدة بالتعبد باللفظ، فإنه لا يحصل به كمال الفائدة واعلم أن دعاء الله بأسمائه له معنيان: الأول: دعاء العبادة، وذلك بأن تتعبد لله بما تقتضيه تلك الأسماء، ويطلق على الدعاء عبادة، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي [غافر:60]، ولم يقل: عن دعائي، فدل على أن الدعاء عبادة فمثلاً الرحيم يدل على الرحمة، وحينئذ تتطلع إلى أسباب الرحمة وتفعلها والغفور يدل على المغفرة، وحينئذ تتعرض لمغفرة الله عز وجل بكثرة التوبة والاستغفار كذلك وما أشبه ذلك والقريب: يقتضي أن تتعرض إلى القرب منه بالصلاة وغيرها، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد والسميع: يقتضي أن تتعبد لله بمقتضي السمع، بحيث لا تسمع الله قولاً يغضبه ولا يرضاه منك والبصير: يقتضي أن تتعبد لله بمقتضي ذلك البصر بحيث لا يرى منك فعلاً يكرهه منك الثاني: دعاء المسألة، وهو أن تقدمها بين يدي سؤالك متوسلاً بها إلى الله تعالى مثلاً: يا حي، يا قيوم اغفر لي وارحمني، وقال صلى الله عليه وسلم: ((فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)) (1)، والإنسان إذا دعا وعلل، فقد أثنى على ربه بهذا الاسم طالباً أن يكون سبباً للإجابة، والتوسل بصفة المدعو المحبوبة له سبب للإجابة، فالثناء على الله بأسمائه من أسباب الإجابة القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 3/ 90
_________
(1) رواه البخاري (834) ومسلم (2705). من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

المطلب الثامن: العلم بأسماء الله وصفاته دليل على كماله سبحانه وتعالى في تشريعه للأحكام
عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا ((إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السماء بيمينه)) (1) وأخرجه مسلم من حديث عبيد الله بن مقسم قلت: وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله وعظيم قدرته وعظم مخلوقاته وقد تعرف سبحانه وتعالى إلى عباده بصفاته وعجائب مخلوقاته، وكلها تعرف وتدل على كماله، وأنه هو المعبود لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وعليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم على الإسلام والإيمان وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ربه بذكر صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات التي تدل على عظمته فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - ص508
_________
(1) رواه البخاري (7412) بلفظ ((الأرض))، ومسلم (2787) بلفظ ((الأرض)) وبلفظ ((يطوي)). وذكره ابن كثير بهذا اللفظ في ((تفسير القرآن العظيم)) (5/ 382) وقال: انفرد به من هذا الوجه البخاري.

المطلب التاسع: التعبد بمقتضى أسماء الله
التعبد لله بمقتضاها، ولذلك وجهان: الوجه الأول: أن تدعو الله بها، لقوله تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] بأن تجعلها وسيلة إلى مطلوبك، فتختار الاسم المناسب لمطلوبك، فعند سؤال المغفرة تقول: يا غفور! وليس من المناسب أن تقول: يا شديد العقاب اغفر لي، بل هذا يشبه الاستهزاء، بل تقول: أجرني من عقابك
الوجه الثاني: أن تتعرض في عبادتك لما تقتضيه هذه الأسماء، فمقتضى الرحيم الرحمة، فاعمل الصالح الذي يكون جالباً لرحمة الله، ومقتضي الغفور المغفرة، إذاً افعل ما يكون سبباً في مغفرة ذنوبك، هذا هو معني إحصائها، فإذا كان كذلك، فهو جدير لأن يكون ثمناً لدخول الجنة، وهذا الثمن ليس على وجه المقابلة، ولكن على وجه السبب، لأن الأعمال الصالحة سبب لدخول الجنة وليست بدلاً، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله ((لن يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة)) (1) القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 3/ 15
_________
(1) رواه البخاري (6467)، ومسلم (2816). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وروي من طرقٍ عن عائشة وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.

المطلب الأول: معنى الاسم والصفة والفرق بينهما
الاسم: (هو ما دل على معنى في نفسه) (1)، و (أسماء الأشياء هي الألفاظ الدالة عليها) (2)، (وقيل: الاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل) (3)
الصفة: (هي الاسم الدال على بعض أحوال الذات وهي الأمارة اللازمة بذات الموصوف الذي يُعرف بها) (4)، (وهي ما وقع الوصف مشتقاً منها، وهو دالٌ عليها، وذلك مثل العلم والقدرة ونحوه) (5)
وقال ابن فارس: (الصفة: الأمارة اللازمة للشيء) (6)، وقال: (النعت: وصفك الشيء بما فيه من حسن) (7)
الفرق بين الاسم والصفة:
سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية عن الفرق بين الاسم والصفة؟ فأجابت بما يلي:
(أسماء الله كل ما دل على ذات الله مع صفات الكمال القائمة به؛ مثل: القادر، العليم، الحكيم، السميع، البصير؛ فإن هذه الأسماء دلَّت على ذات الله، وعلى ما قام بها من العلم والحكمة والسمع والبصر، أما الصفات؛ فهي نعوت الكمال القائمة بالذات؛ كالعلم والحكمة والسمع والبصر؛ فالاسم دل على أمرين، والصفة دلت على أمر واحد، ويقال: الاسم متضمن للصفة، والصفة مستلزمة للاسم) (8)
ولمعرفة ما يُميِّز الاسم عن الصفة، والصفة عن الاسم أمور، منها:
أولاً: (أن الأسماء يشتق منها صفات، أما الصفات؛ فلا يشتق منها أسماء، فنشتق من أسماء الله الرحيم والقادر والعظيم، صفات الرحمة والقدرة والعظمة، لكن لا نشتق من صفات الإرادة والمجيء والمكر اسم المريد والجائي والماكر)
فأسماؤه سبحانه وتعالى أوصاف؛ كما قال ابن القيم في (النونية):
أسماؤُهُ أوْصافُ مَدْحٍ كُلُّها
مُشْتَقَّةٌ قَدْ حُمِّلَتْ لِمَعان
ثانياً: (أن الاسم لا يُشتق من أفعال الله؛ فلا نشتق من كونه يحب ويكره ويغضب اسم المحب والكاره والغاضب، أما صفاته؛ فتشتق من أفعاله فنثبت له صفة المحبة والكره والغضب ونحوها من تلك الأفعال، لذلك قيل: باب الصفات أوسع من باب الأسماء) (9)
ثالثاً: أن أسماء الله عَزَّ وجَلَّ وصفاته تشترك في الاستعاذة بها والحلف بها، لكن تختلف في التعبد والدعاء، فيتعبد الله بأسمائه، فنقول: عبدالكريم، وعبد الرحمن، وعبد العزيز، لكن لا يُتعبد بصفاته؛ فلا نقول: عبد الكرم، وعبد الرحمة، وعبد العزة؛ كما أنه يُدعى اللهُ بأسمائه، فنقول: يا رحيم! ارحمنا، ويا كريم! أكرمنا، ويا لطيف! ألطف بنا، لكن لا ندعو صفاته فنقول: يا رحمة الله! ارحمينا، أو: يا كرم الله! أو: يا لطف الله! ذلك أن الصفة ليست هي الموصوف؛ فالرحمة ليست هي الله، بل هي صفةٌ لله، وكذلك العزة، وغيرها؛ فهذه صفات لله، وليست هي الله، ولا يجوز التعبد إلا لله، ولا يجوز دعاء إلا الله؛ لقوله تعالى: يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: 55]، وقوله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] وغيرها من الآيات (10) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص17
_________
(1) ((التعريفات)) للجرجاني (ص24).
(2) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 195).
(3) ((الكليات)) لأبي البقاء الكفوي (ص 83).
(4) ((التعريفات)) (ص 133).
(5) ((الكليات)) (ص546) ويعني بالوصف هنا الاسم؛ فالعلم صفة، والعالم وصف دال عليها، والقدرة صفة، والقادر وصف دال عليها.
(6) ((معجم مقاييس اللغة)) (5/ 448).
(7) ((معجم مقاييس اللغة)) (6/ 115).
(8) ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (3/ 116 - فتوى رقم 8942).
(9) انظر: ((مدارج السالكين)) (3/ 415).
(10) انظر: ((فتاوى الشيخ ابن عثيمين)) (1/ 26 - ترتيب أشرف عبد المقصود)، وقد نسب هذا القول لشيخ الإسلام ابن تيمية، لكن ينبغي هنا أن نفرق بين دعاء الصفة كما سبق وبين دعاء الله بصفة من صفاته؛ كأن تقول: اللهم ارحمنا برحمتك، فهذا لا بأس به. والله أعلم.

المطلب الثاني: اشتقاق أسماء الله وصفاته ودلالتها على الوصفية
وكل اسم من أسمائه يدل على الذات المسماة وعلى الصفة التي تضمنها الاسم كالعليم يدل على الذات والعلم والقدير يدل على الذات والقدرة والرحيم يدل على الذات والرحمة ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته ممن يدعي الظاهر فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة الذين يقولون لا يقال هو حي ولا ليس بحي بل ينفون عنه النقيضين فإن أولئك القرامطة الباطنية لا ينكرون اسما هو علم محض كالمضمرات وإنما ينكرون ما في أسمائه الحسنى من صفات الإثبات فمن وافقهم على مقصودهم كان مع دعواه الغلو في الظاهر موافقا لغلاة الباطنية في ذلك وليس هذا موضع بسط ذلك وإنما المقصود أن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته وعلى ما في الاسم من صفاته ويدل أيضا على الصفة التي في الاسم الآخر بطريق اللزوم وكذلك أسماء النبي مثل محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب وكذلك أسماء القرآن مثل القرآن والفرقان والهدى والشفاء والبيان والكتاب وأمثال ذلك مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 13/ 333
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل أسماء الله مشتقة أو جامدة -يعني: هل المراد بها الدلالة على الذات فقط، أو على الذات والصفة-؟
الجواب: على الذات والصفة، أما أسماؤنا نحن، فيراد بها الدلالة على الذات فقط، فقد يسمى محمداً وهو من أشد الناس ذماً، وقد يسمى عبد الله وهو من أفجر عباد الله أما أسماء الله عز وجل، وأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسماء القرآن، وأسماء اليوم الآخر، وما أشبه ذلك، فإنها أسماء متضمنة للأوصاف القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 3/ 15

المطلب الثالث: التفاضل بين الأسماء والصفات
وقول من قال صفات الله لا تتفاضل ونحو ذلك قول لا دليل عليه بل هو مورد النزاع ومن الذي جعل صفته التي هي الرحمة لا تفضل على صفته التي هي الغضب وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبى وفي رواية تسبق غضبى وصفة الموصوف من العلم والإرادة والقدرة والكلام والرضا والغضب وغير ذلك من الصفات تتفاضل من وجهين:
أحدهما: أن بعض الصفات أفضل من بعض وأدخل في كل الموصوف بها فإنا نعلم أن اتصاف العبد بالعلم والقدرة والرحمة أفضل من اتصافه بضد ذلك لكن الله تعالى لا يوصف بضد ذلك ولا يوصف إلا بصفات الكمال وله الأسماء الحسنى يدعى بها فلا يدعى إلا بأسمائه الحسنى وأسماؤه متضمنة لصفاته وبعض أسمائه أفضل من بعض وأدخل في كمال الموصوف بها ولهذا في الدعاء المأثور أسألك باسمك العظيم الأعظم الكبير الأكبر ولقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى وأمثال ذلك فتفاضل الأسماء والصفات من الأمور البينات والثاني: أن الصفة الواحدة قد تتفاضل فالأمر بمأمور يكون أكمل من الأمر بمأمور آخر والرضا عن النبيين أعظم من الرضا عمن دونهم والرحمة لهم أكمل من الرحمة لغيرهم وتكليم الله لبعض عباده أكمل من تكليمه لبعض وكذلك سائر هذا الباب وكما أن أسماءه وصفاته متنوعة فهي أيضا متفاضلة كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع مع العقل وإنما شبهة من منع تفاضلها من جنس شبهة من منع تعددها وذلك يرجع إلى نفي الصفات كما يقوله الجهمية لما ادعوه من التركيب. مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 17/ 211

المطلب الرابع: اقتضاء الصفات والأسماء لآثارهما
إن لكل صفة من الصفات العليا حكما ومقتضيات وأثرا هو مظهر كمالها وإن كانت كاملة في نفسها لكن ظهور آثارها وأحكامها من كمالها فلا يجوز تعطيله فإن صفة القادر تستدعي مقدورا وصفة الخالق تستدعي مخلوقا وصفة الوهاب الرازق المعطي المانع الضار النافع المقدم المؤخر المعز المذل العفو الرؤوف تستدعي آثارها وأحكامها فلو عطلت تلك الصفات عن المخلوق المرزوق المغفور له المرحوم المعفو عنه لم يظهر كمالها وكانت معطلة عن مقتضياتها وموجباتها فلو كان الخلق كلهم مطيعون عابدون حامدون لتعطل أثر كثير من الصفات العلى والأسماء الحسنى وكيف كان يظهر أثر صفة العفو والمغفرة والصفح والتجاوز والانتقام والعز والقهر والعدل والحكمة التي تنزل الأشياء منازلها وتضعها مواضعها فلو كان الخلق كلهم أمة واحدة لفاتت الحكم والآيات والعبر والغايات المحمودة في خلقهم على هذا الوجه وفات كمال الملك والتصرف فإن الملك إذا اقتصر تصرفه على مقدور واحد من مقدوراته فأما أن يكون عاجزا عن غيره فيتركه عجزا أو جاهلا بما في تصرفه في غيره من المصلحة فيتركه جهلا وأما أقدر القادرين وأعلم العالمين وأحكم الحاكمين فتصرفه في مملكته لا يقف على مقدور واحد لأن ذلك نقص في ملكه فالكمال كل الكمال في العطاء والمنع والخفض والرفع والثواب والعقاب والإكرام والإهانة والإعزاز والإذلال والتقديم والتأخير والضر والنفع وتخصيص هذا على هذا وإيثار هذا على هذا ولو فعل هذا كله بنوع واحد متماثل الأفراد لكان ذلك منافيا لحكمته وحكمته تأباه كل الآباء فإنه لا يفرق بين متماثلين ولا يسوي بين مختلفين وقد عاب على من يفعل ذلك وأنكر على من نسبه إليه والقرآن مملوء من عيبه على من يفعل ذلك فكيف يجعل له العبيد ما يكرهون ويضربون له مثل السوء وقد فطر الله عباده على إنكار ذلك من بعضهم على بعض وطعنهم على من يفعله وكيف يعيب الرب سبحانه من عباده شيئا ويتصف به وهو سبحانه إنما عابه لأنه نقص فهو أولى أن يتنزه عنه وإذا كان لا بد من ظهور آثار الأسماء والصفات ولا يمكن ظهور آثارها إلا في المتقابلات والمتضادات لم يكن في الحكمة بد من إيجادها إذ لو فقدت لتعطلت الأحكام بتلك الصفات وهو محال يوضحه شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لمحمد بن أبي بكرابن قيم الجوزية - 1/ 219

المطلب الخامس: اعتبارات إطلاق الأسماء
- امتناع إطلاق الأسماء على الله مع عدم ثبوت الصفة منها
قال السفاريني –رحمه الله- في شرحه لنطم الدرة المضيئة: (لكنها) أي الأسماء الحسنى (في) القول (الحق) المعتمد عند أهل الحق (توقيفية) بنص الشرع وورود السمع بها ومما يجب أن يعلم أن علماء السنة اتفقوا على جواز إطلاق الأسماء الحسنى والصفات العلى على الباري - جل وعلا - إذا ورد بها الإذن من الشارع، وعلى امتناعه على ما ورد المنع عنه لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لمحمد بن أحمد السفاريني - 1/ 124
- بيان أسمائه تعالى المضافة التي لا تطلق بغير إضافة
مثل: أرحم الراحمين وخير الغافرين ورب العالمين ومالك يوم الدين وأحسن الخالقين وجامع الناس ليوم لا ريب فيه ومقلب القلوب وغير ذلك مما ثبت في الكتاب والسنة وثبت في الدعاء بها بإجماع المسلمين مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 2/ 380

المبحث الخامس: أنواع المضاف إلى الله
المضاف إلى الله سبحانه في الكتاب والسنة سواء كانت إضافة اسم إلى اسم أو نسبة فعل إلى اسم أو خبر باسم عن اسم لا يخلو من ثلاثة أقسام:
أحدها: إضافة الصفة إلى الموصوف: كقوله تعالى: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ [البقرة:255] وقوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58] وفى حديث الاستخارة: ((اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك)) (1) وفي الحديث الآخر: ((اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق)) (2) فهذا في الإضافة الاسمية
وأما بصيغة الفعل فكقوله: عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:187] وقوله: عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ [المزمل:20] وأما الخبر الذي هو جملة اسمية فمثل قوله: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282] وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284] وذلك لأن الكلام الذي توصف به الذوات إما جملة أو مفرد فالجملة: إما اسمية كقوله: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282] أو فعلية كقوله: عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ [المزمل:20] أما المفرد فلابد فيه من إضافة الصفة لفظا أو معنى كقوله: بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ [البقرة:255] وقوله: هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [القصص:78] أو إضافة الموصوف كقوله: هُوَ الرَّزَّاقُ [الذاريات:58]
والقسم الثاني: إضافة المخلوقات: كقوله نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا [الشمس:13] وقوله وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الحج:26] وقوله رَسُولَ اللَّهِ [النساء:157] وَعِبَادُ الرحمن [الفرقان:63] وقوله ذو الْعَرْشِ [غافر:15] وقوله وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] فهذا القسم لا خلاف بين المسلمين في أنه مخلوق كما إن القسم الأول لم يختلف أهل السنة والجماعة في أنه قديم وغير مخلوق
وقد خالفهم بعض أهل الكلام في ثبوت الصفات لا في أحكامها وخالفهم بعضهم في قدم العلم وأثبت بعضهم حدوثه وليس الغرض هنا تفصيل ذلك
الثالث: وهو محل الكلام هنا ما فيه معنى الصفة والفعل: مثل قوله: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] وقوله: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] وقوله: قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي [الكهف:109] وقوله: يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح:15] وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ [البقرة:75] وقوله: إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1] فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [هود:107] وقوله: فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [البقرة:90] وقوله: وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء:93] وقوله: فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف:55] وقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [محمد:28] وقوله: رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [البينة:8] وقوله: وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا [الأعراف:23] وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ [المؤمنون:118] وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ [البقرة:286] وكذلك قوله: خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:164] لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22] هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ [البقرة:210] هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنعام:158] وفي الأحاديث شيء كثير كقوله في حديث الشفاعة: ((إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله)) (3) وقوله: ((ضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة)) (4) وقوله: ((ينزل ربنا إلى سماء الدنيا)) (5) الحديث وأشباه هذا وهو باب واسع مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 6/ 144
_________
(1) رواه البخاري (1162). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(2) رواه النسائي (3/ 54)، وأحمد (4/ 264) (18351)، وأبو يعلى (3/ 195)، وابن حبان (5/ 304)، والحاكم (1/ 705). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 177): رواه النسائي باختصار ... ، رواه أبو يعلى ورجاله ثقات إلا أن عطاء بن السائب اختلط. وقال الألباني في ((صحيح النسائي)): صحيح.
(3) رواه البخاري (4712)، ومسلم (194). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) رواه البخاري (2826)، ومسلم (1890) بلفظ ((يضحك)).
(5) رواه البخاري (1145) ومسلم (758). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

المبحث السادس: اتصافه تعالى بالأفعال في الأزل
فالصفات الذاتية هي التي لم يزل ولا يزال متصفاً بها وهي نوعان: معنوية وخبرية:
فالمعنوية، مثل: الحياة، والعلم، القدرة، والحكمة وما أشبه ذلك، وهذا على سبيل التمثيل لا الحصر.
والخبرية، مثل: اليدين، والوجه، والعينين وما أشبه ذلك مما سماه، نظيره أبعاض وأجزاء لنا.
فالله تعالى لم يزل له يدان ووجه وعينان لم يحدث له شيء من ذلك بعد أن لم يكن، ولن ينفك عن شيء منه، كما أن الله لم يزل حياً ولا يزال حياً، لم يزل عالماً ولا يزال عالماً، ولم يزل قادراً ولا يزال قادراً وهكذا، يعنى ليس حياته تتجدد، ولا قدرته تتجدد، ولا سمعه يتجدد بل هو موصوف بهذا أزلاً وأبداً، وتجدد المسموع لا يستلزم تجدد السمع، فأنا مثلاً عندما أسمع الأذان الآن فهذا ليس معناه أنه حدث لي سمع جديد عند سماع الأذان بل هو منذ خلقه الله فيَّ لكن المسموع يتجدد وهذا لا أثر له في الصفة واصطلح العلماء رحمهم الله على أن يسموها الصفات الذاتية، قالوا: لأنها ملازمة للذات، لا تنفك عنها والصفات الفعلية هي الصفات المتعلقة بمشيئته، وهي نوعان: صفات لها سبب معلوم، مثل: الرضى، فالله عز وجل إذا وجد سبب الرضى، رضي، كما قال تعالى: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7] وصفات ليس لها سبب معلوم، مثل: النزول إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ومن الصفات ما هو صفة ذاتية وفعلية باعتبارين، فالكلام صفة فعلية باعتبار آحاده لكن باعتبار أصله صفة ذاتية، لأن الله لم يزل ولا يزال متكلماً لكنه يتكلم بما شاء متى شاء اصطلح العلماء رحمهم الله أن يسموا هذه الصفات الصفات الفعلية، لأنها من فعله سبحانه وتعالى ولها أدلة كثيرة من القرآن، مثل: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]، هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام: من الآية158] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة: 119]، وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُم [التوبة: 46]، أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ [المائدة: 80] وليس في إثباتها لله تعالى نقص بوجه من الوجوه بل هذا من كماله أن يكون فاعلاً لما يريد وأولئك القوم المحرفون يقولون: إثباتها من النقص! ولهذا ينكرون جميع الصفات الفعلية، يقولون: لا يجيء ولا يرضى، ولا يسخط ولا يكره ولا يحب ينكرون كل هذه، بدعوى أن هذه حادثة والحادث لا يقوم إلا بحادث وهذا باطل، لأنه في مقابلة النص، وهو باطل بنفسه، فإنه لا يلزم من حدوث الفعل حدوث الفاعل شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 77

المطلب الأول: وجوب الإيمان والتسليم بما جاء في الكتاب والسنة في باب الأسماء والصفات
اتفق السلف على أنه يجب الإيمان بجميع الأسماء الحسنى، وما دلت عليه من الصفات، وما ينشأ عنها من الأفعال شرح العقيدة الواسطية لمحمد خليل هراس – ص157
اعلم يا أخي وفقنا الله وإياك أن الواجب على العبد ... الإيمان بالله وأسمائه وصفاته والتسليم لأقداره واليقين بعدله وحكمته والفرح بفضله ورحمته ونحن لا نعلم من حكمة الله وسائر أسمائه وصفاته إلا ما علمناه ولا يحيط بكنه شيء منها ونهايته إلا الذي اتصف بها وهو الله الذي لا إله إلا هو معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي- ص297

المسألة الأولى: حكم اشتقاق المصدر والفعل والإخبار بهما عن الله
إن الاسم إذا أطلق عليه جاز أن يشتق منه المصدر والفعل فيخبر به عنه فعلا ومصدرا ونحو السميع البصير القدير يطلق عليه منه السمع والبصر والقدرة ويخبر عنه بالأفعال من ذلك نحو قَدْ سَمِعَ اللَّهُ [المجادلة:1] فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ [المرسلات:23] هذا إن كان الفعل متعديا فإن كان لازما لم يخبر عنه به نحو الحي بل يطلق عليه الاسم والمصدر دون الفعل فلا يقال حي بدائع الفوائد لمحمد بن أبي بكرابن قيم الجوزية - 1/ 170

المسألة الثانية: بيان عدم التلازم بين الإخبار بالفعل مقيدا والتسمية به
وأما صفة الكمال بقيد، فهذه لا يوصف الله بها على الإطلاق إلا مقيداً، مثل: المكر، والخداع، والاستهزاء وما أشبه ذلك، فهذه الصفات كمال بقيد، إذا كانت في مقابلة من يفعلون ذلك، فهي كمال، وإن ذكرت مطلقة، فلا تصح بالنسبة لله عز وجل، ولهذا لا يصح إطلاق وصفه بالماكر أو المستهزئ أو الخادع، بل تقيد فنقول: ماكر بالماكرين، مستهزئ بالمنافقين، خادع للمنافقين، كائد للكافرين، فتقيدها لأنها لم تأت إلا مقيدة شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 142

المسألة الثالثة: بيان ما يوصف به الله تعالى من فعل لا يشتق منه اسم
أن الصفة إذا كانت منقسمة إلى كمال ونقص لم تدخل بمطلقها في أسمائه بل يطلق عليه منها كمالها وهذا كالمريد والفاعل والصانع فإن هذه الألفاظ لا تدخل في أسمائه ولهذا غلط من سماه بالصانع عند الإطلاق بل هو الفعال لما يريد فإن الإرادة والفعل والصنع منقسمة ولهذا إنما أطلق على نفسه من ذلك أكمله فعلا وخبرا ... أنه لا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيدا أن يشتق له منه اسم مطلق كما غلط فيه بعض المتأخرين فجعل من أسمائه الحسنى المضل الفاتن الماكر تعالى الله عن قوله فإن هذه الأسماء لم يطلق عليه سبحانه منها إلا أفعال مخصوصة معينة فلا يجوز أن يسمى بأسمائها بدائع الفوائد لمحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية - 1/ 169

المطلب الثالث: حكم الألفاظ المجملة نفيا وإثباتا
وإذا كان المتكلم في مقام الإجابة لمن عارضه بالعقل وادعى أن العقل يعارض النصوص فإنه قد يحتاج إلى حل شبهته وبيان بطلانها فإذا أخذ النافي يذكر ألفاظا مجملة مثل أن يقول: لو كان فوق العرش لكان جسما أو لكان مركبا وهو منزه عن ذلك ولو كان له علم وقدرة لكان جسما وكان مركبا وهو منزه عن ذلك ولو خلق واستوى وأتى لكان تحله الحوادث وهو منزه عن ذلك ولو قامت به الصفات لحلته الأعراض وهو منزه عن ذلك فهنا يستفصل السائل ويقول له: ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة؟ فإن أراد بها حقا وباطلا قبل الحق ورد الباطل مثل أن يقول: أنا أريد بنفي الجسم نفي قيامه بنفسه وقيام الصفات به ونفي كونه مركبا فنقول: هو قائم بنفسه وله صفات قائمة به وأنت سميت هذا تجسيما لم يجز أن أدع الحق الذي دل عليه صحيح المنقول وصريح المعقول لأجل تسميتك أنت له بهذا وأما قولك: ليس مركبا فإن أردت به أنه سبحانه ركبه مركب أو كان متفرقا فتركب وأنه يمكن تفرقه وانفصاله فالله تعالى منزه عن ذلك وإن أردت أنه موصوف بالصفات مباين للمخلوقات فهذا المعني حق ولا يجوز رده لأجل تسميتك له مركبا فهذا ونحوه مما يجاب به درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 1/ 133
قال ابن أبي العز الحنفي –رحمه الله-: وحول الحوادث بالرب تعالى، المنفي في علم الكلام المذموم، لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب ولا سنة، وفيه إجمال: فإن أريد بالنفي أنه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة لشيء من مخلوقاته المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن - فهذا نفي صحيح وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية، من أنه لا يفعل ما يريد، ولا يتكلم بما شاء إذا شاء، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان كما يليق بجلاله وعظمته - فهذا نفي باطل وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث، فيسلم السني للمتكلم ذلك، على ظن أنه نفى عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله، فإذا سلم له هذا النفي ألزمه نفي الصفات الاختيارية وصفات الفعل، وهو غير لازم له وإنما أتي السني من تسليم هذا النفي المجمل، وإلا فلو استفسر واستفصل لم ينقطع معه وكذلك مسألة الصفة: هل هي زائدة على الذات أم لا؟ لفظها مجمل، وكذلك لفظ الغير، فيه إجمال، فقد يراد به ما ليس هو إياه، وقد يراد به ما جاز مفارقته له ولهذا كان أئمة السنة رحمهم الله تعالى لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره، ولا أنه ليس غيره لأن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له، وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو، إذا كان لفظ الغير فيه إجمال، فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل: فإن أريد به أن هناك ذاتاً مجردة قائمة بنفسها منفصلة عن الصفات الزائدة عليها - فهذا غير صحيح، وإن أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة - فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات، بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها، وإنما يفرض الذهن ذاتاً وصفة، كلاً وحده، ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة، فإن هذا محال ولو لم يكن إلا صفة الوجود، فإنها لا تنفك عن الموجود، وإن كان الذهن يفرض ذاتاً ووجوداً، يتصور هذا وحده، وهذا وحده، لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج وقد يقول بعضهم: الصفة لا عين الموصوف ولا غيره هذا له معنى صحيح، وهو: أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة بل هي غيرها، وليست غير الموصوف، بل الموصوف بصفاته شيء واحد غير متعدد فإذا قلت: أعوذ بالله فقد عذت بالذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدسة الثابتة التي لا تقبل الانفصال بوجه من الوجوه وإذا قلت: أعوذ بعزة الله، فقد عذت بصفة من صفات الله تعالى، ولم أعذ بغير الله وهذا المعنى يفهم من لفظ الذات، فإن ذات في أصل معناها لا تستعمل إلا مضافة، أي: ذات وجود، ذات قدرة، ذات عز، ذات علم، ذات كرم، إلى غير ذلك من الصفات فذات كذا بمعنى صاحبة كذا: تأنيث ذو هذا أصل معنى الكلمة، فعلم أن الذات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي - 1/ 97

المطلب الرابع: أحكام التسلسل نفياً وإثباتاً
والتسلسل لفظ مجمل، لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ولا سنة، ليجب مراعاة لفظه، وهو ينقسم إلى واجب وممتنع وممكن: فالتسلسل في المؤثرين محال ممتنع لذاته، وهو أن يكون مؤثرون كل واحد منهم استفاد تأثيره مما قبله لا إلى غاية والتسلسل الواجب: ما دل عليه العقل والشرع، من دوام أفعال الرب تعالى في الأبد، وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيماً آخر لا نفاد له، وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرف الأزل، وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر، فهذا واجب في كلامه، فإنه لم يزل متكلماً إذا شاء، ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته، فإن كل حي فعال، والفرق بين الحي والميت: الفعل، ولهذا قال غير واحد من السلف: الحي الفعال، وقال عثمان بن سعيد: كل حي فعال، ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الأوقات معطلاً عن كماله، من الكلام والإرادة والفعل وأما التسلسل الممكن: فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف، كما تتسلسل في طرف الأبد، فإنه إذا لم يزل حياً قادراً مريداً متكلماً، وذلك من لوازم ذاته - فالفعل ممكن له بموجب هذه الصفات له، وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل، ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه، فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدماً لا أول له، فلكل مخلوق أول، والخالق سبحانه لا أول له، فهو وحده الخالق، وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن قالوا: وكل قول سوى هذا فصريح العقل يرده ويقضي ببطلانه، وكل من اعترف بأن الرب تعالى لم يزل قادراً على الفعل لزمه أحد أمرين، لا بد له منهما: أما أن يقول بأن الفعل لم يزل ممكناً، وأما أن يقول لم يزل واقعاً، وإلا تناقض تناقضاً بيناً، حيث زعم أن الرب تعالى لم يزل قادراً على الفعل، والفعل محال ممتنع لذاته، لو أراده لم يمكن وجوده، بل فرض إرادته عنده محال وهو مقدور له وهذا قول ينقض بعضه بعضاً والمقصود: أن الذي دل عليه الشرع والعقل، أن كل ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن أما كون الرب تعالى لم يزل معطلاً عن الفعل ثم فعل، فليس في الشرع ولا في العقل ما يثبته، بل كلاهما يدل على نقيضه وقد أورد أبو المعالي في إرشاده وغيره من النظار على التسلسل في الماضي، فقالوا: إنك لو قلت: لا أعطيك درهما إلا أعطيك بعده درهماً، كان هذا ممكناً، ولو قلت: لا أعطيك درهماً حتى أعطيك قبله درهماً، كان هذا ممتنعاً وهذا التمثيل والموازنة غير صحيحة، بل الموازنة الصحيحة أن تقول: ما أعطيتك درهماً إلا أعطيتك قبله درهماً، فتجعل ماضياً قبل ماض، كما جعلت هناك مستقبلاً بعد مستقبل وأما قول القائل: لا أعطيك حتى أعطيك قبله، فهو نفي للمستقبل حتى يحصل في المستقبل ويكون قبله فقد نفى المستقبل حتى يوجد المستقبل، وهذا ممتنع أما نفي الماضي حتى يكون قبله ماض، فإن هذا ممكن والعطاء المستقبل ابتداؤه من المستقبل والمعطى الذي له ابتداء وانتهاء لا يكون قبله ما لا نهاية له، فإن ما لا نهاية له فيما يتناهى ممتنع شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي - 1/ 106

المطلب الأول: القاعدة الأولى الأدلة التي تثبت بها أسماء الله تعالى وصفاته
وهي: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تثبت أسماء الله وصفاته بغيرهما وعلى هذا فما ورد إثباته لله تعالى من ذلك في الكتاب أو السنة وجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما وجب نفيه، مع إثبات كمال ضده، وما لم يرد إثباته ولا نفيه فيهما وجب التوقف في لفظه فلا يثبت ولا ينفى لعدم ورود الإثبات والنفي فيه وأما معناه فيفصل فيه، فإن أريد به حق يليق بالله تعالى فهو مقبول وإن أريد به معنى لا يليق بالله عز وجل وجب رده.
فمما ورد إثباته لله تعالى: كل صفة دل عليها اسم من أسماء الله تعالى دلالة مطابقة، أو تضمن، أو التزام ومنه كل صفة دل عليها فعل من أفعاله كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين عباده يوم القيامة، ونحو ذلك من أفعاله التي لا تحصى أنواعها فضلاً عن أفرادها وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] ومنه: الوجه، والعينان، واليدان ونحوها ومنه الكلام، والمشيئة، والإرادة بقسميها: الكوني، والشرعي فالكونية بمعنى المشيئة، والشرعية بمعنى المحبة ومنه الرضا، والمحبة، والغضب، والكراهة ونحوها ومما ورد نفيه عن الله سبحانه لانتفائه وثبوت كمال ضده: الموت، والنوم، والسنة، والعجز، والإعياء، والظلم، والغفلة عن أعمال العباد، وأن يكون له مثيل أو كفؤ ونحو ذلك ومما لم يرد إثباته ولا نفيه لفظ (الجهة) فلو سأل سائل هل نثبت لله تعالى جهة؟ قلنا له: لفظ الجهة لم يرد في الكتاب والسنة إثباتاً ولا نفياً، ويغني عنه ما ثبت فيهما من أن الله تعالى في السماء وأما معناه فإما أن يراد به جهة سفل أو جهة علو تحيط بالله أو جهة علو لا تحيط به فالأول باطل لمنافاته لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب والسنة، والعقل والفطرة، والإجماع والثاني باطل أيضاً؛ لأن الله تعالى أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته والثالث حق؛ لأن الله تعالى العلي فوق خلقه ولا يحيط به شيء من مخلوقاته ودليل هذه القاعدة السمع والعقل فأما السمع فمنه قوله تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155] وقوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158] وقوله: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] وقوله: مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النساء:80] وقوله: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59] وقوله: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [المائدة:49].
إلى غير ذلك من النصوص الدالة على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن والسنة وكل نص يدل على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن فهو دال على وجوب الإيمان بما جاء في السنة؛ لأن مما جاء في القرآن الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم والرد إليه عند التنازع والرد إليه يكون إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته فأين الإيمان بالقرآن لمن استكبر عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم المأمور به في القرآن؟ وأين الإيمان بالقرآن لمن لم يرد النزاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر الله به في القرآن؟ وأين الإيمان بالرسول الذي أمر به القرآن لمن لم يقبل ما جاء في سنته؟

ولقد قال الله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] ومن المعلوم أن كثيراً من أمور الشريعة العلمية والعملية جاء بيانها بالسنة، فيكون بيانها بالسنة من تبيان القرآن وأما العقل فنقول: إن تفصيل القول فيما يجب أو يمتنع أو يجوز في حق الله تعالى من أمور الغيب التي لا يمكن إدراكها بالعقل، فوجب الرجوع فيه إلى ما جاء في الكتاب والسنة القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص39
وإن الشرع قد دل الناس على الطرق العقلية بأيسر طريق وأحسنه، فأكثر الأدلة الشرعية فيها إرشاد للناس للطرق العقلية لتقرير الإلهيات والنبوات والبعث والمعاد (1).
وما يتعلق بهذا الباب فإنه لابد من طلب الهدى فيه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لتعرف الطريقة الشرعية في الإثبات والتنزيه، إذ لا أحد أعلم بالله من الله ولا أحد أعلم به من خلقه من رسوله صلى الله عليه وسلم.
والأسماء والصفات من أعظم المسائل التي يجب فيها الاتباع، وقد قال الله تعالى: اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء [الأعراف: 3]، وأمر الله تعالى برد التنازع إلى كتابه وإلى رسوله فقال: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: 10] وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]، وأقسم سبحانه على عدم إيمان من لم يحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يذعن ويسلم له فقال: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65].
ففي هذه الأدلة الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله وأتباع ما أنزل وترك غيره ورد النزاع إلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا إلى غيرهما.
والذي يدعو إلى القول بالاكتفاء بالكتاب والسنة أمور منها:
الأمر الأول: إن الكلام الشرعي لا يخشى فيه جهل ولا خطأ ولا تقصير في البيان ولا كذب، إذ هو كما قال الله تعالى عن كتابه: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42]، والجهل والخطأ والتقصير في البيان والكذب والتلبيس كل ذلك من الباطل، وقد نص الله على نفيه عن كتابه، وأثبت العصمة لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3 - 4]، ولا شك أن كلام الله تعالى يجب أن يكون مقدماً في هذا الباب إذ هو أعلم بنفسه فقال: أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ [البقرة: 140]، ونفى إحاطة الناس بالعلم به فقال: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: 110]، ووصف كلامه بأنه أحسن الحديث وأصدق الحديث فقال: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا [النساء: 87]، وقال: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ [الزمر: 23]. ووصفه بذلك يقتضي سلامته من الخطأ في الأخبار والأحكام ويقتضي كذلك أنه مشتمل على أحسن طريق لدلالة الناس وإرشادهم وهدايتهم.
_________
(1) انظر: ((الصواعق المرسلة)) (2/ 460 - 499).

ويزيد الأمر وضوحاً: أن الذي خلق هو الذي أنزل الشرع، فهو أعلم بما يناسبهم من السبل الموصلة إلى الحق، ذلك أن الله تعالى قد فطر الخلق على الإقرار به والميل إلى الحق وجعلهم مستعدين لقبوله – إلا إذا تغيرت الفطرة – فظهر من هذا أن الله الذي أنزل الكتاب هو الذي هيأ خلقه لمعرفة أصل الإيمان وفروعه بالشرع، قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الروم: 30 - 31].
فالله عز وجل أعد للناس ما يسددهم ويوصلهم إلى طريق الحق من الفطرة والآيات الظاهرة في الآفاق والأنفس فإذا انقاد الناس واستضاءوا بنور الشرع فإنهم يأمنون ما يخشى من قصور العقل المجرد وحده فيه (1) خاصة إذا علم أن النفوس متحركة بإراداتها وأنها قد تفسد وتتغير، فالضلال وعدم العلم إذا يرجع إلى أمرين (2):
الأول: ما يطرأ على الفطرة من التغيير وما يغشاها من الانحراف، فتنصرف بذلك عما هي معدة له من التوصل إلى الحق وقبوله، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: واقرأوا إن شئتم، فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30])) (3) لذلك فإن من سلمت فطرته يكون مستعداً لقبول الشرع، ولا يمكن أن يتبادر إلى ذهنه بحال أن ما ذكره الله تعالى من الصفات وذكره عنه رسوله صلى الله عليه وسلم أن ظاهره يستلزم التشبيه والتمثيل، بل يعلم أن ذلك يثبت على غاية الكمال والتنزيه.
الثاني: الإعراض عن الشرع المكمل للمعرفة الفطرية والمجلي لها عما يغشاها من الانحراف والتغيير، يقول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ [الشورى: 52 - 53].
فإذا اجتمع الأمران – تغيير الفطرة والإعراض عن الشرع – في شخص كان في غاية الضلال والعياذ بالله.
_________
(1) انظر: ((القائد إلى تصحيح العقائد)) للمعلمي (ص: 40 - 43).
(2) انظر: ((القائد إلى تصحيح العقائد)) للمعلمي (ص: 40).
(3) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658).

فإذا علم أن الله قد فطر الناس على الحق وأنزل إليهم ما يناسبهم علم أن الناس في غنى عن الكلام الذي عند إطلاقه قد يتضمن باطلاً، مثل علم الكلام الذي يقوم على الأوهام والشكوك وإن سماها علماء الكلام بالقواطع العقلية والبراهين، فإن الصحابة رضي الله عنهم ماتوا ولم يعرفوا الكلام عن طريقة الجواهر والأعراض والمقاييس المنطقية والنظر العقلي المتعمق البعيد عن الفطرة. وفي هذا الصدد يقول أبو الوفاء بن عقيل لبعض أصحابه: (أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت، وقد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك وكثير منهم إلى الإلحاد، تشم روائح الإلحاد من فلتات المتكلمين، وأصل ذلك أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع وطلبوا الحقائق وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله من الحكمة التي انفرد بها، ولا أخرج الباري من علمه لخلقه ما علمه هو من حقائق الأمور) (1).
ولزيادة البيان فإنه يقال: إن الله قد أكمل دينه، وشهد على خيرية القرن الأول، ففي إكمال الدين والشهادة بأن الصحابة كانوا خير الناس الدليل الواضح والحجة القاطعة بأن جميع العقائد المطلوب معرفتها في الإسلام كانت مبينة وحاصلة لهم.
أما إكمال الدين فإن الله تعالى قد قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]، فوضح من هذا أن الناس لا يحتاجون إلى شيء في أمور دينهم إلى نقل سوى القرآن والسنة بله الفلسفات الإلهية اليونانية، وقد جاء أناس من المسلمين بكتب قد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كفى بقوم ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم)) (2). فأنزل الله عز وجل: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 51]، وقيل إنها نزلت في المشركين حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آية تدل على صدقه، فبين الله تعالى أن في كتابه الكفاية. بل إن الله تعالى وصف كتابه بأنه برهان وشهد بذلك وكفى بالله شهيداً فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا [النساء: 174]، فالطريقة الاستدلالية البرهانية الصحيحة هي الطريقة الشرعية المبينة لمطالب الدين كلها والواعدة بكل خير والداعية إليه.
_________
(1) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 98) و ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 228).
(2) رواه أبو داود في ((المراسيل)) (487)، والطبري (20/ 53)، وابن عبدالبر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 40 - 41). مرسلاً من حديث يحيى بن جعدة. قال ابن عبدالبر: ورواه الفريابي وابن وهب والحميدي وأبو الطاهر عن سفيان عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء.

وأما كمال إيمان الصحابة رضوان الله عليهم فقد قال تعالى عنهم: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 74] وقال: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ [آل عمران: 110] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني ... )) (1)، وتمسكهم بالكتاب والسنة معلوم، وقد أخذوا من ذلك حظاً وافراً فاستحقوا تلك الخيرية المنصوص عليها. ولم يؤثر عنهم الخوض فيما خاض فيه المتأخرون مع قدرتهم على البيان لفصاحتهم ورجحان عقولهم، ولم يكونوا يعدلون عن النصوص الشرعية مهما أثيرت الشبهات، فإن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – لما ذكر له كلام بعض الناس وخوضهم في القدر تبرأ منهم واكتفى بذكر حديث جبريل عليه السلام في الإسلام والإيمان والإحسان ... فهذا يدل على اعتصامهم بالشرع، وأن الشرع هو الحق وأنه قد جاء بإثبات الصفات لله على الوجه اللائق به.
ثم إن التابعين الذين أخذوا العلم عن الصحابة، وهم خير من جاء بعدهم لم يكونوا يعدلون عن الأدلة الشرعية ولم يقولوا فيها إنها ظنية، بل كلامهم في ذم الكلام وأهله وهجر المبتدعة مشهور. وهكذا من جاء بعدهم إلى زمان الأئمة الأربعة ومن تبعهم بإحسان يقولون بهذا الأصل العظيم.
الأمر الثاني: مما يدعو إلى الاكتفاء بالشرع:
هو أن مسائل الإيمان بالأسماء والصفات من المسائل الغيبية التي لا يمكن أن تعرف إلا بالخبر الصادق، والخبر الصادق يأتي ببيان الأسماء والصفات، ويأتي كذلك بطرق إثباتها من الطرق العقلية الواضحة – ويبين طريقة الإثبات والتنزيه فيها.
أما ما عدا ذلك فعلوم مأخوذة من فلاسفة اليونان دخلت على المسلمين فأحدثت بينهم شراً مستطيراً، فنشأت الفرق، وكلها متناحرة مختلفة فيما بينها، مخالفة للكتاب والسنة، بل إن الفرقة الواحدة يؤثر عنها في المسألة الواحدة أكثر من قول، وهذا حال كل من ابتغى الهدى في غير كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فدخول هذه العلوم كان شراً لا شك فيه، ومن شرها أنه قد تسلط بها بعض أعداء الإسلام في النيل منه، ذلك لأن بعض من أخذ هذه العلوم من المسلمين حاول تطبيق ما ورد في الشرع على تلك الأصول الفاسدة، فيؤول به الأمر إلى إنكار الصفات وغير ذلك، كما هو الشأن في إثبات وجود الله تعالى، إذ يقوم عندهم دليل إثباته على أصل فاسد وهو منع قيام الحوادث بذات الباري، ففرعوا على هذا: القول بنفي الصفات الاختيارية عنه ... فيكثر عندئذ التناقض، ويلتزمون شنائع يتسلط بها عليهم بعض أعداء الإسلام.
ولهذا الاضطراب الواقع والحيرة الشديدة تراجع بعض كبار علماء الكلام عما خاضوا فيه مسلمين للسلف طريقتهم ...
فكيف بعد هذا يوثق بعلوم هؤلاء الفلاسفة، وقد اجتمعت الأمور الآتية:
1 - النهي عن متابعة غير الكتاب والسنة.
2 - ونهي الأئمة عن علم الكلام لاشتماله على الباطل.
3 - وحيرة وتردد من خاض فيه من الكبار!. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف - بتصرف– 2/ 434
_________
(1) رواه البخاري (2652)، ومسلم (2533). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

المطلب الثاني: القاعدة الثانية إجراء نصوص القرآن والسنة على ظاهرها دون تحريف لاسيما نصوص الصفات حيث لا مجال للرأي فيها.
ودليل ذلك: السمع، والعقل أما السمع: فقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:193] وقوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف:2] وقوله: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3] وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي وقد ذم الله تعالى اليهود على تحريفهم، وبين أنهم بتحريفهم من أبعد الناس عن الإيمان فقال: أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75] وقال تعالى: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [النساء:46] الآية وأما العقل: فلأن المتكلم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد خاطبنا باللسان العربي المبين فوجب قبوله على ظاهره وإلا لاختلفت الآراء وتفرقت الأمة القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص42
والمراد بالظاهر: الظاهر الشرعي، وذلك بإثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة على حقيقة الإثبات وتنزيه الخالق عن مشابهة الخلق له في تلك الصفات (1) مع قطع الطمع عن إدراك الكيفية – ... – وبهذا يعلم أن معاني نصوص الصفات مفهومة، وأن إدراك كيفية الصفات شيء ممتنع. فما يتبادر إلى الذهن من المعاني الشرعية هو المراد بالظاهر.
وأما ترك التحريف، فالمراد به عدم التسلط على نصوص الصفات بصرف معانيها المتبادرة بأصل الوضع أو السياق إلى معاني أخرى غير متبادرة، وهذا الذي يسميه أهله تأويلاً،. ...
المسألة الأولى دواعي حمل النصوص على ظاهرها
وهذه الدواعي هي أدلة كلية تبين أن حمل نصوص الصفات على ظاهرها متعين، وهو أمر لا خفاء فيه ولا غموض، ويمكن حصرها ... في أربعة أدلة:
الدليل الأول: وصف القرآن بالبيان والهدى:
إذا كان السامع متمكناً من الفهم، وكان خطاب المتكلم بيناً واضحاً، فهم المخاطب مراد المتكلم بكلامه. وقد وصف الله تعالى كتابه بأنه تبيان لكل شيء فقال: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] وقال: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل: 64]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4]، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44].
_________
(1) انظر: ((الرسالة التدمرية)) (ص: 69) و ((أضواء البيان)) (2/ 319 - 320).

فاتضح من هذه النصوص – وغيرها كثير – أن كتاب الله تعالى فيه بيان الحق للناس، وأنه قد أنزل بلسان عربي مبين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم – مبين للناس هذا الكتاب بلسان قومه، فهذا يفيد أن نصوص الصفات مما بينه الله تعالى للناس، وهي كثيرة جداً وتتناول كل الصفات مثل العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والحياة والإرادة والاستواء واليدين والوجه والغضب والرضا، ولا يوجد مع هذا دليل واحد يفيد أن هذه النصوص مراد بها خلاف ظاهرها. فإخلاء المتكلم كلامه من قرينة تفيد أن ظاهره غير مراد ينافي بيانه وإرشاده، مع ملاحظة الأمور الآتية:
الأمر الأول: إن الله تعالى أعلم بما ينزل (1).
الأمر الثاني: إنه لو كان الظاهر غير مراد لجاء البيان بذلك – إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع، ووقت الحاجة هو وقت الخطاب، وعلى فرض جواز تأخره إلى ما بعد ذلك فلا يجوز تأخيره بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه على كثرة النصوص الواردة بذكر الصفات لم يأت نص واحد يصرفها عن ظاهرها. فعلم بهذه الأمور مجتمعة أن خطاب الشرع في صفات رب العالمين يجب حمله على ظاهره إذ المخاطب أعلم بما ينزل وكلامه هدى وبيان وقد أخلاه عما يصرفه عن ظاهره.
الدليل الثاني: وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم – المبين للكتاب – كما قال الله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] وهو الهادي إلى صراط مستقيم كما قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] قد اشتملت سنته على ذكر الصفات لله تعالى، إما تصريحاً بالقول وإما إقراراً، وكل من القول والإقرار إما أن يكون قد ورد مثله في القرآن أو لم يرد، وكل من ذلك إما صفات فعلية أو ذاتية.
فمثال قوله صلى الله عليه وسلم في الصفات وهي مذكورة في القرآن: صفة اليدين، وصفة الاستواء، فالأولى صفة ذاتية، والثانية فعلية ...
ومثال قوله صلى الله عليه وسلم في صفات لم يأت ذكرها في القرآن: الضحك والأصابع. ومثال إقراره صلى الله عليه وسلم – لبعض الصفات، وهي مذكورة في القرآن: الاستواء، كما هو في حديث الجارية، لما سألها أين الله؟ قالت في السماء، فقال لسيدها ((أعتقها فإنها مؤمنة)) (2) ومثال إقراره صلى الله عليه وسلم لبعض الصفات، ولم يأت ذكرها في القرآن: الأصابع، كحديث الحبر اليهودي، ... وقد يفسر الرسول صلى الله عليه وسلم – صفة قد لا يفهم من نص القرآن أنها صفة لله تعالى كصفة الساق.
الدليل الثالث: فهم الصحابة لها أن ظاهرها مراد .....
الدليل الرابع: إجماع الأئمة على أن ظاهرها مراد.
_________
(1) انظر: ((الصواعق المرسلة)) (1/ 310، 320).
(2) رواه مسلم (537). من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه.

قال الوليد بن مسلم: (سألت الأوزاعي ومالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤية وغير ذلك، فقالوا: أمضها بلا كيف) (1) وفي رواية أنه سألهم ( ... عن الأحاديث التي فيها الصفات فكلهم قال: أمروها كما جاءت بلا تفسير) (2). وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (هذه الأحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض وهي عندنا حق لا نشك فيه ... ) وقال الإمام أحمد: (ولا تفسر هذه الأحاديث إلا مثل ما جاءت ولا نردها ... ) (3) وقال الإمام أبو عمر بن عبد البر (ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى أتباع ما أنزل إلينا من ربنا تعالى إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله عز وجل إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم. ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين. والاستواء معلوم في اللغة مفهوم، وهو العلو والارتفاع على شيء .. إلخ) اهـ (4).
وأقوال الأئمة كثيرة في هذا الباب يصعب حصرها، وفيما ذكر الكفاية وبالله التوفيق.
فهذا الذي تقدم يدل دلالة قاطعة على أن ما جاء في نصوص الصفات حق على ظاهره المراد شرعاً، فيجب إثباتها بلا تمثيل، وتنزيه الله عن مشابهة خلقه فيها بلا تعطيل، ذلك أن ذكرها في القرآن بلا قرينة تصرفها عن ظاهرها ثم تأكيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في سنته قولاً وإقراراً بذكرها كما وردت في القرآن، بل يذكر صفات أخرى لم ترد فيه وهو الذي قال الله فيه: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3 - 4] يدل دلالة قاطعة أن نصوص الصفات يجب إجراؤها على ظاهرها، إذ المأمور ببيان الدين لم يصرف عن ظاهرها – وهذا أمر بين. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– بتصرف - 2/ 454
_________
(1) أخرجه الدارقطني في ((الصفات)) (ص: 75) (رقم: 67) وانظر ((مختصر العلو)) (ص: 143) (رقم: 116).
(2) أخرجه الآجري في ((الشريعة)) (ص: 314) ورواها الخلال كما في ((سير أعلام النبلاء)) (8/ 162).
(3) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 164).
(4) ((التمهيد)) لابن عبد البر (7/ 131).

المطلب الثالث: القاعدة الثالثة ظاهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار ومجهولة لنا باعتبار آخر.
فباعتبار المعنى هي معلومة، وباعتبار الكيفية التي هي عليها مجهولة وقد دل على ذلك: السمع والعقل أما السمع: فمنه قوله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29] وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3] وقوله جل ذكره وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44] والتدبر لا يكون إلا فيما يمكن الوصول إلى فهمه، ليتذكر الإنسان بما فهمه منه وكون القرآن عربياً ليعقله من يفهم العربية يدل على أن معناه معلوم وإلا لما كان فرق بين أن يكون باللغة العربية أو غيرها وبيان النبي صلى الله عليه وسلم القرآن للناس شامل لبيان لفظه وبيان معناه وأما العقل: فلأن من المحال أن ينزل الله تعالى كتاباً أو يتكلم رسوله صلى الله عليه وسلم بكلام يقصد بهذا الكتاب وهذا الكلام أن يكون هداية للخلق، ويبقى في أعظم الأمور وأشدها ضرورة مجهول المعنى، بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يفهم منها شيء؛ لأن ذلك من السفه الذي تأباه حكمة الله تعالى، وقد قال الله تعالى عن كتابه: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1] هذه دلالة السمع والعقل على علمنا بمعاني نصوص الصفات ... وبهذا علم بطلان مذهب المفوضة الذين يفوضون علم معاني نصوص الصفات، ويدَّعون أن هذا مذهب السلف والسلف بريئون من هذا المذهب، وقد تواترت الأقوال عنهم بإثبات المعاني لهذه النصوص إجمالاً أحياناً وتفصيلاً أحياناً، وتفويضهم الكيفية إلى علم الله – عز وجل.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه المعروف بـ (العقل والنقل 1/ 116) المطبوع على هامش (منهاج السنة): وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله – إلى أن قال .... -: وحينئذٍ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه، قال: ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدىً وبياناً للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم وأمر بتدبر القرآن وعقله ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته لا يعلم أحد معناه فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بيَّن للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين، وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك؛ لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به، فيبقى هذا الكلام سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء؛ لأننا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون فضلاً عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد أهـ كلام الشيخ وهو كلام سديد من ذي رأي رشيد، وما عليه مزيد – رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجمعنا به في جنات النعيم القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص43

المطلب الرابع: القاعدة الرابعة ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني، وهو يختلف بحسب السياق وما يضاف إليه الكلام.
فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق، ومعنى آخر في سياق وتركيب الكلام يفيد معنى على وجه ومعنى آخر على وجه فلفظ (القرية)، مثلاً يراد به القوم تارة، ومساكن القوم تارة أخرى فمن الأول قوله تعالى: وَإِن مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً [الإسراء:58] ومن الثاني قوله تعالى عن الملائكة ضيف إبراهيم: إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ [العنكبوت:31] وتقول: صنعت هذا بيدي، فلا تكون اليد كاليد في قوله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ [ص:75] لأن اليد في المثال أضيفت إلى المخلوق فتكون مناسبة له، وفي الآية أضيفت إلى الخالق فتكون لائقة به، فلا أحد سليم الفطرة صريح العقل يعتقد أن يد الخالق كيد المخلوق أو بالعكس ونقول: ما عندك إلا زيد، وما زيد إلا عندك، فتفيد الجملة الثانية معنى غير ما تفيده الأولى مع اتحاد الكلمات، لكن اختلف التركيب فغير المعنى به إذا تقرر هذا فظاهر نصوص الصفات ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني وقد انقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: من جعلوا الظاهر المتبادر منها معنى حقاً يليق بالله – عز وجل – وأبقوا دلالتها على ذلك، وهؤلاء هم السلف الذين اجتمعوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والذين لا يصدق لقب أهل السنة والجماعة إلا عليهم وقد أجمعوا على ذلك كما نقله ابن عبد البر فقال: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن الكريم والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة" أهـ وقال القاضي أبو يعلى في كتاب (إبطال التأويل): (لا يجوز رد هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله، لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة) أهـ نقل ذلك عن ابن عبد البر والقاضي شيخ الإسلام ابن تيميه في الفتوى الحموية 87 - 89 جـ5 من مجموع الفتاوى لابن القاسم وهذا هو المذهب الصحيح، والطريق القويم الحكيم، وذلك لوجهين:
الأول: أنه تطبيق تام لما دل عليه الكتاب والسنة من وجوب الأخذ بما جاء فيهما من أسماء الله وصفاته كما يعلم ذلك من تتبعه بعلم وإنصاف
الثاني: أن يقال: إن الحق إما أن يكون فيما قاله السلف أو فيما قاله غيرهم، والثاني باطل لأنه يلزم منه أن يكون السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان تكلموا بالباطل تصريحاً أو ظاهراً، ولم يتكلموا مرة واحدة لا تصريحاً ولا ظاهراً بالحق الذي يجب اعتقاده وهذا يستلزم أن يكونوا إما جاهلين بالحق وإما عالمين به لكن كتموه، وكلاهما باطل، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، فتعين أن يكون الحق فيما قاله السلف دون غيرهم.

القسم الثاني: من جعلوا الظاهر المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً لا يليق بالله وهو: التشبيه، وأبقوا دلالتها على ذلك وهؤلاء هم المشبهة ومذهبهم باطل محرم من عدة أوجه: الأول: أنه جناية على النصوص وتعطيل لها عن المراد بها، فكيف يكون المراد بها التشبيه وقد قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] الثاني: أن العقل دل على مباينة الخالق للمخلوق في الذات والصفات، فكيف يحكم بدلالة النصوص على التشابه بينهما؟ الثالث: أن هذا المفهوم الذي فهمه المشبه من النصوص مخالف لما فهمه السلف منها فيكون باطلاً فإن قال المشبه: أنا لا أعقل من نزول الله ويده إلا مثل ما للمخلوق من ذلك، والله تعالى لم يخاطبنا إلا بما نعرفه ونعقله فجوابه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الذي خاطبنا بذلك هو الذي قال عن نفسه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ونهى عباده أن يضربوا له الأمثال، أو يجعلوا له أنداداً فقال: فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:74] وقال: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] وكلامه – تعالى – كله حق يصدق بعضه بعضاً، ولا يتناقض ثانيها: أن يقال له: ألست تعقل لله ذاتاً لا تشبه الذوات؟ فسيقول: بلى! فيقال له: فلتعقل له صفات لا تشبه الصفات، فإن القول في الصفات كالقول في الذات، ومن فرق بينهما فقد تناقض! ثالثها: أن يقال: ألست تشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية؟ فسيقول: بلى! فيقال له: إذا عقلت التباين بين المخلوقات في هذا، فلماذا لا تعقله بين الخالق والمخلوق، مع أن التباين بين الخالق والمخلوق أظهر وأعظم، بل التماثل مستحيل بين الخالق والمخلوق كما سبق في القاعدة السادسة من قواعد الصفات القسم الثالث: من جعلوا المعنى المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً، لا يليق بالله وهو التشبيه، ثم إنهم من أجل ذلك أنكروا ما دلت عليه من المعنى اللائق بالله، وهم أهل التعطيل سواء كان تعطيلهم عاماً في الأسماء والصفات، أم خاصاً فيهما، أو في أحدهما، فهؤلاء صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معاني عينوها بعقولهم، واضطربوا في تعيينها اضطراباً كثيراً، وسموا ذلك تأويلاً، وهو في الحقيقة تحريف ومذهبهم باطل من وجوه: أحدها: أنه جناية على النصوص حيث جعلوها دالة على معنى باطل غير لائق بالله ولا مراد له الثاني: أنه صرف لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره، والله – تعالى – خاطب الناس بلسان عربي مبين، ليعقلوا الكلام ويفهموه على ما يقتضيه هذا اللسان العربي، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم بأفصح لسان البشر؛ فوجب حمل كلام الله ورسوله على ظاهره المفهوم بذلك اللسان العربي؛ غير أنه يجب أن يصان عن التكييف والتمثيل في حق الله – عز وجل.
الثالث: أن صرف كلام الله ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه، قول على الله بلا علم وهو محرم؛ لقوله – تعالى -: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] ولقوله – سبحانه -: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] فالصارف لكلام الله – تعالى – ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه قد قفا ما ليس له به علم وقال على الله ما لا يعلم من وجهين: الأول: أنه زعم أنه ليس المراد بكلام الله – تعالى – ورسوله كذا، مع أنه ظاهر الكلام الثاني: أنه زعم أن المراد به كذا لمعنى آخر لا يدل عليه ظاهر الكلام وإذا كان من المعلوم أن تعيين أحد المعنيين المتساويين في الاحتمال قول بلا علم؛ فما ظنك بتعيين المعنى المرجوح المخالف لظاهر الكلام؟! مثال ذلك: قوله – تعالى – لإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] فإذا صرف الكلام عن ظاهره، وقال: لم يرد باليدين اليدين الحقيقيتين وإنما أراد كذا وكذا قلنا له: ما دليلك على ما نفيت؟! وما دليلك على ما أثبت؟! فإن أتى بدليل – وأنى له ذلك – وإلا كان قائلاً على الله بلا علم في نفيه وإثباته الوجه الرابع: في إبطال مذهب أهل التعطيل: أن صرف نصوص الصفات عن ظاهرها مخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها، فيكون باطلاً، لأن الحق بلا ريب فيما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسلف الأمة وأئمتها الوجه الخامس: أن يقال للمعطل: هل أنت أعلم بالله من نفسه؟ فسيقول: لا ثم يقال له: هل ما أخبر الله به عن نفسه صدق وحق؟ فسيقول: نعم ثم يقال له: هل تعلم كلاماً أفصح وأبين من كلام الله – تعالى؟ فسيقول: لا ثم يقال له: هل تظن أن الله – سبحانه وتعالى – أراد أن يعمي الحق على الخلق في هذه النصوص ليستخرجوه بعقولهم؟ فسيقول: لا هذا ما يقال له باعتبار ما جاء في القرآن أما باعتبار ما جاء في السنة فيقال له: هل أنت أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فسيقول: لا ثم يقال له: هل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحق صدق وحق؟ فسيقول: نعم ثم يقال له: هل تعلم أن أحداً من الناس أفصح كلاماً، وأبين من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسيقول لا ثم يقال له هل تعلم أن أحداً من الناس أنصح لعباد الله من رسول الله؟ فسيقول: لا فيقال له: إذا كنت تقر بذلك فلماذا لا يكون عندك الإقدام والشجاعة في إثبات ما أثبته الله – تعالى – لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على حقيقته وظاهره اللائق بالله؟ وكيف يكون عندك الإقدام والشجاعة في نفي حقيقته تلك، وصرفه إلى معنى يخالف ظاهره بغير علم؟ وماذا يضيرك إذا أثبت لله – تعالى – ما أثبته لنفسه في كتابه، أو سنة نبيه على الوجه اللائق به، فأخذت بما جاء في الكتاب والسنة إثباتاً ونفياً؟ أليس هذا أسلم لك وأقوم لجوابك إذا سئلت يوم القيامة: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [قصص:65] أوليس صرفك لهذه النصوص عن ظاهرها، وتعيين معنى آخر مخاطرة منك؟! فلعل المراد يكون – على تقدير جواز صرفها – غير ما صرفتها إليه الوجه السادس في إبطال مذهب أهل التعطيل: أنه يلزم عليه لوازم باطلة؛ وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم فمن هذه اللوازم: أولاً: أن أهل التعطيل لم يصرفوا نصوص الصفات عن ظاهرها إلا حيث اعتقدوا أنه مستلزم أو موهم لتشبيه الله
– تعالى – بخلقه، وتشبيه الله – تعالى – بخلقه كفر؛ لأنه تكذيب لقوله – تعالى-: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] قال نعيم بن حماد الخزاعي أحد مشايخ البخاري – رحمهما الله -: من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً أهـ ومن المعلوم أن من أبطل الباطل أن يجعل ظاهر كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيهاً وكفراً أو موهماً لذلك ثانياً: أن كتاب الله – تعالى – الذي أنزله تبياناً لكل شيء، وهدى للناس، وشفاءً لما في الصدور، ونوراً مبيناً، وفرقاناً بين الحق والباطل لم يبين الله – تعالى – فيه ما يجب على العباد اعتقاده في أسمائه وصفاته، وإنما جعل ذلك موكلاً إلى عقولهم، يثبتون لله ما يشاءون، وينكرون ما لا يريدون وهذا ظاهر البطلان ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها، كانوا قاصرين أو مقصرين في معرفة وتبيين ما يجب لله تعالى من الصفات أو يمتنع عليه أو يجوز؛ إذ لم يرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه أهل التعطيل في صفات الله – تعالى – وسموه تأويلاً.
وحينئذ إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وسلف الأمة وأئمتها قاصرين لجهلهم بذلك وعجزهم عن معرفته، أو مقصرين لعدم بيانهم للأمة، وكلا الأمرين باطل!! رابعاً: أن كلام الله ورسوله ليس مرجعاً للناس فيما يعتقدونه في ربهم وإلههم الذي معرفتهم به من أهم ما جاءت به الشرائع بل هو زبدة الرسالات، وإنما المرجع تلك العقول المضطربة المتناقضة وما خالفها، فسبيله التكذيب إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، أو التحريف الذي يسمونه تأويلاً، إن لم يتمكنوا من تكذيبه خامساً: أنه يلزم منه جواز نفي ما أثبته الله ورسوله، فيقال في قوله – تعالى -: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22] لا يجيء، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)) (1)
_________
(1) رواه البخاري (1145) ومسلم (758). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ..

إنه لا ينزل لأن إسناد المجيء والنزول إلى الله مجاز عندهم، وأظهر علامات المجاز عند القائلين به صحة نفيه، ونفي ما أثبته الله ورسوله من أبطل الباطل، ولا يمكن الانفكاك عنه بتأويله إلى أمره؛ لأنه ليس في السياق ما يدل عليه ثم إن من أهل التعطيل من طرد قاعدته في جميع الصفات، أو تعدى إلى الأسماء – أيضاً – ومنهم من تناقض فأثبت بعض الصفات دون بعض، كالأشعرية والماتريدية: أثبتوا ما أثبتوه بحجة أن العقل يدل عليه، ونفوا ما نفوه بحجة أن العقل ينفيه أو لا يدل عليه فنقول لهم: نفيكم لما نفيتموه بحجة أن العقل لا يدل عليه يمكن إثباته بالطريق العقلي الذي أثبتم به ما أثبتموه كما هو ثابت بالدليل السمعي مثال ذلك: أنهم أثبتوا صفة الإرادة، ونفوا صفة الرحمة أثبتوا صفة الإرادة لدلالة السمع والعقل عليها أما السمع: فمنه قوله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253] وأما العقل: فإن اختلاف المخلوقات وتخصيص بعضها بما يختص به من ذات أو وصف دليل على الإرادة ونفوا الرحمة؛ لأنها تستلزم لين الراحم ورقته للمرحوم، وهذا محال في حق الله تعالى وأولوا الأدلة السمعية المثبتة للرحمة إلى الفعل أو إرادة الفعل ففسروا الرحيم بالمنعم أو مريد الإنعام فنقول لهم: الرحمة ثابتة لله تعالى بالأدلة السمعية، وأدلة ثبوتها أكثر عدداً وتنوعاً من أدلة الإرادة فقد وردت بالاسم مثل: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والصفة مثل: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [الكهف:58] والفعل مثل: وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ [العنكبوت:21] ويمكن إثباتها بالعقل فإن النعم التي تترى على العباد من كل وجه، والنقم التي تدفع عنهم في كل حين دالة على ثبوت الرحمة لله – عز وجل – ودلالتها على ذلك أبين وأجلى من دلالة التخصيص على الإرادة، لظهور ذلك للخاصة والعامة، بخلاف دلالة التخصيص على الإرادة، فإنه لا يظهر إلا لأفراد من الناس وأما نفيها بحجة أنها تستلزم اللين والرقة؛ فجوابه: أن هذه الحجة لو كانت مستقيمة لأمكن نفي الإرادة بمثلها فيقال: الإرادة ميل المريد إلى ما يرجو به حصول منفعة أو دفع مضرة، وهذا يستلزم الحاجة، والله تعالى منزه عن ذلك فإن أجيب: بأن هذه إرادة المخلوق أمكن الجواب بمثله في الرحمة بأن الرحمة المستلزمة للنقص هي رحمة المخلوق وبهذا تبين بطلان مذهب أهل التعطيل سواء كانت تعطيلاً عاماً أو خاصاً وبه علم أن طريق الأشاعرة والماتريدية في أسماء الله وصفاته وما احتجوا به لذلك لا تندفع به شبه المعتزلة والجهمية وذلك من وجهين: أحدهما: أنه طريق مبتدع لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا سلف الأمة وأئمتها، والبدعة لا تدفع بالبدعة وإنما تدفع بالسنة الثاني: أن المعتزلة والجهمية يمكنهم أن يحتجوا لما نفوه على الأشاعرة والماتريدية بمثل ما احتج به الأشاعرة والماتريدية لما نفوه على أهل السنة، فيقولون: لقد أبحتم لأنفسكم نفي ما نفيتم من الصفات بما زعمتموه دليلاً عقلياً وأولتم دليله السمعي، فلماذا تحرمون علينا نفي ما نفيناه بما نراه دليلاً عقلياً، ونؤول دليله السمعي، فلنا عقول كما أن لكم عقولاً، فإن كانت عقولنا خاطئة فكيف كانت عقولكم صائبة، وإن كانت عقولكم صائبة فكيف كانت عقولنا خاطئة، وليس لكم حجة في الإنكار علينا سوى مجرد التحكم واتباع الهوى وهذه حجة دامغة وإلزام صحيح من الجهمية والمعتزلة للأشعرية والماتريدية، ولا مدفع لذلك ولا محيص عنه إلا بالرجوع لمذهب السلف الذين يطردون هذا الباب، ويثبتون لله تعالى من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً لا تمثيل فيه ولا تكييف، وتنزيهاً لا تعطيل فيه ولا تحريف، وَمَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40] (تنبيه) علم مما سبق أن كل معطل ممثل، وكل ممثل معطل أما تعطيل المعطل فظاهر، وأما تمثيله فلأنه إنما عطل لاعتقاده أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه فمثل أولاً، وعطل ثانياً، كما أنه بتعطيله مثله بالناقص وأما تمثيل الممثل فظاهر، وأما تعطيله فمن ثلاثة أوجه: الأول: أنه عطل نفس النص الذي أثبت به الصفة، حيث جعله دالاً على التمثيل مع أنه لا دلالة فيه عليه وإنما يدل على صفة تليق بالله عز وجل الثاني: أنه عطل كل نص يدل على نفي مماثلة الله لخلقه الثالث: أنه عطل الله تعالى عن كماله الواجب حيث مثله بالمخلوق الناقص القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص45
المطلب الخامس: عدم التفريق بين الأدلة الشرعية من حيث الأخذ بها (1)
والمراد بهذه القاعدة أنه يستدل في الاعتقاد – ومنه مسائل الأسماء والصفات – بأدلة الشرع الأصيلة كلها، القرآن، والحديث بقسميه المتواتر والآحاد المتلقاة بالقبول. وعلى هذا كان الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان.
وأكثر الكلام هنا سيكون عن الأحاديث إذ أكثر المتكلمون من القول بأن أحاديث الآحاد تفيد الظن فلا يؤخذ بها في المسائل العلمية الاعتقادية وهذا القول قالوه لعدم مقدرتهم على صرف ظاهرها بأنواع التحريفات التي سموها تأويلات، فأصلوا هذه القاعدة ليتوصلوا بها إلى جحد كثير من المسائل التي تخالف أصولهم.
وهذه القاعدة – أي عدم التفريق بين الأدلة – تقوم على بيان ثلاثة أسس هي:
الأول: الأدلة من الكتاب والسنة على حجية السمع مطلقاً.
الثاني: بيان إفادة خبر الواحد المتلقى بالقبول العلم والعمل.
الثالث: بيان عدم مخالفة الأحاديث للقرآن في باب الأسماء والصفات.
أما الأساس الأول: الأدلة على حجية السمع بقسميه مطلقاً:
فالأدلة في هذا كثيرة يكفي ذكر آيتين من كتاب الله، فالآيتان إحداهما توجب الأخذ بالقرآن والسنة، والثانية تبين حفظهما. أما الآية الأولى فقول الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر: 7]، وهذا النص شمل كل ما جاءنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هو في القرآن وبينه في سنته، سواء كان ذلك في الاعتقادات أو غيرها.
وأما الآية الثانية فقول الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ومعلوم أن هذا يشمل القرآن والحديث، وحتى على القول بأن الذكر في الآية هو القرآن فإنه يقال: قد أنزل الله تعالى كتابه – وهو الذكر – ليبينه رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44]، وأنواع البيان كثيرة كبيان مجمل، أو تخصيص عام، وكل ذلك جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة أولها وآخرها كما قال الله تعالى: لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام: 19]، فصح بهذا أن السنة الصحيحة حجة مطلقاً في أي زمان.
الأساس الثاني: خبر الواحد إذا احتفت به القرائن يفيد العلم:
وأذكر هنا حديثين يفيدان قبوله، ثم أتبعه بأقوال أهل العلم خاصة في الصفات، أما الحديثان، فالأول: حديث بعث معاذ إلى اليمن – حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله)) (2).
والثاني: عن أنس: ((أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام، قال: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: هذا أمين هذه الأمة)) (3).
واكتفيت بهذين الحديثين لأنهما يبينان السنة العملية، ولا يقال إن هذين من أحاديث الآحاد فيكف يجعلان حجة في قبول خبر الآحاد؟ والجواب من وجهين:
الأول: إن مثل هذا يعد تواتراً معنوياً إذ بعث الرسول صلى الله عليه وسلم – أفراداً من أصحابه إلى عدة أماكن – كبعثه علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبا موسى، وأبا عبيدة وغيرهم – رضي الله عنهم.
الثاني: إن هذين الحديثين مخرجان في الصحيحين، وهما مما لم يتكلم فيه النقاد بالطعن، وما كان كذلك فقد اجتمعت الأمة على تلقيه بالقبول.
_________
(1) انظر ((الصفات الإلهية)) للشيخ محمد أمان الجامي (ص: 64).
(2) رواه البخاري (1458)، ومسلم (19). بلفظ: ((عبادة الله)) بدلاً من ((شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)).
(3) رواه مسلم (2419).

ووجه الاستدلال بذلك كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: (وهو - صلى الله عليه وسلم- لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان قادراً على أن يبعث إليهم فيشافههم، أو يبعث إليهم عدداً، فبعث واحداً يعرفونه بالصدق) (1).
فصح مما تقدم من الحديثين أن خبر الواحد الصحيح المفيد للعلم حجة في العقيدة وعلى هذا كان الأئمة – رحمهم الله تعالى - (2). أما الذين قالوا بأنه لا يفيد العلم واخترعوا هذه المقالة إنما كان قصدهم رد الأخبار التي لا توافق بدعهم، وفي هذا الصدد يقول الإمام أبو المظفر السمعاني الشافعي: (إن الخبر إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه الثقات والأئمة وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم فيما سبيله العلم، هذا عامة قول أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة، وإنما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال ولابد من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به شيء اخترعته القدرية والمعتزلة وكان قصدهم منه رد الأخبار ... ) (3).
وقال الإمام أبو عمر بن عبد البر المالكي: (وكلهم – (أي أهل الفقه والأثر) – يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات ويعادي ويوالي عليها ويجعلها شرعاً وديناً في معتقده، على ذلك جماعة أهل السنة والجماعة) (4).
ومن القرائن التي ذكرها أهل العلم إذا احتفت بخبر الواحد أفادت العلم (5):
1 - كون الحديث في الصحيحين أو في أحدهما مما اتفق على صحته.
2 - إذا كان الحديث مشهوراً له طرق متعددة سالمة من ضعف الرواة والعلل.
3 - كون الحديث مسلسلاً بالأئمة الحفاظ المتقنين.
4 - كونه متلقى بالقبول عند الأمة.
والأحاديث الواردة في الصفات هي كلها من هذا الباب وقد تلقاها الأئمة بالقبول، وقد تقدم نقل كلام ابن عبد البر في ذلك وحكاية ذلك عن أهل السنة قاطبة، ويضاف إلى ذلك أقوال كبار الأئمة قبله:
فمن ذلك ما ذكره عباد بن العوام فقال: (قدم علينا شريك بن عبد الله منذ نحو خمسين سنة قال: فقلت له: يا أبا عبد الله إن عندنا قوماً من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث، قال: فحدثني بنحو من عشرة أحاديث في هذا وقال: أما نحن فقد أخذنا ديننا عن التابعين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم عمن أخذوا؟.) اهـ (6).
وقال الإمام أحمد لما سئل عن أحاديث الرؤية: (أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر، وكل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جيدة نؤمن به ونقر) فلم يشترط إمام السنة التواتر في الخبر لقبوله وإنما اشترط الصحة فقط.
وقال عباس الدوري: سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام – وذكر الباب الذي يروى فيه حديث الرؤية والكرسي موضع القدمين وضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره وأين كان ربنا قبل أن يخلق السماء، وأن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك عز وجل قدمه فيها فتقول قط، قط وأشباه هذه الأحاديث فقال: هذه أحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا شك فيها) اهـ (7).
_________
(1) ((الرسالة)) للإمام الشافعي (ص: 412).
(2) وانظر: ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) لأبي نصر السجزي (ص: 185 - 191).
(3) ((رسالة الانتصار لأهل الحديث – مختصرها - للسمعاني ضمن صون المنطق للسيوطي)) (ص: 160 - 161).
(4) ((التمهيد)) لابن عبد البر (1/ 8).
(5) انظر: ((نزهة النظر)) لابن حجر (ص: 26 - 27).
(6) ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 273) (رقم/ 509).
(7) أخرجه الدارقطني في ((الصفات)) (ص: 39 - 40) (رقم/ 57).

ومثل هذا ما نقله أحمد بن نصر عن سفيان بن عيينة الإمام لما سأله فقال له: (كيف حديث عبيدة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل يحمل السموات على إصبع والأرضين على إصبع)) (1) وحديث: ((إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن)) (2)، وحديث: ((إن الله عز وجل يعجب ويضحك)) (3) ... فقال سفيان: هي كما جاءت، نقر بها، ونحدث بها بلا كيف) (4) اهـ.
فهذه أقوال الأئمة المشهود لهم بالإمامة في الديانة والعلم صرحوا بقبول هذه الأحاديث، وهم من أخبر الناس بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ أهل كل علم أخبر بعلمهم من غيرهم.
الأساس الثالث: بيان عدم مخالفة الأحاديث للقرآن في باب الأسماء والصفات على وجه الخصوص:
ويمكن تقسيم الأحاديث إلى قسمين بحسب ما جاءت به من الصفات:
قسم من الأحاديث ورد بصفات هي واردة في القرآن كذلك فهذه تكون مؤكدة. وقسم منها ورد بصفات هي من نوع الصفات الواردة في القرآن وإن لم يرد ذكرها في القرآن نصاً.
أما القسم الأول: وهي الأحاديث الواردة بالصفات المذكورة في القرآن، فهي أكثر الأحاديث، ومن ذلك في الصفات الذاتية: صفة اليدين، فقد وردت في أحاديث كثيرة جداً منها: ((قال وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع)) (5)، ومصداق هذا في القرآن قوله الله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64]، وقول الله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75].
ومثال الصفات الفعلية في الأحاديث: ((لما خلق الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي)) (6). ففي هذا الحديث التصريح بإثبات فوقية الرحمن على العرش، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54].
ومثل ما تقدم ما ورد في صفة السمع والبصر والوجه والكلام والرحمة والغضب والقدرة والإرادة والعلم والحياة والعلو الحب، وغير ذلك من الصفات الواردة في كتاب الله ثم وردت كذلك في السنة.
أما القسم الثاني: وهي الأحاديث الواردة ببعض الصفات التي لم يأت ذكرها في القرآن نصاً، وهي مثل أحاديث الضحك والنزول من صفات الأفعال، وصفة الأصابع من صفات الذات، فمثل هذه يقال فيها:
هذه الأحاديث إما متواترة كحديث النزول (7)، فمثل هذه الأحاديث لا يمكن أن يقال فيها إنها ظنية الثبوت، ولكن المخالفون يلجأون إلى تأويلها ...
وإما أن تكون هذه الأحاديث من الآحاد، فالكلام فيها من جهتين:
1 - إن هذه الأحاديث قد تلقاها الأئمة بالقبول، وهذه قرينة موجبة للقول بإفادتها للعلم.
2 - والجهة الثانية: إن هذه الصفات الواردة في أحاديث الآحاد هي من نوع الصفات الواردة في القرآن، كالأصبع، فإن في السنة بيان أن الله يأخذ بها السموات والأرضين والشجر يوم القيامة، وفي القرآن بيان أن الله يطوي السموات بيمينه كمال قال الله: وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] وكذلك جاء في السنة، وهكذا يقال في الضحك، فإن الغضب الوارد في القرآن – كقول الله تعالى: وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ [النساء: 93]: صفة فعلية لله، يقال كذلك: إن الضحك صفة فعلية لله وردت بها السنة، فكلاهما: صفة فعل.
وبهذا يعلم أنه ليس في السنة شيء يخالف القرآن، فوجب إثبات كل ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الله، لأن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حق على حقيقته، ولا يجوز إنكارها كلها لأن القول في الصفات كالقول في الذات، كما لا يجوز إنكار بعضها لأن القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 2/ 443
_________
(1) رواه البخاري (7415)، ومسلم (2786). بلفظ: ((يمسك السموات)) بدلاً من ((يحمل السموات)).
(2) رواه مسلم (2654). من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(3) الحديث رواه النسائي (6/ 138) (3165). ولفظه: ((إن الله عز وجل يعجب من رجلين يقتل أحدهما صاحبه وقال مرة أخرى ليضحك من رجلين يقتل أحدهما صاحبه ثم يدخلان الجنة)). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث في الصحيحين رواه البخاري (2826)، ومسلم (1890).
(4) أخرجه الدارقطني في ((الصفات)) (ص: 41 - 42) (رقم/63).
(5) رواه البخاري (7411). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) رواه البخاري (7404)، ومسلم (2751). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) حديث النزول رواه البخاري (1145)، ومسلم (758). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد روى حديث النزول أيضاً: أحمد ومالك وأبو عيسى الترمذي وأبو داود وابن خزيمة والدارقطني وأئمة المسلمين.

المطلب السادس: الاستدلال بقياس الأولى دون غيره من أنواع القياس
إن الله تعالى لا مثيل له، بل له المثل الأعلى، ولذلك نهى أن يضرب له المثل فقال: فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النحل: 74]، فلا يجوز أن يمثل بغيره من الخلق، سواء كان ذلك بقياس تمثيل أو قياس شمول (1). وإنما يستعمل في حقه سبحانه، قياس الأولى الدال عليه قول الله تعالى: وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ [النحل: 60] أي الأكمل والأحسن والأطيب كما قال ابن جرير رحمه الله. فقياس الأولى راجع إلى الأمثال المضروبة في الكتاب والسنة.
ويستعمل قياس الأولى في الإثبات وفي التنزيه.
أما في الإثبات: فإنه يكون في أمرين كليين (2):
الأول: إن الاتصاف بالصفات الوجودية في حق المخلوق أكمل فيه من اتصافه بالأمور العدمية، فالخالق أحق بالأمور الوجودية من كل مخلوق.
الثاني: إن كل كمال ثبت فالخالق أولى به منه، ويشترط في هذا الكمال:
1 - أن لا يكون فيه نقص بوجه من الوجوه، كالقدرة على إنجاب الولد، فهذا كمال في حق المخلوق، ولكن ليس كمالاً مطلقاً، إذ فيه نقص من وجوه وهو أن الوالد محتاج إلى ولده ولا يستغني عنه ولذلك قال الله تعالى: قَالُواْ اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ [يونس: 68].
2 - أن لا يكون مستلزماً للعدم، وهذا الشرط ذكر لأن بعض المخالفين يصفونه بصفات السلوب التي لا تتضمن أمراً وجودياً، ويزعمون أنها كمال في حق الخالق مع أنها مستلزمة للعدم. فيجب إذاً أن يوصف الله بصفات كاملة وجودية لا صفات مستلزمة للعدم (3).
ويمكن الاستدلال لقاعدة استعمال قياس الأولى في الإثبات بذكر ثلاث صفات؛ الأولى: الرحمة، والثانية: القدرة، والثالثة: الفرح.
أما الأولى فيدل لها قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا لا والله، وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) (4) اهـ.
والثانية في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي مسعود رضي الله عنه لما ضرب مملوكه فقال له: ((اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام)) (5).
والثالثة: في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة)) (6).
والاستعمال الثاني لقياس الأولى يكون في التنزيه: وهو أن كل نقص وعيب في نفسه ينزه المخلوق عنه، فتنزيه الخالق عنه أولى. والمقصود بالعيب في نفسه ما تضمن سلب كمال ما أثبت (7).
ومثال هذا القياس ما ذكره الله من مثل في شأن تنزهه عن أن يكون له شريك في صفة الإلهية، قال الله تعالى: ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28].
_________
(1) انظر: ((الرسالة التدمرية)) (2/ 33).
(2) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 29 - 30).
(3) انظر: ((نقض التأسيس)) لابن تيمية (2/ 360 - 362).
(4) رواه البخاري (5999)، ومسلم (2754). من حديث عمر رضي الله عنه.
(5) رواه مسلم (1659). من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.
(6) رواه مسلم (2675). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 29 - 30).

ومعنى المثل على سبيل الإجمال: أن الله عز وجل ذكره يوبخ المشركين على اتخاذهم شركاء مع الله فضرب لهم مثلاً من أنفسهم وهو أنكم إذا كنتم لا ترضون لأنفسكم أن يكون مماليككم شركاء في الذي رزقكم الله من أموال، بل تمتنعون أن يكونوا لكم نظراء فكيف ترضون أن تجعلوا مخلوقي ومملوكي الذين زعمتم أنهم شركاء يدعون ويعبدون كما أدعى وأعبد؟ فإذا كنتم تنزهون وتنفون ذلك عن أنفسكم فالخالق أولى بأن تنزهوه وتنفوا عنه الشريك في العبادة (1).
وقد نسب شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الطريقة من الاستدلال إلى جمع من أهل العلم منهم الإمام أحمد رحمه الله (2).
فمن ذلك: قال الإمام أحمد: (ووجدنا كل شيء أسفل منه مذموماً، يقول الله جل ثناؤه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 146] وقال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [فصلت: 26]) اهـ (3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على كلام الإمام أحمد: (وهذه الحجة من باب (قياس الأولى) وهو أن السفل مذموم في المخلوق حيث جعل الله أعداءه في أسفل سافلين، وذلك مستقر في فطر العباد، حتى إن أتباع المضلين طلبوا أن يجعلوهم تحت أقدامهم ليكونوا من الأسفلين، وإذا كان هذا مما ينزه ويقدس عنه المخلوق ويوصف به المذموم المعيب من المخلوق فالرب تعالى أحق أن ينزه ويقدس عن أن يكون في السفل أو يكون موصوفاً بالسفل هو أو شيء منه أو يدخل ذلك في صفاته بوجه من الوجوه، بل هو العلي الأعلى بكل وجه) اهـ (4).
وقال الإمام أحمد: (ومن الاعتبار في ذلك: لو أن رجلاً كان في يديه قدح من قوارير صاف وفيه شراب صاف، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح فالله: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم: 27] قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه) (5).
قال شيخ الإسلام معلقاً على كلام الإمام: (ثم ذكر الإمام أحمد حجة اعتبارية عقلية قياسية لإمكان ذلك هي من باب الأولى ... فضرب أحمد رحمه الله مثلاً وذكر قياساً وهو أن العبد إذا أمكنه أن يحيط بصره بما في يده وقبضته من غير أن يكون داخلاً فيه ولا محايثاً له فالله سبحانه أولى باستحقاق ذلك واتصافه به وأحق بأن لا يكون ذلك ممتنعاً في حقه، وذكر أحمد في ضمن هذا القياس قول الله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم: 27] مطابق لما ذكرناه من أن الله له قياس الأولى والأحرى .. وأما المثل المساوي أو الناقص فليس لله بحال) (6) اهـ.
وقد حكى ابن هبيرة هذه الطريقة عن عامة أهل السنة والجماعة فقال في كتابه الإفصاح: (إن أهل السنة يحكون: أن النطق بإثبات الصفات وأحاديثها يشتمل على كلمات متداولات بين الخالق وخلقه، وتحرجوا من أن يقولوا مشتركة، لأن الله تعالى لا شريك له، بل لله المثل الأعلى، وذلك هو قياس الأولى والأحرى، فكل ما ثبت للمخلوق من صفات الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه). منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 2/ 463
_________
(1) انظر: ((تفسير الطبري)) (11/ 21 - 38) و ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 37).
(2) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 30).
(3) ((الرد على الزنادقة والجهمية)) (ص: 38 - 39).
(4) ((نقض التأسيس)) (2/ 543).
(5) ((الرد على الزنادقة والجهمية)) للإمام أحمد (ص: 39).
(6) ((نقض التأسيس)) (2/ 546).

المطلب الأول: حكم استعمال الأقيسة في حق الرب سبحانه وتعالى
وأما القسم الثاني ـ وهو دلائل هذه المسائل الأصولية ـ فإنه وإن كان يظن طوائف من المتكلمين المتفلسفة أن الشرع إنما يدل بطريق الخبر الصادق فدلالته موقوفة علي العلم بصدق المخبر ويجعلون ما يبني عليه صدق المخبر معقولات محضة ـ فقد غلطوا في ذلك غلطا عظيما بل ضلوا ضلالا مبينا في ظنهم أن دلالة الكتاب والسنة إنما هي بطريق الخبر المجرد بل الأمر ما عليه سلف الأمة أهل العلم والإيمان من أن الله سبحانه وتعالي بين من الأدلة العقلية التي يحتاج إليها في العلم بذلك ما لا يقدر أحد من هؤلاء قدره ونهاية ما يذكرونه جاء القرآن بخلاصته علي أحسن وجه وذلك كالأمثال المضروبة التي يذكرها الله في كتابه التي قال فيها: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ [الزمر: 27] فإن الأمثال المضروبة هي الأقيسة العقلية سواء كانت قياس شمول أو قياس تمثيل ويدخل في ذلك ما يسمونه براهين وهو القياس الشمولي المؤلف من المقدمات اليقينية وإن كان لفظ البرهان في اللغة أعم من ذلك كما سمي الله آيتي موسى برهانين: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ [القصص: 32] ومما يوضح هذا أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع ولا بقياس شمولي تستوي فيه أفراده فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء فلا يجوز أن يمثل بغيره ولا يجوز أن يدخل تحت قضية كلية تستوي أفرادها ولهذا لما سلك طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلى اليقين بل تناقضت أدلتهم وغلب عليهم ـ بعد التناهي ـ الحيرة والاضطراب لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولي سواء كان تمثيلا أو شمولا كما قال تعالى: وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ [النحل: 60] مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للممكن أو المحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه ـ وهو ما كان كمالا للموجود غير مستلزم للعدم ـ فالواجب القديم أولى به وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت نوعه للمخلوق المربوب المعلول المدبر فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره فهو أحق به منه وأن كل نقص وعيب في نفسه ـ وهو ما تضمن سلب هذا الكمال إذا وجب نفيه عن الرب تبارك وتعالى بطريق الأولى وأنه أحق بالأمور الوجودية من كل موجود وأما العدمية بالممكن المحدث بها أحق ونحو ذلك ومثل هذه الطرق هي التي كان يستعملها السلف والأئمة في مثل هذه المطالب كما استعمل نحوها الإمام أحمد ومن قبله وبعده من أئمة أهل الإسلام وبمثل ذلك جاء القرآن في تقرير أصول الدين في مسائل التوحيد والصفات والمعاد ونحو ذلك ومثال ذلك أنه سبحانه لما أخبر بالمعاد ـ والعلم به تابع للعلم بإمكانه فإن الممتنع لا يجوز أن يكون ـ بين سبحانه إمكانه أتم بيان ولم يسلك في ذلك ما يسلكه طوائف من أهل الكلام حيث يثبتون الإمكان الخارجي بمجرد الإمكان الذهني فيقولون: هذا ممكن لأنه لو قدر وجوده لم يلزم من تقدير وجوده محال فإن الشأن في هذه المقدمة فمن أين يعلم أنه لا يلزم من تقدير وجوده محال؟ فإن هذه قضية كلية سالبة فلا بد من العلم بعموم هذا النفي وما يحتج به بعضهم على أن هذا ممكن بأنا لا نعلم امتناعه كما نعلم امتناع الأمور الظاهر امتناعها مثل كون الجسم متحركا ساكنا فهذا كاحتجاج بعضهم علي أنها ليست بديهية بأن غيرها من البديهيات أجلى منها وهذه حجة ضعيفة لأن البديهي هو ما إذا تصور طرفاه جزم العقل به والمتصوران قد يكونان خفيين فالقضايا تتفاوت في الجلاء والخفاء لتفاوت تصورها كما تتفاوت لتفاوت الأذهان وذلك لا يقدح في كونها ضرورية ولا يوجب

أن ما لم يظهر امتناعه يكون ممكنا بل قول هؤلاء أضعف لأن الشيء قد يكون ممتنعا لأمور خفية لازمة له فما لم يعلم انتفاء تلك اللوازم أو عدم لزومها لا يمكن الجزم بإمكانه والمحال هنا أعلم من المحال لذاته أو لغيره والإمكان الذهني حقيقته عدم العلم بالامتناع وعدم العلم بالامتناع لا يستلزم العلم بالإمكان الخارجي بل يبقى الشيء في الذهن غير معلوم الامتناع ولا معلوم الإمكان الخارجي وهذا هو الإمكان الذهني فإن الله سبحانه وتعالى لم يكتف في بيان إمكان المعاد بهذا إذ يمكن أن يكون الشيء ممتنعا ولو لغيره وإن لم يعلم الذهن امتناعه بخلاف الإمكان الخارجي فإنه إذا علم بطل أن يكون ممتنعا والإنسان يعلم الإمكان الخارجي: تارة بعلمه بوجود الشيء وتارة بعلمه بوجود نظيره وتارة تعلمه بوجود ما الشيء أولى بالوجود منه فإن وجود الشيء دليل علي أن ما هو دونه أولى بالإمكان منه ثم إنه إذا تبين كون الشيء ممكنا فلا بد من بيان قدرة الرب عليه وإلا فمجرد العلم بإمكانه لا يكفي في إمكان وقوعه إن لم يعلم قدرة الرب على ذلك درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 1/ 19
وأسماء الله توقيفية فلا يسمى سبحانه إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يسمى باسم عن طريق القياس أو الاشتقاق من فعل ونحوه خلافاً للمعتزلة والكرَّامية فلا يجوز تسميته بناءً ولا ماكراً ولا مستهزئاً أخذاً من قوله تعالى: وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات:47] وقوله: وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ [آل عمران:54] وقوله: اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15] ولا يجوز تسميته زارعاً، ولا ماهداً ولا فالقاً ولا منشئاً ولا قابلاً، ولا شديداً، ونحو ذلك آخذاً من قوله تعالى: أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:64] وقوله فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات:48] وقوله أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ [الواقعة:72] وقوله تعالى فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [الأنعام:95] وقوله وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:3] لأنها لم تستعمل في هذه النصوص إلا مضافة وفي أخبار على غير طريق التسمي لا مطلقة فلا يجوز استعمالها إلا على الصفة التي وردت عليها في النصوص الشرعية فيجب ألا يعبَّد في التسمية إلا لاسم من الأسماء التي سمى بها نفسه صريحاً في القرآن أو سماه بها رسوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه من الأحاديث كأسمائه التي في آخر سورة الحشر، والمذكورة أول سورة الحديد، المنشورة في سور أخرى من القرآن وصلى الله عليه وسلم شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص259

المطلب الثاني: حكم تعميم دلالة النص على الاسم والصفة والذات
دلالة النصوص نوعان حقيقة وإضافية فالحقيقة تابعة لقصد المتكلم وإرادته وهذه الدلالة لا تختلف والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه وجودة فكره وقريحته وصفاء ذهنه ومعرفته بالألفاظ ومراتبها وهذه الدلالة تختلف اختلافا متباينا بحسب تباين السامعين في ذلك وقد كان أبو هريرة وعبد الله بن عمر أحفظ الصحابة للحديث وأكثرهم رواية له وكان الصديق وعمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أفقه منهما بل عبد الله بن عباس أيضا أفقه منهما ومن عبد الله بن عمر وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم - على عمر فهمه إتيان البيت الحرام عام الحديبية من إطلاق قوله إنك ستأتيه وتطوف به فإنه لا دلالة في هذا اللفظ في تعيين العام الذي يأتونه فيه وأنكر على عدي بن حاتم فهمه من الخيط الأبيض والخيط الأسود نفس العقالين وأنكر على من فهم من قوله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردلة من كبر شمول لفظه لحسن الثوب وحسن النعل وأخبرهم أنه بطر الحق وغمط الناس وأنكر على من فهم من قوله من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه أنه كراهة الموت وأخبرهم أن هذا للكافر إذا احتضر وبشر بالعذاب فإنه حينئذ يكره لقاء الله والله يكره لقاءه وأن المؤمن إذا احتضر وبشر بكرامة الله أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وأنكر على عائشة إذ فهمت من قوله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا معارضته لقوله صلى الله عليه وسلم من نوقش الحساب عذب وبين لها أن الحساب اليسير هو العرض أي حساب العرض لا حساب المناقشة وأنكر على من فهم من قوله تعالى من يعمل سوءا يجز به أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة وأنه لا يسلم أحد من عمل السوء وبين أن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بالهم والحزن والمرض والنصب وغير ذلك من مصائبها وليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة وأنكر على من فهم من قوله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون أنه ظلم النفس بالمعاصي وبين أنه الشرك وذكر قول لقمان لابنه إن الشرك لظلم عظيم مع أن سياق اللفظ عند إعطائه حقه من التأمل يبين ذلك فإن الله سبحانه لم يقل ولم يظلموا أنفسهم، بل قال: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [الأنعام:82] إعلام الموقعين عن رب العالمين لمحمد بن أبي بكرابن قيم الجوزية - 1/ 350

المطلب الثالث: حكم الاستدلال بالتشبيه نفيا وإثباتا
أن لفظ (التشبيه) و (التركيب) لفظ فيه إجمال وهؤلاء أنفسهم - هم وجماهير العقلاء - يعلمون أن ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك ونفي ذلك القدر المشترك ليس هو نفس التمثيل والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه وإنما التشبيه الذي قام الدليل على نفيه ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى إذ هو سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ولا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولهذا اتفق جميع طوائف المسلمين وغيرهم على الرد على هؤلاء الملاحدة وبيان أنه ليس كل ما اتفق شيئان في شيء من الأشياء يجب أن يكون أحدهما مثلا للآخر ولا يجوز أن ينفي عن الخالق سبحانه كل ما يكون فيه موافقة لغيره في معنى ما فإنه يلزمه عدمه بالكلية كما فعله هؤلاء الملاحدة بل يلزم نفي وجوده ونفي عدمه وهو غاية التناقض والإلحاد والكفر والجهل درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 3/ 67

فيما يجوز وما لا يجوز على الله من النفي والإثبات أنه لقائل أن يقول: لا بد في هذا الباب من ضابط يعرف به ما يجوز على الله مما لا يجوز في النفي والإثبات إذ الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد وذلك أنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيه قيل له: إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل وإن أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه أو مشارك له في الاسم لزمك هذا في سائر ما تثبته وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجب له ما يجب له ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه ولا يلزم من نفي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه كما في الأسماء والصفات المتواطئة ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسرا بمعنى من المعاني ثم إن كل من أثبت ذلك المعنى قالوا: إنه مشبه ومنازعوهم يقولون: ذلك المعنى ليس من التشبيه وقد يفرق بين لفظ التشبيه والتمثيل وذلك أن المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون: كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل فمن قال إن لله علما قديما أو قدرة قديمة كان عندهم مشبها ممثلا لأن القديم عند جمهورهم هو أخص وصف الإله فمن أثبت له صفة قديمة فقد أثبت لله مثلا قديما ويسمونه ممثلا بهذا الاعتبار ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا بل يقولون: أخص وصفه لا يتصف به غيره مثل كونه رب العالمين وأنه بكل شيء عليم وأنه على كل شيء قدير وأنه إله واحد ونحو ذلك والصفة لا توصف شيء من ذلك ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات إنها قديمة بل يقول: الرب بصفاته قديم ومنهم من يقول: هو قديم وصفته قديمة ولا يقول: هو وصفاته قديمان ومنهم من يقول: هو وصفاته قديمان ولكن يقول: ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه فإن القدم ليس من خصائص الذات المجردة بل من خصائص الذات الموصوفة بصفات وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم فضلا عن أن تختص بالقدم وقد يقولون: الذات متصفة بالقدم والصفات متصفة بالقدم وليست الصفات إلها ولا ربا كما أن النبي محدث وصفاته محدثة وليست صفاته نبيا فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه والتمثيل: كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك ثم تقول لأولئك: هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيها فهذا المعنى لم ينفعه عقل ولا سمع وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية والقرآن قد نفى مسمى المثل والكفء والند ونحو ذلك ولكن يقولون الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف ولا كفؤه ولا نده فلا يدخل في النص وأما العقل: فلم ينف مسمى التشبيه في اصطلاح المعتزلة وكذلك أيضا يقولون: إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز والأجسام متماثلة فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلا لسائر الأجسام وهذا هو التشبيه وكذلك يقول: هذا كثير من الصفاتية الذين يثبتون الصفات وينفون علوه على العرش وقام الأفعال الاختيارية به ونحو ذلك ويقولون: الصفات قد تقوم بما ليس بجسم وأما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسما فلو أثبتنا علوه للزم أن يكون جسما وحينئذ فالأجسام متماثلة فيلزم التشبيه فلهذا تجد هؤلاء يسمون من أثبت العلو ونحوه مشبها ولا يسمون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبها كما يقول صاحب الإرشاد وأمثاله وكذلك يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو لكن هؤلاء يجعلون العلو صفة خبرية كما هو أول قولي
القاضي أبي يعلى فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه وقد يقولون: إن ما يثبتونه لا ينافي الجسم كما يقولونه في سائر الصفات والعاقل إذ تأمل وجد الأمر فيما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فرق وأصل كلا م هؤلاء كلهم على إثبات الصفات مستلزم للتجسيم والأجسام متماثلة والمثبتون يجيبون عن هذا تارة بمنع المقدمة الأولى وتارة بمنع المقدمة الثانية وتارة بمنع كل من المقدمين وتارة بالاستفصال ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل سواء فسروا الجسم بما يشار إليه أو بالقائم بنفسه أو بالموجود أو بالمركب من الهيولي والصورة ونحو ذلك فإما يبنى على صحة ذلك وعلى إثبات الجوهر الفرد وعلى أنه متماثل وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك والمقصود: هنا أنهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيما بناء على تماثل الأجسام والمثبتون ينازعونهم في اعتقادهم كإطلاق الرافضة النصب على من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بناء على أن من أحبهما فقد بغض عليا رضي الله عنه ومن أبغضه فهو ناصبي وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى ولهذا يقول هؤلاء: إن الشيئين لا يشبهان من وجه ويختلفان من وجه وأكثر العقلاء على خلاف ذلك وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفي ذلك وبينا فساد قول من يقول بتماثلها وأيضا فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه اعتماد باطل وذلك أنه إذا أثبت تماثل الأجسام عما لا ينفون ذلك إلا بالحجة التي ينفون بها الجسم وإذا ثبت أن هذا يستلزم الجسم وثبت امتناع الجسم: كان هذا وحده كافيا في نفي ذلك لا يحتاج نفي ذلك إلى نفي مسمى التشبيه لكن نفي التجسيم يكون مبنيا على نفي هذا التشبيه بأن يقال: لو ثبت له كذا وكذا لكان جسما ثم يقال: والأجسام متماثلة فيجب اشتراكها فيما يجب ويجوز ويمتنع وهذا ممتنع عليه لكن حينئذ يكون من سلك هذا المسلك معتمدا في نفي التشبيه على نفي التجسيم فيكون أصل نفيه نفي الجسم وهذا مسلك آخر سنتكلم عليه إن شاء الله وإنما المقصود هنا: أن مجرد الاعتماد في نفي ما ينفي على مجرد نفي التشبيه لا يفيد إذ ما من شيئين إلا يشتبهان من وجه بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب ونحو ذلك مما هو سبحانه مقدس عنه فإن هذه طريقة صحيحة وكذلك إذا أثبت له صفات الكمال ونفي مماثلة غيره له فيها فإن نفي المماثلة فيما هو مستحق له وهذا حقيقة التوحيد: وهو أن لا يشركه شيء من الأشياء فيما هو من خصائصه وكل صفة من صفات الكمال فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها إثبات ما وصف به نفسه من الصفات ونفي مماثلته بشيء من المخلوقات فإن قيل: هب الأمر كذلك ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه ولا نفي ما يستحقه لم يكن ممتنعا كما إذا قيل: إنه موجود حي عليم سميع بصير وقد سمى بعض المخلوقات حيا سميعا عليما بصيرا فإذا قيل: يلزم أنه يجوز عليه ما يجوز على ذلك من جهة كونه موجودا حيا عليما سميعا بصيرا قيل: لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعا على الرب تعالى فإن ذلك لا يقتضي حدوثا ولا مكانا ولا نقصا ولا شيئا مما ينافي صفات الربوبية وذلك أن القدر المشترك هو مسمى الوجود أو الموجود أو الحياة أو الحي أو العلم أو العليم أو السمع أو البصر أو السميع أو البصير أو القدرة أو القدير والقدير المشترك مطلق كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث ولا فيما يخص بالواجب القديم فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال كالوجود والحياة والعلم والقدر ولم يكن في
ذلك شيء مما يدل على خصائص المخلوقين كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق لم يكن في إثبات هذا محذور أصلا بل إثبات هذا من لوازم الوجود فكل موجودين لا بد بينهما من مثل هذا ومن نفي هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود ولهذا لما اطلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطلة وكان جهم ينكر أن يسمى الله شيئا وربما قالت الجهمية هو شيء لا كالأشياء فإن نفي القدر المشترك مطلقا لزم التعطيل العام والمعاني التي يوقف بها الرب تعالى كالحياة والعلم والقدر بل الوجود والثبوت والحقيقة ونحو ذلك: يجب لوازمها فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم وخصائص المخلوق التي يجب تنزيه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلا بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوقات من وجود وحياة وعلم ونحو ذلك والله سبحانه منزه عن خصائص المخلوقين وملزومات خصائصهم وهذا الموضع من فهمه فهما جيدا وتدبره: زالت عنه عامة الشبهات وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام وقد بسط هذا في مواضع كثيرة وبين فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معينا مقيدا وإن معنى اشتراك الموجودات في أمر هو تشابهها من ذلك الوجه وإن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا لأن الموجودات في الخارج لا يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس متناقضا في هذا المقام فتارة يظن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات حذرا من ملزومات التشبيه وتارة يتفطن انه لا بد من إثبات هذا على تقدير فيجب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة ولكثرة الاشتباه في هذا المقام وقعت الشبهة في أن وجود الرب هل هو عين ماهيته أو زائد على ماهيته؟ وهل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي أو التواطؤ أو التشكيك؟ كما وقع الاشتباه في إثبات الأحوال ونفيها وفي أن المعدوم هل هو شيء أو لا؟ وفي وجود الموجودات هل هو زائد على ماهيتها أم لا؟ وقد كثر من أئمة النظار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين ويحكي عن الناس مقالات ما قالوها وتارة يبقى في الشك والتحير وقد بسطنا من الكلام في هذه المقامات وما وقع من اشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة مالا تتسع له هذه الجمل المختصرة وبينا أن الصواب هو أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودين في الخارج بخلاف الماهية التي الذهن فإنهما مغيرة للموجود في الخارج وأن لفظ الذات والشيء والماهية والحقيقة ونحو ذلك فهذه الألفاظ كلها متواطئة فإذا قيل: إنها مشككة لتفاضل معانيها فالمشكك نوع من المتواطئ العام الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك سواء كان المعنى متفاضلا في موارده أو متماثلا وبينما أن المعدوم شيء أيضا في العلم والذهن لا في الخارج فلا فرق بين الثبوت والوجود لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة ولكن هو العلم التابع للعالم القائم به وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات وتختلف: لها وجود في الأذهان وليس في الأعيان إلا الأعيان الموجودة وصفاتها القائمة بها المعينة فتتشابه بذلك وتختلف به وأما هذه الجملة المختصرة فإن المقصود بها التنبيه على جمل جامعة من فهمها علم قدر نفعها وانفتح له باب الهدى وإمكان إغلاق باب إضلال ثم بسطها وشرحها له مقام آخر إذ لكل مقام مقال والمقصود: هنا أن الاعتماد على مثل هذه الحجة فيما ينفي عن الرب وينزه عنه - كما يفعله كثير من المصنفين - خطأ لمن تدبر ذلك وهذا من طرق النفي الباطلة الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 1/ 73
المطلب الرابع: حكم التجسيم نفيا وإثباتا
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: وأما لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والمركب والمنقسم فلا يوجد له ذكر في كلام أحد من السلف كما لا يوجد له ذكر في الكتاب والسنة لا بنفي ولا إثبات إلا بالإنكار على الخائضين في ذلك من النفاة الذين نفوا ما جاءت به النصوص والمشبهة الذين ردوا ما نفته النصوص كما ذكرنا أن أول من تكلم بالجسم نفيا وإثباتا هم طوائف من الشيعة والمعتزلة وهم من أهل الكلام الذين كان السلف يطعنون عليهم وهم في مثل هذا على المعتزلة أعظم إنكارا إذ المتشيعة لم يشتهر عن السلف الإنكار عليهم إلا فيما هو من توابع التشيع مثل مسائل الإمامة التي انفردوا بها عن الأمة وتوابعها بخلاف مسائل الصفات والقدر فإن طعنهم فيه على المعتزلة معروف مشهور ظاهر عند الخاص والعام مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 1/ 54
وقال رحمه الله: فإن أراد بقوله ليس بجسم هذا المعنى قيل له: هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول وأنت لم تقم دليلا على نفيه وأما اللفظ فبدعة نفيا وإثباتا فليس في الكتاب ولا السنة ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها إطلاق لفظ الجسم في صفات الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا وكذلك لفظ الجوهر والمتحيز ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع أهل الكلام المحدث فيها نفيا وإثباتا وإن قال كل ما يشار إليه ويرى وترفع إليه الأيدي فإنه لا يكون إلا جسما مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة قيل له هذا محل نزاع فأكثر العقلاء ينفون ذلك وأنت لم تذكر على ذلك دليلا وهذا منتهى نظر النفاة فإن عامة ما عندهم أن ما تقوم به الصفات ويقوم به الكلام والإرادة والأفعال وما يمكن رؤيته بالأبصار لا يكون جسما مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة وما يذكرونه من العبارة فإلى هذا يعود وقد تنوعت طرق أهل الإثبات في الرد عليهم فمنهم من سلم لهم أنه يقوم به الأمور الاختيارية من الأفعال وغيرها ولا يكون إلا جسما ونازعهم فيما يقوم به من الصفات التي يتعلق منها شيء بالمشيئة والقدوة ومنهم من نازعهم في هذا وهذا وقال بل لا يكون هذا جسما ولا هذا جسما ومنهم من سلم لهم أنه جسم ونازعهم في كون القديم ليس بجسم مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 1/ 550

المطلب الأول: تأثير عارض الجهل على توحيد الأسماء والصفات
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في معرض حديثه عن توحيد الأسماء والصفات: (الأصل في هذا الباب أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه. وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل. وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه – مع ما أثبته من الصفات – من غير إلحاد لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته، كما قال تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180].
فمن عدل بأسماء الله وصفاته عن حقائقها ومعانيها الصحيحة، فقد وقع في الإلحاد. والإلحاد في أسماء الله وصفاته أنواع:
(النوع الأول: أن تسمى الأصنام بها، كتسمية اللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان.
النوع الثاني: تسميتة سبحانه وتعالى بما لا يليق به، كتسمية النصارى له أبا، وتسمية الفلاسفة له موجبا أو علة فاعلة.
النوع الثالث: وصفه سبحانه وتعالى بما ينزه عنه من النقائص، كقول اليهود الذين قالوا: إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء [آل عمران: 181]، وقولهم يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64]، وأنه استراح يوم السبت، تعالى الله عما يقولون.
النوع الرابع: جحد معانيها وحقائقها، كقول الجهمية إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني، فالسميع لا يدل على سمع، والبصير لا يدل على بصر، والحي لا يدل على حياة، ونحو ذلك.
النوع الخامس: تشبيه صفاته بصفات خلقه، كقول المثل: يده كيدي إلى غير ذلك، تعالى الله.
وقد توعد الله الملحدين في أسمائه وآياته بأشد الوعيد، فقال سبحانه في الآية (180) من سورة الأعراف: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، وقال في الآية (40) من سورة فصلت: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا) (1).
غير أن الإلحاد يختلف حكمه من شخص لآخر، فمن ألحد كفرا وعنادا، ليس كمن ألحد جهلاً وتأولاً وهو مؤمن ومن غير قصد للإلحاد. فهذا الإمام ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 77 - 79]، يورد سبب نزولها وأنها في أبي بن خلف، فقال: (قال مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير والسدي وقتادة: جاء أبي بن خلف – لعنه الله – إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم، وهو يفته ويذروه في الهواء وهو يقول: يا محمد، أتزعم أن الله يبعث هذا؟، قال صلى الله عليه وسلم ((نعم، يُميتك الله ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار)) (2).
_________
(1) ((شرح العقيدة الواسطية)) للفوزان (ص: 16).
(2) رواه الطبري في تفسيره (20/ 553 - 554)، وانظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 588).

ثم أورد بعد ذلك قصة الرجل المسرف على نفسه الذي دفعه عظم خوفه من الله إلى أن يوصي أهله بأن يحرقوه إذا مات ويذروا رماده في الهواء، ظنا منه أن الله لا يقدر على جمعه. وفي الحديث أنه غُفر له بخوفه من الله، ...... أورد هذا وذاك للتفريق بين المناطين، حيث إن في كل حالة من الحالتين إنكاراً لقدرة الله تعالى على جمع الرميم المتفرق، ولكن الأول كان كافراً معانداً، فكان من أهل النار، ((نعم، يميتك الله ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار)). والثاني كان مؤمناً جاهلاً شديد الخوف من الله تعالى، فغفر له، والله أعلم. الشاهد من هذا أنه لابد من التفريق في مثل هذه المسائل بين جاهل أو متأول لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وبين جاحد معاند.
وعلى هذا الأساس كانت معاملة أئمة أهل السنة مع الفرق التي ضلت في باب الأسماء والصفات؛ لأنها إنما ضلت بسبب الشبهات التي عرضت لها – بسبب بُعدها عن النقل الصحيح، وجريها خلف سراب المعقولات، وأهمها شبهة التشبيه أو التجسيم، مما دعاهم إلى المبالغة في تنزيه الله تعالى على غير منهج الكتاب والسنة.
فالجهل في هذه المسألة عذر معتبر، وكذلك الشبهة والتأول. فلو لم تكن هذه الأحوال عذرا، للزم تكفير المتكلمين بتأويلهم لنصوص الصفات، وحملهم لها على المجاز، وأنها ليست ثابتة لله على الحقيقة؛ لظنهم أن ذلك يستلزم تشبيه الله بخلقه. فردهم لنصوص الصفات مبني على إرادة التنزيه لله عن مشابهة خلقه – حسب ظنهم -، وعلى هذا فهم لم يريدوا رد تلك النصوص تكذيبا بها (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (فالإمام أحمد رضي الله عنه ترحم عليهم (يعني: الجهمية) واستغفر لهم؛ لعلمه بأنه لم يتبين لهم أنهم مكذبون للرسول ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال ذلك لهم) (2).
وقال – رحمه الله – عن نفسه: (كنت أقول للجهمية من الحلولية، والنفاة الذين نفوا أن لله فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم، كنت كافرا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال. وكان هذا خطابا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم، وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له) (3). الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر معاش– بتصرف - ص: 395
_________
(1) انظر: ((ضوابط التكفير عند أهل السنة)) (ص: 244).
(2) ((المسائل الماردينية)) (ص: 69).
(3) ((الرد على البكري)) (ص: 259).

المطلب الثاني: حكم الجهل ببعض أسماء الله وصفاته وأدلته
قضية الجهل ببعض أسماء الله وصفاته من القضايا التي يمثل بها أهل العلم على العذر بالجهل فيما يتعلق بقضايا التوحيد، وأن المخطئ فيها بجحد أو نكران لا يكفر، حتى تقام عليه الحجة التي يكفر تاركها؛ لأن الأسماء والصفات من المسائل العقدية التي لابد من ورود النص الشرعي بها، ولا تثبت بالعقل أو الرؤيا أو الذوق ونحو ذلك. صحيح أن العقل يدركها بالفطرة، ولكن العقل .... تابع للنقل الصحيح.
قال الإمام الشافعي –رحمه الله-: (لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه، فقط كفر. وأما قبل قيام الحجة، فإنه يعذر بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية ولا الفكر، فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه، كما نفى عن نفسه فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]) (1).
وقال الإمام النووي – رحمه الله -: (قال القاضي: وممن كفره بذلك - أي بجهل الصفة - ابن جرير الطبري، وقاله أبو الحسن الأشعري أولاً. وقال الآخرون: لا يكفر بجهل الصفة، ولا يخرج به عن اسم الإيمان بخلاف جحدها، وإليه رجع أبو الحسن الأشعري، وعليه استقر قوله؛ لأنه لم يعتقد بذلك اعتقاداً يقطع بصوابه، ويراه ديناً وشرعاً، وإنما يكفر من يعتقد أن مقالته حق. قال هؤلاء: ولو سئل الناس عن الصفات، لوجد العالم بها قليلاً) (2).
وقال ابن قتيبة – رحمه الله -: (قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين، فلا يكفرون بذلك) (3).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (وقول طائفة من أهل الكلام: إن الصفات الثابتة بالعقل هي التي يجب الإقرار بها ويكفر تاركها، بخلاف ما ثبت بالسمع، فإنهم تارة ينفونه، وتارة يتأولونه أو يفوضون معناه وتارة يثبتونه، لكن يجعلون الإيمان والكفر متعلقا بالصفات العقلية. فهذا لا أصل له عن سلف الأمة وأئمتها؛ إذ الإيمان والكفر هما من الأحكام التي ثبتت بالرسالة، وبالأدلة الشرعية يميز بين المؤمن والكافر، لا بمجرد الدلالة العقلية) (4).
وقال الشيخ عبد الله البابطين: (من شك في صفة من صفات الرب ومثله لا يجهلها، كفر، وإن كان يجهلها، لم يكفر) (5).
والقياس هنا يكون بالنظر إلى بيئة كل واحد منهما من حيث مظنة العلم أو عدمها، وبالنظر إلى قدرات كل واحد منهما الإدراكية والعلمية. قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: (ولهذا كان الصواب أن الجهل ببعض أسماء الله وصفاته، لا يكون صاحبه كافراً إذا كان مقرا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله على وجه يتقضي كفره إذا لم يعلمه) (6).
والأدلة على عذر الجاهل ببعض الأسماء والصفات الإلهية، فلا يكفر حتى تقام عليه الحجة الشرعية ثم يعاند. الأدلة على هذا كثيرة، نذكر منها ما يلي:
- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كان رجل يُسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً. فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض، فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت، قال: يا رب خشيتك فغفر له)) (7).
_________
(1) ((فتح الباري)) (13/ 407).
(2) ((شرح مسلم)) للنووي (5/ 598 - 599).
(3) ((فتح الباري)) (6/ 523).
(4) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 328).
(5) ((عقيدة الموحدين والرد على الضلال والمبتدعين)) (ص: 18).
(6) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 538).
(7) رواه البخاري (3481).

- قال الحافظ ابن عبد البر – رحمه الله -: (اختلف العلماء في معناه، فقال منهم قائلون: هذا رجل جهل بعض صفات الله عز وجل وهي القدرة، فلم يعلم أن الله على ما يشاء قدير. قالوا: ومن جهل صفة من صفات الله عز وجل وآمن بسائر صفاته وعرفها، لم يكن بجهل بعض صفات الله كافراً، قالوا: وإنما الكافر من عاند الحق لا من جهله. وهذا قول المتقدمين من العلماء ومن سلك سبيلهم من المتأخرين) (1). ثم قال: (وأما جهل هذا الرجل المذكور في هذا الحديث بصفة من صفات الله في علمه وقدرته، فليس ذلك بمخرجه من الإيمان) (2)؛ ثم استدل على ما ذهب إليه بحال الصحابة – رضي الله عنهم -، حيث كانوا يسألون عن القدر، كقولهم: يا رسول الله، أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ (3)، ثم قال: (ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك وهم جاهلون به، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين، أو يكونوا في حين سؤالهم عنه غير مؤمنين ... ولم يضرهم جهلهم به قبل أن يعلموه. ولو كان لا يسعهم جهله وقتا من الأوقات، لعلمهم ذلك مع الشهادتين بالإيمان، وأخذ ذلك عليهم في حين إسلامهم) (4).
- وقال الإمام الخطابي – رحمه الله -: (وقد يستشكل هذا، فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟، والجواب أنه لم ينكر البعث، وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب ... ) (5).
- وقال الإمام ابن حزم – رحمه الله -: (فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله) (6).
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-: (فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت، كفر، لكن كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلاً بذلك، ضالاً في هذا الظن مخطئا. فغفر الله له ذلك ... فغاية ما في الأمر أنه كان رجلاً لم يكن عالماً بجميع ما يستحقه الله من الصفات، وبتفصيل أنه القادر. وكثير من المؤمنين قد يجهل ذلك، فلا يكون كافراً) (7).
- واستشهد الحافظ ابن القيم – رحمه الله بهذا الحديث عند حديثه عن كفر الجحود، فاستثنى منه من جحد صفة وصف الله بها نفسه جهلا، فقال: (كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح. ومع هذا فقد غفر الله له ورحمه لجهله؛ إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه، ولم يجحد قدرة الله على إعادته عناداً أو تكذيباً) (8).
- وقال الإمام ابن الوزير: (وأما جهله بقدرة الله تعالى على ما ظنه محالاً، فلا يكون كفرا، إلا لو علم أن الأنبياء جاؤوا بذلك، وأنه ممكن مقدور ثم كذبهم أو أحداً منهم) (9).
- وقال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (فهذا الرجل اعتقد أنه إذا فعل بعد ذلك، لا يقدر الله على بعثه – جهلاً منه لا كفراً ولا عناداً -، فشك في قدرة الله على بعثه. ومع هذا غفر له ورحمه) (10).
_________
(1) ((التمهيد)) (18/ 42).
(2) ((التمهيد)) (18/ 46).
(3) أخرجه الإمام ابن عبد البر في ((التمهيد)) (18/ 47).
(4) ((التمهيد)) (18/ 46 - 47).
(5) ((فتح الباري)) (6/ 522).
(6) ((الفصل)) (3/ 296).
(7) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 409 - 411). وانظر: (3/ 231 و 12/ 491)، و ((الاستقامة)) (1/ 164 - 165).
(8) ((مدارج السالكين)) (1/ 338 - 339).
(9) ((إيثار الحق على الخلق)) (ص: 394).
(10) ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (1/ 248).

ومن الأدلة على عذر من جهل بعض أسماء الله وصفاته كذلك ما روته أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت: ((ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي التي النبي فيها عندي، انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أني قد رقدت، فأخذ رداءه رويداً وانتعل رويداً، وفتح الباب فخرج، ثم أجافه رويداً. فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري، ثم انطلقت على أثره حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل، فقال: ما لك يا عائش حشياء رائبة؟ قالت: قلت: لا شيء يا رسول الله، قال: لتخبرنني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته، قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم. فلهزني في ظهري لهزة فأوجعتني، وقال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله، قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله؟، قال: نعم ... )) (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (فهذه عائشة أم المؤمنين سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان. وإنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء، هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب، ولهذا لهزها النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ((أتخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟)). وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع. فقد تبين أن هذا القول كفر، ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها) (2). الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر معاش – ص: 399
_________
(1) رواه مسلم (974).
(2) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 412 - 413).
T.H.E

T.H.E

الأستاذ /طارق العقيلي. يتم التشغيل بواسطة Blogger.